أوربا والإسلام
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
شيّع الناس بالأمس عاماً قالوا إنه نهاية الحرب، واستقبلوا اليوم عاماً يقولون إنه بداية السلم. وما كانت تلك الحرب التي حسبوها انتهت، ولا هذه السلم التي زعموها ابتدأت، إلا ظلمةً أعقبها عمى، وإلا ظلماً سيعقبه دمار! حاربت الديمقراطية وحليفتها الشيوعية عدوتيهما الدكتاتورية، وزعمتا للناس أن أولاهما تمثل الحرية وللعدالة، وأخراهما تمثل الإخاء والمساواة، فالحرب بينهما وبين الدكتاتورية التي تمثل العلو في الأرض، والتعصب للجنس، والتطلع إلى السيادة إنما هي حرب بين الخير والشر، وصراع بين الحق والباطل.
ثم أكدوا هذا الزعم بميثاق خطوه على مياه (الأطلسي)، واتخذوا من الحريات الأربع التي ضمنها هذا الميثاق مادة للدعاية شغلت الإذاعة والصحافة والتمثيل والتأليف أربع سنين كوامل، حتى وهِمَ ضحايا القوة وفرائس الاستعمار أن الملائكة والروح يتنزلون في كلُّ ليلة بالهدى والحق على روزفلت وتشرشل وستالين، وأن الله الذي أكمل الدين وأتم النعمة وختم الرسالة قد عاد فأرسل هؤلاء الأنبياء الثلاثة في واشنطون ولندن وموسكو، ليدرءوا عن أرضه فساد الأبالسة الثلاثة في برلين وروما وطوكيو! وعلى الوهم الأثيم بذلت الأمم الصغرى للدول الكبرى قسطها الأوفى من الدموع والدماء والعرق؛ فأقامت مصر من حريتها وثروتها وسلامتها في (العلمين) سداً دون القناة، وحجزت تركية بحيادها الودي سيل النازية عن الهند، وفتحت إيران طرقها البحرية والبرية ليمر منها العتاد إلى روسيا؛ ولولا هذه النعم الإسلامية الثلاث لدقت أجراس النصر في كنائس أخرى! ثم تمت المعجزة وصُرع الجبارون ووقف الأنبياء الثلاثة، على رؤوس الشياطين الثلاثة، يهصرون الأستار عن العالم الموعود؛ وتطلعت شعوب الأرض إلى مشارق الوحي في الوجوه القدسية، فإذا اللحى تتساقط، والقرون تنتأ، والمسابح تنفرط، والمسوح تنتهك؛ وإذا التسابيح والتراتيل عواء وزئير، والوعود والمواثيق خداع وتغرير؛ وإذا الديمقراطية والشيوعية والنازية والفاشية كلها ألفاظ تترادف على معنى واحد: هو استعمار الشرق واستعباد أهله! أذن برح الجفاء وانفضح الرياء وعادت أوربا إلى الاختلاف والاتفاق على حساب العرب والإسلام! هذه إيران المسلمة، ضمن استقلالها الأقطاب الثلاثة، حتى إذا جد الجد تركوها تضط في حلق الدب ثم خلصوا نجيا إلى فريسة أخرى! وهذه تركية المسلمة، واعدوها وعاهدوها يوم كانت النازية الغازية تحوّم على ضفاف الدردنيل؛ وهم اليوم يخلونها وجهاً لوجه أمام هذا الدب نفسه يطرق عليها الباب طرقاً عنيفاً مخيفاً ليعيد على سمعها قصة الذئب والحمل! وهذه إندونيسيا المسلمة، آمنت بالإنجيل الأطلسي وقررت أن تعيش في ديارها سيدة حرة؛ ولكن أصحاب الإنجيل أنفسهم هم الذين يقولون لها اليوم بلسان النار: هولندا أوربية، وإندونيسيا آسيوية، ونظرية الأجناس، هي القانون النافذ على جميع الناس! وهذه سورية ولبنان العربيتان، أقر باستقلالهما ديجول، وضمن هذا الإقرار تشرشل، ثم خرجت فرنسا من الهزيمة إلى الغنيمة، وأختلف الطامعان فخاس المضمون بعهده، وبرّ الضامن بوعده.
ثم قيل أنهما اتفقا! واتفاقهما لن يكون على أي حال قائماً على ميثاق الحريات الأربع! وهذه فلسطين العربية، يفرضون عليها أن تؤوي في رقعتها الضيقة، الشريد والطريد والفوضوي واللص، وفي أملاكهم سعة، وفي أقواتهم فضل؛ ولكنهم يضحون بوطن العرب، لعجل السامري الذهب، ويتخلصون من الجراثيم، بتصديرها إلى أورشليم! وهذه أفريقية العربية، يسمعون أن ديجول أخا (جان دارك) قد جالف على أهلها الخوف والجوع، ثم انفرد هو بمطاردة الأحرار حتى ضاقت بهم السجون والمقابر، ولا يقولون له: حسبك! لأن السفاكين أوربيون يؤمنون بعيسى، والضحايا أفريقيون يؤمنون بعيسى ومحمد! بل هذه هي الأرض كلها أمامك، تستطيع أن تنفضها قطعة قطعة، فهل تجد العيون تتشوف، والأفواه تتحلب، والأطماع تتصارع، إلا على ديار الإسلام وأقطار العروبة؟ فبأي وقع خُمس البشرية في هذه العبودية المهلكة، وهو الخُمس الذي أنبثق منه النور وعُرف به الله وكرُم فيه الإنسان؟ ليس للثلاثمائة مليون من العرب والمسلمين من ذنب يستوجبون به هذا الاستعمار المتسلط إلا الضعف.
وما الضعف إلا جريدة الاستعمار نفسه.
فلو كان المستعمر الأوربي صادق الحجة حين قال: إننا نتولى شؤون الشرق لنقوي الضعيف ونعلم الجاهل وندفع المتخلف، لوجد من العرب سنداً قوياً لحضارته، ومن الإسلام نوراً هادياً لعقله؛ ولكنه ورث الخوف من الإسلام عن القرون الوسطى، فهو يسايره من بعد، ويعامله على حذر.
وإذا عذرنا قسوس العصور المظلمة فيما افتروا عن جهالة، فما عذر الذين كشفوا الطاقة الذرية إذا جمدوا على الضلال القديم وكتاب الله مقروء ودستور الإسلام قائم؟! لقد فشلت مذاهبهم الاجتماعية كلها، فلم تستطع أن تخلص جوهر الإنسان من نزعات الجاهلية الأولى؛ فلم يبقِ إلا أن يجربوا المذهب الإسلامي ولو على سبيل الاقتباس أو القياس. لا نريد أن نقول لهم: أسلموا لتحكموا، وتعلَّموا لتعلموا، فإن هذه الدعوة يعتاقها عن الغاية القريبة عوائق من العصبية والوارثة والتقاليد والعادة؛ ولكنا نقول لهم: تصوروا نظاماً واحداً يصلح لكل زمان ومكان، ويقطع أسباب النزاع بين الإنسان والإنسان: يوحد الله ولا يشرك به أحداً من خلقه؛ ويقدس جميع الشرائع التي أنزلها الله ولا يفرق بين أحد من رسله؛ ويؤاخي بين الناس كافة في الروح والعقيدة لا في الجنس والوطن: ويسوي بين الأخوة أجمعين في الحقوق والواجبات فلا يميز طبقة عن طبقة ولا جنساً عن جنس ولا لوناً على لون؛ ويجعل للفقير حقاً معلوماً في مال الغني يؤديه إليه طوعاً أو كرهاً ليستقيم ميزان العدالة في المجتمع، ويجعل الحكم شورى بين ذوي الرأي فلا يحكم بأمره طاغٍ، ولا يصر على غيّه مستبد؛ ويحرر العقل والنفس والروح فلا يقيّد النظر ولا يحصر الفكر ولا يقبل التقليد ولا يرضى العبودية؛ ويأمر معتقديه بالإقساط والبر لمن خالفوهم في الدين وعارضوهم في الرأي؛ ويوحد الدين والدنيا ليجعل للضمير السلطان القاهر في المعاملة، وللإيمان الأثر الفعّال في السلوك.
وجملة القول فيه أنه النظام الذي يحقق الوحدة الإنسانية فلا يعترف بالعصبية ولا بالجنسية ولا بالوطنية، وإنما يجعل الأخوّة في الإيمان، والتفاضل بالإحسان، والتعامل على البر والتقوى.
فإذا تصورتم هذا النظام، فقد تصورتم الإسلام.
وإذا أخذتم به فقد أطمئن العالم المضطرب وأستقر السلام المزعزع.
ولا يعنينا بعد ذلك أن تطلقوا عليه لفظاً يونانياً أو لاتينياً ما دمتم تسلمون وجوهكم إلى الله، وتسلمون قيادكم لمحمد! أحمد حسن الزيات