كان حفص قد استلم مكان أخيه سليمان بعد أن قتل، فقام في هذه السنة الناصر أمير الأندلس بغزوه في ببشتر، وهو متحصن فيها، ولما اشتدت المحاصرة على حفص بن عمر بن حفصون بمدينة ببشتر، وأحيط به بالبنيان عليه من كل جانب، ورأى من الجد والعزم في أمره ما علم أن لا بقاء له معه في الجبل الذي تعلق فيه، كتب إلى أمير المؤمنين الناصر، يسأله تأمينه والصفح عنه، على أن يخرج عن الجبل مستسلما لأمره، راضيا بحكمه.

فأخرج إليه الناصر الوزير أحمد بن محمد بن حدير، وتولى هو وسعيد بن المنذر إنزاله من مدينة ببشتر.

ودخلها رجال أمير المؤمنين الناصر وحشمه يوم الخميس لسبع بقين من ذي القعدة من السنة.

واستنزل حفص وجميع النصارى الذين كانوا معه، وقدم بهم أحمد بن محمد الوزير إلى قرطبة مع أهلهم وولدهم.

ودخلها حفص في مستهل ذي الحجة، وأوسعه أمير المؤمنين صفحه وعفوه، وصار في جملة حشمه وجنده.

وبقي الوزير سعيد بن المنذر بمدينة ببشتر ضابطا لها، وبانيا لما عهد إليه من بنيانه وإحكامه منها.


عاد ثمل الخادم إلى طرسوس من الغزاة الصائفة سالما هو ومن معه فلقوا جمعا كثيرا من الروم، فاقتتلوا فانتصر المسلمون عليهم وقتلوا من الروم كثيرا، وغنموا ما لا يحصى، وكان من جملة ما غنموا أنهم ذبحوا من الغنم في بلاد الروم ثلاثمائة ألف رأس، سوى ما سلم معهم، ولقيهم رجل يعرف بابن الضحاك، وهو من رؤساء الأكراد، وكان له حصن يعرف بالجعفري، فارتد عن الإسلام وصار إلى ملك الروم فأجزل له العطية، وأمره بالعود إلى حصنه، فلقيه المسلمون، فقاتلوه وأسروه، وقتلوا كل من معه.


عاث أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي في الأرض فسادا، وحاصر الرحبة فدخلها قهرا وقتل من أهلها خلقا، وطلب منه أهل قرقيسيا الأمان فأمنهم، وبعث سراياه إلى ما حولها من الأعراب، فقتل منهم خلقا، حتى صار الناس إذا سمعوا بذكره يهربون من سماع اسمه، وقدر على الأعراب إمارة يحملونها إلى هجر في كل سنة، عن كل رأس ديناران، وعاث في نواحي الموصل فسادا، وفي سنجار ونواحيها، وخرب تلك الديار وقتل وسلب ونهب، فقصده مؤنس الخادم فلم يتواجها بل رجع إلى بلده هجر فابتنى بها دارا سماها دار الهجرة، ودعا إلى المهدي الذي ببلاد المغرب بمدينة المهدية، وتفاقم أمره وكثر أتباعه، فصاروا يكبسون القرية من أرض السواد فيقتلون أهلها وينهبون أموالها، ورام في نفسه دخول الكوفة وأخذها فلم يطق ذلك، ولما رأى الوزير علي بن عيسى ما يفعله هذا القرمطي في بلاد الإسلام وليس له دافع، استعفى من الوزارة؛ لضعف الخليفة وجيشه عنه، وعزل نفسه منها، فسعى فيها علي بن مقلة الكاتب المشهور، فوليها بسفارة نصر الحاجب، ثم جهز الخليفة جيشا كثيفا مع مؤنس الخادم فاقتتلوا مع القرامطة، فقتلوا من القرامطة خلقا كثيرا، وأسروا منهم طائفة كثيرة من أشرافهم، ودخل بهم مؤنس الخادم بغداد، ومعه أعلام من أعلامهم منكسة مكتوب عليها (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض)، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، وطابت أنفس البغدادية، وانكسر القرامطة الذين كانوا قد نشؤوا وفشوا بأرض العراق، وفوض القرامطة أمرهم إلى رجل يقال له حريث بن مسعود، ودعوا إلى المهدي الذي ظهر ببلاد المغرب جد الفاطميين، وهم أدعياء كذبة، كما قد ذكر ذلك غير واحد من العلماء.


لما وزر أبو علي بن مقلة بسعاية نصر الحاجب أبي عبدالله بن البريدي وبذل له عشرين ألف دينار على ذلك، فقلد أبا عبد الله بن البريدي الأهواز جميعها، سوى السوس وجنديسابور، وقلد أخاه أبا الحسين الفراتية، وقلد أخاهما أبا يوسف الخاصة والأسافل، على أن يكون المال في ذمة أبي أيوب السمسار إلى أن يتصرفوا في الأعمال، وكتب أبو علي بن مقلة إلى أبي عبد الله في القبض على ابن أبي السلاسل، فسار بنفسه فقبض عليه بتستر، وأخذ منه عشرة آلاف دينار ولم يوصلها، وكان أبو عبد الله متهورا لا يفكر في عاقبة أمره؛ لما يتصف به من المكر والدهاء وقلة الدين، ثم إن أبا علي بن مقلة جعل أبا محمد الحسين بن أحمد الماذرائي مشرفا على أبي عبدالله بن البريدي، فلم يلتفت إليه.