كلكم حواريون
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
فمن يهوذا؟
لا تسمع من أي إنسان في أي مكان إلا تذمراً على حال المجتمع،
وتضجراً من نظام العيش، وتضوراً من فساد الحكم، وتحسراً على
أخلاق الناس! فما من سياسي تلقاه إلا رأيته لهيف الجوانح، ذاهب
القلب، لا يملك عينه من الدمع، ولا قلبه من الوجد، ولا لسانه من هذه
الشكاة: أضاعوا استقلال البلاد، ووأدوا دستور الأمة، ونشروا بخطلهم
على الشعب سوء النبأ! فقد كان لنا بجانب (الاحتلال) مكان، ومع (دار
الاستشارة) رأي، وقبل نفاذ الأمور كلمة، وفوق كل اعتبار كرامة؛
وكان لهذا كله على ضآلته وهزاله ثمن فادح مرهق، أديناه ضحايا برة
من أرواح الشباب في ساحة الجهاد، وملايين تسعة من أموال الأمة في
(قانون التضمينات)، ثم أصبحنا وإذا المكان خلاء، والإشارة أمر،
والكلمة رجاء، والكرامة ضراعة!!
أجل! يقول كل سياسي هذا الكلام، ويلوم هذا الملام، حتى أولئك الذين قتلوا بأيديهم الدستور أمس، يبكون عليه اليوم بأربعة آماق، لأن الإنجليز أكرموه فدفنوه!!
وما من موظف تراه إلا حدثك والهم يعتلج في صدره، والأسى يتلضى على وجهه، كيف تحكمت المحاباة في دوائر الحكم، وفشا التواكل في دوواين الحكومة! (فالشهادة العالية) في التعيين زور مع التوصية، والكفاية البارعة في الترقية خرق مع الهوى، وحسن العمل في سبيل الحظوة جناية مع سوء الحظ؛ ثم ترى (الأقلام) غاصة بالكتبة، والمكاتب مكتضة بالأضابير، والوزارات مزدحمة بالسائلين، والمستعجلين، والأوراق الحائرة تنتقل من يد إلى يد، وتخرج من مكتب إلى مكتب، وترحل من بلد إلى بلد، لأن (التواكل) الماهر قضى على كل كاتب أو حاسب أن يزيح همها عن نفسه، ويخرج حكمها من اختصاصه، فتلبث على هذه الحال بين الحال والترحال شهوراً وسنين، وهي مع الجد لا تستغرق تفكير لحظة وعمل ساعة!
يقول كل موظف هذا الكلام، ويتهم هذا الاتهام، حتى أولئك الطفيليون الذين عينوا لقبض المرتب، وظلوا على الشيوع من غير عمل ولا مكتب!!
وما من أديب تخلوا إليه إلا نثر عليك دموع الخنساء، ونظم في مسمعيك تشاؤم أبى العلاء، وسألك وهو متبلد من الحيرة، متلدد من الدهش: متى كان البذاء من الأدب، والهجاء من النقد، والإدعاء من الفن، والتقليد البهيم من العبقرية، والكيد اللئيم من الصحافة؟؟
كان الأدب سبيلاً بين الله والنفس، وسلاماً بين الروح والجسم، ولساناً بين الجمال والحس، ودليلاً بين الهوى والخير، ونسباً بين القرابة والبعد، فأصبح كما ترى سبباً من أسباب العداوة، وسبيلاً من سبل الفرقة، وبوقاً من أبواق الفتنة، ومظهراً من مظاهر الجهالة!
يقول كل أديب هذا الكلام، ويلقي عليك هذا الاستفهام، حتى أولئك السفهاء الذين يلبسون ظلماً مسوح الأدب، ثم يلتمسون الظهور بالوقيعة في كل من كتب!!
وما من رجل من رجال الدين تجلس إليه إلا قال لك ودموع الحسنين تنهل على ردنه العريض انهلال القطر: لم يبق للدين في هذه الدنيا سلطان، ولا للخلق في هذه الفوضى مكان، ولا للفضيلة في هذه المادية قيمة! ولقد استشرى فساد العصر حتى نال من تقوى العلماء فأصبحوا يأنفون من الورع، وينفرون من البساطة، ويتأبهون عن العامة، ويمدون أعينهم لشهوة الحياة، ويذهبون أنفسهم على فتنة الحكم، ويتخلون عن الدعوة إلى سبيل الله إلى الدعوة إلى أهواء الفرد!!
يقول كل عالم هذا الكلام، ويهتم هذا الاهتمام، حتى أولئك الضعفاء الذين اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وجعلوا من نفوسهم إلى الباطل سبيلا ودليلا!
وما من تاجر تعامله، أو صانع تقاوله، إلا ابتدرك بالزراية على الذين نفقوا على الغش، وآثروا على الخداع، وسلبوا ثقة الشعب باسم الاخوة، وسرقوا مال الجمهور باسم الوطن، حتى جعلوا التجارة والصناعة فيما بينهم وبين الناس معنى من معاني النهب، وحيلة من حيل الشطارة؛ فأنت تدخل المتجر أو المصنع وفي حسك لا محالة انك مغبون في السعر، أو مخدوع في النوع، أو مظلوم في التقدير! يقول ذلك كل تاجر وكل صانع حتى أولئك الذين قضى عليهم موت الضمير أن يصدقوك في البيع ويكذبوك في التسليم، ويعاهدوك على نوع فيغيروه ولا يزيد رجعهم من غشه على مليم!
وهكذا تسمع هذا السخط الحاقد والنقد اللاذع والتعريض الممضّ والزراية الساخرة من كل لسان في أي طبقة، وفي كل حديث في أي مجلس، فتقف موقف المشدوه بين العجب والغضب وتسأل:
إذا كنتم يا قوم جميعاً حواريين، فمن الذي خان الوطن بدوانقه الثلاثين؟؟ كلكم يلوم فمن الملوم؟ وكلكم يتهم فمن المجرم؟ وعظ مالك بن دينار عظةً تقاطرت عليها دموع أصحابه، ثم افتقد مصحفه! فنظر إليهم وكلهم من اثر كلامه لا يملك عينه! وقال ويحكم! كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟؟
أحمد حسن الزيات