أرشيف المقالات

طرائف من العصر المملوكي:

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 أدب الحرب للأستاذ محمود رزق سليم ما أكثر امتلاء العصر المملوكي بالحروب الخارجية، وما كان أسرع ملوكه وأمراءه إلى تلبية ندائها كلما دعت، والاستجابة لها كلما أهابت.
ومن يتضح تاريخ هذه الحقبة الفريدة من تاريخ مصر يجد أن جيشها كان يكافح عدوين لدودين طاغيين معتديين، هما التتار والفرنجة.
ولم يكن في كفاحه متجنياً ولا معتدياً، وإنما كان يذود عن ممتلكات مصر وأرض المسلمين ومقدساتهم.
فلم تكن حروبه حروب أطماع وأهواء، ولكن حروب دفاع ورد اعتداء.
فهي حروب مشروعة لها سند من الدين والعقل والقانون. أما التتار فكانوا في بداءة أمرهم وفي جملته، وثنيين جهلاء، وسفاكين للدماء.
وما دفعهم من أقاصي بلادهم في آسيا، إلا حسب الفتح والاستعمار.
وما أشبههم في العصر الحديث - لا بألمانيا وحدها - ولكن بكل دولة من تلك الدول الكبرى الفاغرة فاها للشرق وخيرات الشرق تبغي استلابها والتهامها، استلاب اللصوص والتهام القطاع.
وكان يظن أنهم القوة لا تهزم، فكفكف المماليك غربهم، وفلوا سيوفهم، وردوهم داحرين على أعقابهم في جملة مواقع حاسمة قاصمة.
وزالت بذلك خرافة قوتهم. أما الفرنجة فقد حركتهم إذ ذاك أطماع استعمارية كذلك، وشنوا الحروب على سواحل البحر الأبيض الشرقية تحت ستار من المسيحية - والمسيحية الطاهرة منهم براء - وكانت هذه السواحل من شمال البلا الحلبية إلى الشامية إلى الفلسطينية في جملة ممتلكات مصر، يعيش فيها جميعاً شعب واحد متحد المشارب مجتمع الأهواء متجانس المقومات، له دينه ولغته وجنسه وتقاليده وله مشاعره المتشابهة ومصالحه المشتركة.
فذاد عنها سلاطين مصر الأباة، عارفين للدين حرمته، وللوطن كرامته، ودافعوا عنها دفاع المستميت، لا ونى ولا وجل. وإلى جانب ذلك كله كانت لهم حروب أخرى بعضها لتأديب أمير شق عصا الطاعة، أورد عدوان جار من جيرانهم، أو نحو ذلك.
وأبدى كثير منهم سلاطين وأمراء وجنوداً ضروباً من الشجاعة خارقة. وكانت هذه الحروب - في كثير من ظروفها - منشطة لشياطين الشعراء والأدباء، فتابعوا سيرها وتحولاتها، مستمنحين منها الوحي، مستشعرين الإلهام.
فمدحوا الملوك والأمراء الذين أبدوا من ضروب الشجاعة والمهارة ما استحق التخليد، وكان لأعمالهم أثر مجيد في الانتصار.
وحمسوا وفاخروا بما نال جيش مصر من الظفر، ووصفوا الوقائع وما حل بها من حوادث وما صاحبها من آلات القتال، كالرماح والسيوف والخيل واللامات، وسجلوا بذلك كله كثيراً من حوادث أجيالهم، وشاركوا العصر إلى حد ما في آلامه وأحلامه. ولم يقصر الكتاب الناثرون عن إخوانهم الشعراء في هذا المضمار.
فقد كان بمصر حينذاك ديوان من دواوين الدولة خاص بالكتابة وهو (ديوان الإنشاء) تصدر عنه الرسائل الرسمية الهامة.
ويلي أمر الكتابة فيه حذاق المنشئين وبارعوهم.
وكان في جملة الرسائل التي يعنون بكتابتها (البشارات) وهي أنواع، ومنها: البشارة بانتصارات الجيش على أعدائه، فيوصف فيها تحرك الجيش واستعداده للاشتباك في القتال وما يأتيه السلطان أو أعوانه من ضروب المغامرة والشجاعة، وما يصبونه على عدوهم من أهوال، وما يصيبونه بعد هذا من نصر وظفر، إلى غير ذلك.
وكانت هذه الرسائل تكتب بعبارة أدبية طريفة مطولة يجري أسلوبها على الطريقة الفاضلية أو النباتية، يبدع فيها الكتاب ما شاء لهم الإبداع والفن الكتابي الذي يسلكون سبله.
وتنشر هذه الرسائل على الناس أو تتلى في المجامع.
فهي إلى حد ما شبيهة بما يكتبه مراسلو الصحف في أيامها، ممن يصحب الجيوش في تحركاتها.
وذلك لما يسري فيها من روح أدبية ونزعة عاطفية.
ومن هنا تفارق البلاغات الرسمية الحربية التي يذيعها أولو الشأن اليوم عن حركات الجيش في لطف وإيجاز.
ولو استطعنا جمع هذه البشارات كلها لكان لنا منها سجل أدبي رائع عن حروب المماليك وانتصاراتهم. وقد روى أن الظاهر بيبرس سلطان مصر غزا في الشام، واستطاع بجيشه المصري أن يقوع بالتتار ويذل الفرنجة ويفتح المدن المنية ويدك الحصون المستعصية.
وقد شارك جنوده وعماله بيده في أداء أعمالهم، وأظهر خوارق من المغامرات.
ولما فتح قيسارية - وكانت من قلاع الفرنجة ومدنهم الحصينة - كشف بلادها وقمَّم خراجها، وورع ذلك كله على أمراه الذين شاركوه في جهاده.
وكتب بذلك (مكتوب جامع بالتمليك) وهو ضروب آخر من الرسائل الرسمية.
وقد جاء في مطالعة بعد الحمد والصلاة ما يلي في وصف الانتصار: (إن خير النعمة نعمة وردت بعد الياس، وأقبلت على فترة من تخاذل املوك وتهاون الناس.
فأكرم بها نعمة وصلت للأمة المحمدية أسباباً، وفتحت للفتوحات الإسلامية أبواباً.
وهزمت من التتار والفرنج العدوين، وربطت من الملح الأجاج والعذب الفرات بالبرين والبحرين.
وجعلت عساكر الإسلام تذل الفرنج بغزوهم في عقر الدار، وتجوس من حصونهم المانعة خلال الديار والأمصار.
وتقود من فضل عن شبع السيف الساغب إلى حلقات الإسار.
ففرقة منهم تقتلع للفرنج قلاعاً وتهدم حصوناً، وفرقة تبنى ما هدم التتار بالمشرق وتعليه تحصيناً.
وفرقة تتسلم بالحجاز قلاعاً شاهقة، وتتسم هضاباً سامقة، فهي بحمد الله البانية الهادمة، والقاسمة الراحمة.
كل ذلك بمن أقامه الله وجرده سيفاً ففري، وحملت رياح النصرة ركابه تسخيراً فسار إلى مواطن الظفر وسرى.
وكونته السعادة ملكا إذا رأته في دستها قالت تعظيما له ما هذا بشرا.
)
إلى آخر هذا المكتوب. وقد نظم أديب عصره وشاعره محيي الدين بن عبد الظاهر، هذه الأبيات يصف فيها جنود مصر ومغامرات بيبرس في حرب التتار، فقال: تجمع جيش الشرك من كل فرقة ...
وظنوا بأنا لا نطيق لهم غلبا وجاءوا إلى شط الفرات وما دروا ...
بأن جياد الخيل تقطعه وثبا وجاءت جنود الله في العدد التي ...
تميس لها الأبطال يوم الوغى عجبا فعمنا بسد من حديد سباحةً ...
إليهم فما اسطاع العدو له نقبا واعتقادنا أن هذه الأبيات بقايا قصيدة طويلة بارعة للقاضي محيي الدين، وهي تحدثنا في طلاقة ووضوح بما كان ثم من شجاعة بيبرس وجنوده.
فإنه خاض نهر الفرات بنفسه للقاء التتار على شاطئه الآخر، فاندفع جنوده في إثره خائضين، فدحروا العدو وشتتوا شمله.
وفي البيت الثالث يصف الشاعر الجنود بأنها جنود الله، وفي ذلك دلالة على عقيدتهم في أنهم إنما يخرجون للجهاد في سبيل الله وحماية دينه.
وقد أبدع الشاعر في البيت الرابع إذ يقول (فعمنا بسد من حديد) كناية عما يلبسون من درع وعما يحملون من سلاح، وعمالهم من كثرة، وعما فيهم من جرأة.
وهذه أهم أدوات النصر، وقد انتصروا فعلا، فإن العدو لم يستطع لهذا السد العظيم نقباً، وفي العبارة الأخيرة شيء من الاقتباس وفيه إشعار بتشبيه سدهم هذا بسد ذي القرنين. وقد نظم الشاعر بدر الدين يوسف بن المهمندار في نفس الواقعة أبياتاً بديعة دقيقة الوصف رائعة التصوير تنضح بالمجد وتوحي بالفخار وتسجل عظمة أولئك الأسلاف الصيد، والغضافر الصناديد: ومن هذه الأبيات قوله: لو عاينت عيناك يوم نزالنا ...
والخيل تطفح في العجاج الأكدر وقد اطلخم الأمر واحتدم الوغى ...
ووهى الجبان وساء ظن المجترى لرأيت سدا من حديد ما يرى ...
فوق الفرات وفوقه نار تُرى ومنها: ورأيت سيل الخيل قد بلغ الزبى ...
ومن الفوارس أبحرا في أبحر لما سبغنا أسهما طاشت لنا ...
منهم إلينا بالخيول الضمر لم يفتحوا للرمي منهم أعيناً ...
حتى كحلن بكل لدن أسمر فتسابقوا هربا ولكن ردَّهم ...
دون الهزيمة ريح كل غضنفر وانظر حسن التعليل، أو توكيد المدح بما يشبه الذم، في قوله: ما كان أجرى خيلنا في إثرهم ...
لو أنها برءوسهم لم تعثر ومنها: وجرت دماؤهم على وجه الثرى ...
حتى جرت منها مجاري الأنهر والظاهر السلطان في آثارهم ...
يذري الرءوس بكل عضب أبتر ذهب الغبار مع النجيع بصقله ...
فكأنه في غمده لم يشهر ومن سلاطين مصر الأشراف خليل بن قلاوون، وقد حارب كذلك في بلاد الشام وفتح مدينة (عكا) الحصينة بعد أن رماها بالمنجنيق وهدم سورها وقلعتها.
وكانت بيد الفرنجة.
فمدحه القاضي شهاب الدين محمود الحلبي بقصيدة بائية في نحو خمسة وستين بيتاً.
قال في مطلعها: الحمد لله ذلت دولة الصلب ...
وعز بالترك دين المصطفى العربي هذا الذي كانت الآمال لو طلبت ...
رؤياه في النوم لا ستحيت من الطلب ما بعد عكا وقد هدت قواعدها ...
في البحر للشرك عند البر من أرب عقيلة ذهبت أيدي الخطوب بها ...
دهراً وشدت عليها كف مغتصب لم يبق من بعدها للكفر مذ خربت ...
في البحر والبر ما ينجي سوى الهرب كانت تخيلنا آمالنا فنرى ...
أن التفكر فيها غاية العجب أما الحروب فكم قد أنشأت فتنا ...
شاب الوليد بها هو لا ولم تشب سوران بر وبحر حول ساحتها ...
دارا وأدناهما أنأى من العطب مصفح بصفاح حولها أكم ...
من الرماح وأبراج من اليلب مثل الغمائم تهدي من صواعقها ...
بالنبل أضعاف ما تهدي من السحب كأنما كل برج حوله فلك ...
من المجانيق ترمي الأرض بالشهب ففاجأتها جنود الله يقدمها ...
غضبان لله لا للملك والنشب كم رامها ورماها قبله ملك ...
جم الجيوش فلم يظفر ولم يجب لم ترض همته إلا الذي قعدت ...
للعجز عنه ملوك العجم والعرب ثم أخذ الشاعر في مدح السلطان ثم وصف جيشه ووصف الحرب منوها بالأغراض المتوخاة منها، إلى غير ذلك من الأغراض الشعرية. وفي عام 691هـ فتح السلطان الأشرف خليل قلعة الروم، فهنأه شاعرة هذا وهو القاضي محمود الحلبي بقصيدة رائية على نمط القصيدة السالفة في الروعة ودقة الوصف وجمال التصوير ووضوح المعنى.
وقد بدأها بوصف راية السلطان وهي صفراء اللون، فكان له من اصفرارها ممد جميل لوصفه قال: لك الراية الصفراء يقدمها النصر ...
فمن كيقباذإن رآهاو كيخسرو إذا خفقت في الأرض تهدي بنورها ...
هوى الشرك واستعلى الهدى وانجلى الثغر وإن نشرت مثل الأصائل في وغى ...
جلا النقع من لألاء طلعتها البدر وإن يممت زرق العدى سار تحتها ...
كتائب خضر تحتها البيض والسمر كأن مثار النقع ليل وخفقها ...
بروق وأنت البدر والفلك والبحر لها كل يوم أين سار لواؤها ...
هدية تقليد يقدمها الدهر وفتح بدا في إثر فتح كأنما ...
سماء بدت تترى كواكبها الزهر فكم وطئت طوعا وكرها معاقل ...
مضى الدهر عنها وهي عانسة بكر وكان الأديب ابن جحة الحموي من خلصان سلطان مصر الملك المؤيد شيخ المحمودي اتصل به قبل سلطنته أيام أن كان أميراً في بلاد الشام، وقدم إلى مصر بعد سلطنته أيام أن كان أميراً في بلاد الشام، وقدم إلى مصر بعد سلطنته وأقام في خدمته ردحا.
وكان المؤيد قبل سلطنته قد وقعت فتن بينه وبين سلطان مصر حينذاك الناصر فرج بن برقوق.
فانهزم فرج أمامه في ضيعة من ضياع الشام اسمها (اللجون) فكان ذلك مثاراً لشاعرية ابن حجة إذ مدح المؤيد وذكر المعركة ووصف ما دار فيها موفقا في كثير من أبياته.
فقال يخاطب المؤيد: يا حامي الحرمين والأقصى ومن ...
لولاه لم يسمر بمكة سامر والله إن الله نحوك ناظر ...
هذا وما في العالمين مناظر فرج على (اللجون) نظم عسكرا ...
وأطاعه في النظم بحر وافر فأبنت منه زحافه في وقفة ...
يا من بأحوال الوقائع شاعر وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ...
دارت عليهم من سطاك دوائر وعلى ظهور الخيل ماتوا خيفة ...
فكأن هاتيك السروج مقابر ومنها: وإذا مددت يراع رمحك ماله ...
إلا قلوب الدارعين محابر ونعال خيلك كالعيون وما لها ...
إلا جماجم من قتلت محاجر ويعتبر القتال بين السلطان فرج وأميره شيخ حربا أهلية إذ أن كليهما من رجال الطبقة الحاكمة المصرية حينذاك وما كان أكثر الحروب الأهلية ووقائعها في هذا العصر! ويطول بنا المقال لو استرسلنا في الحديث.
غير أننا نختتمه بأن نذكر أن الزجالين كانوا في عداد الأدباء عناية بذكر الوقائع ووصف الحروب، وأن الشعراء طرقوا في باب الوصف، السيوف والرماح ونحوها من آلات القتال، ومنهم من أخرج غزله مخرجاً حماسيا، فاستعار لأدواته وملابساته ما للحرب من أدوات وملابسات.
- ومن لطيف ما يروى أن الأمير (الطنبغا الجوباني) الذي كان نائبا عن سلطان مصر في كفالة الشام، زمنا دعا فضلاء الأدباء لكي ينظموا أبياتا تكتب على أسنة الرماح، وعددها أربعة.
فتبارى في ذلك كثيرون.
ومنهم فتح الدين ابن الشهيد فقال على لسان الرمح: إذا الغبار علا في الجو عثيره ...
فأظلم الجو ما للشمس أنوار هذا سناني نجم يستضاء به ...
كأنني علم في رأسه نار والسيف إن نام ملء الجفن في علق ...
فإنني بارز للحرب خطار إن الرماح لأغصان وليس لها ...
سوى النجوم على العيدان أزهار محمود رزق سليم مدرس الأدب بكلية اللغة العربية

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢