كتابان قيمان
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
للأستاذ عباس محمود العقاد
الأستاذان علي أدهم وعبد الرحمن صدقي أديبان من جيل واحد، أحدث سناً من جيل أدباء الشيوخ، وأكبر سناً من جيل الأدباء الناشئين.
فهما قد نشا في إبان النهضة الأدبية الحديثة التي قامت على أسسها الطبيعية وأسبابها المعقولة، وهي الأسباب التي أشار إليها الأستاذ علي أدهم في مقدمة كتابه (ألوان من أدب الغرب) فقال إنها تتلخص على الأغلب الأعم في تلاقي ثقافتين. (فالأدب اليوناني القديم لم ينهض إلا بعد احتكاكه بثقافة قدماء المصريين، والأدب الروماني لم يستكمل نضجه إلا بعد احتكاكه بالأدب اليوناني، والأدب العربي نهض نهضته المعروفة وتعددت مناحيه واتسعت آفاقه بعد احتكاكه بالأدب الفارسي والثقافة اليونانية والرومانية، والأدب المصري الحديث يسير الآن في طريق النهوض والتسامي باحتكاكه بالثقافة الغربية خاصة وسائر الثقافات العالمية عامة). ومن مزايا هذه النهضة التي نشأ الأديبان معاً في أبانها أنها جمعت ذخيرتها من احتكاك الثقافات، فكان لأدبائها زاد من الأدب الأوروبي عامة والأدب الإنجليزي خاصة، فاستفادوا صحة الأسلوب وجودة اللغة، واستفادوا سعة الموضوعات ودقة الأداء، وسلموا من اللوثة الأخيرة الهوجاء التي أعقبت جيلهم أو اندفعت في طريق هي أقرب إلى التفانين أو (التقاليع) كما نقول في لهجتنا البلدية، مع قلة الزاد من اللغة وقلته من الاطلاع. والأديبان على نشأتهما في جيل واحد، يتجه كل منهما حيث تهديه سليقته ويسلك به مزاجه وملكات طبعه.
فالأستاذ علي أدهم أقرب إلى منزع البحث والتفكير والدراسات والفلسفية التاريخية، والأستاذ عبد الرحمن صدقي أقرب إلى منزع الأدب والشعر والدراسات الفنية، وليس أدل على السليقة المنتظمة من أن ترى كليهما يثبت معالم هذا الاستعداد في كل أثر يخرج من لمه ولو كان في حيز المقالة القصيرة، فضلا عن البحوث المطولات، وهكذا كانا في كتابيهما الأخيرين اللذين ظهرا على التوالي منذ أسابيع. صدر كاتب الأستاذ علي أدهم ألوان من أدب الغرب ثم تلاه كتاب الأستاذ عبد الرحمن صدقي (ألحان الحان) أو سيرة الشاعر العباسي أبي نواس. ففي كتاب الأستاذ علي أدهم تقرأ فصولا عن أدباء من الروس أمثال سالتيكوف وتولسبوي وترجينف وكريلوف، وفصولا أخرى عن أدباء من الطليان مثل ماتزيني وليو باردي وبابيني، وعن أناتول فرانس الفرنسي، وعن أونامونو الأسباني، وعن جيتي الألماني، وعن كارليل وويلز من كتاب الأدب الإنجليزي، وعن مترلنك البلجيكي، وعن مازاريك الشيكوسلوفاكي، وعن لافكاديو هيرن اليوناني الأيرلندي الذي سحرته روح الشرق من العرب إلى اليابان. فالكتاب بحقٍ ألوان من أدب الغرب كله على تعدد أجناسه وموضوعاته ومناحيه، ولا يخلو فصل من فصوله من فكرة مستقلة ورأي ناضج ووزن صحيح وفهم نافذ إلى اللباب، ويتسع المجال هنا للتمثيل بالكلمات والعبارات وإن لم يتسع للتمثيل بالعبارة المسهبة أو الفصل الطويل. فمن عبارته التي تشتمل كل عبارة منها على حكم صحيح أو مقياس صادق، قوله عن الهجاءين في عصورهم أن (أكثر الهجاءين والساخرين لا يستطيعون الخلاص من أوهاق عصرهم والارتفاع فوق مشكلاته، ولكن الساخر الموهوب قد يستطيع أن يلمح المعنى الأبدي الخالد خلال ضجة العصر ومعمعان أحداثه) ومنها عن الشعوب والآداب إذ يقول في أحاديث تولستوي: (من الشعوب شعوبٌ آداب الأرستقراطية اشد تأصلاً في نفسها مثل العرب خاصة والأوروبية السامية عامة، ومنها شعوبٌ آداب الديمقراطية أبين في أخلاقها وأعرق في طباعها مثل الشعب الروسي السلافي). ومنها في المقابلة بين جبابرة الأدب الروسي الثلاثة دستيفسكي وتولستوي وترجنيف أن (دستيفسكي يكثر في رواياته من التحليل ويسهب فيه إسهاباً ويصف أشخاصه من الداخل، وتولستوي تتعاون فيه القوتان: قوة التحليل والوصف الداخلي والقدرة على توضيح المظهر الخارجي ورسم السمات البارزة والخصائص البادية، أما ترجنيف فمجال براعته الوصف الخارجي الدقيق، وهو يكتفي به ولا يسرف في التحليل، والذي يميز ترجنيف عن أرابه من الروائيين الروسيين هو براعته في البناء الروائي، وضبط النسب والتقاسيم، وتوزيع الظلال والأضواء، ووضوح الحبكة الروائية). وهذه تفرقة بين الأدباء الثلاثة بالغة في الدقة والصدق والإحاطة والإنصاف. ومن عبارته الجامعة التي هي أنسب الحقائق للزمان الذي نحن فيه: (هناك ما هو أسمى من الشعب ألا وهو الإنسانية.
وإذا شئت العقل). ومنها في وصف أدب أناتول فرانس: (قد امتاز أدبه بخير الصفات التي عرف بها الأدب الفرنسي بوجه عام، وهي دقة التعبير وسلاسته، ووضوحه وإشراقه، مع رشاقة اللمسات، والتزام الاعتدال، ومجافاة الغلو والإسراف.
وهو ساخر بارع يتخذ سخره قالب البساطة والتواضع، فهو لا ينكر الأشياء في عنف، ولا ينتقص أحداً في جفاء وشدة، وإنما يبتسم ابتسامة خفية مهذبة، ويتحدث في رفق ولين). ومنها عن الأدب الأسباني: (لم تظهر في جنوب جبال البرانس حركة فلسفية ملحوظة أو نهضة علمية مأثورة، ويعلل بعض المفكرين الأسبانيين ذلك بتغلغل الفردية في نفوس الأسبانيين، لأن تلك الفردية المتمادية تعوق تحول الأفكار الشخصية إلى مذاهب اجتماعية.
ويحاول الأدب الأسباني أن يصف الإنسان من حيث هو إنسان مكون من لحم ودم وأعصاب وعظام، ولا يطيق أن يحيله فكرة باقية). وقد استطاع الأستاذ أدهم أن يعجب بالساخر أناتول فرانس دون أن يعدى باستخفافه، وأن يعجب بالمتشائم ليو باردي دون أن يتشاءم مثله، وأن يعجب برجال العزم دون أن ينسى فضل التردد في تكوين الأفكار، وتلك علامة واضحة من علامات الفكر المستقل الذي يستطيع أن يفتح نوافذه لجميع جوانب الحياة، دون أن يستغرق في جانب منها أو يعطيه فوق حقه من التقدير. أما الأستاذ عبد الرحمن صدقي فقد رتب أبا نواس ورتب عصر أبي نواس، فكان في تنسيقه للمتفرقات معيناً على وحدة النظر إليها، وتقريب أسباب النظر فيها والحكم عليها.
فتكلم عن الحانات في عصر الشاعر بين عامة وخاصة، وتكلم عن مجالس الشراب في الأديرة والقلايات، وعن الغزل والسماع، وعن ملاهي مصر والشام والعراق ومنها حرب الأزهار.
وشفع التاريخ بالشواهد الشعرية من ديوان أبي نواس على الأكثر ومن دواوين بعض الشعراء الآخرين حيناً بعد حين.
فيقال بحق أن أبا نواس في ملاهيه وخمرياته يعرف من هذا الكتاب كما لا يعرف من كتاب غيره.
وقد أخذ الكاتب نفسه بهذا الغرض دون غيره فقال في صدر كتابه: (هذه صورة شاعر من أكبر شعراء العربية في ساعات لهوه، وما كانت لتغنينا لولا ما أوحت إليه من روائع فنه.
فإذا نحن قصرنا القول هنا على مجالس شرابه، ومن حوله غلمانه وقيانه، فذلك أن الخمر كانت عروس شعره، بل هي شيطانه). وقد وفى الكتاب بهذا الغرض من ناحية الترتيب والتبويب على الخصوص. والذي يطلب منا أن نلاحظه عرضاً في سياق التعقيب على (ألحان الجان) أن مؤلفه الأديب تجاهل كل رأي لنا في موضوعات كتابه ولا سيما رأينا في خمريات الخيام وخمريات المعري وعلاقتهما بخمريات أبي نواس، مع أنه يعلم هذا الرأي حق العلم ويقرر فحواه كل التقرير، وهو أن سكر الخيام هرب من مشكلة فلسفية، وأن سكر النواسي عكوف على لذة حسية، وقد عقد لهذه المقارنة فصلاً خاصاً في كتابه، وأتبعه بفصل عن المعري وما قاله في الخمر، وحرص على رد الآراء إلى أصحابها في الهوامش وثبت المؤلفات، ولعله قدر أن الإغضاء عن ذكر (العقاد) يرضي أناساً كان إرضاؤهم يومئذ مما يعنيه. إلا أننا نشير إلى هذا التجاهل الذي لا عجب فيه لنقول إنه ينفعنا ولا يضيرنا، فلا يقولن قائل مع هذا أن العقاد يعطي فوق حقه من معاصريه، بل به - أو عليه - أن يقول: إن حقه قام على رغم الجهلاء والمتجاهلين، وأنهم لو استطاعوا لأنكروه، ولكن إنكاره بحمد الله مما لا يستطاع. عباس محمود العقاد