رسالة العلم
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
الأشعة الكونية
للدكتور محمد محمود غالي
(تحجب ورقة رقيقة أشعة الشمس عن أعينا ولا تحجب كتلة من الرصاص سمكها بضعة أمتار الأشعة الكونية التي تخترق أسقف منازلنا أينما وجدت وأجسامنا أينما تكون)
تحدثنا عن نملة افترضنا أنها تتأمل خرجت لأمل مرة في حياتها من مكمنها، فوجدت نفسها بطريق المصادفة في سرادق تكسو أرضه أبسطه وتعلوه أنوار ويؤمه كثير من الزائرين. انطفأت الحياة فيها قبل أن تتاح لها الفرصة لتعرف ما عسى أن يكون في الوجود غير ما يجول بداخل السرادق الفسيح، وذكرنا أن الدنيا عند هذه النملة فضاء تضيئه أنوار وتحيط به أقمشة وتغطي أرضه أبسطة، وفقيه يرتل آيات، ونادل يتحرك بين الحاضرين دخلت السرادق نملة أخرى، ظلت تسير على الأبسطة وتحت الأنوار وتتابع السير في مأمن من النادل والفقيه، وعوضاً عن أن تقضي نحبها اهتدت إلى كومة الرمل التي خرجت منها الأولى وصادفت داخل الكومة إحدى بنات جنسها تتأمل عالمها الذي تراه لأول مرة من ثقب السجاد، هذا العالم الذي لازال ينحصر عندها في سرادق وفقيه ونادل وأنوار وزائرين تحدثت الزائرة إلى جارتها: لا تظني أن الدنيا هي هذا السرادق المحدود، فقد رأيت رأى العين قبل الدخول فيه قاطرة يتصاعد الدخان منها، ورأيت فريقاً من بني الإنسان يجتمع في مركبات تجرها القاطرة، وعند ظني أنهم اجتمعوا لغاية واحدة، هي أن يصلوا جميعاً إلى مكان معلوم، يغلب على ظني أنه بعيد جد البعد عنا، فقد كانت القاطرة تنهب الأرض بسرعة تختلف كثيراً عن سرعة إخوانهم الراجلين شد ما تختلف هذه المعلومات الجديدة لدى النملة التي تتأمل، وشد ما تختلف هذه الصورة الجديدة للدنيا عندها، فهذه القاطرة وهذه السرعة طفرة في معارفها، لم تخطر لها على بال في العلوم وثبات تحدث في فترات بعيدة من الوقت، تُعد للإنسان كهذه المعارف بالنسبة للنملة عندما اكتشف رنتجن في سنة 1895 الأشعة السينية كانت هذه الأشعة وثبة في العلو يسبق للناس عهد بها.
وعندما وفق (بكارل وكيري لاكتشاف المواد المشعة كالراديوم، ظن فريق من الناس أن طاقة هذه الأشعة الجديدة التي تزيد مئات وألوف المرات على كل ما نعهده من طاقة وإشعاع، ستكون نهاية ما نعرفه من الغرائب، ولكن عندما اكتشف العلماء، وفي مقدمتهم العالم هيس الأشعة الكونية التي تزيد طاقتها آلاف المرات على طاقة إشعاع الراديوم، أيقنا أننا لا زلنا في مهد الطفولة في العلوم بالنسبة لما يخبئه لنا القدر من معارف يتضاءل إزاءها كل ما بلغناه هذه الأشعة الكونية التي تتصل بصميم العلوم الطبيعية الحديثة تنبئنا بأغرب ما نعرف من المعلومات عن الكون الذي نعيش فيه.
وقد شَغَلتُ نفسي بموضوعها في السنين الماضية عندما كانت موضوع رسالتي الثانية، للحصول على دكتوراه الدولة في العلوم من السوربون.
وإنه ليسرني أني حاضرت عنها الأسبوع الماضي فريقاً من طلبة كلية الطب في جمعيتهم العلمية كما سأحاضر عنها جمعاً من زملائي في جمعية المهندسين الملكية في يوم الخميس 4 مايو القادم.
وهأنذا أحاول أن يقف قراء الرسالة في مصر والبلاد الشرقية على أغرب ما يعرفه العلماء اليوم، فأحدثهم عن موضوع بات يشغل بال الكثيرين منهم، وغايتي أن أعطي القارئ لمحه سريعة عن الحقائق المعروفة بصدد هذا الموضوع، وعن التطورات التي تناولته، فيلم بموضوع تزداد أهميته كل شهر عن سابقه، ويهتم له كثير من الباحثين في كل أنحاء المعمورة، نذكر منهم بلاكت في إنجلترا وكونتون ومليكان بأمريكا، ورُوَّسي وتلميذه بيندتي بإيطاليا، وزميليّ بْيِير أوجبيه ولبرانس رينجيه بفرنسا، وأخيراً العالم الإيطالي فرمى الحائز على جائزة نوبل للطبيعة في ديسمبر الماضي ربما كان وصف هذه الأشعة بالكونية أقرب للواقع، فسوف نرى أنها لا تمت إلى مجموعتنا الشمسية بشيء، بل ربما لا تمت لعالم المجرة المكون من حوالي مائة ألف مليون نجم، والتي شمسنا إحدى نجومه، بأي صلة.
وربما كان وصفها (بالأشعة النافذة) قريباً للواقع أيضاً، لأنها تمتاز بقوة اخترقتها العجيبة للأجسام، فبينما نستطيع عندما نتحول في الخلاء أن نحجب أشعة الشمس بقطعة رقيقة من الورق، فإن أسقف بيوتنا لا تكفي لتمنع هذه الأشعة من اختراق منازلنا فحسب، بل أجسامنا بعدها لا تكفي لذلك.
وبينما لا تنفذ الأشعة السينية (أشعة إلا في بضعة مليمترات من المادة الصلبة، كما لا تخترق أشعة الراديوم سوى بضعة سنتيمترات مثلاً منها، فإن كتلة من الرصاص يبلغ سمكها متراً لا تحجب سوى نصف الأشعة الكونية.
وإنه لا تكفي أحياناً كتلة من الرصاص سمكها حوالي عشرة أمتار لكي تحجب كل جسيمات هذه الأشعة.
وسنرى كيف يسجل العلماء على الورق الحساس، مسار جسيمات هذه الأشعة العجيبة بعد اختراقها كل هذه المادة، وكيف ابتكروا جهازاً ينذر بسماع كل جسيم يمر من هذه الجسيمات النافذة والسريعة التي تمطرنا بها السماء والتي لا تمت لعالمنا بشيء في محاضرة للعالم الشاب بيير أوجيه ألقاها في جماعة العقليين في باريز سنة 1934 عن الأشعة الكونية سمعت لانجفان العالم المعروف باكتشاف للأيونات الكبيرة وباكتشافه طريقة لمعرفة أعماق البحار بواسطة الموجات الصوتية، يقول مقدماً (أوجيه): (إن الأشعة الكونية موضوع الأسرار والعجائب فهي تخترق أجسامنا طُرّا ولا زلنا عاجزين عن أن نعرف مصدرها أو أثرها علينا) هذا ما يَجْهَرُ به (لانجفان) العالم الكبير؛ وليس ما يجهر به لويس دي بروي (العالم الشاب المعدود اليوم من أكبر أساطين العلماء) في تقدمة كتاب زميلنا (لبرانس رنجيه) متكلما عن الأشعة الكونية بأقل شأناً من ذلك.
يقول دي بروي: (أي ثروة عظيمة امتازت بها العلوم الطبيعية منذ بضعة سنوات، وأي باب هام وجديد في العلوم لا زال يدخر لنا بلا شك مفاجآت أخرى عجيبة ونادرة) ويكفي، لمعرفة موضوع الأشعة الكونية، أن يذكر القارئ أن المؤتمر الدولي للعلوم الطبيعية الذي انعقد في لوندرة سنة 1933، حصر دراسته في ثلاث مسائل: الأولى: الحالة الصلبة الثانية: الاكتشافات الحديثة في تهدُّم المادة وتحول العناصر بعضها إلى بعض الثالثة: الأشعة الكونية. تختلف طاقة الأشعة الكونية أو النافذة كما قدمنا عن طاقة الأشعة الراديومية.
فبينما لا تتجاوز طاقة أشعة الراديوم عشرة ملايين إلكترون فولت.
تبلغ طاقة الأشعة الكونية مئات بل ألوف الملايين الإلكترون فولت، وهذه الطاقة تجعلنا في الواقع إزاء ظواهر تختلف كثيراً عن الظواهر التي اعتدناها. على أن ما يجعل الأبحاث الخاصة بهذه الأشعة تختلف عن كل ما عداها من الأبحاث العلمية: هو عدم الجزم بمعظم النظريات الخاصة بها حتى الآن.
فمعلوماتنا ما زالت لا تُجيز معرفة خواص إشعاع له مثل هذه الطاقة، حتى أنه لا يجوز لنا أن نُعامل هذه الظواهر بالطرق المعروفة في الضواهر الطبيعية الأخرى، فمثلاً لا يجوز لنا أن نجزم بأن طاقة هذه الأشعة تتناسب مع قوة اختراقها للمواد.
ومما يزيد في صعوبة دراسة هذه الأشعة العجيبة افتقارنا إلى نظريات معقولة بصددها؛ وليس الأمر أن لدينا من النظريات ما نُفاضل بينها ونَتخير الأوفق منها، بل إنه ليس لدينا نظريات معقولة إطلاقاً.
حتى أن بعض العلماء يميل إلى اعتبار الأشعة الكونية حالة علمية جديدة، تختلف قوانينها عن حالة العالم، أو الكون الذي نعيش فيه اليوم؛ وإنه ليس من المحال أن تكون هذه الأشعة بقايا (أركيولوجية) ترجع إلى تاريخ بعيد جداً في الوجود، يقدر من السنين بالآلاف من الملايين، كانت الدنيا فيه أحدث عمراً، وكانت تختلف الطاقة والقوى والقوانين كل الاختلاف عن عهدنا بها اليوم على أننا ندع مؤقتاً فكرة العلماء هذه، ونسير بالقارئ أولاً إلى التعرف عن الناحية الشَّيْئِية أو الفعلية عن هذه الأشعة. ثلاثة أمور أدركها العلماء، وعرفوها في الظروف العادية، خاصة بهذه الأشعة: الأمر الأول: تصل لنا جسيمات صغيرة مكهربة كأنها قذائف وتخترق أجسامنا بسرعة كبيرة، وقد دلت عليها مسارات مستقيمة هي أثر لعملية التأيين الحادثة من مرور هذه الجسيمات الأمر الثاني: عندما تلتقي هذه الجسيمات السريعة بالمادة، وبالأحرى بكتلة هامة منها كقطعة سميكة من الرصاص، تظهر في المادة حزمات لجسيمات أخرى مثل نيترونات أو بوزيتونات أو ذرات ثقيلة، تقذف من المادة نفسها بعيدة عن مركزها الأصلي بسبب مرور جسيمات هذه الأشعة فيها. الأمر الثالث: يحدث كل هذا، أي تصل هذه القذائف، ويقع هذا التخريب في المادة، في أي زمان ومكان على سطح الأرض تقريباً بالنسبة ذاتها، فترانا معرضين لفعل القذف المستمر بمعدل مقذوف في كل دقيقة على كل سنتيمتر مربع في الوضع الأفقي من سطح الأرض؛ فمثلاً تستقبل راحة اليد (باعتبار مساحتها حوالي 60 س م2) مقذوفاً في كل ثانية، ينفذ منها كما تنفذ الرصاصة من قطعة من الكارتون، وعلى حد تقدير روسي أستاذ بادو، تُضرب الأرض بمعدل مقذوف واحد في كل ثانية لكل ديسمتر مربع من سطحها. يعترضنا بعد هذا الوصف الموجز مسألتان: الأولى: ما اثر هذه المقذوفات على المادة التي تقابلها؟ الثانية: ما هي طبيعة وأصل هذه القذائف؟ والمسألة الأولى تخص فيزيقا النواة، والثانية تخص الفيزيقا الأرضية، وكلاهما موضوعان حديثان لهما خَطَرهُما في العلوم الطبيعية ويختلفان عن الموضوعات العادية، وذلك بصغر الظاهرة المراد قياسها ودقة التجارب الخاصة بهما، وخطورة الرحلات المتعلقة بهما، سواء ما كان منها في الجو أو على قَمِم الجِبال أو في أعماق البحار؛ كذلك مهارة التحليل العلمي وعظمة الاستنتاج وقوة الاستقراء.
كل هذه تجعل من الموضوع بالنسبة لنا موضوعاً يشبه موضوع القاطرة بالنسبة للنملة التي افترضنا أنها تتأمل: وهو ما أود أن يشعر به القارئ في مقالاتنا القادمة محمد محمود غالي دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون ليسانس العلوم التعليمية.
ليسانس العلوم الحرة.
دبلوم المهندسخانة