صفة العظماء: كن يوسفيا (2)
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
كن يوسفيًّا (2)هل أنت ممن يخطِّطون لحياتهم؟ كيف بك عندما تقرأ: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ ﴾ [يوسف: 47]، وهل أنت ممن يُنفِّذون خططهم دون كلَلٍ أو ملَلٍ ﴿ دَأَبًا ﴾؟
كانت الخطة اليوسفية سببًا لإنقاذ شعب بأكمله من شبح المجاعة.
أعِدَّ مواقدكَ لزمهريرِ الشِّتاء، لا تراوح في مكانك طيلةَ الدَّهر، احذر أن تشيخَ قبل أوانك، ازرع ولو غزتكَ أسرابُ الجراد، وتحرَّك ولو كنتَ محاصرًا من كلِّ الجهات ﴿ فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ﴾ [يوسف: 47].
الاقتصادُ أصبح عِلمًا يُدرَّس، وله جامعاته وكلياته وتخصصاته الدقيقة، وهو ملخصٌ في هذه الآية، وفي قوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ [الأعراف: 31].
فلوسك ضروسك، ودراهمك مراهمك، ودنانيرك عقاقيرك، ومالك جمالك، فلا تبخل ولا تُسرِف.
كُلْ عند الشعور بالجوع، وقُمْ قبل حدّ الشِّبَع، واحذر التُّخَمة فلا أضرَّ منها، ولا تتابع على نفسك الجوع فإنه بئس الضَّجيع.
الشَّرَهُ في الأكل يسبب 90% من أمراض الدنيا، وما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، والجوع يجلب لك القنوط والخمول والفتور والكسل وعدم الفاعلية.
إن التخطيط ضرورة من ضرورات الحياة للإنسان، وذلك بسبب ما يواجهه في هذه الحياة من صعوبات ومشاقَّ، وهو مُكلَّف بعمارة هذه الأرض وإصلاح خرابها وتوفير الأمن والرخاء فيها، فالذكي هو مَنْ يُعِدُّ العدة للأخطار، والكوارث التي تحدق به، وإذا جارت عليه الظروف فعليه أن يتوخى الحيطة والحذر لمواجهتها، فيبدأ يُخطط لنشاطاته المتعددة مسبقًا كي يتغلب على ما يهدد وجوده من متغيرات وتقلبات في ظروف البيئة الطبيعية التي يعيش فيها؛ من تعاقب الليل والنَّهار، وتتابع الفصول الأربعة صيفًا وشتاءً، وربيعًا وخريفًا، وفي إطار مسابقة الزمن ليسبق الدول المتقدمة والجيوش العملاقة المحاربة، فهو دومًا يُخطِّط لا يكَلُّ ولا يمَلُّ وإلا اجتاحته الأخطار، وكان لقمةً سائغةً لها.
كان يوسف عليه السلام يستحضرُ مرور كل تلك السنوات وهو يشرح ويُخطِّط لها بشكلٍ تفصيلي، كان يتخيلها كيف ستَمُرُّ، وكيف يُمكن أن تُملأ بخطتهِ، وما مدى أن تُنَفّذ خطته لتلك السنوات التي ستقبل زاحفةً.
املأ فراغك، لا تقف متفرِّجًا فالزمن يمضي، لك أن تبدأ الآن وانظر لنفسك بعد سبع سنوات.
لا تقل قد ذهبت أربابه
كل من سار على الدرب وصل
مشهدُ زراعة سبع سنوات اجعله زراعةً لأهدافك ومُضيًّا عليها وطموحًا لتحقيقها ولاحظ كلمة ﴿ دَأَبًا ﴾ فربما يجعلك تزرع في السنة أكثر من موسم.
واصِل ليلك بنهارك، واجعل ما تبقَّى من عمرك هو الوقت (بدل الضائع).
ستأتي عليك سبعٌ شداد أُخَر أعِدَّ لها العدَّة، واشدُد حيازيمك لها فإنها ستلاقيك.
انقش حضورك بخطَّتك فأنت نسخةٌ لن تتكرر ضمن مليارات البشر خلقهم الله على هذا الكوكب.
الوقت والجُهد هما معادلة الإنجاز فلا تقف أبدًا واستحضر النهاية، وتذكَّر مَنْ قال: سأتوب غدًا، ومات قبل شروق الشمس!
المسافة بين الجُوع وبين الشبع قرار تتخذه وكم تحسَّر أصحاب الأمنيات وهم يشاهدون منظر رقص السنابل.
قد يجثو عليك الدهر بكَلْكَلِه وتُرهقك همًّا ﴿ سَبْعٌ عِجَافٌ ﴾ [يوسف: 43] لكن عليك أن تصمد فسينسيك الشراب الزُّلال ما عملته فيك العجاف الثقال!
﴿ سَبْعٌ عِجَافٌ ﴾؛ قد تكون يومًا ما سنابلك فارغةً، وأرضُك قاحلةً، وغيومُك شحيحةً، وأشجارك جرداء، وجرارك فارغةً؛ لكن ثق بأن ذلك كله سحابة صيف ستنقشع!
لا تَقنَط وتتذمَّر فتذهب على عجل لالتهام مواردك، وتدميرِ مخزونك الاحتياطي.
فاجعل سُنبُلَاتك الخُضْر تقضي على اليَابِسَات لا يحطمك الخَراب، ولا يغرَّك السراب.
حفِّز نفسكَ لمشاهدة دنوِّ السنابل، رشِّد استهلاكك، وتقدَّم بخطوات واثقةٍ، واغتنم فرصةَ الزمن.
﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف: 49].
مشهدُ الوصول بعد السَّفر الشاق، زمنُ النهاية بعد البداية المضنية، لحظةُ الإشراقِ بعد الاحتراقِ.
وبعد جهدكَ واجتهادك وحرثك وزرعك وترشيدك لمواردك وتخطيطك لحياتك سيهطل عليك غيثُ النجاح، وستقطف ثمرة الدأب، وتعصر من الثمرات ما تشاء، وتتناول كاسات الشراب اللذيذ بعد العناء.
يا الله، ما أجملها من نهايات! ما أعذبَه من وصال! ما أحلاه من جمال! ما أبهاه من جلال! مشهدٌ يبعث الحياة في الأرواح.
كيفَ بك وأنت ترى فلاحًا أجدبت أرضُه سنوات طويلة وهو يحرثها ويشقها شقًّا دون يأس، ثم هو الآن يرى السواقي تجري، والسنابل تترنَّح ملأى، والثمرات دانية مستعدة للقطاف.
ذاكَ هو مشهدُ الوصول بعد السفر الشَّاق إلى قمةِ النجاح بعد ليالي السَّهر والحرث في الذاكرة لتحفظ وتتقن.
مشهدُ الوصولِ الجميلِ لرؤية ولدكَ يحصد أعلى المراكز بعد تربيةٍ وجهد وعناء وحرثٍ شاقٍّ معه استمرَّ سنوات.
مشهدُ سفرِ العمرِ سنوات للوصولِ إلى تحقيقِ رغبةٍ جامحةٍ صنعت فيك هذا الاستمرار.
اللهُمَّ لحظة كهذه.