أرشيف المقالات

أذية المسلمين

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .

الخطبة الأولى:

الحمد لله ربّ العالمين، ربّ الأولين والآخرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمد رسوله المرتضى، بعثه بالنور المضيء، والأمر المرضي، وعلى حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأكمل به الإيمان ، وأظهره على كل الأديان، وقمع به أهل الأوثان، فصلى الله عليه وسلم ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:

عباد الله:
اعلموا أن أذية المسلمين من المعاصي والإثم العظيم الذي يقترفه فاعله، وإن الله تعالى قد أمر باحترام المسلم كعضو قوي في أمة هي خير أمة أخرجت للناس، وبين إثم أذية المسلمين فقال جل جلاله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58].

يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "ينسبون إليهم ما هم براء منه، لم يعملوه ولم يفعلوه، {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} وهذا هو البهت الكبير أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل التنقص والعيب لهم، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد هم الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة رضي الله عنهم، ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله قد أخبر أنه قد رضي عن المؤمنين وعن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم وينتقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً، فهم في الحقيقة منكسو القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين" ( تفسير ابن كثير [3/624]).

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى: «من عادى لي ولياً فق آذنته بالحرب» (صحيح البخاري [5/2384] برقم [6137]).

عباد الله:
اعلموا أن إثم الإيذاء يتضاعف متى عظمت حرمة الشخص، أو الزمان، أو المكان، أو المناسبة، فالذي يؤذي العلماء إثمه أكبر وأعظم ممن يؤذي غيرهم، كيف لا وهم حُرَّاس الدين، وهم الذين يسهرون من أجل حماية بيضة المسلمين، ومن أجل إصلاح أوضاعهم، ومن أجل تحرير عقولهم من العقائد الباطلة، فهم أطباء القلوب.

ولاشك أن صحة القلب وحياته ورعايته أعظم من حماية الجسد ورعايته، فإن صحة القلب صحة الدنيا والآخرة، وخرابه خراب الدنيا والآخرة، أما صحة الجسد فهي صحة الدنيا، وربما صحّ الجسد فعمل به صاحبه فيما حرم الله تعالى.

فاتقوا الله عباد الله في إيذاء العلماء العاملين، وقد قال ابن عساكر: "لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب" (فيض القدير: عبد الرؤوف المناوي [4/371]).

وأي مصيبة أعظم من موت القلب الذي هو دليل على غضب الربّ سبحانه، فإن الذي مات قلبه لا يخشع، ولا فيه المواعظ قط تنجع، وإذا تليت عليه آيات ربه أصرّ مستكبراً كأن لم يسمع، ولا خير في أمة لا تحترم علماءها وتحفظ أعراضهم ودماءهم.

أيها الناس:
إن الناظر في هذه الأيام إلى واقع العالم الإسلامي يجد وقوع كثير من الناس في أعراض العلماء وعدم وضع العلماء مقامهم الشريف في المقام الذي يريد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولو نظرنا إلى حياة السلف رحمهم الله لوجدنا أنهم أشد احتراماً وتوقيراً للعلماء، فقد قامت مصر ولم تقعد عندما أراد العز بن عبد السلام أن يخرج من مصر، فخرجت مصر مع العز بن عبد السلام سلطان العلماء حتى خاف الوالي في تلك الأيام من أن يقعد في مصر مع حاشيته فقط، فقد كان للعلماء الكلمة المسموعة.

أيها المؤمنون:
إن إيذاء المؤمنين وغيرهم من الناس بغير حق له صور منصوص عليها في القرآن الكريم والسنة المطهرة.

ولقد أعلنها نبينا عليه الصلاة والسلام في يوم الوداع العظيم، وهو يلقي آخر نظراته على هذه الأمة ويودعها الوداع الأخير، وهو يقول: «أيها الناس: اسمعوا مني أبين لكم، فإني لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا»، ثم ساق خطبته حتى قال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا فليبلغ الشاهد الغائب» ( صحيح البخاري [5/619] رقم [2448]، ومسلم رقم [19]).

فقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الإعلان الأخير بعض صور أذية المسلمين وأن من أشدها أذية: قتل النفس التي حرم الله قتلها، وقد بين القرآن جريمة ذلك، فقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة من الآية:32]، وقال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [ النساء :93]، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا .
وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا}
[النساء من الآية:29-30].

وصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً» (صحيح البخاري [6/2517] برقم [6469]).

وإن من المنذرات بالهلكة في هذا الزمان: تعدي الناس على سفك دماء المسلمين، واستحلال دمائهم؛ لغرض من أغراض الدنيا الفانية، فكم رأينا من دماء تسفك من أجل ذلك، وهذا والله لهو منذر بقرب الساعة.

وكما كانت حرمة دم المسلم عظيمة، فإن لعنه وتفسيقه لا تقل حرمة عنه، ففي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها ثم تهبط إلى الأرض فتنغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها» (رواه أبو داوود [2/694] برقم [4905]، قال الألباني : حسن لغيره، انظر صحيح الترغيب والترهيب رقم [2792]).

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سِباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (متفق عليه).

وفي صحيح البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسق والكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» (صحيح البخاري [5/2247]).

أيها المسلمون عباد الله:
ومن صور أذية المسلمين: أخذ أموالهم بغير حق شرعي، وهذا من أعظم المظالم ومن أكبر موجبات الإثم.
قال النبي عليه الصلاة السلام: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (رواه مسلم [4/1986] برقم [2564] وغيره).

وقال صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله تعالى له النار ، وحرم عليه الجنة »، فقال رجل: "إن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟" فقال: «وإن كان قضيباً من أراك» (رواه مسلم [1/122] برقم [137] وغيره).

وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة » (رواه البخاري [3/1135] برقم [2950]).


وقال عليه الصلاة والسلام: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته -أي أوضح وأبين- من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعةً من النار» (متفق عليه).

ومن أعظم ما ابتلي به بعض المسلمين اليوم المماطلة في رد الدين إلى أهله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم» (رواه البخاري [2/799] برقم [2166])، فلا تقع أخي المسلم وفقنا الله وإياك في ظلم الناس بدون أن تشعر، وليحسن الدائن الاقتضاء والمدين القضاء.
بل متى استطعت أخي المسلم أن تقضي دينك، فسارع إلى قضائه، فقد جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن الدين لا يكفره شيء حتى القتل في سبيل الله، وذلك لأنه من حقوق المخلوقين.

نسأل الله أن يعصم ألسنتنا وجوارحنا عن أذية المسلمين، وأن يصلح أحوالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً حمداً، والشكر له علانيةً وسراً، وأشهد أن لا إله إلا الله تعبداً وصدقاً، وأشهد أن محمداً رسول الله خير من صلى وزكى.


أما بعد:

اعلموا أيها الناس أن من أخذ من الناس شيئاً بغير حق فهو ظالم، سواء أخذه عن طريق القوة، أو عن طريق الحيلة أو الخديعة، أو عن طريق الرشوة، أو بواسطة اليمين الفاجرة، أو بحكم القاضي إذا أخطأ اجتهاده، والمدعي يعلم أنه مبطل، أو كان عن طريق ظلم الناس في الاعتداء على أبدانهم، وانتهاك حرماتهم، فكل ذلك ظلم يكون الظالم به عرضة للعقوبة في الدنيا والآخرة.

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين» (رواه البخاري ومسلم واللفظ له).

فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الظلم ، فإنه حسرة وندامة، وظلمات يوم القيامة.

"ومن صور إيذاء المؤمنين عباد الله الاستطالة في أعراضهم بالغيبة والنميمة، والبهت والنميمة، والتعدي عليهم بالضرب والشتم، فكل هذه من الظلم التي لا تكفرها صلاة، ولا زكاة، ولا صدقة، ولا جهاد في سبيل الله، بل لا يغفر الله للظالم حتى يغفر له المظلوم، فإن ديوان المظالم من الدواوين التي لا يترك الله منها شيئاً، بل يأخذ بها إلا إذا تنازل عنها أصحابها، فكم من شخص يظن أنه كثير الحسنات، ثم يأتي يوم القيامة مفلساً من بين البريات؛ بسبب ما تحمل من المظالم" (خطبة للشيخ: عبد الله القصير، بعنوان: "التحذير من أذية المؤمنين والناس أجمعين").

وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتؤدَّن الحقوق حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (رواه مسلم برقم [2582])، وهذا من كمال عدله تعالى حتى أنه يحشر يوم القيام البهائم للعدل بينها، فقد قال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: "المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع"، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» (رواه مسلم برقم [2581]).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه» (رواه البخاري [5/2394] برقم [6169]).


فيا عبد الله لا تخسر آخرتك بإيذاء الناس، واشتغل بنفسك عن الآخرين.

ومن صور الإيذاء للمؤمنين ما يتعلق بالكلام في أعراضهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الغيبة أن تذكر أخاك بما يكره»، قيل: "يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟" قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (رواه مسلم [4/2001] برقم [2589]).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات من الآية:12].

اللهم إنا نسألك يا حي يا قيوم أن تطهر قلوبنا من النفاق ، وألسنتنا من الكذب ، وأعيننا من الخيانة.

اللهم وأصلح أحوال المسلمين، في كل مكان، وانصر الإسلام والمسلمين، وارفع راية الحق إلى يوم الدين.

اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك، لإعزاز دينك، اللهم اجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل عسرٍ يسراً، ومن كل بلاء عافية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
 

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن