القسم الأول:
مدة
قراءة المادة :
19 دقائق
.
فرنسا ومستعمراتها
للأستاذ احمد رمزي بك
هذا بحث تحليلي للاستعمار الفرنسي ومتاعبه يعرض له
بطريقة إجمالية، ويستعرض بعض النواحي التاريخية
والاقتصادية وأحياناً العسكرية مع الإشارة إلى الوضع الشاذ
الذي كانت فيه المستعمرات الفرنسية بين ألمانيا والحلفاء مدة
الحرب الماضية. وقد شجعني على نشره المقال الشائق الذي كتبه الأستاذ إسماعيل مظهر بجريدة الكتلة يوم السبت 1751947 تحت عنوان أعصر جديد؟ أم عودة إلى عصور العبودية؟ وما جاء بالرسالة تحت عنوان من وراء السور الحديدي (جامعة عربية أم اتحاد فرنسي). إن ما لقيته قضية فلسطين في أمريكا وأمام مجلس الأمن تجربة قاسية للعرب، لأن الانتصار على الخصم يستلزم فهم الخصم والإلمام بأساليبه، وفي هذه الكلمة أفكار وآراء قد لا تعجب بها ولكنها في صميم الدفاع عن قضية المغرب وحق شعوبه لأنها مستقاة من أقوال الخصم وهي مدعاة لفهمه ولن تنتصر على خصمك إلا إذا فهمته. فرنسا ومستعمراتها: كانت فرنسا دولة استعمارية كبرى في القرن الثامن عشر، خضعت لسلطاتها مساحات واسعة في أميركا الشمالية واكثر من منطقة غنية من مقاطعات الهند، ولكنها فقدت هذه المنزلة في حروب القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية، فأخذت تجاهد طول المائة سنة الماضية لكي تسترجع مقامها كدولة استعمارية.
ولقد برهنت تجارب اكثر من قرن على تعذر تحقيق السيادة البحرية لفرنسا وكان ضياع المستعمرات البعيدة في أميركا والهند كافياً لإقناع الفرنسيين أنه بغير أسطول قوي لا يمكن ضمان الدفاع عنهاأمام القوة البحرية برغم جهود القواد والحكام وعبقريتهم.
فكان مما فكر فيه نابليون أن يختصر الطريق البحري الذي يفصل فرنسا عن الأراضي التي تخضع لها، فقاد حملة مصر مؤملاً أن يجعل منها قاعدة للتوسع الاستعماري الفرنسي بالمشرق، وكانت بريطانيا تعرف إن هذه الضربة موجهة إليها في الهند فوقفت أمامه وقطعت الطريق البحري عليه وأجبرت جيشه على الجلاء، فالحملة الفرنسية هذه على مصر كانت مدرسة وتجربة برهنت على أن الفن الحربي الحديث قد جعل من السهل التغلب على جيوش المسلمين في أراضيهم، ثم فتحت الأذهان إلى استعمار الجزء الأفريقي المقابل لأوربا، فهي فاتحةالاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر. ولا ننس إن فرنسا حينما ألجئت إلى إخلاء مصر كانت تفكر في العودة إليها وتأسيس الإمبراطورية الاستعماريةعن طريق البر إن أمكن، أو قل على الرمال التي أراد أن يسير عليها لويس التاسع لفتح مصر فلقي حتفه في تونس، ولذلك اتجهت أنظار رجالها إلى بقعة من الساحل الأفريقي تكون أقرب إليه وأبعد عن إثارة شكوك ومخاوف بريطانيا فلم تجد اقرب إليها من الساحل المغربي بالجزائر إذ هو اسهل طريق للعبور إلى أفريقيا وأسلم ما يصلح لاتخاذ مرافئه مثلالجزائر ووهران وغيرها كرؤوس جسر للزحف إلى الداخل، وقد خدمتها الظروف حينما اشتد العداء بين مصر وتركيا فانقسم الشرق على نفسه وخلا لها الجو في الجهة التي تطمعبامتلاكها.
حينئذ قذفت بجيوشها بين 1830 و 1847 على القطر الجزائري في الوقت الذي كانت جيوش مصر وتركيا تتقاتل فيما بينها قتالاً كانت نتيجة أن انتهى بالفشل للجانبين، بينما اندفعت هي بقوة لترسيخ أقدام جنودها على الأرض الأفريقية التي حملت أعلام دول الموحدين والمرابطين وكانت في وقت ما موئلا للعروبة والإسلام.
فأخذت تحارب أهلها وتشتتهم.
ولما انتهت حروب الأتراك والمصريين لم يكن بوسع أحد الطرفين أن يمد يد المساعدة أو يجهر بالدعوة لنصرة المجاهدين من قبائل الجزائر المدافعين عن بلادهم، فكان أن سلم الأمير عبد القادر للفرنسيين، وإذا نحن أمام أول هزيمة للإسلام بشمال أفريقيا، وإذا نحن في بداية الأرزاء التي أعقبت توغل الفرنسيين في المغرب ونتج عنه تأسيس إمبراطورية ضخمة في بلاد عربية. أوربا تشجع فرنسا في توسعها خارج القارة الأوربية: وكانت فرنسا في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر أقوى أمم أوربا وأكثرها سكاناً إذ بلغت 25 مليون نسمة، وهوعدد عظيم لما كانت عليه أوربا في ذلك الوقت، وبذلك تفاءل الساسة الأوربيون بالاتجاه الجديد الذي سارت فيه ووجدوا أن من مصلحة السلام والأمن في القارة الأوربية تشجيع هذاالتوسع والتزام سياسة الصمت إزاء هذا العدوان لأنه سيؤدي إلى إشغال قوى فرنسا البرية والى توزيع جهود هذه الأمة الحربية في ناحية لا تضرهم، خصوصاً إذا وجد ضباط الجيش ورجال الجندية الذين أسكرتهم ذكريات الانتصارات الماضية مجالاً في نشاطهم بلاد بعيدة عن أوربا بعد أن دوخوا أمما كثيرة بحروب دامت جيلين، وقد تم لهم ما أرادوا وقنعت فرنسا ورجالها بهذا الدور وزاد تمسكهم به خصوصاً بعد هزيمتهم في حرب 1870 مع ألمانيا. فرنسا تجعل من أراضي أفريقيا معسكراً لتموين جيوشها وضباطها فكان أن أصبحت فرنسا بعد عدة سنوات تملك الشاطئ الأفريقي وتسيطر على مناطق وأقاليم متسعة في الصحراء تتنقل فيها كتائبها ويتلقى قوادها وضباطها بأنحائها أساليب القتال المختلفة ويأخذون دروساً عملية باتخاذ الحروب ضد الأهالي صناعة دائمة فيدخلون الجديد كل سنة على كتب التدريب والقيادة وأنظمة تعليم عساكر المستعمرات من الجنود الملونة. وجاءت الحرب العظمى سنة 1914 وفرنسا ثاني دولة استعمارية في العالم، فخاضت غمارها وأعلامها تخفق على الكتائب المؤلفة من جنوب المغرب ومدغشقر والهند الصينية والسنغال تسوق الآلاف منها إلى الموت وتدفع بهم إلى الصفوفالأمامية.
ثم أمضيت معاهدة الصلح فإذا بمناطق شاسعة من أملاك ألمانيا الأفريقية تدخل ضمن نطاق الإمبراطورية الفرنسية إما عن طريق تعديل الحدود أو عن طريق الانتداب جزاء وفاقاً على المجهود الحربي الذي بذل جنود المستعمرات من السمر والسود في كفاحهم لتحرير العالم.
فإذا نظرت إلى خريطة الأفريقية تجد الإمبراطورية الفرنسية كتلة ضخمة ملونة بلون واحد تقع جنوب فرنسا وكأنها جزء متمم لها أو امتداد لأراضيهم لا يفصلها عنها غير البحر الأبيض المتوسط، ولكنه طريق سهل قريب لأنه يجمع بين الشاطئين في ساعات معدودة، وهذه الإمبراطورية أو المجموعة من المستعمرات تبدو أمام الناظر والبحر يحيط بها من ثلاث جهات: المتوسط في الشمال، والمحيط الأطلسي في الغرب والجنوب، ويفصلها عن بعضها الصحراء الكبرى وهي في صمتها وتحديها للإنسان لا تزال كالربع الخالي في جزيرة العرب تسخر من الإنسان الذي لم يفك أسرارها بعد ولم يخضعها لأرادته، فقد فكر المستعمرون في استثمار أراضيها وفي اختراقها بعده طرق ممهدة للسيارات أو إنشاء خط حديدي يقطعها من الشمال إلى الجنوب، ولم يتحقق للآن شئ من ذلك لأن مجهودات فرنسا محدودة، وهي لن تسمح لغيرها من الدول أن يتولى هذا العمل عنها.
ويخيل إلى الباحث أن هذا العمل الاستعماري الذي بدأ بعد حروب نابليون طفرة فأصبح حقيقة في عصرنا الحالي يبدو كعمل عظيم ساهمت فيه أمة برجالها ودمائها وتفكير أبنائها، وإنه إن دل على شئ فهو يدل على عبقرية الذين جاهدوا في إنشائه وجمعوا بصبر شتاته فحققوا لبلادهم حكم إمبراطورية موحدة كافية لإسعاد أي بلد أوروبي يمكنه أن يتحول باستغلال خيرات هذه الإمبراطورية وثرواتها وأراضيها إلى بلد عظيم في الصف الأول من العالم. فهل وصلت فرنسا إلى أن تحكم بعقل وحكمة ودراية وهذه الإمبراطورية وأن تحسن سياستها مع الشعوب التي تسكنها فتسعدها وتزيد من عدد سكانها وتأخذ بيدهم في الطريق الحضارة والعلم والحكم الذاتيحتى تجني ما في هذه الأراضي من الخيرات والثمرات؟ الواقع إن فرنسا لم توفق كثيراً في مضمار الاستعمار كما يفهمه العالم الغربي، وان وفقت فلشيء لا يتناسب مع جهودها أو هو ضئيل بجانب ما كان يمكن أن تصل إليه، ذلك لأنها بقيت ولا تزال تعيش على أساليب الماضي في إدارة مستعمراتها وفي علاقتها مع البلاد الخاضعة لها، وإلا فماذا يواجه الباحث في أنحاء إمبراطوريتها ما يشعره انه داخل حصن كبير أو معسكر من المعسكرات وحوله نطاق من الأسلاك الشائكة يحرسه جنود من السنغال يسيطر عليهم رجال أشداء كل همهم قطع كل العلائق بين هذه البلاد والعالم الخارجي ولا يعرفون سوى قانون البطش في علاقاتهم مع السكان؟. لماذا يلازم الناس هذا الشعور دائماً؟ لان عيوب الإدارة الفرنسية للمستعمرات ظاهرة واضحة ملموسة وموقف الحكومة المركزية وممثليها يشعرك باستمرار إن فرنسا لم تنجح كأمة حاكمة، ولذلك لم تستطيع أن تقدم دليلاً واحداً على رغبتها في تحرير الشعوب المظلومة ولا في الأخذ بيدها في طريق العلم والنور، ولا في إعطائها ما تطلب من حرية أو حكم ذاتي أو اشتراكها في إدارة الأمور العامة أو تسليمها إلى أهلها، كما أنها لم تقدم للعالم برنامجاً إنسانياً يمكن أن يحقق شيئاً من ذلك. إننا لا نقر الاستعمار على أي وجه من الوجوه، ونراه نكبة على البلاد والأمم التي أصيبت به، ولكننا مع ذلك ننقل عن كتاب الغرب وعن الفرنسيين أنفسهم ما يعترضون به على هذه الإدارة ونتساءل مع الباحثين لماذا تطور العالم ووقفت فرنسا جامدة لا تتقدم؟ ولماذا غمرت الدنيا موجات التحرير في أفريقيا وآسيا وتسللت إلى الأراضي الفرنسية، وفرنسا واقفة لم تتغير ولم تستفد شيئاً من الدروس الماضي؟ ثم كيف تقدم على إقرار سياسة الإدماج والاتحاد في وقت تبدو فيه عوامل التفكك والانهيار ملموسة واضحة؟ أليس في فرض ساسة الاتحاد دليل على إفلاس السياسة التي اتبعتها الحكومة الفرنسية والتي كانت ترمي إلى إلغاء الجنسيات والقوميات في بعض الجهات وصهرها في بوتقة واحدة؟ نظريات استعمارية: يقولون الباحثون في الاستعمار وشئونه إنه كمشروع تجاري يجب أن ينتهي بالكسب على أقصر سبيل وأهون طريق، فليس من مصلحة الدولة الحاكمة أن تتحمل تكاليف إدارة المستعمرة وحفظ الأمن فيها، بل هي تساعد على أن تقف المستعمرة معتمدة على مواردها الخاصة، ويكره المستعمرة استعمال العنف والقوة، ويعد التلويح بهما ضعفاً، والالتجاء إليهما مخاطرة يتحاشى الوقوع ما أمكن فيها، فهو كالتاجر الذي يحاسب على الدانق ويحسب للمستقبل ألف حساب، ولذلك يعتمد في حكم الشعوب على نفسيتها وفهمها ليستغل غرائزها لصالحه، ولا يلجا إلى السلاح إلا في الوقت المناسب وبالقدر اللازم، وهو أسرع الناس إلى إزالة اثر القوة من نفوس المحكومين.
هذه هي تجارب الأمم التي سارت في هذا النشاط بعيداً، فهل اتبعت فرنسا أو أخذت بهذه السياسة؟ إن التقاليد التي وضعتها حكومات فرنسا المختلفة في سياستها الاستعمارية كانت جامدة، وصعب في كثير من الأحيان على المسؤولين تغييرها واستبدالها.
نعم عملت أحياناً للخروج عنها شخصيات قوية فرضت إرادتها مثل ليوتي في مراكش، ولكن سرعان ما عاد الروتين الاستعماري إلى قواعده وفرض إرادته من جديد.
ومن عيوب الاستعمار الفرنسي أن فرنسا بدأت حملاتها بتكاليف باهظة، أي أن كل قطر أو بقعة من الأرض دخلتها أو بسطت حمايتها عليها كلفت دافعي الضرائب الفرنسيين مبالغ لا يستهان بها، وقد جاءت تكاليف الفتح ثقيلة لأن الطبيعة الفرنسية تريد أولاً الغلبة والنصر، فهي قد حكمت السيف، حيث يلزم السيف، ووضعت السيف أيضاً حيث كان يلزم غير السيف؛ وفي ذلك مخالفة لقواعد الاستعمار الذي يسمن البقرة ليستدر أكبر كمية من ألبانها، أما هي فحيثما حلت تحمل الأهالي الكثير من الفقر والفاقة والعنت والتشريد. ولقد عهدنا المستعمر يتخذ له بطالة من أهل البلاد المستعبدة يروضهم على أغراضه ويوسوس لهم بما يريد، فإذا هم طوع إشارته، يصل بواسطتهم إلى أهدافه وأغراضه من غير أن تظهر نياته أو تشعر بأنفاسه ومن دون ضجة ولا جلبة.
وللاستعمار الفرنسي من يخدمه بإخلاص من زعماء البلاد الخاضعة له، ولكن فرنسا اعتادت أن تضع على أكتاف رجال فرنسيين من العسكريين والمدنيين العبء الأكبر على المسؤوليات، وان تسند إليهم مباشرة سلطات التشريع والإدارة والتنفيذ، فان أساءوا التصرف تحملت هي عبء الأخطاء وخسرت عطف الناس بالدفاع عن رجالها، بينما قواعد المستعمرين تحتم على الدولة الغاضبة أن ترسم الخطط الكبرى، وان تترك أمور التنفيذ لأهل البلاد يتولونها بأيديهم حتى إذا أخطئوا، وغالباً هم مخطئون، تبرأت السلطات منهم وألصقت الأخطاء بهم وأتت بفريق جديد يتولى تمثيل نفس الدور.
وهذا النظام الأخير يجعل عيوب الإدارة الاستعمارية ملصقة بأهل البلاد دائماً، بينما النظام الفرنسي يضع العيوب على راس الدولة المستعمرة ويحملها الأخطاء والأعباء كما قلنا. تأخر المستعمرات الفرنسية في ميدان الحضارة وأسبابه: وهناك ظاهرة أخرى لها أهميتها، وتكاد تنفرد بها المستعمرات الفرنسية وما يشبهها من ممتلكات بعض الدول الأوربية التي احتفظت بمستعمراتها كتراث تاريخي لماضي قديم، وهذه الظاهرة هي أن التقدم المادي الذي صحب العالم في السنوات الماضية والذي فرض نفسه على أغلب المستعمرات في قارات العالم لم يشمل الإمبراطورية الفرنسية، ولذلك إذا تحدث الفرنسيون عن مجهودهم الاستعماري وملئوا العالم بكتبهم ونشراتهم، فهو مجهود عظيم من وجهة نظرهم وحدهم، ولكنه مجهود متواضع إذا قيس بما قامت به الأمم الاستعمارية الأخرى.
فإذا نزلت بشمال أفريقيا، وهي من البقاع الخصبة الغنية بمواردها وثرواتها المعدنية وقارنت ما عملته فرنسا هناك بالمجهود الذي بذله الاستعمار في نواح مماثلة، لوجدت أن مجهودها لم يصل إلى الدرجة التي تسمح بها حضارة القرن العشرين، وبما تضعه بين يدي الإنسان من وسائل تمكنه من السيطرة على الطبيعة ومن إخضاعها لإرادته. تعليل هذا الوضع: ويعللون هذا النقص بان فرنسا بلد زراعي في حياته الاقتصادية، وهذا الوضع ينقص من طاقة فرنسا وإمكانياتها كدولة عظمى، ثم هي وطن الملكيات الصغيرة، ولذلك يبرز فبها عامل اقتصادي هام هو عامل الادخار أو التوفير النقدي الشعبي الذي يعتمد في تراكمه وازدياده عاما بعد عام على ملايين من الناس.
وقيل إن هذه الأمور مجتمعة تؤثر في سياسة الدولة حينما تواجه عملها في المستعمرات لاستغلال مواردها، وذكر بعض الكتاب أن فرنسا كانت تحسن صنعهاً لو أنها من البداية فتحت أبواب إمبراطوريتها لنشاط الدول الصناعية الكبرى مثل أمريكا الشمالية، أو بعض الدول الأوربية، ولكن رجال الحكم وأساطين الاستعمار حرصوا منذ زمان طويل على وضع العراقيل الجمركية والتشريعية لمنع حدوث هذا النشاط، بل أقفلوا حدود إمبراطوريتهم وجعلوا منها مناطق محرمة وممنوعة لأي تنافس يأتي إليها من الخارج. ولا نشك أن فرنسا كانت بلداً صناعياً من الدرجة الأولى وكان هذا في القرن الماضي، ولكن ظهور الصناعة الضخمة وتطورها السريع في بلدان أوربية أخرى جعل منها بلداً صناعياً في الدرجة الثانية.
ولقد ذكرنا في بحث سابق إن التركيز الاقتصادي بين الدول الصناعية والمستعمرات أو بين المستعمرات وبعضها يعتمد على التفوق الصناعي والمقدرة الرأسمالية والإنتاج الواسع وهي مجتمعة تمهد للدولة صاحبة الشأن أن تسير بالمستعمرات ومناطق النفوذ نحو التكتل الذي يجعل من هذه الدولة قوة عالمية.
أما الاستعمار الفرنسي فلا يزال في الدور البدائي الذي لم يتطور بهذه الوثبة، ولعل شعور الفرنسيين بذلك هو الذي أملى على رجال السياسة مشروع الاتحاد الفرنسي الذي يحاولون تنفيذه. فرنسا بلد زراعي: وإذا نظرنا لحالة فرنسا كبلد زراعي نجد إنها من أغنى البلاد الأوربية، بل إحدى الدول القليلة التي تعد في حالة استكفاء بالنسبة إلى غيرها، ومعنى ذلك أنها لا تعاني مشاكل ومتاعب لإطعام سكانها؛ فهي ليست بحاجة إلى مضاعفة المساحات المزروعة في مستعمراتها، فإذا كان هناك بعض الأثر للتطور الإنتاجي الزراعي وزيادته، ويبدو هذا ملموساً في بعض المناطق أو مكللا نسبياً بالنجاح في المزارع التي يملكها الفرنسيون بالمستعمرات، فانه محدود الغاية والوسائل. رؤوس الأموال: أما أثر رؤوس الأموال كونها مجمعة من التوفير الشعبي فيبدو في اتجاه أصحابها إلى تفضيل القروض الخارجية للدول الأجنبية الصديقة لتصورهم بان في ذلك ضمانات أكبر من المجازفة في صرفها على مشروعات فيها روح المغامرة بأراضي المستعمرات وهي قاعدة مستمدة من طبيعة الشعب وعقليته. فرنسا كبلد صناعي: ونعود إلى الناحية الصناعية إذ هي العامل الأساسي الفعال لكل سياسة استعمارية موفقة نظراً لما تحويه أراضي القارات البعيدة من مواد أولية ضرورية للصناعات، ولأن عظمة الدول الصناعية بنيت على ما تقدمه أراضي مستعمراتها من خامات رخيصة قد تذهب أحيانا إلى تمكين كل واحدة من احتكار بعض هذه المواد وحرمان بقية العالم منها.
فإذا نظرنا إلى حالة فرنسا بعد أن انتهت الحرب العظمى الأولى نجد أنهطرأ عليها بعد سنة 1920 تغيير بعيد المدى، فقد بدأ يسطر على مقدراتها طائفة من أصحاب الصناعات الكبرى يدعمهم لرجال المال، واعتمدوا على ما يبثونه في الجماهير من آراء وأفكار عملوا على أن تصبح راسخة، وأهمها فكرة أمن فرنسا وضمان حدودها، أي إيهام الشعب بوجود خطر دائم يهدد كيانه ليبذل مجهوداً في ناحية معينة أو ليستعد لتلبية التضحيات التي يتطلبها العمل لدرء هذه الأخطار. فرنسا قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها: ولم تكن فرنسا قبل سنة 1914 في حالة تمكنها من منافسة الدول الصناعية الكبرى أو أتمت بناء هيكلها الآلي الضخم لا في السوق العالمية ولا في طريق استغلال واستثمار أملاكها، وكانت تلجا إلى وسائل شاذة لحماية تجارتها في الأراضي المملوكة لها، فما بالك وقد بدأت بعد الحرب تحمل أعباء إنشاء صناعة على نمط الصناعات الثقيلة - يقصد بها صناعة الحديد والفولاذ والصناعات الكيماوية الكبرى - ولو إن التعبئة المالية والفنية والإنشائية للوصول إلى هذه الغاية كافية لأن تستنفذ مجهودات جيل بأكمله. وقد بدأ هذا المشروع يسير سيره الطبيعي من يوم استرجاع مقاطعتي الألزاس واللورين إذ جعل ضم هاتين المقاطعتين بين رجال الصناعة بعض ما كان ينقصها من مواد الصلب والحديد، ويا حبذا لو ضم إليها جزء آخر من أراضي ألمانيا وهو الروهر إذن لحصلت فرنسا على ما تحتاجه من الفحم الحجري. يلتمس الكتاب الفرنسيون بعض العذر لبلادهم في تقصيرها الاستعماري الذي ينسبونه إلى أن هذا المشروع الصناعي الكبير الذي جعل رؤوس الأموال تتجه إلى تحقيقه اتجاها ترك النشاط في أراضي المستعمرات قاصرا على الضروري اللازم، وعليه تأخر تنفيذ المشروعات الكبرى التي وضعت لاستغلال أراضي جبال أطلس بمراكش ونظر إليها والى غيرها نظرة ثانوية أو تأجل تنفيذها باعتبار أنها تكميلية للبرنامج الصناعي في أراضي فرنسا الأوربية. وعليه فهم لا يسلمون بالنقص الذيبدا من ناحية بلادهم ويقولون ولو أن الفترة بين الحربين نقلت الدول الكبرى الصناعية مرحلة نحو التكتل والتماسك مع المستعمرات بل ذهبت إلى إدخال الصناعات في أراضي المستعمرات نفسها كما حصل في الهند وأستراليا وأفريقيا الجنوبية وبقيت فرنسا تدير مستعمراتها بأساليب قديمة إلا أنها حسناً فعلت لأنها انتظرت الوقت المناسب لكي تستفيد من تجارب غيرها ولكي يحين الوقت الذي تندمج فيه هذه الأقطار في نظام اتحاد فرنسي يشبه من بعض الوجوه نظام الاتحاد السوفيتي: وحينئذ تظهر للعالم فرنسا الاستعمارية القوية التي لم تضع منها سنوات الانتقال بل كانت تحضر برنامجا صناعياً للمستعمرات سوف تدهش العالم المتمدين به. احمد رمزي