الاعتدال في الإنفاق والحذر من البخل والإسراف
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
سلسلة صفات عباد الرحمن الاعتدال في الإنفاق والحذر من البخل والإسراف
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ وبعد:
فإن من صفات عباد الرحمن التوسط في الإنفاق لا يسرفون، ولا يقترون، لا يبذرون ولا يبخلون، يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67].
قال ابن كثير - رحمه الله -: أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، وكان بين ذلك قوامًا كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29].
وفي معنى الإسراف قيل هو: تجاوز الحد في كل ما يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشْهَر، وذكر ابن منظور في كتابه "لسان العرب" أن الإسراف والتبذير بمعنى واحد، وقال الإمام مالك رحمه الله: التبذير هو أخذ المال من حقِّه، ووضعه في غير موضعه.
وفرق بعض العلماء بين الإسراف والتبذير.
أيها الأحبة الكرام..
الإسراف فعل قبيح وعمل مشين، يدل على سفه في العقل، وعدم استشعار أهمية وقدر النعم، وقد نهى ربنا سبحانه عن الإسراف وحذر منه، فمرة أخبر أنه لا يحب المسرفين، كما في قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].
وأخبر أن الإسراف من أسباب دخول النار فقال سبحانه: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [الأعراف: 43].
وأخبر أن المبذرين إخوان الشياطين فقال سبحانه: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: 26].
قال القرطبي - رحمه الله -: إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين.
وحذر نبينا صلى الله عليه وسلم من التبذير فقال: "كلوا واشربوا وتصدقوا من غير إسرافٍ ولا مخيلة".
وما أكثر الأضرار الصحية والأمراض التي تصيب الناس بسبب الإسراف في الأكل والشرب.
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: كلْ ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة.
المخِيلة بكسرِ الخاء، وسكون الياء، وفتح اللام.
والخيلاء: يعني الكبر.
فما أحوجنا إلى الحذر والتحذير من الإسراف والتبذير لاسيما في هذا الزمان الذي كثر فيه الإسراف في أمور كثيرة وكثرة المباهاة، واللهث وراء الموضة وما يقع بمتابعتها من إسراف وتبذير والتفاخر، بينما الفقراء يزدادون فقرًا ويبحثون عن شربة الماء ولو كانت غير نقية وعن كسرة خبز ولو كانت يابسة على الأرض ملقية ولا يستطيعون شراء الدواء ونشاهد كثيرًا من الأغنياء ومن هم دونهم مع علمهم بهذا الحال يلعبون بالأموال ويبذرون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ كَرِه لكم ثلاثًا: قِيلَ وقَالَ، وإضاعةَ المالِ، وكثْرةَ السؤالِ".
رواه البخاري ومسلم.
ومن إضاعة المال أن يشتري الإنسان شيئًا لا يحتاجه، أو لا يستفيد منه.
أيها الأحبة في الله..
هذا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم أجمعين ومع ذلك كما قالت رضي الله عنها كانت تمر عليه ثلاثة أهلة في شهرين ولا توقد في بيوته نار وليس لديهم إلا الأسودان التمر والماء، فلننظر إلى حالنا وكم نرمي من الطعام.
كم من الناس أعطاهم الله مالًا فصاروا يبذرون كما قال سبحانه: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 6، 7].
والذين يسرفون يتناسون أن الله تعالى الذي أنعم عليهم بهذه النعم وسخر لهم هذا المال قادر على أن يسلبه منهم بلمح البصر، وفي الدنيا عبر لمن يعتبر فهم من مصائب وكم من كوارث يرسلها الله تعالى على من يشاء فتجعل الغني الذي بات في رفاهية، يصبح فقيرًا لا يملك شيئًا، تذكر يا عبد الله أن الله سيسألك عن هذه النعم قال سبحانه: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر: 8].
فالسعيد من اعتبر بغيره، وعرف قيمة النعم فأَخَذَ منها بقدر حاجته، وصرفها في ما ينفعه وينفع غيره، وشكر الله تعالى على النعمة.
أيها الأحبة الكرام..
ليس الإسراف في إنفاق المال الكثير فحسب ولكن قد يصرف الإنسان مالًا يسيرًا ويعتبر مسرفًا؛ لأنه أنفقه في معصية فكل إنفاق في المعاصي والمحرمات فهو إسراف وإن كان الإنفاق يسيرًا.
قال الإمام مجاهد - رحمه الله -: لو أنفق الرجل عشرة آلاف درهم في طاعة الله ما كان مسرفًا ولو أنفق درهمًا في معصية الله كان من المسرفين.
وقيل: لا خير في السرف ولا سرف في الخير.
وكما حذر الشرع من الإسراف حذر من نقيضه وهو البخل والتقتير، فالبخل صفة مذمومة، قال سبحانه: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29].
ونهى رسولنا صلى الله عليه وسلم عن البخل وحذر منه فقال: "إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخَلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا"؛ رواه أبو داود وصححه الألباني.
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من البخل كما جاء في "صحيح البخاري" وغيره.
ومن قبح البخل أنه ربما جرَّ صاحبه إلى منع ما يجب عليه من الإنفاق فكم من الناس يمتنع عن أداء الزكاة وهو مؤمن بوجوبها عليه، إنما يمتنع عن أدائها بسبب بُخْله، وقد توعد الله تعالى هذا الصنف من الناس فقال سبحانه:
﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38]، وقال سبحانه: ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 8 – 10].
وقال هشام بن حسان - رحمه الله -: سمعت الحسن البصري رحمة الله عليه يحلف بالله: "ما أعز أحد الدراهم إلا أذله الله.
البخيل لا ينعم بماله ولا يستفيد منه، يجمعه لغيره، ويحرسه ولا ينتفع به، إن ضاع منه اشتدت حسرته، لأنه حرم نفسه منه لمَّا كان في يده، وإن مات أخذه الورثة، ولم يأخذ معه في قبره منه درهما واحدا، وربما لا يتصدق أحد عليه بعد موته، وإن من الناس من تجده سخيًّا في الإنفاق على متع وشهوات الدنيا والكماليات، لكنه أبخل الناس في الصدقات فلا يخرج أقل العملات.
وإن أفضل ما ينتفع الإنسان بماله إذا أنفقه في سبيل الله، فهو المال الباقي، الذي يجده بعد موته أمامه، وربما كان سببًا في دخوله الجنة، فأسوء البخلِ البخلُ في الإنفاق في سبيل الله.
فاتقوا الله يا عباد الله واحرصوا على التوسط في الإنفاق واحذروا من التبذير والإسراف، وأنفقوا بسخاء إذا كان الإنفاق في سبيل الله، وفي مرضات الله، تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين