أرشيف المقالات

ميزان التقوى لا ميزان النسب

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
ميزان التقوى لا ميزان النسب

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومَن والاه.
اللهم أنزلنا منزلًا مباركًا وأنت خير المنزلين، ربنا اغفر وارحَم وأنت خير الغافرين، ربنا أدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
 
يُخبرنا تعالى أنَّه خلقنا جميعًا من ذكر وأنثى، وهما: آدم وحواء، وجعلنا شعوبًا وقبائلَ، والشعوب أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أُخَر؛ كالفصائل والعشائر والعمائم والأفخاذ، وقيل: المراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل بطون العرب.
 
فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهما السلام سواء، وإنَّما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله تعالى، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
 
والغاية من جعلنا شعوبًا وقبائل التعارف فيما بيننا، ليقال مثلًا: فلان بن فلان من قبيلة كذا وكذا.
وقد أمرنا الله سبحانه أن نتعرف إلى أنسابنا؛ لنتخذها مقياسًا نقيس بها الناس، ولنتخذها وسيلة لنعرف بها أرحامَنا؛ لنعين منهم من يحتاج إلى معونتنا، وقد أوصانا الله بصلة الرحم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)؛ رواه الترمذي.
 
أما التفاضل بين الناس، فإنَّما يكون بتقوى الله؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: (أكرمهم عند الله أتقاهم)؛ رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
 
وروى الإمام أحمد عن درة بنت أبي لهب رضي الله عنها، قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس خير؟ قال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس أقرأهم، وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم)؛ أي: خير الناس عند الله، أكثرهم قراءةً للقرآن، وأكثرهم تقوى لله عز وجل، وأكثرهم أمرًا بالمعروف، وأكثرهم نهيًا عن المنكر، وأكثرهم صلة للرحم.
 
وجاء في تفسير ابن كثير: وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن أبي هلال عن بكر عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أي: قال للصحابي الجليل أبي ذر: (انظر فإنَّك لست بخير من أحمر ولا أسود، إلا أن تفضله بتقوى)؛ رواه أحمد، ورواته ثقات مشهورون، إلا أنَّ ابن بكر عبدالله المزني لم يسمع من أبي ذر[1].
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)؛ رواه ابن ماجه.
 
وروى الطبراني أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى).
 
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع، فقال: (يا أيها الناس، إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر - إلا بالتقوى، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليبلغ الشاهد الغائب)؛ رواه البيهقي.
 
وفي الحديث المشهور عن أبي هريرة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من بطأ به عمله لم يُسرع به نسبه)، والمعنى: أنَّ من انحط بسوء عمله، لم يرتفع بعلو نسبه.
 
فالله يوم القيامة يسألنا عن إيماننا وأعمالنا، ولا يسألنا عن أنسابنا وأحسابنا؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 101 - 103].
 
فيوم القيامة لا يسأل الوالد عن ولده، ولا الولد عن والده؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 36]، وصاحبته: أي: زوجته، وقال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين (للحساب)، ثم نادى مناد: ألا مَن كان له مظلمة (أحد قد ظلمه)، فليجئ (به)، فليأخذ حقه (منه)، قال: فيفرح المرء (المظلوم) أن يكون له الحق على والده؛ (لأنَّ والده قد ظلمه في شيء)، أو (يكون له الحق على) ولده؛ (لأنَّ ولده قد ظلمه في شيء)، أو (يكون له الحق على) زوجته؛ (لأنَّ زوجته قد ظلمته في شيء، وإن كانت هذه المظلمة صغيرة)، وإن كان (هذا الحق) صغيرًا، ومصداق ذلك في كتاب الله؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 101]، فعند نفخ الصور للحساب تنقطع بين الناس الأنساب والأحساب، فلا يتساءلون عنها، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ﴾ [المعارج: 10]؛ أي: لا يسأل القريب عن قريبه، عن حاله وهو يراه في أسوأ الأحوال؛ لأنَّه مشغول بنفسه عن غيره، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [فاطر: 18].
 
فكل إنسان مثقل بأوزاره (وسيئاته)، يدعو يوم القيامة غيره من الناس؛ ليحمل عنه أوزاره، أو شيئًا منها؛ ليخفف عنه العذاب، فلا يجد أحدًا حتى أقرب الناس إليه يستجيب لدعوته؛ يقول ابن كثير في تفسيره: قال عكرمة في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا ﴾ [فاطر: 18]، قال:...
وإنَّ الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة، فيقول: يا بني، أيُّ والد (حنون) كنت لك، (وكنت سببًا لوجودك في الحياة، وقمتُ بتربيتك حتى بلغت أشُدَّك)، فيُثني (الولد على والده) خيرًا، ويعترف بفضله عليه، فيقول له: يا بني، إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى، فيقول له ولده: يا أبتِ ما أيسر (وأسهل) ما طلبتَ! لكني أتخوف مثل ما تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئًا من حسناتي، ثم يتعلق بزوجته، فيقول: يا فلانة، أو يا هذه، أيُّ زوج (مخلص) كنتُ لكِ، فتثني (الزوجة على زوجها) خيرًا، (وتعترف بفضله عليها)، فيقول لها: إني أطلب منك حسنة واحدة تَهبينها لي؛ لعلي أنجو بها مما ترين (بي من الكرب والعذاب)، قال: فتقول: ما أيسر (وأسهل) ما طلبتَ، لكني لا أُطيق أن أعطيك شيئًا (من حسناتي)، إني أتخوف مثل الذي تتخوف، فإني أخشى أن أحتاج إلى هذه الحسنة، فلا أجد من يجود بها علي في هذا اليوم الصعب.
 
والأمر الذي يتخوفه كل إنسان أنَّه يمر في مواقف عصيبة يوم القيامة لا يشفع له فيها أحد، ففي الحديث الصحيح أنَّه إذا طُلِب إلى كل رسول من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق يقول: نفسي لا أسالك إلا نفسي، حتى إنَّ عيسى بن مريم يقول: لا أسألك اليوم إلا نفسي، لا أسألك مريم التي ولدتني؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 33 - 37].
 
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكرت النار فبكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيكِ؟ قلت: ذكرتُ النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم، (فهل تتذكرون زوجاتكم وتشفعون لهن) يوم القيامة؟ فقال: أمَّا في ثلاثة مواطن، فلا يذكر أحدٌ أحدًا: (الموطن الأول) عند الميزان، (عندما توزن أعمال الناس، فلا يتذكر الإنسان إلا نفسه، ولا يفكر في أمر غيره)، حتى يعلم أيخفُّ ميزانه (فيكون من أهل النار)، أم يثقل (فيكون من أهل الجنة، والموطن الثاني عند تسلُّم النتائج)، وعند تطاير الصحف، حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه، (فيكون من الناجين)، أم في شماله (فيكون من الساقطين)، أم وراء ظهره (فيكون من الهالكين)، و(الموطن الثالث) عند عبور الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز (ويعبر الصراط).
 
ففي هذه المواطن الثلاثة لا يتذكر أحدٌ أحدًا، حتى الرسل يكونون مشغولين بأنفسهم ولا يشفع للمرء فيها إلا عملُه الصالح عند الله.
اللهم ثقِّل موازيننا ووفِّقنا لكل عمل صالح اللهم آمين.



[1] تفسير ابن كثير.

شارك الخبر

المرئيات-١