أرشيف المقالات

السلف وحديثهم عن قصر الأمل

مدة قراءة المادة : 36 دقائق .
السلف وحديثهم عن قصر الأمل

أخرج البخاري معلَّقًا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: "إن أخوفَ ما أخافُ عليكم اثنتان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق، وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة، ألا وإن الآخرة قد ارتحلت مُقبِلة، ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مُدبِرة، ولكل واحدٍ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليومَ عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل"؛ وأخرجه الإمام أحمد في الزهد، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبدالله بن المبارك في كتابه الزهد والحلية.
 
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "التسويفُ جند من جنود إبليس عظيم، طالما خَدَع به"؛ (قصر الأمل: ص141).
 
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "تعوَّدوا الخير، فإن الخير عادة، وإيَّاكم وعادةَ السُّوَّاف من سَوْف[1] أو من سَوْف"؛ (قصر الأمل: ص 143؛ لابن أبي الدنيا، وأخرجه وكيع بن الجراح في كتابه الزهد، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه).
 
قال محمود بن الحسن:






والمرءُ مرتَهَن بسوفَ وليتني
وهلاكُه في السَّوْف واللَّيْتِ


مَن كانت الأيام تسير به
فكأنه قد حلَّ بالموتِ


لله درُّ فتًى تدبَّر أمرَه
فغدا وراح مُبادِر الفوتِ






 
وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "هذا المرء، وهذه الحُتُوف حوله شوارع إليه، والهَرَمُ وراء الحُتُوف، والأملُ وراء الهَرَم، فهو يأمُل، وهذه الحتوف شوارع إليه، فأيها أُمِرَ به أخذه، فإن أخطأته الحُتُوفُ قتَله الهَرَم، وهو ينظر إلى الأمل"؛ (قصر الأمل؛ لابن أبي الدنيا: ص 33)، وجاء في كتاب "قصر الأمل"؛ لابن أبي الدنيا كذلك ص67 عن يزيد بن شريك التيمي قال: "خرجنا حُجَّاجًا، فوجدنا أبا ذر بالرَّبَذَة قائمًا يُصلِّي، فانتظرناه حتى فَرَغ من صلاته، ثم أقبل علينا، فقال: هلمَّ إلى الأخ الناصح الشفيق ثم بكى، فاشتدَّ بكاؤه، وقال: قتلني حبُّ يوم لا أُدرِكه! قيل: وما يوم لا تُدرِكه؟ قال: طول الأمل".
 
الرَّبَذَة: من قرى المدينة، قريبة من ذات عِرْق على طريق الحجاز.
 
وكان سلمان الفارسي - رضي الله عنه - يقول: "أُصْبِح على وَجَل (خوف)، وأُمْسِي على وجل"؛ (قصر الدنيا: ص 112 لابن أبي الدنيا)، وجاء في كتاب "الزهد" للإمام أحمد (2/90) و"حلية الأولياء" (1/206)، و"قصر الأمل"؛ لابن أبي الدنيا ص (40 - 41)، عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: "ثلاث أعجبتني، ثم أضحكتني! مؤمِّل الدنيا والموت يطلُبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملءَ فيه ولا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راضٍِ عنه، وثلاثة أحزنتني حتى أبكتني، فراقُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وحزبه والأحبَّة، وهول المَطلَع، والوقوف بين يدي ربي، لا أدري إلى الجنة يؤمَر بي أو إلى النار".
 
وجاء في كتاب "التذكرة" للقرطبي - رحمه الله - (ص87) هذا القول، ولكن عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - حيث قال: "أضحكتني ثلاث، وأبكاني ثلاث: أضحكني مؤمِّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فِيه، وهو لا يدري أأرضى اللهَ أم أسخطه؟! وأبكاني فِراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المَطلَع عند غمراتِ الموت، والوقوف بين يدي الله، يوم تبدو السريرة علانية، ثم لا يدري إلى الجنة أو إلى النار".
 
وكأن ابن آدم من كثرة ما أمدَّ له الشيطان في الأمل، وأنساه بغتةَ الأجل، وأنساه قرب الموت والرحيل، وكأنه بمأمن من أن ينتقل إلى الرب الجليل، وأنه راحل إليه، وأنه واقف بين يديه - سبحانه وتعالى.
 
ويُروى عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قام على درج دمشق فقال: "يا أهل دمشق، ألا تسمعون من أخٍ لكم ناصح؟ إن مَن كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرًا ويبنون مَشيدًا، ويُؤمِّلون بعيدًا، فأصبح جمعهم بورًا، وبُنيانهم قبورًا، وأملهم غرورًا وزورًا، هذه عادٌ قد ملأت البلاد أهلاً ومالاً وخيلاً ورجالاً، فمَن يشتري منِّي اليوم تَرِكتَهم بدرهمين، وأنشد يقول:






يا ذا المؤمِّل آمالاً وإن بَعُدتْ
منه ويزعُم أن يحظى بأقصاها


أنَّى تفوز بما ترجوه ويكَ وما
أصبحت في ثقة من نَيْل أدناها






 
وأخرج أبو نعيم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال:
"يا أهل دمشق، استمعوا إلى قول أخٍ لكم ناصح، فاجتمَعوا إليه فقال: "ما لي أراكم تَبنون ما لا تَسكُنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتُؤمِّلون ما لا تُدرِكون؟ فإن مَن كان قبلكم بنَوا مشيدًا، وأمَّلوا بعيدًا، وجمعوا كثيرًا، فأصبح أملهم غرورًا، وجمعهم بُورًا، ومساكنهم قبورًا".
 
وفي "حلية الأولياء" بلفظ آخر وفيه:
"يا أهل دمشق، أنتم الإخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، ما يمنعكم من مودَّتي، وإنما مؤنتي على غيركم؟ ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجُهَّالكم لا يتعلَّمون؟ وأراكم قد أقبلتم على ما تُكُفِّل لكم به، وتركتم ما أُمِرْتُم به؟ ألا إن قومًا بنَوا مشيدًا، وجمعوا كثيرًا، وأمَّلوا بعيدًا، فأصبح بُنيانهم قبورًا، وأملهم غرورًا، وجمعهم بورًا، ألا فتعلَّمُوا وعلِّمُوا؛ فإن العالم والمتعلِّم في الأجر سواء، ولا خير في الناس بعدهما"؛ (حلية الأولياء: 1/213).
 
وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "ابن آدمَ، طأ الأرض بقدمِك؛ فإنها عن قليل قبرك، ابن آدم، إنما أنت أيام؛ فكلما ذهب يومٌ ذهب بعضُك، ابن آدم، إنك لم تَزَل في هدْم عمرك منذ سقطتَ من بطن أمك"؛ (الزهد الكبير للبيهقي: ص 233).
 
وهذا ما كان يقوله لقمان لابنه حيث قال له: "أي بني، إنك من يوم نزلتَ إلى الدنيا استدبرتَ الدنيا واستقبلتَ الآخرة، فأنت إلى دار تُقبِل عليها أقرب من دار تَبتعِد عنها".
 
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: "يا ابن آدم، اعلم أنك أيام معدودة، فإذا مرَّ يومٌ مرَّ جزءٌ منك، وإذا مرَّ الجزء مرّ الكل، وأنت تعلم فاعمل".
 
وصدق القائل حيث قال:






إنَّا لنفرحُ بالأيام نَقْطَعها
وكل يوم مضى يُدنِي من الأجلِ


فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا
فإنما الربح والخُسران في العملِ






 
فمِن جهلنا بقيمة الوقت (العمر) نفرح بمَغيب شمس كل يوم، ونحن لا نُدرِك أن هذا نهاية يوم من أعمارنا لن يعود أبدًا؛ صحائف طُويت، وأعمال أُحصيت، وأنفاس تُقرِّبنا إلى الأجل وتُبعِدنا عن الأمل.
 
جاء في كتاب "قصر الأمل"؛ لابن أبي الدنيا أن رجلاً أنشد هذه الأبيات عند بعض الخلفاء:






حياتُك أنفاس تُعَدُّ فكلما
مضى نَفَسٌ منها انتقصتَ له جزءَا


فتُصبِح في نقْص وتُمسِي بمِثله
وما لك معقول تُحِس به رُزْءا


يميتك ما يُحسُّك في كل ساعة
ويحدوك حادٍ لا يُريد بك الهُزءا






 
وكان الحسن البصري يقول أيضًا:
"الدنيا ثلاثة أيام، أما أمس فقد ذهب بما فيه، وأما غدًا فلعلك لا تُدرِكه، فاليوم لك فاعمل فيه".
 
وكان أُويس إذا قيل له: كيف الزمان عليك؟ قال:
"كيف الزمان على الرجل إن أمسى يظن أنه لا يُصبِح، وإن أصبح ظنَّ أنه لا يُمسِي، فمُبَشَّر بالجنة أو النار".
 
والتقى حسان بن أبي سنان وحوشب، فقال حوشب لحسان:
"كيف أنت يا أبا عبدالله؟ قال: ما حال مَن يموت ثم يبعث ثم يُحاسب؟ أصبحت قريب أجلي، بعيد أملي، مسيء عملي".
 
وقيل للربيع بن خُثيم:
"كيف أصبحت يا أبا يزيد؟ قال: "أصبحنا ضعفاء ومُذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظِر آجالنا".
 
وقيل لإبراهيم بن عيسى اليشكري: "كيف أصبحتَ؟ فقال: أصبحتُ في أجل منقوص، وعملٍ محفوظ، والموت في رِقابنا، والقيامة من ورائنا، ولا ندري ما يفعل الله بنا"؛ (الزهد الكبير: ص 249).
 
قال رجل لمحمد بن واسع: كيف أصبحتَ؟ قال: ما ظنُّك برجل يرتَحِل كل يوم مرحلة إلى الآخرة".
 
وصدق القائل حيث قال:






نسيرُ إلى الآجال في كلِّ لحظة
وأيامنا تُطْوى وهن مراحلُ


وما أصبح التفريط في زمن الصِّبا
فكيف به والشيب للرأس شاعلُ


فارحل من الدنيا بزادٍ من التقى
فعمرك أيام وهن قلائلُ






 
وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام، قال لأهله قبل أن يأخذ مضجعه:
"أستودِعكم الله، فلعلها أن تكون منيَّتِي التي لا أقوم فيها!"، فكان هذا دأبَه إذا أراد النوم؛ (جامع العلوم والحكم: 2/263)، (وقصر الأمل: ص 147).
 
وقال بكر بن عبدالله المزني لرجل يُدعى أبا جميلة ميسرة بن يعقوب الكوفي:
"يا أبا جميلة كيف أنت؟ قال: أنا والله هكذا، كرجل مادٍّ عنقه، والسيف عليها، ينتظر متى تضرب عنقه"؛ (إتحاف السادة المتقين)، (وقصر الأمل لابن أبي الدنيا: ص 46).
 
وجاء في كتاب "قصر الأمل" (ص70-71) عن يَزيد الرقاشي أنه قال:
"إلى متى نقول: غدًا أفعل كذا، وبعد غدٍ أفعل كذا، وإذا أفطرتُ فعلت كذا، وإذا قدمتُ من سفري فعلتُ كذا! أغفلتَ سفرَك البعيد، ونَسيتَ مَلَك الموت؟ أما عَلِمتَ أن دون غدٍ ليلة تُخترم فيها أنفس كثيرة؟
 
أما عَلِمتَ أن مَلَكَ الموت غيرُ مُنتظِرٍ بك أملَك الطويل؟ أما علمت أن الموت غاية كل حي؟ ثم يبكي حتى يبلَّ عمامته، ثم يقول: لو رأيته صريعًا بين أحبابه لا يقدر على ردِّ جوابهم، بعد أن كان جدِلاً خصِمًا سمْحًا كريمًا عليهم؟ أيها المغتر بشبابه، أيها المغتر بطول عمره، ثم يبكي حتى يبُل عمامته!"؛ (قِصر الأمل؛ لابن أبي الدنيا: ص 78).
 
وقال بكر بن عبدالله المُزني: "إذا أردت أن تنفعك صلاتُك فقل: لعلِّي لا أُصلِّي غيرها"؛ (قصر الأمل: ص 92).
 
قال عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - في بعض خطبه:
"إن لكلِّ سفرٍ زادًا لا محالة، فتزوَّدُوا لسفركم في الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعدَّ الله من ثوابه وعقابه، ترغبون وترهبون، لا يطولنَّ عليكم الأمل فتَقسوا قلوبُكم، وتنقادوا لعدوِّكم، فإنه والله ما بُسِطَ أملُ مَن لا يدري لعله لا يُصبح بعد مسائه، ولا يُمسي بعد صباحه، وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا، فكم رأيت ورأيتم مَن كان بالدنيا مُغْتَرًّا، وإنما تَقَرُّ عينُ مَن وثِق بالنجاة من عذاب الله تعالى، وإنما يفرح مَن أَمِن من أهوال القيامة، فأما مَن لا يداوي كَلْمًا، إلا إذا أصابه جارح من ناحية أخرى، فكيف يفرح؟ أعوذ بالله من أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسرَ صفقتي، وتظهر عوْلتِي، وتبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغنى والفقر، والموازين فيه منصوبة، لقد عُنيتم بأمر لو عُنيت به النجومُ انكدرت، ولو عُنيت به الجبال لزالت، ولو عُنيت به الأرض لتشقَّقت، أمَا تعلمون أن ليس بين الجنة والنار منزلة؟ وأنكم صائرون إلى أحدهما".
 
وكتب الأوزاعي إلى أخ له فقال: "أما بعد، فقد أُحيط بك من كلِّ جانب، واعلم أنه يُسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمَقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به والسلام".
 
وقال بعض الحكماء: "كيف يفرح بالدنيا مَن يومه يَهدِم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدِم عمره؟".
 
قال سفيان الثوري - رحمه الله -: "الزهد في الدنيا: قِصَر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا لبس العباء"؛ (حلية الأولياء: 6/386)، (والزهد الكبير للبيهقي: 79).
 
قال داود الطائي - رحمه الله -: "سألت عطوان بن عمرو التيمي: "قلتُ: ما قِصَر الأمل؟ قال: ما بين تردُّدِ النَّفَس"؛ (قصر الأمل لابن أبي الدنيا).
 
وسُئل الإمام أحمد: "أي شيء الزهد في الدنيا؟ قال: قِصَر الأمل، مَن إذا أصبح قال: لا أمسي".
 
وعن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه أنه قال: "ما نمتُ يومًا قط فحدَّثتُ نفسي أني أستيقظ منه".
 
وقال عون بن عبدالله بن عتبة: "ما أنزل الموتَ كُنْه منزلته مَن عَدَّ غدًا من أجله، فكم من مستقَبِل يومًا لا يستكمِله، وكم من مؤمِّل لغد لا يُدرِكه! إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره لأبغضتُم الأملَ وغروره"؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي: 3/103)، (وقصر الأمل: ص 59).
 
وجاء في "قِصَر الأمل" (ص75) عن عتبة بن عبدالله قال:
"قالوا لعون بن عبدالله: ما أنفعُ أيامِ المؤمن له؟ قال: يوم يلقى ربَّه، فيُعْلِمه أنه راضٍ، قالوا: إنما أردنا من أيام الدنيا، قال: إن من أنفع أيامه له في الدنيا ما ظَنَّ أنه لا يُدرِك آخرَه".
 
وقال عون بن عبدالله بن عتبة أيضًا كما في "حلية الأولياء" (4/251)، و"قصر الأمل" (ص75) "ويحي! كيف أغفُل عن نفسي ومَلَكُ الموت ليس بغافل عني؟! ويحي! كيف أتَّكِلُ على طول الأمل والأجل يطلُبني؟!".
 
وعن أبان بن سُلَيم الصوري، أنه كتب إلى بعض إخوانه فقال: "أما بعد، فإنك أصبحت تُجدِّد الدنيا بطول أملك، وتتمنَّى على الله الأماني بسوء فعلك، وإنما صرت حديدًا باردًا، والسلام".
 
وكان الحسن البصري - رحمه الله - يقول: "ما أكثر عبدٌ ذِكْر الموت إلا رُئي ذلك في عمله، ولا طال أملُ عبد قط إلا أساء العمل"؛ (الزهد للإمام أحمد: ص 236).
 
وكان الحسن يقول أيضًا: "هيهات هيهات، أهلك الناسَ الأماني، قول بلا عملٍ، ومعرفة بغير صبر، وإيمان بلا يقين".
 
وقال الحسن البصري أيضًا: "يا ابن آدم، إياك والتسويف، فإنك بيومك ولست بغدٍ"؛ (قصر الأمل: ص 144).
 
وقال الحسن كذلك: "اجتمع ثلاثة من العلماء فقالوا لأحدهم: ما أَمَلُك؟ قال: ما أتى عليَّ شهر إلا ظننتُ أني سأموت فيه، فقال صاحباه: إن هذا هو الأمل، فقالوا للآخر: ما أَمَلُك؟ قال: ما أتت عليَّ جمعة إلا ظننتُ أني سأموت فيها، فقال صاحباه: إن هذا هو الأمل، فقالوا للآخر: ما أَمَلُك؟ قال: ما أَمَلُ مَن نَفَسُه في يدِ غيره؟!"؛ (الزهد للحسن البصري: ص 81)، (الزهد لابن المبارك: ص 85)، (قصر الأمل؛ لابن أبي الدنيا: ص 23).
 
وقيل للحسن البصري - رحمه الله -: "كيف أصبحتَ يا أبا سعيد؟ (كيف حالك؟)، قال: بأشدِّ حال، ما حال مَن أمسى وأصبح ينتظِر الموتَ لا يدري ما يفعل الله به".
 
وكان إذا أمسى يقول:






وما الدنيا بباقية لحي
وما حيٌّ على الدنيا بباقِ






 
وجاء في كتاب "الزهد الكبير"؛ للبيهقي (ص259) عن عبدالله بن المعتز أنه أنشد فقال:






الدهر يَبْلى وآمال الفتى جُدُد
تَزيد آمالُه والدهر يُفنيها


ليلٌ وصبْح وآجال مقدورة
تَمضي ونمضي وتطوينا ونَطويها






 
عن إسحاق قال: "قيل لرجل من عبدالقيس: أَوصِ، قال: احذروا سوف"؛ (قصر الأمل: ص 140).
 
وجاء في "حلية الأولياء" (6/55) عن أبي الجلد قال: "وجدتُ التسويف جندًا من جنود إبليس، وقد أهلك خلْقًا من خلْق الله كثيرًا".
 
عن صالح البراء قال: "رأيت زُرارة بن أوفى بعد موته في منامي، فقلت: أي الأعمال أبلغ فيما عندكم؟ قال: التَّوكُّل، وقِصَر الأمل"؛ (قصر الأمل لابن أبي الدنيا).
 
قال مالكُ بن مِغوَل: "يُقالُ: مَن قَصُر أملُه هان عليه عيشه"؛ قال سفيان: يعني في المطاعم والملابس؛ (قصر الأمل: ص 44-45).
 
وجاء في كتاب "قصر الأمل" (ص72) عن عمر بن ذر قال:
"ابنُ آدم إنما يتعجَّل أفراحَه بكاذب آماله، ولا يتعجَّلُ أحزانه بأعظم أخطاره".






أضحك سنَّك طولُ الأمل
ولم يُبْكِ عينك قُرْبُ الأجل


كأنك لم ترَ حيًّا يُساق
ولم تر مَيْتًا على مُغتَسل






 
وقال عبدالله بن ثعلبة الحنفي: "تضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصَّار[2](قصر الأمل: ص 74)، (والحلية: 6/254)، (وصفة الصفوة: 3/381).
 
وكما قيل:






ومُعجَب بثياب العيد يَقطعها
فأصبحت في غدٍ أثواب أكفانِ






 
وعن محمد بن أبي توبة قال: "أقام معروفٌ الكرخي الصلاة، ثم قال لي: تقدَّم، فقلت: إني إن صلَّيتُ بكم هذه الصلاة، لم أصلِّ بكم غيرها، فقال معروف: وأنت تُحدِّث نفسك أن تصلي صلاةً أخرى؟! نعوذ بالله من طول الأمل، فإنه يمنع خير العمل"؛ (صفة الصفوة: 2/319)، (قصر الأمل: ص 81).
 
قال حاتم الأصم - رحمه الله -: "لكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف، وعلامة الخوف قِصَر الأمل".
 
قال الأصمعي: "سمعتُ أعرابيًّا يقول: مضى أمسك، وعسى غدًا لغيرك".
 
وجاء في "حلية الأولياء" (6/168) عن صالح بن بشير أنه كان يتمثَّل هذا البيت في قصصه:






وغائبُ الموت لا تَرجُونَ رَجعتَه
إذا ذوو سفرٍ من غَيبةٍ رجعوا






 
ثم يبكي ويقول: هو والله السفر البعيد، فتزوَّدوا لمراحله؛ فإن خير الزاد التقوى، واعلموا أنكم في مِثل أمنيتهم، فبادروا الموت، فاعملوا له قبل حلوله؛ ثم بكى".






تزوَّد من التقوى فإنك لا تَدري
إذا جنَّ ليل هل تعيش إلى الفجر؟


فكم من فتى يُمسي ويُصبح لاهيًا
وقد نُسِجتْ أكفانه وهو لا يدري


وكم من عروسٍ زيَّنوها لزوجها
وقد قُبِضت أرواحهم ليلة القَدْرِ


وكم من صِغارٍ يُرتجى طول عمرهم
وقد أُدخِلت أجسادهم ظُلمةَ القبر


وكم من صحيحٍ مات من غير عِلِّة
وكم من سقيمٍ عاش حينًا من الدهر


وكم من ساكنٍ عند الصباح بقصره
وعند المسا قد كان من ساكن القبر


فكن مخلصًا واعمل الخير دائمًا
لعلك تحظى بالمثوبة والأجر


وداوِم على تقوى الإلهِ فإنها
أمانٌ من الأهوالِ في موقف الحشرِ






 
وبلغ قصر الأمل بالسلف الصالح مبلَغًا عظيمًا، ولولا النقل الصحيح لقلنا:
هذا ضرب من الخيال أو شيء محال؛ أخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن الحارث النخعي -رحمه الله - قال: "إن كان الرجل تُنتَج[3] فرسه من الليل فيَنحَرها غدوة، يقول: أنا أعيش حتى أركب هذا؟ فجاءنا كتاب عمر، أن أصلِحوا ما رزقكم الله، فإن في الأمر مُتنفَّسًا".
 
يقول عاصم بن أبي النَّجود: "كان لأبي وائل خُصٌّ من قصبٍ، فكان إذا غزا نقَضه، وتصدَّق به، وإذا رجع أنشأ بِناءه".
 
قصب: بيت من قصب أو شجر؛ (حلية الأولياء: 4/103)، (وصفة الصفوة: 3/28)، (وقصر الأمل: ص 207).
 
وجاء في كتاب "الزهد" لابن المبارك (ص99) عن الحسن قال:
"كان أحدهم يتَّخِذ القصبةَ، ويجعل فيها خيطًا يعلِّقها في أصبعه فيها ماء، يريد إذا بال أن يتوضأ، مخافة أن يأتيه أمر الله".
 
• جاء في كتاب "قصر الأمل" (ص68) لابن أبي الدنيا عن مسكين بن دينار قال: "كان شيخ متعبِّد، تجتمع إليه فتيانُ الحي ونُسَّاكهم، قال: فيُذكِّرهم، فإذا أرادوا أن يتفرَّقوا، قال: يا إخوتاه، قوموا قيام قومٍ قد يئسوا من المعاودة لمجلسهم، خوفًا من خَطَفات الموكَّل بالنفوس، قال: فيَبكي - والله - ويُبكي".
 
• وعن سُحيم مولى ابن تميم قال: "جلستُ إلى عامر بن عبدالله وهو يُصلِّي، فجوَّز في صلاته، ثم أقبَل عليَّ، فقال: أرحني بحاجتك فإني أُبادِر! قلت: وما تُبادِر؟ قال: ملكَ الموت رحِمَك الله! قال: فقمتُ عنه وقام إلى صلاته"؛ (قصر الأمل: ص 103)، (إحياء علوم الدين: 4/668).
 
• ومرَّ داود الطائي، فسأله رجل عن حديث، فقال: "دَعْني، فإني إنما أُبادِر خروج نفسي"؛ (قصر الأمل: ص 103)، (إحياء علوم الدين: 4/668).
 
• جاء في كتاب "الزهد الكبير" للبيهقي (ص 254): "كانت إحدى العابدات إذا أصبحت قالت: يا نفسُ، هذا اليوم، ساعديني يومي هذا، فلعلكِ لا تَرين بياض يوم أبدًا، وإذا أمستْ، قالت: يا نفسُ، هذه الليلة، ساعديني ليلتي هذه، فلعلك لا تَرين سواد ليلة أبدًا، فما زالت تَخدع وتدفع يومها بليلها، وليلها بنهارها حتى ماتت على ذلك".
 
• وكانت عُفيرة العابدة لا تضعُ جنبها إلى الأرض في ليل وتقول: "أخاف أن أؤخذ على غِرَّة وأنا نائمة"؛ (صفة الصفوة: 4/34).
 
• وكانت أم الصهباء معاذةُ العدوية - زوجة صِلة بن أشيم - إذا جاء النهار قالت: "هذا يومي الذي أموتُ فيه، فما تنام حتى تُمسي، وإذا جنَّ الليل قالت: هذه ليلتي التي أموت فيها، فلا تنام حتى تُصبح"؛ (صفة الصفوة: 4/22).
 
• قال بكر بن عبدالله المُزني: "كانت امرأة متعبِّدة، وكانت إذا أمستْ قالت: يا نفس، الليلة ليلتُك، لا ليلة لك غيرها، فإذا أصبحت قالت: يا نفْس، اليوم يومك، لا يوم لك غيره، فاجتَهدتْ"؛ (جامع العلوم والحكم: 2/263)، (وقصر الأمل: ص77).
 
وكانت ماجدة القرشية تقول:
"سُكَّانُ دارٍ أُوذِنوا بالنقلة، وهم حيارى يركضون في المهلة، كأنَّ المُرَاد غيرهم، أو التأذين ليس لهم، والمَعْنِي بالأمر سواهم، آهٍ من عقولٍ ما أنْقَصَها، ومن جهالةٍ ما أتمَّها، بُؤسًا لأهل المعاصي، ماذا غُرُّوا به من الإمهال والاستدراج؟ وتقول: بَسَطوا آمالهم فأضاعوا أعمالهم، ولو نصبوا الآجال وطَووا الآمال، خفَّتْ عليهم الأعمال"؛ (صفة الصفوة: 4/74).
 
• عن أبي المتوكِّل الناجي قال: "قال لي سليمانُ بن عبد قيس: يا أبا المتوكِّل، قلت: لبيك، قال: عليك بما يُرغِّبك في الآخرة، ويزهدك في الدنيا، ويقربك إلى الله، قلت: وما هو يا عبد الله؟ قال: تَقصُر عن الدنيا همتك، وتسمو إلى الآخرة بنيَّتك، وتُصدِّق ذلك بفعلك، قلت: فكيف لي ما أستعين به على ذلك؟ قال: تقصر أملك في الدنيا، وتُكثِر رغبتك في الآخرة، حتى تكون بالدنيا بَرِمًا، وبالآخرة كَرِثًا[4]، فإذا كنت كذلك لم يكن شيء أحب إليك ورودًا من الموت، ولا شيء أبغضُ إليك من الحياة"؛ (قصر الأمل: ص 53-54).
 
وقال ابن أبي عَمْرة:






يا أيُّهذا الذي قد غرَّه الأمل
ودون ما يَأْمُلُ التنغيصُ والأجَلُ


ألا ترى أنما الدنيا وزينتُها
كمنزلِ الرَّكْب دارًا ثُمَّة ارتحلوا


حُتوفها رَصَدٌ وعيشُها نَكَدٌ
وصفوها رَنَقٌ[5] ومُلْكُها دُوَلُ[6]


تظلُّ تُفْزِغ في الرَّوعات ساكِنها
فما يسوغُ له لِيْنٌ ولا جَذَلُ[7]


كأنه للمنايا والرَّدى عَرَضٌ
تظلُّ فيه بناتُ الدهر[8] تنتَضِلُ[9]


المرء يشقى بما يسعى لوارثه
والقبر وارثُ ما يسعى له الرجلُ






 
(قصر الأمل: ص 73).
 
• وجاء في كتاب "قصر الأمل" (ص143) عن أبي بكر العدوي - رجل من قريش - قال: "كتب رجل من الحكماء إلى أخٍ له: "أخي، إياك وتأمير التسويف على نفسك وإمكانه من قلبك، فإنه مَحِلُّ الكَلال، ومَوئل المَلال، وبه تُقطَع الآمال، وبه تنقضي الآجال، وأنت - أي أخي - إن فعلتَ ذلك أدَلتَ من عزمك، فاجتمَع وهواك عليه فَعَلاه، واسترجعا من يديك من السآمة ما قد ولَّى عنك، ونفاه من جوارحك الحزن والمخافة، وأوثق الشوق والمحبة، فعند مراجعته إياك لا تنتفع نفسك من يديك بنافعة، ولا تجيبك إلى نفعٍ جارحةٌ، أي أخي، فبادر، ثم بادِر؛ فإنك مُبَادرٌ بك، وأسرِعْ؛ فإنك مَسرُوعٌ بك، وكأن الأمر قد بَغَتَك، فاغتبطتَ بالتَّسرع، وندِمت على التفريط ولا قوة بنا وبك إلا بالله".
 
وأنشد أبو عبدالله بن أيوب:






اغتنم في الفراغ فَضْلَ ركوعٍ
فعسى أن يكون موتُك بَغْتَه


كم صحيحٍ رأيت من غير سُقْمٍ
ذهبتْ نفسه الصحيحة فَلْتَه






 
(الزهد الكبير؛ للبيهقي: ص 235).
 
•وجاء في كتاب "الزهد الكبير"؛ للبيهقي (ص237) عن منازل بن سعيد قال: "صلَّينا خلف جنازة فيها داود الطائي، وهو لا يَراني خلفه، فقال: ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100]، ثم قال لنفسه: يا داود، مَن خاف الوعيد قَصُر عليه البعيد، ومَن طال أمله قصُر عمله، وكل ما هو آتٍ قريب، واعلم يا داود أن كل شيء يَشغَلك عن ربك فهو مشؤوم، واعلم يا داود أن أهل الدنيا جميعًا من أهل القبور، إنما يَندمون على ما يخلفون، ويفرحون بما يُقدِّمُون، فما عليه أهل القبور يندَمون، عليه أهل الدنيا يقتتلون، وفيه يتنافسون، وعليه عند القضاء يَختصِمون، ثم نظر إليَّ فقال: لو علمتُ أنك خلفي لم أَنطِق بحرف"؛ (حلية الأولياء: 7/357)، (وقصر الأمل؛ لابن أبي الدنيا: ص 78).
 
• وجاء في كتاب "صفة الصفوة" (2/153): "أن صفوان بن سُليم لا يكادُ يخرج من مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا أراد أن يخرج بكى، وقال: أخاف ألا أعود إليه".
 
• وجاء في كتاب "قِصَر الأمل"؛ لابن أبي الدنيا (ص60): "عن إبراهيم بن نشيط قال: قال لي أبو زُرعة الشامي: "لأقولنَّ لك قولاً ما قلتُه لأحدٍ سواك، ما خرجتُ من المسجد منذ عشرين سنة، فحدَّثتُ نفسي أن أرجع إليه".
 
• وجاء في كتاب "قِصَر الأمل" ص (47): "وعن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه قال: "ما نمتُ يومًا قط فحدَّثتُ نفسي أني أستيقظ منه".
 
• وجاء في "صفة الصفوة" (3/320)، و"جامع العلوم والحكم" (2/263) عن إسماعيل بن زكريا - وكان جار الحبيب أبي محمد رحمه الله - قال: "كنتُ إذا أمسيتُ سمعتُ بكاءَه، وإذا أصبحتُ سمعتُ بكاءه، فأتيتُ أهله فقلت: ما شأنه يبكي إذا أمسى، ويبكي إذا أصبح؟ قال: فقالت لي: يخاف - والله - إذا أمسى ألا يُصبح، وإذا أصبح ألا يُمسي"؛ (قصر الأمل: ص 59).
 
• وكان حبيب يقول لزوجته: "إن متُّ في اليوم، فأرْسِلي إلى فلان يُغسِّلُني، وافعلي كذا، واصنعي كذا، فقيل لامرأته: أرأى رؤيا؟ قالت: هذا يقوله في كل يوم"؛ (صفة الصفوة: 3/320)، (جامع العلوم والحكم: 3/263).
 
• وعن سويد بن عمرو قال: "سمعت داود الطائي يقول: "لو أمَّلتُ أن أعيش شهرًا، لرأيتني قد أتيتُ عظيمًا، وكيف أؤمِّل ذلك وأرى الفجائع تغشى الخَلْقَ في ساعات الليل والنهار"؛ (صفة الصفوة: 3/320)، (جامع العلوم والحكم: 3/263).
 
• وجاء في "حلية الأولياء" (6/298)، و"صفة الصفوة" (3/354) عن الربيع بن عبدالرحمن قال: "قطعتنا غفلةُ الآمال عن مبادرة الآجال، فنحن في الدنيا حيارى، لا ننتبه من رَقدة إلا أعقبتنا في أَثَرِها غفلةٌ، فيا إخوتاه، نشدتكم بالله، هل تعلمون مؤمنًا بالله أغرَّ، ولِنِقَمِهِ أقلَّ حذرًا من قومٍ هجمت بهم العِبَر على مصارع النادمين، فطاشت عقولهم، وضلَّت حُلُومهم عندما رأوا من العِبر والأمثال، ثم رجعوا عن ذلك إلى غير قلعة ولا نقلة؟! فبالله يا إخوتاه، هل رأيتم عاقلاً رضي من حالة نفسه بمِثل هذه حالاً؟ والله - عبادَ الله - لتبلُغُنَّ من طاعة الله رضاه، أو لتُنْكِرنَّ ما تعرفون من حُسْن بلائه، وتواتُر نَعمائه، إن تُحسِن أيها المرء يُحسَن إليك، وإن تُسئ فعلى نفسك بالعَتْب، فارجع، فقد بيَّن وأعذر وأنذر، فما للناس على الله حُجَّة بعد الرسل، وكان الله عزيزًا حكيمًا".
 
• جاء في كتاب "قصر الأمل"؛ لابن أبي الدنيا: "عن عبيدالله بن شُميط بن عجلان قال: "سمعت أبي يقول: "إن المؤمن يقول لنفسه: إنما هي أيام ثلاثة، فقد مضى أمس بما فيه، وغدًا أملٌ لعلك لا تُدرِكه، إنك إن كنتَ من أهل غدٍ، فإن غدًا يجيء برزق غد، إن دون غدٍ يومًا وليلةً تُخترم فيه أنفسٌ كثيرة، لعلك المُختَرم فيها، كفى كلَّ يوم همُّه، ثم قد حَمَلْتَ على قلبك الضعيف همَّ السنين والأزمنة، وهمَّ الغلاء والرخص، وهمَّ الشتاء قبل أن يجيء الشتاء، وهمَّ الصيف قبل أن يجيءَ الصيف، فماذا أبقيتَ من قلبك الضعيف لآخرته؟! كل يوم ينقص من أجلك وأنت لا تحزن، وكل يوم تستوفي رزقك وأنت لا تحزن، أُعْطيت ما يكفيك، فأنت تطلُب ما يُطغيك! لا بقليلٍ تقنع، ولا من كثير تَشبَع!
 
وكيف لا يَستبين بعالم جهلُه، وقد عجَز عن شكر ما هو فيه، وهو مغترٌّ في طلب الزيادة؟
أم كيف يعمل للآخرة مَن لا ينقطعُ من الدنيا شهوته، ولا تَنقضي منها نهمتُه؟!
فالعجب كل العجب لمَن يُصدِّق بدار الحيوان، وهو يسعى لدار الغرور!
 
• ويقول شميط بن عجلان أيضًا في نفس المصدر (ص58): "طالت آمالكم، فجدَّدتم منازلكم من الدنيا، وطيَّبتم منها معايشكم، وتلذَّذتم فيها بطيب الطعام، ولين اللباس، كأنكم للدنيا خُلقتُم! أولا تعلمون أن الموت أمامكم؟ أولا تعلمون أن ملكَ الموت موكَّل بآجالكم، لا يذهب عنه من المدة شيء؟
 
ثم يقول: "لا تكونوا - رحمكم الله - أقل شيء بالموت اكتراثًا، وأعظم شيء عن الموت غفلة، فما ينتظر الحي إلا الموت! وما ينتظر المسافر إلا الظَّعن[10]".
 
• وكان شميط بن عجلان - رحمه الله - يقول أيضًا: "أيها المغترُّ بصحته، أما رأيت ميتًا قط من غير سَقَم؟ أيها المغتر بطول المُهلة، أما رأيت مأخوذًا قط من غير عُدَّة؟ إنك لو فكَّرت في طول عمرك، لنسيتَ ما قد تقدَّم من لذاتك، أبالصحة تغترُّون؟! أم بطول العافية تَمرحون؟ أم للموت تأمنون؟ أم على مَلَك الموت تَجترِئون؟ إن ملك الموت إذا جاء لم يمنعه منك ثروةُ مالك، ولا كثرة احتشادك، أما علِمتَ أن ساعة الموت ذات كَرْب وغُصَص ونَدامة على التفريط، ثم يقول: "رَحِمَ الله عبدًا عمل لساعة الموت، ورَحِمَ الله عبدًا عَمِل لما بعد الموت، ورَحِمَ الله عبدًا نظر لنفسه قبل نزول الموت"؛ (قصر الأمل؛ لابن أبي الدنيا: ص 61-62)، (وصفة الصفوة: 31-347).
 
يقول أبو العتاهية - رحمه الله -:






ألا أيُّها المغرورُ ما لكَ تلعب
تؤمِّل آمالاً وموتك أقرب


وتعلم أن الحرص بحرٌ مُعبَّد
سفينتُه الدنيا فإياك تَعطَب


وتعلم أن الموت ينقضي مُسرِعًا
عليك يقينًا طعمه ليس يَعذُب






 
• وقال زياد النميري - وكان من الزُّهاد العباد -: "لو كان لي من الموت أجلٌ أعرفُ مدَّتهُ، لكنتُ حريَّا بطول الحزن والكمد حتي يأتيني وقته، فكيف وأنا لا أعلم متى يأتيني الموت صباحًا أو مساءً؟! ثم خنَقتْه العَبْرةُ، فقام"؛ (حلية الأولياء: 6/76)، (وقصر الأمل: ص 61).






ليس في كلِّ ساعة من الدهرِ
إلا للمنايا عليكَ فيها رقيبُ


كلَّ يوم تَرميك منها بسَهْمٍ
إن تُخطئ يومًا فسوف تُصيبُ






 
يقول محمد بن النضر الحارثي:
"إلى الله أشكو طول أملي، وعند الله أحتسبُ عظيم غفلتي"؛ (قصر الأمل: ص 47).



[1] السوف: الصبر والمطل، يقال: فلانٌ يقتات السوف؛ أي: يعيش بالأماني.


[2] القصَّار: الصبَّاغ.


[3] تنتج: تلد.


[4] كَرِثًا: مهتمًّا.


[5] رنق: كدر.


[6] دول: ينتقل من حال لحال.


[7] الجذل: الفرح.


[8] بنات الدهر: صروحه.


[9] تنتضل: تستبق.


[10] الظعن: الارتحال.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣