أرشيف المقالات

من وراء البحر

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للدكتور محمد عوض محمد عزيزي الزيات لقد غادرت القاهرة وأنا حانق عليك، غاضب ثائر.
وكان مثلي كمثل هذا البحر - بحر الريفييرا - الذي ما برح هائجاً صاخباً.
فاستحال علىّ أن أقضي الوقت في السباحة والاستحمام، واضطررت أن أقطع الوقت في الكتابة إليك كما ترى. أجل! لقد تركت السواحل المصرية وأنا غاضب منك، ولحسن حظك أن بيني وبينك هذا البحر الطويل المديد العريض وإلا نالك مني بعض الأذى.
فانك حاولت في العدد السابع والأربعين من (الرسالة) أن تفسد على عيشي، وتقطع عني الخبز الذي أتبلغ به في هذه الحياة الدنيا، وتفصيل الحديث - إن كنت لم تدرك بعد ما جريرتك - أنك في العدد الأخير - الأخير بالنسبة إلي - حاولت أن تقطع عني وسائل عيشي؛ بأن تناولت أفاضل الشعراء بالنقد الشديد.
لا لسبب سوى أنهم اتخذوا لأشعارهم عنوانات اقتبسوها من بيئة غير بيئتهم وأرض غير أرضهم؛ وقد تناولتهم من أجل ذلك باللوم ما شاء لك ذلك القلب القاسي الذي أتخذ جوانحك مستقراً ومقاماً. وكأنما جهلت - يا أبا رجاء - أو تجاهلت أنني بحمد الله - الذي يحمد على الخير وعلى الشر - ما أكلت الخبز والملح (ومعهما - أحياناً - قليل من الجبن الدمياطي والخيار المصري) إلا بأمر واحد أؤديه في هذه الحياة، وهو تعليم الناس تقويم البلدان.
ولست أدري أدفعتني في هذا الطريق ملائكة الرحمة أم شياطين العذاب.
لكنه على كل حال هو الطريق الذي سلكت، والذي آكل منه الخبز والملح فكان الأجدر بمثلك لو انك ترى للمودة عهداً أن تشجع الشعراء على أن يقبلوا ما استطاعوا على تلك البيئات البعيدة، والأقطار النائية، يلتمسون فيها عنواناتهم وموضوعاتهم، فيضطرون إلى دراسة البلدان والأقاليم، ويبحثون في أسفار الجغرافيا عن صفة كل قطر وكل ظاهرة طبيعية، حتى إذا استوعبوا فهمها واستطاعوا الإحاطة بأسرارها سالت خواطرهم في وصفها قريضاً بديعاً.

وهكذا يصبح الشعراء والكتاب طلبة يدرسون علم تقويم البلدان، ورسلاً لنشر الدعوة الجغرافية وبثها بي طبقات الأمة.
وهكذا تروج بضاعتنا التي نأكل منها الخبز والملح، ومن يدري، فقد ينتهي بنا هذا لأن نصبح قادرين على التنعم بأشياء غير الخبز والملح - مما نجهله الآن كل الجهل. إن واجب الجغرافيا - يا أبا رجاء - هو أن تدنى البعيد وأن تقرب أطراف العالم بعضها من بعض، وأن تعلمك وأمثالك كيف تتخذون الناس كلهم سكناً، وكيف تجعلون الأرض كلها داراً. نريد لكم اليسر والسعة، ولا نريد لكم العسر والضيق، نريد أن يطلق سراح الكتاب، وألا يتقيدوا بسلاسل المكان وأغلال الزمان، فتنطلق أرواحهم في العالم الفسيح، وتشرب من كأس الحرية حتى تروى وتشفى. أن الجغرافيا هي علم الكون، علم الوجود، ولهذا كانت أهم ما في الوجود من علم.
ولهذا وجب على من كان مثلك - مهنته نشر الثقافة - ألا يقول كلمة واحدة تثبط همة المشتغلين بهذا العلم العظيم.
. لهذا أريد منك أن ترجع إلى الحق، وأن تعترف معي بأن (وراء الغمام) و (الملاح التائه) وما شابه ذلك عنوانات بديعة، وأنه لا يضير الكاتب الذي يستخدم مثل هذه العنوانات أن ليس في سماء القاهرة غمام كثير - مع أن في سماء الإسكندرية من الغمام ما يكفي لألف عنوان! - كذلك لا ضير على الكاتب أن يتحدث عن البراكين وجبال النار، والزلازل، وأمثال تلك الظاهرات التي لا نحسها في مصر إلا نادراً.
ذلك لأننا معشر الجغرافيين نريد أن نبصر ثمار ما بذرناه من علم ونراها تؤتي أكلها في كل مكان. هذا ما عنّ لي أن أقوله تأنيباً لك على أن حاولت أن تقطع عيشنا في هذا البلد الأمين.
وأريد أن أزيد في التنكيل بك بأن أرسل إليك قصيدة كنت نظمتها في وصف (نهر في جبال الألب) فهي كما ترى لم تكتب عن نهر النيل.
فإذا أردت أن تلومني في هذا، وليس هذا على جرأتك بعزيز - فاذكر أنني كتبت عن نهر النيل كتاباً كاملاً؛ قد أتعبني في النهار وأسهرني الليل أعواماً طوالاً.
أما النهر في جبال الألب فما كان له مني سوى جلسة قصيرة جلستها بجانبه أراقب مجراه، وأصغي إلى خريره وزئيره.
لم يسهد له طرف، ولم يدمع له جفن. وعندي أن الذين يبحثون عن موضوعاتهم في غير بيئتهم لا يضربون لنا مثلاً لما نسميه (الامتيازات) في الأدب؛ بل للاستعمار في الأدب.
فمادام الأسلوب عربياً، والصبغة والنزعة عربيتين؛ فلن يضير الشاعر أن يفتش أرجاء العالم في سبيل البحث عن موضوعه، أو عن استعاراته أو معانيه.
والذي قد يعاب على الكاتب العربي هو هذا الولع باصطلاحات غربية تبدو للعربي بادية السخف، مثل قولهم (كوبيد رماني بسهم) أو ما شاكل ذلك من الاصطلاحات التي لا طلعت ولا نزلت.
وليست عبادة الغربيين مقصورة على شعرائنا بل هي كذلك شائعة في سائر الكتاب ورجال السياسة.
فكل نغمة - مهما كانت سخيفة - مطربة لهم مادامت خارجه من قيثارة غربية.
وكل حكم نافذ مادام صادراً من محكمة غربية.
وأكبر عار على الأديب المصري أن يكون إلمامه بأدب الغرب أكبر من إلمامه بأدب الشرق. والآن ما خطب تلك القصيدة التي أريد أن أثأر بها منك: والتي موضوعها (نهر في جبال الألب)؟ إنها ليست من جليل الشعر ولا خطيره، ولكني مادمت أرسلها إليك للتنكيل بك فلن أهتم بتنقيحها وتهذيبها.
فهاكها: يحار لبي إذ أرى ...
مَسيلَ هذا الجدول وإذ أرى انحداره ...
يسبق لَْمح المُقل لا يستقر في المس ...
سير لحظةٍ بمنزل كأنه مُندفعٌ ...
بالخوف أو بالأمل أو سائر لغاية ...
بعزمة لم تُفْلل ينقض في انسيابه ...
مثل هُوِيِّ الأجدل مِن مَدْفَع لمدفع ...
وجندل لجندل فاعجب لماء شبمٍ ...
يجيش مثل المرْجل! مصطخب مضطرب ...
محتدم منفعل وهائج في مائج ...
ومدبر في مقبل وعابس في ضاحك ...
ومنجد في مسهل وأول في آخر ...
وآخر في أول مستعجلاً وليس يخ ...
شى زلة المستعجل وليس يُعييه المسيرُ ...
في الضحى والأصُل عليه من حبابه ...
ثوب كأبهى الحلل رذاذه مثل شرار ...
ناره لم تشعل منتثرٍ منتشرٍ ...
في السهل أو في الجبل شلاّلهُ يهوى هو ...
ى شُهب ليل أليل كعمد من فضة ...
أو كملاء مًسدل أو حائط من مرمر ...
يلمع كالسجنجل أو ذوب بلور هوى ...
من حالق لأسفل في صخب ولجب ...
متصل منفصل يكاد أن يسمع من ...
بالمشترى أو زحل! زئيره يطغى على=خريره المتصل مثل زئير الأسد يخ ...
في شدو كل بلبل أصغي إليه صامتاً ...
في هيبة ووجل أسمع في خريره ...
ذكرى العصور الأول كأنه صوت الزمان ...
من قديم الأزل ينبئ بالماضي وقد ...
يهمس بالمستقبل سفر يخط الدهر فيه ...
كل سطر منزل من كل معنى مُذْهل ...
وكل سر مُعضل يا ليت شعري إذ أرا ...
هـ في سراه المعجل هل هو رمز للخلو - د والوجود الأزلي أم هو رمز للفنا ...
يبدو وللتحول؟ وقد أراه قدوةً ...
لنا وخير مَثَل لو أن فينا بعض ما في ...
هـ الخُلقِِ العلى من شدة وعزمه ...
وقوةٍ وعمل إذن لكنا دولة ...
بين كرامِ الدول والآن أيها الصديق تحية وسلاماً.

أرجو أن أكون قد نكلت بك كما أردت واشتهيت؛ وان عدتم عدنا.
وإلى اللقاء أخوك المخلص جوان لي بان في 6 حزيران محمد عوض

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢