أرشيف المقالات

قاسم أمين

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 أول ديسمبر سنة 1863ـ23 أبريل سنة 1908 بمناسبة ذكراه السنوية في مثل هذا اليوم من عام ثمانية وتسعمائة ألف انتقل إلى دار البقاء المصلح العظيم قاسم أمين بعد أن قضى في هذه الحياة أربعا وأربعين سنة يستعد للكمال النفسي الذي تهيأ له بفطرته، ويدعو إلى الكمال الإنساني الذي اتجه إليه بفكرته.
وكانت الفترة التي نشأ فيها بعد هزيمة المصريين وانتصار المحتلين أشبه شيء بالفترة التي تأخذ من أواخر الشتاء وأوائل الربيع، فيها الخدر والبرد والجدب، ولكن فيها أطرافا من الحس والدفء والخصوبة؛ فالشعب كان يعاني من عواقب الأزمان السود التي أتت عليه، ومن رواسب الأجناس السوء التي عاثت فيه، ألونا من الجهل والذل والفوضى جعلته يستكين لعوامل الفساد في الخلق والعقيدة والثقافة والمجتمع.
فالحكم أهواء وشيع، والدين أوهام وبدع، والعلم قشور ومسخ، الأدب تقليد وزخرف، والرجال آلات للعمل والإنتاج، والنساء إماء للخدمة والمتاع، والسلطان المحتل يصرّف أمورنا على مشيئته، والمال الأجنبي يستغل مواردنا لمنفعته.
وكانت البراعم التي بكرت إليها حياة الربيع فتفتحت عن الشعور والوعي تتمثل في الرواد الأولين: جمال الدين، محمد عبده، ومصطفى كامل، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ولطفي السيد، وعبد العزيز فهمي، فشعروا أول الناس بالأدواء التي قعدت بالأمة عن النهوض، فجاهد كل منهم وقاد في الميدان الذي خلق له وظهر فيه. ومما عمق فيهم هذا الشعور وقواه، نبوغ أكثرهم في القانون والأدب، وتفوق بعضهم في الدين والفلسفة، وأخذهم بنصبه من ثقافة الغرب، واتصالهم بأقطاب الفكر في فرنسا وإنجلترا، ووقوفهم على تلك الحملة المنكرة التي شنها أبالسة الاستعمار على مصر والعرب وإسلام، فنهض جمال الدين لإرنست رينان، ومحمد عبده لهانوتو، وقاسم أمين لدوق داركور، فدافعوا بالحجج الملزمة ما لفقوا من أباطيل أنكروا من حقائق.
فلما بلغوا المآخذ التي أخذها الخصوم علينا بالحق، حملهم الإباء القومي على أن يأخذوا عليهم أشباهها في مجتمعاتهم ومعتقداتهم، كالمقابلة بين تعدد الزوجات هنا، وتعدد الخليلات هناك.
ولكن هذا الإباء القومي نفسه حملهم كذلك على النظر في تطهير الشرق من هذه المآخذ، بتصحيح الزائف، وتقويم المعوج، وتقيد المطلق، فمضى كل زعيم يتحرى وجوه الإصلاح والتحرير في الوطن، أو في الدين، أو في الفكر، أو في الأدب، أو في القضاء، أو في الرجل، أو في المرآة، على حسب استعداده وطبيعة نفسه. كانت رسالة قاسم إصلاح المجتمع في نواحيه المختلفة.
وما كان في خلقه ولا في طوقه أن تكون رسالته غير ذلك.
كان حي الوجه، يحتشم إذا لاقى، ويفضي إذا حدّث، ويعفو إذا جادل.
وكان عطوف القلب، يدين بالصداقة، ويتخلق بالرحمة، ويواصل بالمودة.
وكان رقيق الشعور، يكلف بالأدب، ويطرب للغناء، ويعجب بالجمال.
وكان عصبي المزاج، ينفعل انفعال الفنان، وينبسط انبساط المؤمن، وينقبض انقباض الناسك، وكان محببا إليه العشرة، يخالط كل طبقة، ويسبر كل حالة، ويرقب كل حادث.
وكان واسع المعرفة والخبرة؛ يتقصى طبائع الشعوب، ويدرس أحوال الأمم، ويتعرف دخائل النفوس.
وهذه هي جل الصفات التي يجب أن تكون في المصلح الاجتماعي ليكون بينه وبين مجتمعه تجاوب في الشعور والفكر. عني قاسم رضوان الله عليه بإصلاح المجتمع المصري وهو في سن العشرين منذ قرأ كتاب داركور ورد عليه في عام 1894، فكتب في جريدة المؤيد تسع عشر مقالة أكثرها بعنوان (أسباب ونتائج) وبعضها بعنوان (حكم ومواعظ) عالج فيها أدواء المصريين في الاقتصاد والوقف والتربية والتعليم والأسرة والوظيفة علاجا لا يزال المصلحون يصفونه ويكررونه، لأنه جمع أكثر العناصر الفعالة في حسم الداء وبرء المرض.
وقلما نجد كاتبا يعرض اليوم لهذه المسائل ولا يقع على خطاه، أو يوافق على ما أرتاه. كان هذا المفكر العظيم يكتب عن إيمان وصدق.
لا يكتب رغبة في الكتابة، ولا ينشر طمعا في الشهرة؛ إنما كان ينشر مقالته في الصحف من غير إمضاء، ويرسل فكرته في الناس من غير ضوضاء، ثم لا يعنيه إلا أن يراها تصيب الغرض الذي قصده، وتحدث الأثر الذي أراده. وكان صاحب رأي وعزيمة، يقول ويفعل، ويفكر ويدبر.
فإذا قرأنا رأيه في كتابين قيمين: تحرير المرأة والمرأة الجديدة، فقد رأينا عزمه في عملين عظيمين: الجمعية الخيرية الإسلامية، والجامعة المصرية. وكان ينفذ ببصره وفكره إلى طوايا المجتمع فيرى بقوة لحظة وحدة ذهنه دقائق وتفاصيل لا يدركها النظر العادي.
ومزية الكاتب الموهوب أن يرينا ما لم نر، ويقفنا على ما لم نعلم، ويصور لنا ما لم نتصور، وفي كلمات قاسم أمين المنشورة آيات من الحوار والتصوير مثل بهما طرفا من نقائص العصر تمثيلا دل على ملكه أصيلة في الأدب، وقريحة سخية في الكتابة.
نقرأ له مثلا هذا الحوار القصير: سئل ح.
بك: ما رأيك في كتاب تحرير المرأة؟ فأجاب: رديء! - هل قرأته؟ - لا! - أما يجب أن تقرأه قبل أن تحكم عليه؟ - ما قرأت ولا أقرأ كتابا يخالف رأيي! وتقرأ له هذه الصورة الناطقة لجنازة من جنائز العامة: (هؤلاء الفقهاء الذين يجرّ بعضهم بعضا، وليس فيهم إلا الأعمى والأعرج والأعور، يمشون بسرعة غير منتظمة، لابسين ثياب قذرة، صائحين بأصوات مزعجة، كلمات تخرج من حناجر مختلفة بنغمات شنيعة؛ وهذا النعش المحمول يتخبط فيه الميت، ويلتفت تارة إلى جهة اليمين، وتارة إلى جهة الشمال؛ وهؤلاء النسوة اللاتي صبغن أيديهن ووجوههن، وعفرن بالتراب روؤسهن، يمشين وراء النعش مشيرات بالمناديل إليه إشارات مروعة مصحوبة بألفاظ مرتلة! ما هذا كله؟ أمجمع مجانين، أم نفر بهم مس من الشياطين؟ ألعوبة أطفال، أم معرض كرنفال؟). نقرأ ذلك الحوار، ثم نقرأ هذه الصورة، فنعتقد أن لو مدّ الله في أجل قاسم لعالج عيوب المجتمع بالرواية كما فعل (مولير)، أو بالصورة كما صنع (لابرويير).
والأدب العالي والأسلوب البليغ أخص صفات المصلح وأقوى أدوات الإصلاح؛ وحظ قاسم منهما كان موفورا.
وكما يتعهد الجندي سلاحه، كان قاسم يتعهد اللغة والأدب، فرأى في أصالة الأسلوب، واستعمال المترادف، ومعضلة الكتابة العربية، ومشكلة اللغة العامية، وصعوبة الإعراب، وفتح باب الاجتهاد في اللغة، آراء لم تجري على بالنا إلا اليوم! والصفحات الستون التي جمعت (كلمات قاسم أمين) الموجزة في الأدب والاجتماع، أمثلة خالدة من عمق التصور ودقة التصوير. نعم! عني قاسم أمين بإصلاح المجتمع المصري في خلقه وعاداته، ونظمه واقتصادياته، وتربيته وتعليمه، ولغته وأدبه، ولكنه رأى أن علة العلل في فساده هي حال المرأة.
والمرأة قوام الأسرة، والأسرة نواة الأمة؛ فإذا صلحت المرأة صلح الرجل، وإذا صلح الرجل صلح المجتمع.
والنساء نصف الشعب الذي يربي نصفه الآخر؛ فإذا ظللن محجوبات جاهلات متعطلات، ظل المجتمع ريضا لفقدانه تثقيف الأمومة، غليظا لحرمانه تلطيف الأنوثة.
يعمل بيد واحدة لأن الأخرى شلاء، ويمشى على قدم واحدة لأن الأخرى عرجاء.
وكانت المرأة في عهد قاسم شيء لا يذكر، وإذا ذكر لا ينظر؛ إنما كانت حبيسة المنزل، تضرب عليها الحجب، وتبث حولها العيون، وتقضى من دونها الأمور، وينظر إليها الزوج نظرة إلى الفراش الملقى، فلا يؤكلها على مائدة، ولا يجالسها في بهو، ولا يماشيها في شارع، ولا يشاورها في شأن، ولا يذكر اسمها إلا مكنيا عنه بالبيت أو الأولاد أو الجماعة.
وكان من جريرة ذلك عليها أن وهن جسمها لقلة العمل، وساء خلقها لفقد الحرية، وضعف تفكيرها لترك التدبير، وغفل ضميرها لعدم المسؤولية، فلم تفكر إلا في حللها وحليها، ومدافعة الضرائر والجواري عن نصيبها من زوجها.
لقد كانت خارجة عن دنيا الناس، (فلم يبقى لها من الكون - كما قال قاسم في كتابه (تحرير المرأة) - إلا ما استتر من زوايا المنازل.
واختصت بالجهل والتحجب بأستار الظلمات، واستعملها الرجل متاعا للذة، يلهو بها متى أراد، ويقذف بها في الطريق متى شاء.
له الحرية ولها الرق.
له العلم ولها الجهل.
له العقل ولها البله.
له الضياء والفضاء ولها الظلمة والسجن.
له الأمر والنهي وعليها الطاعة والصبر.
له كل شيء في الوجود، وهي بعض ذلك الكل الذي استولى عليه)
. بذلك تأثر قاسم، وفي ذلك جاهد قاسم.
فعرض القضية على وجوه المعقول والمنقول، فلم يجد لاستعباد المرأة حجة إلا استبداد الرجل، فجاءه من طريق الدين والمروءة والمصلحة وفي يديه كتاباه: تحرير المرأة، والمرأة الجديدة، يزيف بها حجته، ويخفف غروره.
وكان لابد لمن يخالف المألوف ويعارض الموروث ويصادم الواقع أن يلقى ملقيه المرسلون والمصلحون من عنت الجدل ولدد الخصومة.
ولكن محرر المرأة كان قوي الإيمان برأيه، شديد الإخلاص في سعيه، فلم يهن لما أصابه في سبيل الحق ولم يستكن.
وإنما بذرة البزرة في وسط العواصف الهوج والسحب المرعدة، ثم تركها في ذمة الطبيعة والزمن، وظن الرجل العنيد على هذه البزرة بالغذاء والري، حتى أدركها غوث الله، فانتشر التعليم، وانتعشت الحرية، واتصل الجيل الجديد بالمدنية الغربية، فرأى فيما رأى أن المرأة في المجتمع الأوربي هي روحه ونشاطه وجماله وصقاله ووحيه، فاستشعر للمصرية الاحترام، عن تقليد في الأكثر، وعن اعتقاد في الأقل؛ ولكنه وقف من قضيتها موقف المشاهد المحايد لا يمر ولا يحلي.
وكانت صفوة من كرائم السيدات قد تحررن، بكرم النسب، أو بسلطان المال، أو بقوة العلم، فأقبلن على بزرة قاسم يتعهدنها بالسقي حتى أزهرت، وعلى شعلته يمددنها بالزيت حتى أسفرت.
وفي ظل هذه الشجرة، وعلى ضوء هذه الشعلة، تألف (الاتحاد النسائي)، فكان في النهضة الحديثة قوة عاملة ظهر أثرها في التشريع والتعليم والمواساة. وقويت المرأة المصرية بتقدم المدنية وشيوع الثقافة، فحلت قضيتها بنفسها على الرغم من معارضة الرجل. كان الرجل يأنف أن يشرك امرأته أو يشاورها في شأن من شؤون عمله أو منزله؛ فأصبحت اليوم ولها من القوة ما تسيطر به عليه: فهي تدبر له العيش، وتحدد له السلوك، وتختار له الصديق، وتنتقي له الثوب، وهو لا يسعه إلا أن يلازم ويتابع، فلا ينفرد إلا بأذنها، ولا يغيب الابعلمها، ولا يتقدم عليها في ترتيب، ولا يفصل من دونها في خلاف، ولا يتعدى في مناقشة الميزانية المنزلية حدود الإيراد. وكان الرجل يمنع امرأته من أن تخرج، فأصبحت اليوم ولها من السلطان ما تمنعه به إذا شاءت من أن يدخل. وكان الرجل يرفض أن تتعلم المرأة الكتابة مخافة أن تتصل عن طريقها بالخارج، فأصبحت اليوم ولها من الثقافة ما تنافس به الرجل في المحاماة والطب والأدب والصحافة. وكان الرجل يأبى على زوجته أن تسفر عن وجهها في الطريق، فأصبحت اليوم ولها من الحرية ما تسفر به عن جسمها على الشاطئ. وكان الرجل يكره المرأة أن تقرع باب الصالون على ضيوفه، فأصبحت اليوم ولها من الجرأة ما تقتحم به سور البرلمان على نوابه! وهكذا ترعرع غرس قاسم، وأضاءت شعلة قاسم: ولكن دعوته أسرعت في طريق وأبطأت في طريق: أسرعت في الحرية والسفور حتى كادت تخرج عن الحد، وأبطأت في تضييق الزواج وتقييد الطلاق حتى كادت تنقطع عن السير.
والعجيب أن المطلبين اللذين نجحا كانا مثار الخلاف والسخط، والمطلبين اللذين فشلا كانا موضع الوفاق والرضا.
والعلة في السرعة أو النجاح هنا، وفي البطء أو الفشل هناك، أن الحرية والسفور أمرهما بيد المرأة، وأن تضيق الزواج وتقييد الطلاق أمرهما بيد الرجل! سيداتي أعضاء الاتحاد النسائي! إنكن تحتفلن اليوم بذكرى وفاة قاسم أمين، وإنه لوفاء منكن أن تمجدن ذكرى رجل قضي خمسا وعشرين سنة من عمره القصير، يسعى لكن، ويدافع عنكن، ويحتمل الأذى في سبيل أن يعترف الرجال بحقكن في الحياة ومكانكن من الوجود.
ولم ينصرف إلى جوار الله إلا بعد أن رسم لكن خطة الجهاد، ووضع لكن دستور هذا الاتحاد.
ولكن أجمل الوفاء أن تتبعن الطريق الذي نهجه، وتنفذون الدستور الذي وضعه.
كان قاسم يطلب لكن الحرية من غير شطط، والسفور من غير تبرج، والاختلاط من غير ريبة، وممارسة الحقوق في نطاق الواجب، ومزاولة الأعمال في حدود التخصص.
وإن كتبه لتشهد على أنه لم يطلب لكن شيئا يناقض الدين، أو يعارض الخلق، أو يجافي التقاليد، والسيدة زوجه، وهي من أفهم الناس لدعوته، وأعلمهم بنيته، تقول في حديث لها: إن فتيات هذا الجيل قد أسأن فهم هذه الدعوة وتجاوزن مداها؛ فإن قاسما لم يدع إلا إلى السفور الشرعي والاختلاط المقيد.
وإنه ليحزنني أن يحمله الناس أوزار هذه الحال.
وأعتقد أنه لو كان حيا لرأى في تبرج الفتاة فسوقا عن دعوته وزيغا عن سبيله. فأنتن يا سيداتي خليقات أن تنقين مبادئ قاسم من شوائب الهوى والغي.
وإنكن لتعلمن أن جوهر هذه المبادئ قيام الأمر بين الزوجين على المودة والرحمة، وبين المتعاملين على الصداقة والتعاون، وبين المواطنين على الدين والخلق؛ وأن التربية والتعليم والسياسة والحكم يجب أن تصدر عن هذا المبدأ وتتوافى عند هذه الغاية.
والناس يقولون إن المرأة وهي معنى الوئام والحب في الأمة، أصبحت عاملا من عوامل التنافر والفرقة في الأسرة؛ وإن أسباب الطلاق بعد أن كانت تعزى إلى استبداد الزوج، أصبحت تعزى في الغالب إلى استهتار الزوجة.
وقد زعم المحصون أن عدد المطلقات بلغ في بعض السنين الأخيرة خمسة وسبعين ألفا خرجن من دار الزوجية لأسباب يسأل الرجل عن أكثرها في بيئة العامة، وتسأل المرأة عنها كلها في بيئة الأوساط والخاصة.
فعالجن يا سيداتي الزعيمات جموح الفتاة كما عالج زعيمكن العظيم عناد الفتى.
واحملن المرأة الجديدة على أن تذكر الواجب حين تذكر الحق، وأن تفكر في الكون العام حين تفكر في الكون الخاص.
سدد الله خطاكن في الطريق القويم، وأكرم مثوى المصلح العظيم في دار النعيم! أحمد حسن الزيات

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢