أرشيف المقالات

ذكرى عيد الجهاد الوطني

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 لصاحب العزة محمد كامل سليم بك السكرتير العام لمجلس الوزراء عيد الجهاد للشعب، كعيد الميلاد للفرد، كلاهما حادث ضخم عظيم في تاريخ الحياة، وكلاهما جدير بالتحية والتكريم والاحتفال. فعيد الجهاد للشعب، إحياء لمولد نهضة، يبتدئ بها عصر جديد، وعيد الميلاد، إحياء لمولد فرد، يبتدئ به أمل جديد. وفي العيدين معاً تظهر الحركة والنشاط محل السكون والخمود، ويبدأ النمو ويطرد التقدم بعد التوقف والجمود. وهذا ما كان من أمر يوم 13 نوفمبر الذي حفظه التاريخ في سجلات الخلود.
تسجيلا لمولد النهضة الوطنية المصرية الكبرى.
التي أخذت منذ ذلك اليوم المشهود، في النمو والتقدم والتطور على مر الأيام والسنين، وأستيقظ فيها الوعي القومي يقظة ليس بعدها نوم ولا هجوع ولا همود. في هذا اليوم التاريخي المجيد، قامت في مصر حركة شاملة.
تطورت إلى ثورة كاملة، كانت مظاهرها الأولى، اتحاداً بديعاً بين جميع رجالات مصر البارزين وغير البارزين وظهور أهل مصر شعباً جديداً متجدداً، نقض الغبار، وهب وثار، وأشتعل كالنار، صارخاً في صوت واحد بالمطالبة بحقوقه المسلوبة في الحرية الكاملة والاستقلال التام كتمهيد لا بد منه للحياة الرفيعة الشريفة التي ينشدها المصريون والتي لا خير في الوجود بدونها. أنجبت مصر في هذا اليوم زعيما قديراً فذاً ممتازاً في شخص سعد زغلول، ورجالاً ذوى بأس شديد في طليعتهم عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، كان كل منهم جذوة متأججة، مثلت روح الجيل، أصدق تمثيل. ولا يسعني في هذا المقام الرهيب، إلا أن أقدم في خشوع، أخلص التحية وأصدق الإجلال، إلى الشيخ النبيل، المصري العظيم، المجاهد الكريم عبد العزيز فهمي باشا (حفظه الله ورعاه)، فهو بيننا اليوم يشهد أثراً من آثار أياديه حين نحتفل بعيد الجهاد، وإني لأشهد أن هذا الوطني الصامت، والعالم المدقق.
قد خدم النهضة الوطنية في فجر نشأتها أ الخدمات، وبذل في سبيلها أوفى نصيب من عقله وعلمه وفضله، وعاش بنجوة عن لغو القول، زهداً في مظاهر الحياة الباطلة وزخارفها الزائلة، وقد أدى رسالته على أكمل وجه. بعد هذه التحية الخالصة الواجبة على كل مصري يزجى بها إلى هذا المصري الأبي العظيم أعود ال السؤال: ماذا عمل هؤلاء الزعماء الثلاثة، وفي أي جو عملوا؟ وماذا عملوا المصريون، وفي أي جو يعيشون؟ ذهب أشبال مصر الثلاثة يحملون رؤوسهم على أكفهم إلى مقر ممثل أكبر دولة في العالم حينذاك، في صبيحة اليوم التالي لأكبر انتصار أحرزته في تاريخها الطويل، كانت الجيوش البريطانية في سكرة الانتصار، وفرحة السلامة تملأ القاهرة والاسكندرية، وكل مكان في أرض مصر، وفي الشوارع والميادين ودور السينما والملاهي والاندية والحدائق والطرقات، وكانت الاحكام العرفية البريطانية رافعة سيوفها على أعناق المصريين بغير حساب ولا رقيب، والسجون والمعاقل متعددة مفتوحة الأبواب، للمغضوب عليهم والمشكوك فيهم من غير سؤال ولا جواب. وكانت الحماية البريطانية مبسوطة على البلاد رغم انفها، وبغير اكتراث لشعور أبنائها، وليس أمام المصريين إلا الخنوع والاستكانة أو الموت والتعذيب في هذا الجو الخانق، والصاعق، الساحق، ذهب اشبال مصر الثلاثة في شجاعة الحق وعزم البطولة، وفي صراحة المؤمن وحزم الرجولة، وطالبوا بجلاء الجيوش البريطانية عن أرض الموطن، حتى تتمتع مصر باستقلالها التام. حركة طائشة خيالية جنونية، في نظر الأقوياء المستعمرين المنتصرين المزهوين، وحركة وطنية جريئة طبيعية في نظر المصريين، وجميع المنصفين. فأي النظرتين كانت أصح وأصدق؟ ولأي فريق كتب التوفيق؟ لست الآن بصدد تفصيل ما وقع.
حسبي أن أذكر أن الإنجليز نكلوا بالحركة الوطنية ونكلت الحركة الوطنية بالإنجليز.
فكان صدام وصراع.
وكان سجن واعتقال ونفي وتشريد وتقبيل وتعذيب وآلام.
وكان ثبات واحتمال وصبر ومثابرة ومقاومة وأقدام.
وتضحيات جسام.
وإذا بهدنة تتخللها محادثات ومفاوضات وإذا بالحماية البريطانية تعترف بأنها علاقة غير مرضية.
ثم إذا هي ملغاة بعد قليل وإذا بالاستقلال يعترف به مثقلا بالقيود والاصفاد في تصريح 28 فبراير سنة 1922.
ثم استقلال مخفف القيود في عام 1936. أدركت مصر كل ذلك بفضل تلك الحركة الطائشة الخيالية الجنوبية في نظر المستعمرين، أو الحركة الوطنية الطبيعية في نظر المصريين ونظر القدر. كيف كانت حال مصر حين قامت وتحركت.
وحين نهضت وغضبت.
وحين فارت وثارت.
وحين تغلبت على العقبات وانتصرت في ظروف كاد النصر فيها يبدو محالا أو حلماً من الاحلام. هل كان لدى مصر طائرات ودبابات، وجيوش جرارة ومدافع ولوريات؟ هل كانت لديها كنوز البحار.
أو ذخائر من الحديد والنار وكل أدوات الدمار؟ كلا.
لم يكن لدى مصر شيء من ذلك على الإطلاق.
وإنما كانت عندها ذخيرة لا تنفذ من الوطنية وحماستها.
والكرامة وعزتها.
والشجاعة وغيرتها.
والإيمان العميق بعدالة القضية وحق الوطن.
يدعم ذلك كله اتحاد رائع وإجماع كامل في المشاعر والعزمات والايثار. كان شعب مصر في ظلال الحماية والاحتلال يعيش آحاداً وأفراداً وشيعاً ممزقة.
فلما بزغت شمس 13 نوفمبر فاجأت مصر العالم عامة، وبريطانيا خاصة بشعب متحد، لا ثغرة فيه، نبض بشعور واحد، ولا نشوز فيه، واتجه في اتجاه واحد، لا عوج فيه بهذه الكتلة المتحدة صمدت مصر للاحداث الجسام.
وغالبتها، فغلبتها.
وكان الفضل في هذا التوفيق راجعاً إلى توحيد الصفوف، وتوحيد الرأي والشعور فكانت مصر من أقصاها إلى أقصاها تتحرك بكلمة واحدة يلقيها زعيمها الأوحد وأعوانه المتضامنون المتحدون. كان الأغنياء يبذلون المال سخياً، متبارين متنافسين لتمويل خزانة الجهاد وشد أزر المجاهدين. وكانت التضحية وكان الايثار وانعدام الأثرة، شعار الجميع: كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء. وكان الجيش والبوليس والعمال والفلاحون والطلبة والأعيان والموظفون والمحامون والمهندسون وكل أصحاب المهن الحرة جماعات تفيض صدروها بشعور واحد في بذل كل مجهود يطلب لإنقاذ الوطن.
ولم يكن هناك خلاف بين هذه الجماعات إلا في الأزياء والأرزاق والأعمار. وكانت الصحافة والمجلات، والنشرات الظاهرة والنشرات الخفية تصدر كلها عن وحي واحد، وليس فيها إلا نداء واحد، وتوجيه واحد ودعوة واحدة.
ولم يكن في كل ما ينشر ويقرأ إلا ما يزيد لهيب الشعور الوطني.
إلا ما فيه غذاء لأرواح المصريين. بهذا شحذت الهمم في مضاء، وبذلت الجهود، في سخاء وأطرد العمل في اتحاد وانسجام، وازدادت حماسة الناس بذكريات الماضي واستوحوا قوتهم من رجاء المستقبل. ذلك كان جو يوم 13 نوفمبر والأيام والشهور والسنوات التي تلته هي المعجزة التي أتتها مصر فكانت عبرة العبر: اتحاد في الزعامة والرياسة والقيادة، وتوحيد في المشاعر والصفوف.
لقد جربت مصر الاتحاد وشهدت خيراته وآثاره وجنت أطيب ثماره. وجربت تفرق الكلمة وشهدت ويلاته ومضاره وأخطاره نالت مصر بفضل الاتحاد الكامل الشامل كل ما أحرزته من فوز.
وكل ما نالته من خير حتى اليوم.
ولم تنل من الفرقة والحزبية الجامحة الكالحة غير بعثرة الجهود والخيبة والفشل والآلام والأحزان. لقد وقعت معجزة ذلك الاتحاد الرائع في 13 نوفمبر سنة 1918 على غير انتظار من الأصدقاء والأعداء على السواء. أفلا تتكرر المعجزة في 13 نوفمبر سنة 1947.
والأصدقاء يرجونها وينتظرونها ويتحرقون عليها ويعملون لها.
والأعداء يخشونها ويحاربونها ويفزعون ويتطيرون منها ويعملون ضدها.
أمعجزة أن يتم اتحاد؟ والاتحاد واقع فعلاً على الأهداف القومية، ووسائل تحقيقها، وآية ذلك أن الأحزاب والهيئات جميعاً على اتفاق تام على هذه وتلك إذا أبعدنا التشويه وسوء التأويل. أليس المانع الوحيد بعد ذلك من عدم اتحاد الرجال هو طغيان الأهواء والحقاد من ثمرات الألفة التي تفرقت والوحدة التي تشتت.
والعلاقات التي تمزقت وعكس الأوضاع بتقديم المصلحة الفردية على المصلحة الحزبية.
ورفع المصلحة الحزبية فوق رأس المصلحة القومية. أوضاع معكوسة.
وخطط منكوسة مركوسة ليست فيها ذرة من الخير على الإطلاق ولو استجابوا إلى صوت الضمير والمصلحة العليا للبلاد وحدهما دون سواهما لا نقشعت السحب.
وزالت الحمى ولعادت الحال كما كانت في ذلك اليوم المشهود - عيد الجهاد الوطني - أصفى وأصح.
وأروع وأكمل مما كانت.
وحينذاك تتحقق الحكمة من الاحتفال به والتغني بمزاياه، عاماً بعد عام. فينا كل بواعث النشاط.
وأمامنا كل حوافز الأمل.
ووراءنا كل نماذج العمل.
فلنعمل على توحيد الصفوف اولا وقبل كل شيء.
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. محمد كامل سليم السكرتير العام لمجلس الوزراء

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣