خطب ومحاضرات
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 26
الحلقة مفرغة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا والحمد لله ربنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم ورضي عنا كما رضي عنهم. اللهم آمين.
وهذا هو [ النداء الخامس والعشرون ] ومحتوى هذا النداء هو [ في وجوب العدل في الشهادة ] فإذا شهد عبد الله أو شهدت أمة الله على شيء أو في شيء يجب أن تكون الشهادة عادلة مستقيمة، لا مائلة يميناً ولا شمالاً، حتى ولو كانت على الشاهد نفسه [ وحرمة اتباع الهوى المانع من العدل فيها ] والهوى وهو ميل النفس إلى ما تشتهيه، وما يزينه الشيطان لها، فهذا الميل واتباعه حرمه الله على أوليائه.
وإليكم هذا النداء الكريم، وهيا بنا نتغنى به ساعة:
[ الآية (135) من سورة النساء
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135] ] وانظروا إلى الجملة الأخيرة، وهي خاتم النداء: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]. وسوف يذيق المعرضين مر العذاب وأليمه، فالقضية ليست سائبة، من شاء أن يعدل عدل، ومن شاء أن يجور جار، فإن الله كان وما زال بما تعملون من خير وشر .. من عدل أو جور عليم خبير. وعجب هذا القرآن، فهو كلام الله، رب السماوات والأرض وما بينهما، أي: خالق السموات والأرض وخالق ما فيهما ومدبر حياتهما، والله له مائة اسم إلا اسماً واحداً، ودلنا على ذلك كتابه، ولا يكتب كتاب بدون كاتب، ولا يكون كلام بدوم متكلم، ولا يكون مخلوق بدون خالق، ولو كان كأساً من الشاي، فيستحيل أن يوجد بلا موجد.
تحدي الله للإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بسورة منه
وأشد من هذا سورة فقط، فهذا الكتاب فيه مائة وأربع عشرة سورة، منها الطوال والصغار والكبار، وتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة، واسمعوا التحدي الواضح البين، يقول تعالى من سورة البقرة المدنية حيث علماء اليهود وأحبارهم هنا وهناك يقول لهم: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:23-24]. قبل أن تأكل وجوهكم. فليفهم السامعون قوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]. قالت العلماء البصراء: هذه الجملة لا يقولها إلا الله، ومستحيل أن يقولها إنسي أو جني، فمن يملك الغيب والدهور الطويلة هو الذي يقول: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]. ولا يقول هذا إلا من بيده غيب السماء والأرض، وقد مضت ألف وأربعمائة وأربع عشرة سنة وما فعلوا ولن يفعلوا.
حرمان أهل الكفر من الانتفاع بكتاب الله من أسباب بقائهم على الكفر
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]، أي: من أين يأتي الكفر؟ وكيف يدخل قلوبكم؟ وكيف يذهب النور ويطرده من نفوسكم؟ فهذا عجب، وهذه الصيغة صيغة تعجب، أي: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] والحال أنكم يتلى عليكم كتاب الله وفيكم رسوله؟!
التدبر في آيات الله سبب للوقاية من الكفر
وقد ضربنا المثل - أبنائي- في كيفية هداية الكتاب والسنة، وقلنا: نجلس سنة كاملة نتعلم يوماً آية ويوماً حديثاً، لعل المسلمين اليوم يتأثرون، ولكنهم ما استطاعوا، وهم يشاهدون قصة في التلفاز ويطبقونها عملياً، وهذه مظاهر الهبوط، لا تقولوا: الشيخ يشنع، فوالله ما سمعتم إلا الحق والهدى، وليس خرافة ولا ضلالة ولا غير ذلك، وهذا هو الطريق، وهذه النداءات الإلهية تسعون نداء، والمفروض والواجب الحتمي أن يكون كل مؤمن قد ألم بها، وعرف ما فيها، وطبق ما قدر على تطبيقه منها، وما عجز عنه فقد أعذر إلى الله، ولن تكون مؤمناً بالله إذا كان قد ناداك تسعين نداء وأنت لا تعرف نداء واحداً منها.
وشيء آخر: أنه يناديك ليعلمك .. ليهذبك .. لينقذك، وكيف تنقذ نفسك وتتعلم وتتهذب، وأنت معرض.
وفي الأمس كنا مع نداء الحرب، فالمسلم لا يجوز أن يكون جاهلاً بما في الحياة كلها.
قيام الكون كله بالعدل
وأنت عندما تبني جداراً لو أملته فقط والله ليسقطن، وإذا لم تقومه معتدلاً فسوف يسقط عليك، ولن تسكنه.
وهذا العدل أعرضنا عنه، ففي بعض الجهات وبعض الأماكن يوجد شبه لصوص حول المحكمة، فإذا احتاج شخص شهادة طلبوا ديناراً أو دينارين ويشهدون لك في المحكمة، ويحومون حول المحكمة، وهذه فقط مهمتهم.
هيا مع هذا النداء؛ لترتفع مستوياتنا فوق مستويات البشر، وإن كنا لا نقرأ ولا نكتب؛ لأن هذه أنوار الله للهداية البشرية، ولن تحتاج إلى القلم والقرطاس أبداً، بل فقط آمن وأقبل على الله.
الأمر بالشهادة بالحق
ولا إله إلا الله! فهذه الأمة سمت وارتفعت وعلت، ووالله لم يعرف التاريخ البشري أمة كملت كهذه الأمة، أيام أن كانت تعيش على هذا القرآن، ثم كاد لها العدو فجرت وراءه فصرفها عن القرآن، وأصبحوا يقرءونه على موتاهم، وأما في المحكمة فليس هناك قرآن، بل القرآن يقرأ على الموتى والله العظيم، وهذا أمر عجيب، فالميت عندما تقرأ عليه القرآن فإنك توبخه فقط، فإذا كان ما تقرأ عليه عقيدة فإنك توبخه، وإذا كان صلاة فهو لم يصل، وإذا كان صياماً فهو لم يصم، وأنت توبخه فقط، وهو لا يستفيد من قراءة القرآن. فالقرآن يقرأ على الأحياء أولي البصائر والنهى، فتكمل معارفهم، وتسمو آدابهم وأخلاقهم، وهذا ليس بكلامي، واسمعوا الله يقول في سورة يس التي وضعتموها للموتى، يقول تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:69-70]. فالذي تسمعون الرسول يردده وينزل عليه إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:69-70]. وفي قراءة سبعية: ( لتنذر) يا رسولنا! به ( من كان حياً) وليس ميتاً، ففرق الله بين الميت والحي، ولم يطلق العبارة على كليهما، بل قال: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:70]. يعي ويفهم .. يسمع ويتلقى وينطق، وأما الميت فلا فائدة من إنذاره، وإلى الآن يوجد من إخوانكم وآبائكم من يكاد يتمزق عندما يسمع هذا الكلام، ويسب ويشتم ويقول ما شاء الله أن يقول. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
العدل مأمور به في كل شيء
الأمر بأن تكون الشهادة لله
قال: [ إذاً أدوها عادلة لا حيف فيها ولا جور، ولو كانت الشهادة على أنفسكم؛ لأنكم عبيد الله، فلا تظلموا أنفسكم؛ لأن ذلك لا يرضاه سيدكم لكم ] بل اشهد على نفسك، وقل: نعم قلت .. ضربت .. أخذت، فاشهد على نفسك؛ لأنك عبد الله [ وظلم النفس يكون باقتراف الذنب بالحيف في الشهادة، وعدم العدل فيها ].
الأمر بأداء الشهادة ولو على الأقربين
[ ولا تراعوا في أداء الشهادة فقراً ولا غنى، كما لم تراعوا قرباً أو بعداً ] فلا تراعوا فقراً أو غنى [ فالله أولى بالفقير بالإحسان إليه، وأولى بالغني أن يأخذ منه غناه، فلا يميلن أحدكم مع الفقير رحمة به، ولا مع الغني طمعاً فيه ] وفيما عنده [ وليوكل ذلك لله تعالى، فهو أولى به ] واسمعوا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]. فليصبح هذا الكلام مفهوماً عندنا كالأكل والشرب.
النهي عن اتباع الهوى
التحذير من لي اللسان بالشهادة أو كتمانها
استحضار مراقبة الله لعباده بمنعهم من الوقوع فيما يغضبه
الأمر بالعدل في القضاء والحكم
عاقبة كتمان الشهادة وعدم العدل في أدائها
[ ومما يؤكد أمر حرمة الظلم والجور في الحكم والشهادة قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب أصحابه: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! ) ] نبئنا بها وعلمنا إياها [ قال: ( الشرك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس ) ] اهتماماً بهذه القضية [ ( فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، حتى قال الحاضرون من أصحابه: ليته سكت، أي: تمنوا سكوته؛ خشية أن ينزل أمر عظيم لا يطاق ) ]. وخافوا أن ينزل بلاء أو نقمة من السماء؛ لأنه كان منفعلاً قد يغضب الله لغضبه فينزل بلاء. وجماعتنا يقولون: هذا الشيخ منذ سنين يتكلم عن الشرك، ونقول: يا بلهاء! يا أغبياء! رسول الله بين أصحابه أولئك البدور يبدأ: الشرك بالله، فالرسول يخاف أن يشركوا، وهم ليسوا مشركين. وإذا سمعك أحد تتكلم عن الشرك أبغضك، وقال: نحن مؤمنون، وهذا الشرك كان في أيام الجاهلية، ويغطون، حتى أصبح ثلاثة أرباع الأمة المحمدية مشركون في عقائدهم.
فانتبهوا لهذه اللطيفة. فالرسول بين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة يقول: ( الشرك بالله). فهو يخاف أن يشركوا، وإلا لما قال: الشرك بالله، ولتكلم عن أشياء أخرى؛ لأن الرسول حكيم، وهو أستاذ الحكمة ومعلمها، فهو عندما يخاطب أصحابه الأطهار بهذا الكلام فهو يخاطب به من يأتي بعدهم إلى يوم القيامة.
خير الشهود وشر الشهود
من صور العدل والشهادة بالقسط
[ فأرادوا أن يرشوه؛ ليرفق بهم ] وكان عبد الله بن رواحة فقيراً مثلي ومثلك، وجاء إلى خيبر بلاد المال نيابة عن رسول الله، فأرادوا أن يضعوا في جيبه نقوداً؛ حتى يرفق بهم، ويقول في النخلة التي فيها قنطاراً: فيها قنطار إلا ربعاً بالتخمين، وإذا كانت المزرعة هذه ممكن تحصد عشرة طن يقول: فيها تسعة طن مثلاً، فلا يظلم الحاكم ولا يظلم المواطنين، كما نفعل نحن الهابطون [ فقال لهم: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي ] الله أكبر! وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ولأنتم ] يا معشر يهود! [ أبغض إلي من إخوانكم من القردة والخنازير ] ولن أجمع بين هذا وهذا، فبينهما بعد كبير أبعد مما بين السماء والأرض [ وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم ] وعجب هذا الرجل! فأولاً قال: جئتكم من أحب الخلق إلي، وحب رسول الله لن يحملني على أن أؤذيكم بالباطل، وهذا والله ما كان، وأنتم أبغض إلي من إخوانكم من القردة والخنازير، ولن يحملني بغضكم على أن أجور عليكم، وأقول: القنطار فيه قنطاراً ونصف، والله ما كان. وعبد الله بن رواحة هذا لم يتخرج من أية جامعة، وإنما تخرج من مجالس رسول الله كهذه. فاحفظوا هذه الكلمة الخالدة لتكون نوراً لنا [ فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض ] فكان اليهود أفقه منا اليوم، وقلها في أي مدينة من مدن العالم الإسلام، فلا يوجد من يقول: بهذا قامت السماوات والأرض، والله ما يقولوها ولا يعرفوها، واليهود عرفوها، وقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض، أي: بالعدل، لأنهم يقرءون ويجتمعون على شيوخهم، ونحن ما نجتمع، وإنما نمر بالحلقة ونضحك. وقد حدثنا أحد الصالحين وقد توفي، قال: منذ عشرين سنة وأنا أمر بالحلقة وأسخر وأهرب منها، قال: لأن الوهابية يفسدون عقيدتي، لا إله إلا الله! وهو لا يسمع إلا قال الله وقال رسوله، ووالله لقد شاهدنا الرجل يجلس عندنا في الحلقة فيجيء آخر من وراءه ويقومه، ويقول له: لا تجلس هنا، فهؤلاء يفسدون عقيدتك، هذا في مسجد النبوة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه مظاهر أمتنا، ولن ننتصر على اليهود ونسود ونحن هكذا، ولن تجتمع كلمتنا، ولن تتحد راياتنا.
قال: [ لنتأمل جميعاً هذا الموقف الذي وقفه عبد الله بن رواحة صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو موقف يجب أن يقفه كل مؤمن، فلا تغرنه الحياة الدنيا، فيحيف أو يجور أو يأخذ رشوة مالية مهما كانت الظروف والأحوال.
اللهم أحينا على ما أحييته عليه، وأمتنا على ما أمته عليه، إنك رب العالمين، وولي المتقين.
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].
استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 72 | 4030 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 49 | 3686 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 68 | 3673 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 47 | 3651 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 41 | 3503 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 91 | 3477 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 51 | 3472 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 50 | 3465 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 60 | 3422 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 75 | 3373 استماع |