أرشيف المقالات

التفكير بين الإنسان والحيوان

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي كشفت البحوث النفسية في مجالي الإنسان والحيوان عن حقيقة قد تطامن من غرور الإنسان بعض الشيء، تلك هي أن الحيوان لا يسلك سلوكا آلياً بحتاً كما ظن ديكارت الفيلسوف الفرنسي، بل ولا يسلك سلوكا غريزياً بحتاً كما اعتقد الكثيرون زمناً طويلا، وإنما سلوكه في كثير من المواقف ينم عن قدر من الذكاء العملي يمكنه من التصرف إزاء ما يجد من مواقف تصرفاً كفيلا بتحقيق أغراضه.
فهو لا يهتدي بالفطرة وحدها التي تسم السلوك بطابع الجمود؛ وإنما هو يعدل سلوكه ويبتكر الوسائل الجديدة، حتى ليسهل علينا أن نلحظ - لدى الحيوانات العليا على وجه الخصوص - أنماطا من السلوك تتصف بالمرونة وتنم عن قدر من الذكاء لا يقل كثيراً عن ذكاء الأطفال في نفس المواقف.
ومن التجارب العلمية ما يثبت قدرة الحشرات على الاستفادة من التجارب الماضية في التكييف للظروف الجديدة، وفي هذا تكمن البذرة الأولى للذكاء. وكلما صعدنا في السلسلة الحيوانية زاد ذلك القدر من الذكاء العملي الذي يبلغ أقصاه لدى الكلاب والقردة.
وبذلك تتلاشى الأسطورة القديمة التي تفصل فصلا حاسماً باتاً بين عالم الحيوان المحكوم بالغريزة، وعالم الإنسان المحكوم بالعقل، وتسفر الحقيقة التي لا مراء فيها: ألا وهي أن الكائنات الحية تنتظم سلسلة متصلة الحلقات من أسفل إلى أعلى، منطقها التطور من الأشكال الدنيا للحياة إلى الأشكال العليا في غير ما اختلاف حاد يكسر وحدة الحياة على ظهر الأرض، وتضيق الشقة الفاصلة بين الإنسان والحيوان.
فكلاهما يسلك سلوكا غريزيا وكلاهما يسلك سلوكا عقلياً رائده الذكاء.
فما الفارق إذن بين ذكاء النوعين؟ الإنسان من حيث السلوك العقلي في قمة الحيوانات؛ فهو أقدرها على السلوك سلوكا عقليا.
هو في حياته يصارع الطبيعة وأحداثها، لا بحكم الفطرة فحسب، بل يفوق الحيوان قدرة على استغلال ذكائه في صراعه هذا مع الطبيعة.
تقسو عليه ببردها وقيظها وأمطارها فيهرع إلى الأشجار يتخذ من أغصانها بيوتاً.
تتوالى عليه فصول السنة بعضها فيه الخصب ووفرة الغذاء، وبعضها جدب لا طعام فيه، فيبتكر الوسائل يتجنب بها المجاعة، ويهتدي بعد تدبر وإعمال روية إلى ما نعرفه من مختلف أساليب خزن المياه وحفظ الأطعمة، وعدم الاكتفاء بما تدر الأرض بطبيعتها؛ فيزرع ويستغل كامن قواها.
يخشى هجمات الوحوش الضاربة، وعدوان القبائل المعادية؛ فيتخذ العدة لذلك بصنع الأسلحة مستخدماً كل ما تقع عليه يده من أحجار وأشجار ومعادن.
وهو إذ يفعل ذلك يهتدي بذكائه، بتفكيره العملي الذي يتطور مع الزمن تطوراً يكشف عنه ما لاحظه العلماء المنقبون عن آثار العصور البائدة من تطور الآلة الإنسانية من الآلة الحجرية القديمة إلى الحجرية الحديثة إلى المعدنية؛ والأسلحة من الأحجار إلى النبال فالخنازير والسيوف فالبنادق حتى القنبلة الذرية في العصر الحديث. وهكذا في كل ميدان من ميادين الحياة يستخدم الإنسان تفكيره وسيلة لتحقيق أغراضه، وهذا هو الأصل في التفكير: وظيفة حيوية عملية تعين الحيوان على الصمود في الحرب الخالدة بينه وبين قوى العالم الطبيعي التي لا تعرف التراجع، وذلك أن الفطرة وحدها لا تكفل انتصاره. بيد أن اختلاف التفكير الإنساني عن التفكير الحيواني ليس اختلافاً في المرتبة أو الكمية فحسب؛ بل هو اختلاف في النوع أو الكمية أيضاً.
فتفكير الحيوان عملي كله، هو برمته وسيلة إلى العمل، إلى الحياة والبقاء.
لا يستغل الحيوان قدرته العقلية المتواضعة إلا في إرضاء مطالبه الغريزية: من الاغتذاء، والاحتماء، وحماية الصغار، والتناسل الخ.
أما الإنسان فبعد إرضاء مطالبه الغريزية يستغل قواه العقلية في الكشف عن أسرار ما يدركه من ظواهر الكون والبحث عن علل الحوادث التي تقع تحت ناظريه، وتفسير التغيرات التي تطرأ على مختلف الكائنات.
ولا شك أن الحيوان كالإنسان فطر على حب الاستطلاع لكل جديد تجنباً لما قد ينطوي عليه من خطر، أو طمعاً فيما قد يدره من خير ونعمة؛ ولكن الإنسان يتجاوز هذه الحدود النفسية فيستطلع أحياناً من أجل المعرفة في ذاتها، ويجني من وراء ذلك لذة لا تقل عن اللذات الجسدية التي يجنيها من وراء إشباع ميوله الغريزية الأخرى. لذلك كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفكر أحياناً من أجل التفكير في ذاته، بل والذي يجاوز ذلك إلى التفكير في التفكير: يحصي أساليبه ويفتش عن مصادره، ويسجل أخطاءه، وينقب عن أسباب الوقوع في الخطأ، ويعدد السبل الموصلة إلى المعرفة.
والإنسان عند ما يفكر هذا النوع من التفكير نقول إنه يفكر تفكيراً نظرياً لا غرض له إلا المعرفة.
على أن هذه المعرفة تعود عليه بالنفع العملي وتزوده بأمتن الأسلحة التي تكفل له النصر في معركة الحياة على قوى الطبيعة الغاشمة التي لا تبالي بغير المضي في الطريق المرسوم وفق قوانين جامدة لا تتزحزح ولا تتزعزع.
وسأحاول في مقال قادم أن أكشف عن فارق جوهري آخر هو السر في طفرة الإنسان وتربعه على عرش الكائنات الحية، وتمرده على الطبيعة تمرداً بلغ به حد استغلال قواها لمصلحته والسيطرة عليها بفهم أسرارا وفضح خباياها. عبد المنعم المليجي

شارك الخبر

المرئيات-١