أرشيف المقالات

صحائف مطوية:

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
من أخلاق البحتري للأستاذ محمد رجب البيومي - 2 - ذكرت في مقالي السابق أن أبا عبادة البحتري كان ذا حظوة سعيدة لدى الخلفاء، فقد أغدقوا عليه من الهبات الجزيلة ما اشترى به ضياعاً واسعةً في ضواحي بغداد، وأخرى في منبج بالشام، ولكنه على رغم ثروته الطائلة كان يضيق على نفسه فلا يلبس سوى الخز الرخيص ولا يأكل غير ما يقوم بحاجته الضرورية، وطبيعي أن يعامل أهله بهذه الكزازة الشحيحة، قال الحكم بن يحيى: (كان للبحتري أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعاً، فإذا بلغ منهما الألم مبلغه أتياه يبكيان فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيقاً مقتراً ويقول: كلا، أجاع الله أكباد كما وأطال إجهادكما)، وكان يأخذ أضيافه بنوع من القسوة لا ينبغي أن تصدر من شاعر مرهف الإحساس رقيق الشعور، قال أبو مسلم محمد بن الأصفهاني الكاتب (دخلت على البحتري يوماً فحبسني عنده ودعى بطعام له فامتنعت من أكله وعنده شيخ شامي لا اعرفه فدعاه فتقدم وأكل معه أكلاً عنيفاً فغاظه ذلك، والتفت ألي قائلاً: أتعرف هذا الشيخ؟ فقلت: لا، فقال هذا الرجل من بني الهجيم الذين يقول فيهم الشاعر: وبنو الهجيم قبيلة ملعونة ...
حمر اللحى متشابهو الألوان لو يسمعون بأكلة أو شربة ...
بعمان أصبح جمعهم بعمان قال: فجعل الشيخ يشتمه ونحن نضحك). ولقد كان غرام الوليد بالمال خيراً وبركة على شعره، إذ فتح له أبواباً من القول ضاعفت إنتاجه، فقد كان لا يرى عند خليفة أو رئيس سيفاً أو فرساً أو خاتما أو قلما إلا وصفه وصفاً بارعاً ثم استهداه منه؛ فإذا تم له ما أراد أخذه فباعه وأضاف ثمنه إلى خزينته، والواقع أن هذا استجداء غير مشرف، لأن الهدية لا تباع بحال من الأحوال!! وقد نشأ البحتري في عصر تفاخر فيه المترفون باقتناء الجواري والغلمان، باذلين في ذلك أنفس ما يملكون من ذخر وعتاد، فكان الوليد لا يفتأ يستهدي من يروقه من المرد الحسان في أسلوب جميل يجعل سامعه يمنح الهدية في سرعة واغتباط، وهل تجد أرق من قوله في استهداء غلام يدعى ميخائيل: فإن تهد ميخائيل تبعث بتحفةٍ ...
تقضَّى لها العتبى ويغتفر الوزرُ غرير تراءوه العيون كأنما ...
أضاء لها في عُقب داجيةٍ فجرُ ولو يجْتَلي في بضع عشرة ليلة ...
من الشهر ما شك امرؤ أنه البدر إذا انصرفتْ يوماً بعطفيه لفتةٌ ...
أو اعترضتْ من لحظه نظر شزْر رأيت هوى قلب بطيئاً نزوعه ...
وحاجة نفس ليس عن مثلها صبر تجاوز لنا فيه فأنك واجد ...
به ثمناً يُغليه في مدحك الشعر وألطف منه في الفؤاد محلَّة ...
ثناء تبقِّيه القصائد أو شكر وإذا كان البحتري قد هام بميخائيل لأنه وضئ الوجه حسن الصورة، فليت شعري بِمَ نعلل هيامه بنسيم؟ وقد كان رومياً دميم الصورة كريه الرائحة! ألانه وجد هذه الصفات تجعل صاحبه يفرط فيه بسهولة، فكان يستهديه ويبيعه، ثم يستهديه ويبيعه، فهو إذن شرك (مُحكم) يصيد به النقود، وملهم يقدح شاعريته، فيصفه بما ليس فيه، ويبالغ في التشوق إلى لقائه مبالغة تستهوي الأفئدة كان يقول: دعا عبرتي تجري على الجور والقصد ...
أظن نسيما قارف الهجر من بعدي خلا ناظري من طيفه بعد شخصه ...
فياعجباً للدهر فقداً على فقد خليليَّ هل من نظرة توصلانها ...
إلى وجناتٍ ينتسبْن إلى الورد وقَدٍّ يكاد القلب ينقد دونه ...
إذا اهتزَّ في قربٍ من العين أو بُعد فلو تمكن الشكوى لخبَّرك البكا ...
حقيقة ما عندي وأن جلَّ ما عندي غُصبتك ممزوجاً بنفسي ولا أرى ...
لهم زاجراً يُنهي ولا حاكما يعدي أبا الفضل في تسعٍ وتسعين نعجة ...
غنىً لك عن ظبي بساحتنا فرد ومهما يكن من شيء فلقد مات نسيم في ميعه صباه، وارتاح الناس منه ومن عاشقه المشوق! على أن البحتري كان يغير في سبيل المال مذهبه واعتقاده فهو لا يثبت على قول واحد، إذا مدح معتزلياً كان معه، أو سُليَّا جاراه في رأيه قال إبراهيم بن عبد الله الكبجي: قلت للبحتري ويحك! أنك في قصيدتك (أأفاق صب من هوى فأفيقا) تقول: يرمون خالقهم بأقبح فعلهم ...
ويحرّفون كلامه المخلوقا فهل صرت معتزليا قدريا؟ فقال: كان هذا ديني في أيام الواثق ثم نزعت عنه في أيام المتوكل! فقلت له: هذا دين سوء يدور مع الدول). وإذن فالوليد لا يهتم بغير المال مهما غير رأيه واستجدى أصحابه، وعنف أضيافه، وقتر على نفسه وأهله كما تقدم في صدر هذا المقال، وذلك كثير!! بقي أن نتحدث عن علاقة الوليد بزملائه الشعراء، وهي في جملتها غير مرضية، فقد نشأ في عهد نبغ فيه المُعْلَمون من أبطال الشعر وقادته؛ فكانوا يتراكضون في ميدان فسيح، فمن حاز قصب السبق كانت له الشهرة المستفيضة، والصيت الذائع، وهذا تنافس شاق ترك في نفس الوليد أثره الواضح، فأبو تمام مثلا كان لا يستحق منه غير المدح الجزيل، فقد أخذ بيديه في بادئ امره، وقربه للعامة والخاصة، وواصل تعريفه بالناس ولولاه ما أكل الخبز - كما يعترف بذلك البحتري - ولكنه لم يرع له هذا الجميل، فهاجمه بعد موته، وقال لولده أبي الغوث (إنه ما مات حتى أصفى من الشعر، وقد سألت ابن الأعرابي عنه فقال: إن كان شعره شعراً فجميع ما قالته العرب باطل) بعد أن كان يقول في حياته إن نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه ونود هنا أن نلفت الأنظار إلى قصة روتها كتب الأدب عن مبدأ تعرفه بأبي تمام، وخلاصتها أن البحتري قد مدح أبا سعيد محمد بن يوسف بقصيدة: أأفاق صب من هوى فأفيقا؟ ...
أم خان عهداً أم أطاع شفيقا وكان أبو تمام حاضراً فنسبها إلى نفسه، وصدَّق جميع من في المجلس، فجعل البحتري يقسم بالله أنها له، إلى أن استحيا أبو تمام، فقال: الشعر لك يا بني ولكني ظننت أنك تهاونت موضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي تريد بذلك مضاهاتي،.

ونحن نقول أنها قصة مكذوبة نجل أبا تمام أن يصدر عنه ما ذكر بها، سواء رواها البحتري أم سواه، لأن حبيباً كان ذا مذهب مشهور في القول حتى أنك لتعرف قصيدته من أول بيت تسمعه؛ فلو أنه ادعى ذلك ما صدقه أحد في دعواه، لخلوها عن بيت واحد تشم منه رائحته، ولا سيما وجميع من في المجلس يعرفون جيداً من هو أبو تمام! وإلى أي حد ينزع. أما ابن الرومي فقد جر على البحتري من البلاء ما أقلق باله وأزعج خاطره، ذلك لأنه كان مولعاً بهجاء من يعرف ومن لا يعرف من الناس، فخاف الوليد على نفسه منه، وطلب من سعيد بن الحسن الناجم أن يجمع بينهما في مجلس، وما إن تم ذلك حتى نشأت بينهما صداقة وليدة، ولكن البحتري عاد فهجَّن شعر صاحبه على ملأ من الناس، وما أن شاع في ذلك حتى أنفجر ابن الرومي كالبركان الهائج يقذف الحمم على رأس الوليد.
فهجاه مرات عديدة، ولم ينس أن يتعرض إلى شعره فيُبيِّن رأيه فيه بوضوح حين يقول: قُبحاً لأشياء يأتي البحتري بها ...
من شعره الغث بعد الكد والتعب عبد يغير على الموتى فيسلبهم ...
حر الكلام مجيش غير ذي لجب وقد يجئ بخلط فالنحاس له ...
وللأوائل ما فيه من الذهب يعيب شعري وما زالت بصيرته ...
عمياء عن كل نور ساطع اللهب الحظ أعمى ولولا ذاك لم تره ...
للبحتري بلا عقلٍ ولا أدبِ! إلى أخر ما قال. هذا وقد هاجم على بن الجهم بدون ذنب جناه.
فقد ورد على المتوكل على الله من البادية فأعجب الخليفة بخشونته وبسط له جناح عطفه، وما زال به حتى دمث طبعه، ورقتْ معانيه فأتى في شعره بالمرقص المطرب، ولكن الوليد لم يطق ذلك من المتوكل، فأنبري يهجو ابن الجهم هجاء مُراً، وكان علي قصير الباع في السباب فلم يستطع الصمود أمام غريمه، فتزيد عليه البحتري موجهاً جل هجومه إلى ما تحت ثيابه! وكان الأولى بالوليد أن يترفع عن هذه الناحية المقيتة، ولكن هذا ما كان! على أن البحتري فيه هجاء قد خلا من الفحش الصارخ.
فكان جيد المعنى، رائع السبك، يدل على تفكير قوي وشاعرية ثرة، كأن يقول: يا قذىً في العيون يا غُلَّة ب ...
ين التراقي يا حرارة في الفؤاد يا طلوع العذول غب صفاء ...
يا غريماً أتى على ميعاد يا ركوداً في يوم غيم وصَيْفٍ ...
يا وجوه التجار يوم الكساد خلّ عنَّا فإنما أنت فينا ...
وأو عمرو أو كالحديث المُعاد امض في غير صحبة الله ما عش ...
ت مُلقى في كل فجِّ ووادي يتخطى بك المهامه والبيد ...
دليلٌ أعمى كثير الرقاد خلفك الباتر الصمّم بالسيف ...
ورجلاك فوق شوك القَتاد كما أن من الغريب أن الدور الذي مثَّله البحتري مع أبي تمام قد مثله مع دعبل الخزاعي، فكان في حياته يرفع شعرهإلى درجة عالية، وما سمع بموته حتى بدل رأيه فيه، فقال لمن سائل عنه، (أنه يدخل يده في الجراب ولا يقول شيء) ولعله كان يخاف من لسانه السليط! ومهما يكن من شيء فإن حبيباً ودعبلاً أقرب إلى نفس البحتري من ابن الرومي وابن الجهل، وهذا يرجع إلى تقدمهما في السن من جهة، وعطفهما عليه من جهة أخرى، فليت الوليد قد حبس لسانة عنهما حتى نذكره مع الذين يحفظون الجميل! وبعد فأخشى أن أكون قد أغضبت عشاق البحتري بهذا الإلمام السريع.
فأنا اعترف كما يعترفون ببراعته الفائقة، وخياله الرائع، وديباجته المشرقة، ولكن اعترف أيضاً بسلاطة لسانة، وقلة وفاته، وشح نفسه. (ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل!). (الكفر الجديد) محمد رجب البيومي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢