حكمة الداعية
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
حكمة الداعيةالحكمة هي: (الإصابة في القول والعمل والاعتقاد، ووضع كل شيء موضعه بإحكام وإتقان)[1]، وهي هبة من الله تعالى، يهبها لمن يشاء من عباده، وفضل عظيم يمنحه لمن أراد، كما قال تعالى ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [2].
وكونها هبة من الله لا يمنع الداعية من أن يسلك طرق اكتسابها المتوافقة مع الكتاب والسنة، وأن يجاهد نفسه للتحلي بصفاتها، ليكون على بصيرة في دعوته.
ومن طرق اكتساب الحكمة: العلم النافع، والحلم والأناة والإخلاص والتقوى والصدق والصبر والمصابرة والسلوك الحكيم، والعمل بالعلم، والاستقامة وعلو الهمة، والاستخارة والاستشارة، والابتعاد عن الشبهات..
إلى غير ذلك من الصفات التي إذا تحلى بها الداعية المؤمن كان حكيماً في أقواله وأفعاله وتصرفاته، وموافقاً للصواب في جميع أموره بإذن الله[3].
ومن الصفات التي إذا تحلى بها الداعية أكسبته الحكمة، ما يلي:
1- التأني وعدم الاستعجال:
وقد قال الله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [4]، فيأمره تعالى في هذه الآية بالصبر على أذى المكذبين المعادين له، وأن لا يزال داعياً لهم إلى الله، وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين أولي العزائم والهمم العالية، الذين عظم صبرهم وتم يقينهم، ونهاه عن الاستعجال للمكذبين المستعجلين للعذاب أن يقع عليهم، فإن هذا من جهلهم وحمقهم، وألا يستخفنه جهلهم على أن يدعو الله عليهم.
فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، فصبر صبرا جميلا، حتى رماه المعادون له عن قوس واحدة، وقاموا جميعا لصده عن الدعوة إلى الله، وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة، وهو صلى الله عليه وسلم لم يزل صادعاً بأمر الله، مقيما على جهاد أعداء الله، حتى مكن الله له في الأرض، وأظهر دينه على سائر الأديان، وأمته على سائر الأمم[5].
ففي الآية الكريمة أمر ونهي: أمر بركن من أركان الحكمة وهو الصبر والتأني، ونهي عن آفة من آفات الحكمة وخوارمها وهو الاستعجال، فالحكمة أقرب الوسائل لحصول المقاصد وتهوين الصعاب، واندفاع العوائق، فكم ندم عجول طائش، وكم أدرك المطلوب متأن رفيق، ولا تُساس الولايات الكبار ولا الصغار، بمثل الحكمة، ولا تختل إلا باختلال طريقها[6].
وللتأني طرق وأساليب توصل إليه، منها:
• الابتعاد عن ردات الفعل الغير متزنة، والمؤثرات النفسية، التي قد تسبب الطيش والغضب، أو تسبب تغير الموقف والانتقال إلى ضد الفكرة، وذلك كموقفه عليه الصلاة والسلام من أبي سفيان رضي الله عنه، حين عرض عليه الإسلام والنطق بالشهادتين، فأبى الاعتراف برسالته وقال: إن في النفس منها شيئا.
فتأنى ولم يعجل عليه حتى أسلم.
وذلك ما أخذه على خالد بن الوليد رضي الله عنه، حين تعجل في قتل الأسرى من بني جذيمة، وكان الأولى التأني والتبين[7].
• التفكير في نتيجة العمل وعاقبته، فإن العبرة دائما بالخواتيم.
2- أخذ الحذر والحيطة والاستعانة بالكتمان عند الضرورة، فليست الحكمة دائما في الدعوة إلى الله هي التصريح بالأهداف والخطط المحددة تفصيلا، لأن هذا قد يزيد من تربص أعدائهم بهم، ومكرهم بأهل الدعوة، وفي التصريح بالأهداف العامة المجملة والاكتفاء بها مندوحة عنها، وقد تكون الحكمة أحياناً في التصريح بذلك والنص عليه، فالداعية الحكيم هو الذي يختار لكل موقف ما يناسبه[8].
وفي غزوة الفتح ما يؤكد هذا الأمر ويوضحه، وذلك في كتمان النبي صلى الله عليه وسلم خبر العزم على فتح مكة، ومقدار قوته، وخطته الحربية ثم إعلان ذلك في الوقت المناسب، وأخذه الحيطة والحذر لتحقيق ذلك، فقد روي أنه أمر بإيقاد النيران وهم على مر الظهران، وأمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل، وجعل على الحراسة عمر بن الخطاب رضي الله عنه[9].
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التغفيل، وأشار إلى استعمال الفطنة والحذر فقال: (( لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين))[10]، قال الإمام الخطابي[11]رحمه الله: (أي ليكن المؤمن حازماً حذراً، لا يؤتى من ناحية الغفلة، فيخدع مرة بعد أخرى)[12].
3- الاستفادة من تجاربه في الحياة وكذلك الاستفادة من تجارب غيره، وخبرة سواه، فالتجربة والحوادث خير معلم للإنسان، وقد قال تعالى ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [13].
فيسير الداعية بعقل ناضج وفكر نابه، يعرف مداخل الأمور ومخارجها، يحسب خطواته ويراقبها، فإذا زلَّت قدمه أو عثر لسانه، سارع إلى الصواب، ولا يترك خطأه دون دراسة وتمحيص للاستفادة منه، فيحصل له من ذلك خبرة وعلم بواقع الحياة، وفراسة وبصيرة بالنفوس[14].
[1] الحكمة في الدعوة إلى الله: سعيد بن علي بن وهف القحطاني ص 30، مطبعة سفير الرياض ط:1، 1412هـ.
1992م.
[2] سورة البقرة آية 269.
[3] بتصرف، الحكمة في الدعوة إلى الله ص 82.
[4] سورة الأحقاف جزء من آية 35.
[5] بتصرف، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 7 /60.
[6] بتصرف، الرياض الناضرة والحائق النيرة الزاهرة ص 94.
[7] بتصرف، الأخلاق الإسلامية وأسسها 2 /367، وانظر الحكمة في الدعوة إلى الله ص 68.
[8] بتصرف، المدخل إلى علم الدعوة د.
محمد أبوا لفتح البيانوني ص 203، وانظر الأخلاق الإسلامية وأسسها 2 /358.
[9] بتصرف، إمتاع الأسماع 1 /368، والسيرة الحلبية 3 /15.
[10]صحيح البخاري كتاب الأدب باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين 7 /103.
وذكر ابن اسحق في غزوة أحد في طريق رجوعه إلى المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر أبا عزة الجمحي، -وكان قد أسره ببدر ثم منَّ عليه- فقال: يا رسول الله أقلني.
فقال صلى الله عليه وسلم: (( والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمدا مرتين، اضرب عنقه يا زبير)) فضرب عنقه.
انظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 3 /56.
[11] هو حَمْد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البُستي الخطابي، الإمام العلامة الحافظ اللغوي، صاحب التصانيف، ولد سنة بضع عشرة وثلاث مائة، أخذ الفقه على المذهب الشافعي، توفي ببست سنة 388هـ.
بتصرف، طبقات الشافعية الكبرى 3 /282، سير أعلام النبلاء 17 /23.
[12] فتح الباري 10 /530 ح6133.
[13] سورة محمد آية 10.
[14] بتصرف، الدعوة إلى الله، الرسالة الوسيلة الهدف ص 104- 105.