أرشيف المقالات

المشكلات

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
5 - اللغة العربية للأستاذ محمد عرفة لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟ ومن غريب الأمر أن الطريق الذي أشرنا بسلوكه، والذي أبان العلم أنه لا طريق إلى تعلم اللغات سواه، هو الطريق الذي هدت إليه الفطرة وسلكته في تعليم الولدان لغات آبائهم، وتعليم الأجيال لغة أممهم، فالفطرة اصطنعت في تعليم اللغات طريق الحفظ والتكرار، والمرانة والاعتياد ينشئ الطفل فيسمع أبويه وأهليه يتكلمون بمواضعات خاصة فيحفظها وتتكرر على سمعه، ويعتادها لسانه فتصير ملكة، وبذلك يحذق لغة قومه كأن الفطرة قد علمت أن اللغة في الإنسان ملكة، والملكة لا تكتسب إلا بالتكرار فاستعملت ذلك في تعليم أمم الأرض لغاتها، ولم تخطئ مرة واحدة فتلجأ إلى طريق القواعد والقوانين لأنها لا تكسب الملكات أما نحن فجهلنا ذلك، وأخذنا نعلم اللغة بالقواعد والقوانين، ولم نلجأ إلى تعليمها بالحفظ والتكرار، فكانت الفطرة أقرب إلى الصواب، وأبعد عن الخطأ، وأثقب فكراً، وأسد نظراً، وكنا أقرب إلى الخطأ، وأبعد عن الصواب، وأعظم خرقا.
وكانت الفطرة تعلم اللغة أثناء المعاملات اليومية من لعب وقضاء حاج، وبيع وشراء؛ أما نحن فقد أحطناها بالقوانين التي يفنى العمر ولا تفنى؛ فكانت مقتصدة أعظم الاقتصاد، وكنا مسرفين أشد الإسراف.
كانت الفطرة تعلمها بالتدرج من الأسهل إلى الأصعب، ومن البسيط إلى المركب مراعية حال المتعلم، فتعطيه ما يناسبه ولا يجافي عقله.
أما نحن فلم نراعي ذلك بل تعمدنا مضادته، فعلمنا القواعد التي هي فلسفة اللغة، تعلم بعد تعلمها، ومرتبتها في الوجود متأخرة عنها، فلم تظهر إلا بعد ظهور اللغة بأزمان.
أقول علمنا القواعد قبل تعلم اللغة وجعلناها وسيلة إلى تعلمها، ولم نراع حال المتعلم فجئنا بأطفال الأقسام الابتدائية والتعليم الأولي، وأخذنا نعلمهم القواعد، ونعطيهم من العلم ما ينبو عن أذهانهم؛ فكانت جارية على مقتضى الحكمة، وكن جارين على غير مقتضاها، أو على مقتضى شيء آخر، وكانت ميسرة كل التيسير، وكنا معسرين كل التعسير وكانت تعلمها أثناء سرد الحوادث اليومية، وأخبار الجيران، والأهل والخلان، والمحادثات السارة والأخبار الممتعة، وتاريخ الناس وملحهم، وفي أثناء الأغاني والمدائح والمراثي.
وكنا نعلمها في قواعد جافة خالية من كل ذلك، فكانت تعلمها مع المتعة والمسرة.
وكنا نعلمها مع الضيق والحرج.
ولما راعت ذلك كله كانت ناجحة في تعليمها كل النجاح، ولما أهملنا ذلك كله كنا مخفقين كل الإخفاق أراني فيما سبق قد أطلت المسافة في الاستدلال، وذكرت في البين أن اللغة ملكة، وأن الملكة لا تكتسب إلا بالتكرار، وكنت أستطيع أن أختصر الطريق، وأقول لننظر إلى الفطرة كيف تعلم اللغة، ولنحاكها فيما تفعل، ولنعمل كما تعمل وإذا نظرنا هذا النظر وجدناها تعلم أبناءنا اللغة العامية بالتكرار والمحادثة، وكذلك كانت تعلم أطفال العرب لغة آبائهم.
كانوا يسمعون في طفولتهم من آبائهم ومخالطيهم مفردات اللغة وأساليبها، والبليغ المأثور من بيانها، ويتكرر ذلك على أسماعهم، فيحاكونه ويقلدونه ويتكلمون على نهجه، فيكتسبون الملكة في اللغة بالسماع والتكرار والحفظ؛ فإذا الطفل الناشئ ولسانه البادئ جار على هذه اللغة لا يخطئ ولا يشذ، ولو حاول جهده أن يحيد عن الصواب لاستعصى ذلك على لسانه، ولوجد في ذلك مشقة وعنتا إن محاكاة الفطرة في أعمالها داعية إلى النجاح والتوفيق، وكلما كان المرء أقرب إليها كان أقرب إلى الصواب، وأبعد عن الخطأ، ويكون خطؤه بقدر بعده عنها، ومجافاته لقوانينها ومن سوء حظ المتعلمين أن ما في المدارس المصرية مما له تعلق بالطريقة الطبيعية قد أهمل ولم يعن به، وهو فيها صورة لا معنى، وشكل لا حقيقة؛ ففي المدارس المصرية حفظ ومطالعة، ولكن التلاميذ يهملون ذلك الثمد القليل الذي فرضته عليهم المدارس المصرية من المحفوظات، ولا يحفظون إلا النزر القليل ليقولوه أمام لجنة الامتحان الشفوي.
وفيها مطالعة، ولكن يمر العام كله وهم لم يطالعوا إلا صفحات معدودة، وفي الكتب المقررة شواهد على النحو والصرف والبلاغة، ولكن التلاميذ لا يحفظون شاهداً، ولا يستظهرون مثلاً وضعت يدي على خمسة تلاميذ اتفاقا دون اختيار، وكانوا من تلاميذ الثقافة، وكان علم البيان مقرراً عليهم وفيه كثير من الأمثلة والشواهد، وسألتهم واحداً واحداً عما حفظوه من شواهد البيان، فلم يكن منهم من يحفظ بيتاً واحداً، ومن المحزن أن الممتحنين لا يقيمون وزنا لذلك، وأن المدرسين لا يقيمون له وزنا أيضاً، فلا هؤلاء يحتمون عليهم حفظ الشواهد، ولا أولئك يرون المقصر في حفظها مقصراً في الامتحان وهذا إهمال عظيم في الحفظ والتكرار، وهو وإن كان محزنا فان لهم العذر كل العذر فيه، لأنه ثبت في أذهان الجميع معلمين ومتعلمين أن المعول عليه إنما هو القاعدة، فإذا فهمت وحفظت فما عداها من حفظ الشاهد والمثل فضل، ولا يعلمون أن هذا الفضل هو الذي إذا عني بحفظه وتكراره رسم صورة ذهنية، يكتب الناشئ على مثالها، وينسج على منوالها وقد علمتني التجربة أن ما يؤخذ من المحفوظات في المدارس لا يغني التلاميذ شيئاً، فمن الواجب أن يكلف التلاميذ أن يعكفوا على بعض دواوين الأدب، فيقرؤوها، أو يختاروا منها، ويجمعوا ما يختارون في كراسة ويحفظوه ويفهموا معناه، وتكون هذه الكراسة بيد التلميذ عند الامتحان شاهدة على جده وعمله، فيقدمها للمتحن فيرى أهي كافية أم غير كافية، ثم يمتحنه فيها من أولها ومن وسطها ومن آخرها ليعلم هل حفظ ما اختار وقد علمتني التجربة أيضاً أن ما يؤخذ من المطالعة في العام الدراسي أمام المدرس لا يغني عن التلاميذ شيئاً، فمن الواجب أن يكلفوا بكتب يطالعونها أثناء العام الدراسي ويكتبون آراءهم فيها ويلخصون محتوياتها، وكذلك في العطلة، ويكون لهذا وذاك دخل في تقدير الدرجات كل ما في الوجود يشهد لي أن اللغة إنما تكتسب بالحفظ والتكرار وأن القواعد لا تغني في اكتساب ملكة اللغة فتيلا لعلك جلست إلى بعض الممثلين واستمعت إلى حديثه فرأيته يتكلم بالعربية لا يكاد يخطئ: وينحدر كالسيل، ويهدر كالرعد ولعلك جلست إلى بطل من أبطال اللغة العربية يعرف قواعد النحو والصرف والبلاغة لا تكاد تخفى عليه منها خافية، فرأيته يتكلم بالعامية لا يكاد يقيم جملة، ولا يستطيع أن يلين لسانه بالعربية، فعجبت كيف يملك الأول هذا القدر من العربية مع جهله، وكيف يقصر عنه الثاني مع علمه أتدري لم هذا؟ إن الأول زاول اللغة العربية عملاً، وحفظ أدواره في الروايات، وألقاها ومرن على ذلك فاكتسب ملكتها، فإن تكلم بعد صدر عن الملكة فأجاد؛ أما الثاني فعلم قواعد النحو والصرف والبلاغة، ولم يزاول اللغة حفظاً وعملاً، فلم يكتسب ملكتها فكان هذا القصور المعيب أجلست مع بعض العامة الذين يكثرون من قراءة الجرائد والروايات فرأيته يقيم لسانه بالعربية أكثر من ذلك النحوي الذي جعل همه في القواعد والقوانين ولعلك رأيت بعض من لا يعرفون علم العروض والقافية، ولا يعرفون البحور وأوزانها، ولا الخبن والطي، إذا سمع بيتاً مكسوراً أدرك عيبه بمجرد سماعه، وإذا سمع بيتاً صحيحاً أدرك صحته كذلك؛ ولعلك رأيت بعض من يعرفون هذه العلوم لا يهتدون لعيب البيت أو صحته إلا إذا أخذوا يتعرفون من أي بحر هو ويجرونه على أوزانه.
إن ذلك لأن الأول تربى عنده مقياس ذهني لأوزان الشعر من كثرة قراءته وحفظه، فإذا سمع شعراً اختل عن هذه المقاييس أدرك ذلك بذوقه، والآخر لم ترب عنده هذه المقاييس بل شغل بقواعد الشعر عن حفظه وقراءته والقواعد لا تربي الملكة أن كثيراً من علماء العروض لو حاولوا نظم بيت من الشعر أعجزهم؛ وإن كثيراً ممن لا يعرفون هذا العلم يأتي لهم الشعر طيعاً منقاداً - والسر ما قلناه وكررناه من أمر الملكة والتكرار سلوا كل كاتب يحوك الوشى، وينفث السحر، وكل شاعر يقول الشعر، وينظم الدر، في مصر وفي بلاد الشرق، بماذا نلتم هذه المنزلة ووصلتم إلى هذه الدرجة من البيان يجيبوك بأنهم لم ينالوا هذه المنزلة إلا بالقراءة الكثيرة، والحفظ الكثير ومزاولة الكتابة والحديث إن قوانين الوجود صارمة نافذة أبدية فمن سايرها وعمل على مقتضاها انتفع بها وسار على ضوئها إلى التوفيق، ومن جهلها لحقه الضرر بهذا الجهل، ومن أراد التخلص منها، وحاول أن يخضعها لإرادته عني نفسه فيما لا يطاوعه ولا يجد إليه سبيلاً محمد عرفة

شارك الخبر

المرئيات-١