قلوب تتقلب!
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
نشأت في كنانة حول الطائف ومكة، وقد باكرها النعيم فشبت صحيحة جميلة، ورضعت أفاويق البلاغة من قومها، فنشأت فصيحة بليغة، خطبها سيد قرشي، من أشراف مكة وعصبة النبي، وبنى بها فطاب حالهما، وصفا عيشهما. وقرأ في المدينة زمنا أسعدهما الله فيه بغلامين كانا بهجة النظر وأمنية الفؤاد. اختار (الأمام علي) زوجها ليكون عاملا له على (اليمن) يجبي خراجها، ويقوم بشعائر الدين فيها، فابتهجا بالمنصب الرفيع والحظ المقبل، وانتقلت الأسرة إلى مقرها الجديد إلى اليمن، واليمن جنة العرب وروضة الجزيرة.
هواءها رخي وتربها ندي، وفاكهتها كثيرة، وجدا فيها مجالا للمتعة، ومراحا لطفليهما العزيزين يطلقانهما في الصباح لينعما بشمس الشتاء الضاحية، ويتمتعا بمناظر الوديان، ومظاهر الجنان، وقد حل فيهما من بهجة الأزهار، ونغمة الأطياف وانعطاف الأغصان، وانسجام الظل، مشابه؛ فاستحار جمالهما، وتمت آدابهما، واستوليا على كل قلب، واختطفا النظر من كل عين. غاب أبوهما عن مدينته لبعض شؤونه، وخرجا كعادتهما يتنزهان وإذا رجل يقبل عليهما مسترق الخطى، ويتلطف بهما ويغريهما بالسعي معه، وإذا به يقبض عليهما ويكم أفواههما، واذا به قد انتضى سكينا مرهفة وقضى عليهما، ثم أطلقها ضحكة عالية قائلا: (الآن تمتع بالحياة يا عبيد الله!) انتظرت (جويرية الكنانية) ولديها يؤوبان إليها مع الغداة، ولكنهما تأخرا على غير عادتهما، فتربصت طويلا، منصتة إلى بابها لعل طارقا يطرقه، وكلما لعب به الريح هرولت إليه وفتحته باسطة ذراعيها، ولكنها في كل مرة تعانق الهواء، ولما فرغ فؤادها دفعت خادمتها لتقصهما، وما كادت الخادمة تسير خطوات حتى اندفعت وراءها سافرة حائرة، وطافت بمعاهد البلد وملاعبه، وكل فتى تتوسمه فتاها، وكل ندي تظنه قد حواهما، ولبس الأصيل ثوبه المعصفر، وزحف الليل بسواده وما رجعت بطائل غير هم ملأ قلبها وأسى قلقل كيانها، ومضى يوم ويومان وثلاثة وهي تطوف وتقول: ألا مَنْ بيَّنَ الأَخويْ ...
ن أُمُّهُمَا هي الثكلى تسائلمنرأى ابنيها ...
وتستبقيفماتبقى فلما استيأست رجعت ...
بعبرةوالهٍحَرَّى تتابع بينولولةٍ ...
وبين مدامع تترى وفي كل يوم تزيد شدتها وتذكو سكرتها ويضيق أفقها.
وفي ساعة اقتحمت عليها السبيل فتاة، وأخبرتها بما سمعت عن فعل (بسر ابن أرطاة) بولديها.
فأن معاوية أخرجه لينكل بشيعة علي، فمضى في سبيله حتى انتهى إلى اليمن، ولما لم يجد عاملها يتلقى عقارب كفه اقتص من ولديه وذهب بشفرته. وكان هذا كافيا لفقدان وعيها، وطيران عقلها، ولكنها أبت أن تصدق، وألا فكيف يموت عزيزان في لحظة، ثم هامت على وجهها، تناشد المواسم والمجامع بقولها: يامَنْأحسّ بُنَيَيَّاللذيْنهما ...
كالدرتيْنتشظّى عنهماالصدفُ يامَنْأحسّ بُنَيَيَّاللذيْنهما ...
سَمعْي وطرفي فطرفي اليوم مختَطَف يامَنْأحسّ بُنَيَيَّاللذيْنهما ...
مُخُّ العظامفمخي اليوممزدهف نُبِّئْتُ بُسْراً وما صدّقت ما زعموا ...
من قولهم ومن الأفك الذي اقترفوا أنحىعلىودَجَىطْفليّ مرهفةً ...
مشحوذةًوعظيمالإفكيقْتَرَف مَنْ دَلَّ وآلهةًحريّ مُفجَعَّة ...
على حبيبيْن غاباإذ مضى السَّلَف أما عبيد الله بن العباس فقد انتزع منه حشاه، عزف عن الدنيا وأحس زخرفها شوكا ففارقته الهناءة كما تنبأ بسر بذلك. آه لو ملك القاتل! إذن لنبش عن قلبه وان لم يكن من قبل فظاً.
آه من معاوية ورهطه! قوم غرب الإيمان من قلوبهم واشتروا دنياهم بدينهم.
آه! وآه على نجمين قد أفلا في ساعة من نهار.
هذا ما يثور بفؤاده. تبدل برجل آخر سقيم الجسم دقيق العظم مشتعل الرأس.
وشاطره همه ابن عمه علي ولعن القاتل ودعا عليه بالجنون والمروق وأجاب الله دعوة وليه، فإذا بسر مخبول يهذي ممسكا بسيف من خشب وزق من جلد منفوخ ما يفتأ يضربه بسيفه حتى تهن قواه، وكان خبله يقوى تارة ويضعف أخرى مضت سنوات ودخل بعدها عبيد الله على معاوية أبان ملكه، وكان عنده بسر، فقال له عبيد الله: (أأنت قاتل الصبيين أيها الشيخ؟) قال بسر: (نعم أنا قاتلهما) فقال عبيد الله: (أما والله لوددت أن الأرض أنبتتني عندك) قال بسر: (فقد أنبتتك الآن عندي) قال عبيد الله: (ألا سيف؟) فقال بسر: (هاك سيفي).
فلما أهوى عبيد الله إلى السيف ليتناوله أخذه معاوية ثم قال لبسر: (أخزاك الله شيخا، قد كبرت وذهب عقلك، ذاك رجل من بني هاشم وقد وترته وقتلت ابنيه، تدفع إليه سيفك؟ انك لغافل عن قلوب بني هاشم.
والله لو تمكن منه لبدأني قبلك.) فقال عبيد الله: (أجل والله وكنت أثني به.) أحمد أحمد التاجي