آداب الزيارة في الله [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنةً وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

إخوتي الكرام! أما الآداب التي ينبغي أن يتأدب بها المسلمون في زيارتهم لإخوانهم في الله جل وعلا، فسأجملها في أدبين: الأدب الأول: يدخل تحته سبعة أمور، والأدب الثاني: ثلاثة أمور نفصل الكلام على ذلك إن شاء الله.

الأدب الأول: يتعلق بالاستئذان، يقول الله جل وعلا في سورة النور: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النور:27]، خاطبهم وناداهم بوصف الإيمان ليمتثلوا هذا التوجيه الرباني الشريف، فهم مؤمنون، وهم أولى الناس بطاعة الحي القيوم سبحانه وتعالى الذي يشرع لهم ما يسعدهم في العاجل والآجل.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27]، الإضافة في بيوتكم -كما قال أئمتنا- تحتمل أمرين اثنين: إما أن تكون الإضافة هنا تفيد الملك، أي: غير بيوتكم التي تملكونها، قالوا: وعليه فالأمر جرى على حسب العادة الغالبة، لأنه في الغالب أن الإنسان يدخل في البيت الذي يتملكه.

وقيل: الإضافة هنا للسكنى، أي: غير بيوتكم التي تسكنونها ليخرج المؤجر والمعير، فلا يجوز للمؤجر أن يدخل بيته الذي يملكه بعد أن أجره، ولا يجوز للمعير أن يدخل البيت الذي أعاره لأخيه إلا بإذنه، وعليه غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ، أي: غير البيوت التي تسكنونها، وهذه البيوت إن لم تكن ملكاً لكم فالسكنى إذاً هي مبررٌ لدخولها من قبلكم بغير استئذان، فهي بيوتكم وخاصة بكم، ولا يترتب على هذا سابقة، فقلنا: إذا كانت الإضافة تفيد التملك فالغالب أن الإنسان يسكن في البيت الذي يملكه، فجرت الإضافة على حسب العادة الغالبة، وإذا كانت الإضافة هنا تفيد السكنى أي: غير بيوتكم التي تسكنونها فالكلام على ظاهره ولا إشكال فيه، وعلى الأمر الأول قلنا من باب العادة الغالبة، لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم، ويفهم من هذا أن البيت الذي يسكنه الإنسان لا يجب عليه أن يستأذن إذا جاء إلى بيته، وعليه إذا لم يكن في البيت إلا زوجه لا يلزمه ولا يجب عليه الاستئذان، فيدخل على زوجه بغير استئذان، والسبب في هذا كما قال أئمتنا: لا حشمة بين الزوجين، فلا محظور من وقوع نظره على شيء منها من رأسها إلى رجليها، وعليه فلا يجب على الإنسان أن يستأذن إذا جاء إلى بيته.

ثبت في تفسير ابن جرير بسند صحيح عن ابن جريج قال: قلت لـعطاء رضي الله عنه: أيستأذن الرجل على زوجته؟ قال: لا.

قال الإمام ابن كثير في تفسيره: وهذا محمول على نفي الوجوب، أي: لا يجب عليه أن يستأذن، لكن يستحب له إذا أتى إلى بيته وزوجته في داخل البيت أن يستأذن، وأن يعلمها بدخوله، كأن يفتح الباب وينادي بأعلى صوته: بسم الله الرحمن الرحيم، أو أن يتنحنح، أو أن يذكر الله، أو أن يضرب برجله؛ لتعلم زوجته أنه زوجها قد دخل عليها، فإذا كانت في حالة لا تحب أن يراها زوجها عليها توارت عنه في هذه الحالة.

يستحب له ذلك لما ثبت بسند صحيح عن زينب بنت معاوية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، قالت: كان عبد الله بن مسعود إذا أتى بيته تنحنح وذكر الله، يتنحنح ثم يقول: بسم الله.. لا إله إلا الله.. الله أكبر، يذكر الله بصيغة من الصيغ ليعلم أهل البيت أن الزوج جاء، وحتى إذا كان في البيت زائرة من الجيران تأخذ احتياطها. إذاً: لا يجب على الإنسان أن يستأذن إذا دخل إلى بيته لكن يستحب له، وهذا كله كما قلت: إذا كان في بيت زوجته فقط.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: فإذا طرأ ما يستدعي وجوب الاستئذان وجب على صاحب البيت -على الزوج.. على الأب- أن يستأذن، كما لو كان في البيت بنات كبار بالغات، أو بنون كبار، أو في البيت إخوة وما شاكل هذا، فلابد من الاستئذان، إنما بيتك الذي تسكنه وفيه زوجتك فقط لا تستأذن، أما عندك بنت بالغة لا يجوز أن يقع نظرك عليها فيجب أن تستأذن إذا دخلت ليأخذ من في البيت احتياطهم: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27]، وعليه فيجب على الإنسان أن يستأذن على محارمه إذا دخل، كما هو الحال في حال الابن مع الأم، فإذا دخل إلى البيت الذي يسكنه مع أمه يستأذن عليها، وهكذا كما قلنا في حال صاحب البيت إذا كان في البيت من لا يجوز أن يرى عورته، فإذا لم يكن هناك إلا الزوجة فلا يجب عليه الاستئذان، وإلا فالاستئذان واجب.

ثبت في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري بسند صحيح عن نافع ، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين لا يسمح لأحد من بنيه إذا بلغ أن يدخل عليه إلا باستئذان، إذا بلغ الولد فيجب عليه أن يستأذن إذا أراد أن يدخل البيت.

وثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً سأله فقال: أأستأذن على أمي؟ فقال: ما على جميع أحيانها تحب أن تراها، فالأم لا تريد أن تراها على جميع أحيانها، فقد تكون أحياناً طارحة لثيابها، فيجب عليك أن تستأذن عليها؛ لئلا تراها بتلك الحالة التي لا تحب أن تُرى فيه.

وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: إن لم يستأذن على محارمه رأى ما يكره.

وثبت عن موسى بن طلحة بن عبيد الله ، وطلحة هو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم أجمعين، يقول: دخل أبي على أمي فتبعته فضرب في صدري -أي: طلحة ضرب صدر ولده موسى - فقال: أتدخل بغير استئذان؟ أنا أدخل هذه أمك وهي زوجتي، وأما أنت فيجب عليك أن تستأذن على أمك، أتدخل بغير استئذان؟!

وثبت عن عطاء رضي الله عنه قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين فقلت: أأستأذن على أختي وأنا أخدمها وليس لها من يعولها غيري؟ قال: نعم، فأعدت عليه فقلت: لا خادم لها غيري؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا، قال: فاستأذن، فلابد من الاستئذان.

ونقل عن طاوس رضي الله عنه قال: ما من امرأة أكره إلي من أن أرى عورتها من امرأة ذات محرم.

هذه الآثار أوردها الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح وقال: كلها ثابتة بأسانيد صحيحة عن هؤلاء الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.

قال شيخنا الشنقيطي عليه رحمة الله في أضواء البيان: الأظهر الذي لا ينبغي العدول عنه أنه يجب الاستئذان على المحارم، إذا أردت أن تدخل على المحارم فيجب عليك أن تستأذن.

إذاً: الاستئذان إذا أردت أن تدخل بيت غيرك وبيتاً غير بيتك فيه محارم، أو أناس أجانب عنك من ناحية النسب، يجب عليك أن تستأذن.

الأدب الأول: الاستئناس

كيف يحصل الإذن، هذه المسألة الأولى، يقول الله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، قوله: تَسْتَأْنِسُوا تحتمل ثلاثة أمور أوردها أئمتنا في كتب التفسير: إما أن تكون من الأُنس الذي هو ضد الاستيحاش، حتى تستأنسوا، أُنساً ضد الاستيحاش.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح نقلاً عن الإمام الطحاوي : والاستئناس هو الاستئذان في لغة اليمن، أي: عند اليمنيين الاستئناس بمعنى الاستئذان، وعليه حتى تستأنسوا، أي: حتى تستأذنوا، قال شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان معللاً هذا القول: وهذا القول مبناه على أن قارع الباب مستوحش، عندما يقرع الباب يستوحش هل يؤذن له أم لا؟ فإن أُذن له حصل له الاستئناس وزال عنه الاستيحاش، وعليه فالاستئناس ملازم للاستئذان، فعبر بالملزوم وأراد اللازم، أي: عبر بالاستئناس، لكنه أراد الاستئذان؛ لأن الاستئناس لازم للاستئذان، فإذا استأذن وأذن له فقد حصل له الأُنس.

قال شيخنا عليه رحمة الله: ويدل على هذا قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب:53]، وقول الله جل وعلا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النور:28]، هذا مما يبين على أن المراد بالاستئناس: الاستئذان.

قال الإمام ابن جرير عليه رحمة الله: والمراد من الاستئناس هنا، أي: حتى يحصل الأُنس للمستأذن ولصاحب البيت.

وعليه فقوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، أي: حتى تؤنسوا أهل البيت باستئذانكم وحتى يحصل لكم الأُنس بحصول الإذن لكم، فلا تدخلون على غرةٍ وغفلةٍ وتفاجئوا أهل البيت، ولا تفاجئوا أيضاً بدخولكم من غير استئذان، فيحصل لهم ولكم الأُنس بالاستئذان لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، من الأُنس.

والقول الثاني: من الإِنس الذي هو من الناس الذين هم ضد الجن: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، أي: حتى تعلموا من فيها من الإِنس من بني آدم، فإذا لم يكن فيها أحد فلا يجوز دخولها كما قال الله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النور:28]، وهذا القول ضعفه بعض أئمة التفسير، وسبب التضعيف: أن معرفة وجود الإِنس في البيت غير كافية في دخول هذا البيت فلا تحتاج إلى استئذان، فلابد من معرفة من فيها، ثم موافقتهم على الدخول على بيوتهم.

والقول الثالث: مال إليه شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان فقال: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ، هو استفعال من آنس إذا أبصر الشيء ورآه ظاهراً مكشوفا، وإذا استعلن الشيء على وجه التمام والحقيقة، وعليه حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ، المراد من الاستئناس: الاستعلام، ومنه قول الله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6]، أي: ظهر لكم هذا، ومنه قول الله حكاية عن نبيه موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:10]، أبصرت وظهرت لي على وجه التمام، وعليه حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي: حتى تستعلموا وحتى تستكشفوا الحال هل يؤذن لكم أم لا؟ فإن أذن لكم دخلتم وإلا رجعتم.

وأنا أقول: المعاني الثلاثة يحتملها هذا اللفظ الكريم، لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، حتى يستأنس الإِنس الذين يستأذنون على الإِنس الذين هم في البيوت، فيحصل الأُنس للطرفين عندما يأذن من في البيت من الإِنس لمن يطرق البيت من الإِنس، وعليه فحصل الأُنس للمستأذنين ولأهل البيت، وحصل الاستعلام وزال الخفاء والجهالة على وجه التمام.

الأدب الثاني: السلام

قال تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، الأمر الثاني بعد الاستئذان لابد له من السلام، ونبين كيف يقع السلام والاستئذان عند هذه المسألة إن شاء الله.

قال تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، فلابد لدخول البيت من أمرين: استئناس.. استئذان وسلام.

قال الإمام النووي عليه رحمة الله في شرحه لصحيح مسلم : دلت السنة الثابتة الصحيحة، ومال إليه المحققون وقالوا به. أي: أن السلام يقدم على الاستئذان.

قال شيخنا في أضواء البيان: وما دلت عليه السنة وثبت به حديثان صحيحان كما قال الإمام النووي ينبغي الأخذ به ويحرم العدول عنه، وعليه فينبغي أن تقدم السلام فتقول: السلام عليكم، أأدخل؟ وهذا عندما لم يكن لبيوت الصحابة في الصدر الأول أبواب، إنما أحياناً يوضع عليها الستور.. ستارات من خرق وقماش، وأحياناً لا يوضع عليها شيء، فيقف المستأذن من الجانب الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم، أأدخل؟ أألج؟ أتأذنون بالدخول؟ فيقدم السلام.

وفي وقتنا الحاضر يطرق الباب: السلام عليكم، أأدخل؟ هذا هو الاستئذان الشرعي، يطرق الباب فيسلم ثم يستأذن في الدخول: السلام عليكم، أأدخل؟ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27].

إذاً: لابد من أمرين من استئناس وسلام، ولا يقال: إن الله قدم الاستئناس الذي هو الاستئذان، فكيف نحن نقول بتقديم السلام؟ نقول: لا إشكال لأن الواو في لغة العرب تفيد مطلق التشريك في الحكم بين المعطوف والمعطوف عليه، فالله يطلب منا إذا أردنا أن ندخل بيوت غيرنا أمرين اثنين: استئذان وسلام، فأيهما سيقع قبل الثاني؟ ما حددته آيات القرآن، إنما ينبغي أن يقع هذا وهذا، تقول: جاء زيد وعمرو، وقد يكون عمرو سبق بالمجيء وجاء قبل زيد، والواو لا تفيد ترتيباً وإنما مطلق التشريك في الحكم بين المعطوف والمعطوف عليه، لا يجوز أن تدخل بيت غيرك إلا باستئذان وسلام، أيهما قبل الآخر؟ بينته سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، ولهذا نظائر في القرآن، يقول الله جل وعلا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، فقال: ومنك ومن نوح، مع أن الميثاق الذي أخذ على نبي الله نوح وعلى من بعده أخذ قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، مع أن النبي قدم في الذكر، فالواو لا تفيد الترتيب، وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأحزاب:7]، الواو لا تفيد ترتيباً، إنما تفيد مطلق التشريك في الحكم، هذا إذا تجردت عن القرائن الخارجية، ولذلك عندما قال الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، هل نبدأ بالصفا أو بالمروة؟ لا تفيد الآية وجوب البدء بواحد منهما، لكن النبي عليه الصلاة والسلام حدد فقال: ( نبدأ بما بدأ الله به )، كما ثبت بالصحيح، وعليه فيجب البدء بالصفا في السعي قبل المروة، ولا يجوز أن نبدأ بالمروة قبل الصفا، وهنا الواو لا تفيد ترتيباً، لكن وجدت قرينة خارجية تحدد أن الترتيب هنا مطلوب، والله جل وعلا يقول في كتابه: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، الركوع قبل السجود، وقد قدم السجود عليه: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، الواو لا تفيد الترتيب بل مطلق التشريك في الحكم بين المعطوف والمعطوف عليه، أي: ينبغي أن يحصل منك قنوت وصلاة وخشوع لله فيها ركوع وسجود، وكون السجود قبل الركوع أو الركوع قبل السجود، هذا يبحث بعد ذلك في موضع آخر وتقام الأدلة عليه، وهنا كذلك، لابد من أمرين لدخول بيت الغير: لابد من استئذان وسلام، فأيهما نقدم؟ نقدم السلام، فنطرق الباب ثم نقول: السلام عليكم، أأدخل؟ أألج؟ أتأذنون لي بالدخول؟ وهذا كما قال الإمام النووي عليه رحمة الله: ثبت به حديثان صحيحان.

ووقفت على أربعة أحاديث ثبتت في الكتب الستة تبين وجوب تقديم السلام على الاستئذان، وأن السلام ينبغي أن يقع قبل الاستئذان.

منها: ما ثبت في سنن أبي داود ، وتفسير الطبري ، وكتاب الأدب المفرد للإمام البخاري ، والحديث صحيح، عن ربعي بن حراش قال: ( جاء رجل من بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن فوقف بجانب الباب وقال: أأدخل؟ ولم يسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لخادم عنده ) وفي رواية الطبراني : ( قال النبي عليه الصلاة والسلام لأمة عنده تدعى روضة : يا روضة ! اذهبي فعلميه الاستئذان، فليقل: السلام عليكم، أأدخل؟ فسمع هذا الرجل كلام النبي عليه الصلاة والسلام فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في دخول البيت )، فالسلام قبل الاستئذان.

وثبت في سنن أبي داود وكتاب الأدب المفرد للبخاري ، والحديث في مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومعجم الطبراني الكبير، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: سنده جيد، وأشار الحافظ في الفتح إلى أنه حديث صحيح ثابت، ولذلك قال شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان: إنه حديث ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، روي عن قيس بن سعد بن عبادة وعن أنس بن مالك وعن أم طارق مولاة سعد بن عبادة رضي الله عنهم أجمعين، وفيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى سعد بن عبادة ليزوره، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، أأدخل؟ فقال سعد بن عبادة : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، دون أن يُسمع النبي عليه الصلاة والسلام، فقال قيس لوالده سعد : يا والدي! هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام ألا تأذن له؟ قال: دعنا يزيدنا من السلام -فيسلم علينا سلاماً ثانياً وثالثاً ورابعاً إلى ما لا نهاية له، والطمع في الحسنات مطلوب، لكن لو وقف عند حد معقول يعني لكان أيضاً مطلوباً، وكان أولى، وهذا اجتهاده رضي الله عنه وأرضاه- فقال عليه الصلاة والسلام مرةً ثانية: السلام عليكم ورحمة الله، أأدخل؟ فقال سعد بن عبادة سراً يسمع أهله: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فكرر النبي صلى الله عليه وسلم الاستئذان المرة الثالثة: السلام عليكم ورحمة الله أأدخل؟ فلم يجبه أحد فانصرف، فخرج سعد بن عبادة يهرول فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله سمعت استئذانك وسلامك من أول مرّة، فوقع في أذني ورددت، لكن أحببت أن تزيدنا من السلام، فقال عليه الصلاة والسلام: الاستئذان ثلاث؛ فإن أذن لأحدكم وإلا فلينصرف، ثم عاد النبي عليه الصلاة والسلام مع سعد فدخل البيت فقدم له غسلاً فاغتسل، ثم وضع له طعاماً فأكل عليه صلوات الله وسلامه، فرفع يديه إلى ربه وقال: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة، رضي الله عنهم أجمعين.

ثم لما أراد الانصراف عليه صلوات الله وسلامه تبعه سعد وقدم له حماراً ليركب عليه عليه صلوات الله وسلامه، وقال لولده قيس : اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: فصحبت النبي عليه الصلاة والسلام ليعود إلى بيته، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اركب يا قيس . قلت: لا أركب، قال : إما أن تركب وإما أن ترجع، فقلت: بل أرجع يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فرجع قيس وذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته ).

إذاً: السلام قبل الاستئذان: السلام عليكم ورحمة الله، أأدخل؟.

والحديث الثالث ثبت في الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي وموطأ مالك عن ثلاثة من الصحابة: أبي موسى الأشعري وأبي بن كعب وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين، والحديث فيه قصة ظريفة يرويها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، يقول: جئت فاستأذنت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيام خلافته، فقلت: السلام عليكم، أأدخل؟ فقال عمر لمن في البيت: هذا عبد الله بن قيس يستأذن -كان عمر مشغولاً فما رد عليه ولا أهله، لكن عرفه بصوته- ثم كرر أبو موسى مرةً ثانية: السلام عليكم، أأدخل؟ وكرر مرةً ثالثة: السلام عليكم، أأدخل؟ وكلها كما ترون تقديم السلام فيها على الاستئذان، فانصرف أبو موسى ، فلما انقطع صوته تبعه عمر بن الخطاب وقال: علام انصرفت؟ فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( الاستئذان ثلاثاً؛ فإن أذن لأحدكم وإلا فلينصرف )، فقال: لتقيمنّ بينةً على هذا أو لأجعلنك نكالة.

والحديث الرابع رواه الإمام الترمذي وأبو داود والنسائي والبخاري في الأدب المفرد عن كلدة بن حنبل ، وهو أخو صفوان بن أمية لأمه رضي الله عنهم أجمعين، يقول: ( أرسلني صفوان بن أمية عام الفتح بلبن وجداية وضغابيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه وهو بأعلى مكة من غير استئذان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل؟ فرجع فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي عليه الصلاة والسلام فدخل )، وصفوان بن أمية أسلم في ذلك الوقت وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه، وأرسل للنبي صلى الله عليه وسلم هذه الهدية، أي: اللبن هو معروف، وجداية والجداية هي صغار الغزلان، سواء كانت أنثى أم ذكراً، الصغار من أولاد الضبى يقال لها: جداية، بالتاء المربوطة، أرسل له لبن وجداية وضغابيس، وهي القثاء الصغيرة من فصيلة الخيار، أرسل صفوان مع أخيه كلدة بن حنبل هدية للنبي عليه الصلاة والسلام لبن وولد صغير من أولاد الغزلان والضبى، وشيئاً من القثاء، هدية إلى النبي عليه الصلاة والسلام، هذا في رواية أبي داود .

وفي رواية الترمذي : ( بلبن ولبأ وضغابيس )، واللبأ معروف وهو اللبن الذي يخرج من الشاة عندما تلد، أرسل صفوان بن أمية بهدية إلى النبي عليه الصلاة والسلام بلبن ولبأ وضعابيس، وهي كما قلنا: القثاء الصغيرة.

والشاهد في هذه الأحاديث الأربعة كما تقدم: تقديم السلام على الاستئذان، فإذا طرقت الباب فقل: السلام عليكم ورحمة الله، أأدخل؟ تكرر هذا الثانية، تكرر هذا ثالثة، وسيأتينا الحكم بعد ذلك ماذا سيكون؟

هذا الأدب الثاني: لابد من استئناس، ولابد من سلام، استئذان وسلام، فالسلام وضح لنا كيفيته، والاستئذان وضح لنا صورته.

الأدب الثالث: الوقوف على أحد جانبي الباب

الأمر الثالث: أين يقف المستأذن عندما يريد أن يستأذن؟

لا يحل له أن يقف أمام الباب وتلقاء الباب ومواجهاً للباب، خشية أن يكون في الباب شقوق فيرى بعينيه ما يكرهه أهل البيت، وإنما شرع الاستئذان من أجل النظر، وخشية أن يفتح الباب، فتكون أمامه امرأة فيراها، وجعل الاستئذان من أجل النظر، فلذلك ينبغي عليه أن يقف في الجانب الأيمن أو الجانب الأيسر، ويطرق ثم يستأذن: السلام عليكم، أأدخل.

ثبت في سنن أبي داود بسند صحيح عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى قوماً يريد أن يزورهم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، إنما كان يقف على جانبه الأيمن أو جانبه الأيسر ثم يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ويستأذن؛ فإن أذن له دخل وإلا انصرف عليه صلوات الله وسلامه. قال: وهذا قبل أن يكون للبيوت ستور )، لم يكن عليها ستور، أي: أبواب. الباب لا يوجد عليه ما يستره، فيقف على الجانب الأيمن أو الجانب الأيسر، ونحن الآن نقول: يوجد باب أيضاً فلا يقف تلقاء الوجه خشية أن يفتح الباب، فيرى بعينيه ما يكرهه أهل البيت.

وثبت في سنن أبي داود أيضاً بسند حسن عن هزيل بن شرحبيل ، قال: ( جاء رجل يستأذن على النبي عليه الصلاة والسلام فوقف على باب النبي عليه الصلاة والسلام من تلقاء الباب -وجهه للباب- فرآه النبي عليه الصلاة والسلام من بعض شقوق الباب، فقال: هكذا عنك -أي: ابتعد إما لجهة اليمين أو الشمال- فإنما جعل الاستئذان من أجل النظر ).

وإذا ترخص الإنسان في النظر من شقوق البيت وتجاوز حدود الله في ذلك فلصاحب البيت حق أن يضربه بحصاة أو برمح، فإذا فقأ عينه أو عينيه أو قتله فلا إثم ولا دية ولا قصاص، هذه حرمة البيوت، وهذا ثابت في الصحيحين عن ثلاثة من الصحابة الكرام: عن أنس بن مالك وعن سهل بن سعد وعن أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث بوب عليه البخاري في كتاب الديات باباً بهذا الخصوص فقال: من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية ولا قصاص.

ولفظ الحديث -حديث أبي هريرة- في الصحيحين كما قلت عن نبينا عليه الصلاة والسلام: ( من اطلع في بيت قوم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه )، وفي رواية: ( لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذنك فحذفته بحصاة ما كان عليك إثم ولا جناح )، ليس عليك حرج في ذلك على الإطلاق.

وفي حديث سهل : ( كان النبي عليه الصلاة والسلام بيده مدراة -قطعة من حديد- يفلي بها رأسه -كالمشط الذي يكون الآن من حديد أو أمشاط خشبية أعوادها كبيرة يفلي رأسه وشعره الطويل عليه صلوات الله وسلامه- فجاء رجل يستأذن على النبي عليه الصلاة والسلام فنظر من شقوق البيت، فقال: لو أعلم أنك نظرت لضربتك في عينيك ).

وفي رواية أنس : ( كان بيد النبي عليه الصلاة والسلام مشقص، وهو سهم له نصل عريض، وجاء رجل يستأذن فبدأ ينظر من شقوق البيت، يقول أنس : فرأيت النبي عليه الصلاة والسلام يختن الرجل ) أي: يسدد الرمية إليه ليضربه ليقلع عينه، ولذلك إذا اطلع إنسان على بيتك بغير إذنك فحذفته بشيء؛ لأنه تعدى حدود الله فلا دية ولا إثم ولا قصاص.

وهذا الأمر قال شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان: لا ينبغي أن يختلف فيه، وهو الذي ثبتت فيه السنة، وما حكيت أقوال من خالفه. أي: خالف هذا القول لسقوطها عنده، والذين خالفوا في هذه المسألة المالكية فيقولون: هذا الحديث ورد من باب الزجر والتغليظ، لا يجوز أن ندفع المرء بما فيه معصية.

نقول: ليست هذه معصية، إنما من باب إقامة الحد على من تجاوز حدود الله، أما أننا ندفع المعصية بمعصية، ليست هذه معصية، إنما هذا من باب معاقبة من تجاوز حدود الله، كما أن الإنسان إذا زنى وكان بكراً نجلده مائة جلدة ثم نغربه عاماً، فليست هنا دفع المعصية بمعصية، إنما هذه إقامة عقوبة شرعها لنا الشارع، وعليه إذا أراد الإنسان أن يستأذن لا يقف تلقاء الباب، وإذا رأى شقوقاً فلا يجوز أن ينظر بل يقف عن الجانب الأيمن أو الأيسر ثم يسلم وي

كيف يحصل الإذن، هذه المسألة الأولى، يقول الله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، قوله: تَسْتَأْنِسُوا تحتمل ثلاثة أمور أوردها أئمتنا في كتب التفسير: إما أن تكون من الأُنس الذي هو ضد الاستيحاش، حتى تستأنسوا، أُنساً ضد الاستيحاش.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح نقلاً عن الإمام الطحاوي : والاستئناس هو الاستئذان في لغة اليمن، أي: عند اليمنيين الاستئناس بمعنى الاستئذان، وعليه حتى تستأنسوا، أي: حتى تستأذنوا، قال شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان معللاً هذا القول: وهذا القول مبناه على أن قارع الباب مستوحش، عندما يقرع الباب يستوحش هل يؤذن له أم لا؟ فإن أُذن له حصل له الاستئناس وزال عنه الاستيحاش، وعليه فالاستئناس ملازم للاستئذان، فعبر بالملزوم وأراد اللازم، أي: عبر بالاستئناس، لكنه أراد الاستئذان؛ لأن الاستئناس لازم للاستئذان، فإذا استأذن وأذن له فقد حصل له الأُنس.

قال شيخنا عليه رحمة الله: ويدل على هذا قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب:53]، وقول الله جل وعلا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النور:28]، هذا مما يبين على أن المراد بالاستئناس: الاستئذان.

قال الإمام ابن جرير عليه رحمة الله: والمراد من الاستئناس هنا، أي: حتى يحصل الأُنس للمستأذن ولصاحب البيت.

وعليه فقوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، أي: حتى تؤنسوا أهل البيت باستئذانكم وحتى يحصل لكم الأُنس بحصول الإذن لكم، فلا تدخلون على غرةٍ وغفلةٍ وتفاجئوا أهل البيت، ولا تفاجئوا أيضاً بدخولكم من غير استئذان، فيحصل لهم ولكم الأُنس بالاستئذان لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، من الأُنس.

والقول الثاني: من الإِنس الذي هو من الناس الذين هم ضد الجن: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، أي: حتى تعلموا من فيها من الإِنس من بني آدم، فإذا لم يكن فيها أحد فلا يجوز دخولها كما قال الله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النور:28]، وهذا القول ضعفه بعض أئمة التفسير، وسبب التضعيف: أن معرفة وجود الإِنس في البيت غير كافية في دخول هذا البيت فلا تحتاج إلى استئذان، فلابد من معرفة من فيها، ثم موافقتهم على الدخول على بيوتهم.

والقول الثالث: مال إليه شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان فقال: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ، هو استفعال من آنس إذا أبصر الشيء ورآه ظاهراً مكشوفا، وإذا استعلن الشيء على وجه التمام والحقيقة، وعليه حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ، المراد من الاستئناس: الاستعلام، ومنه قول الله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6]، أي: ظهر لكم هذا، ومنه قول الله حكاية عن نبيه موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:10]، أبصرت وظهرت لي على وجه التمام، وعليه حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي: حتى تستعلموا وحتى تستكشفوا الحال هل يؤذن لكم أم لا؟ فإن أذن لكم دخلتم وإلا رجعتم.

وأنا أقول: المعاني الثلاثة يحتملها هذا اللفظ الكريم، لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، حتى يستأنس الإِنس الذين يستأذنون على الإِنس الذين هم في البيوت، فيحصل الأُنس للطرفين عندما يأذن من في البيت من الإِنس لمن يطرق البيت من الإِنس، وعليه فحصل الأُنس للمستأذنين ولأهل البيت، وحصل الاستعلام وزال الخفاء والجهالة على وجه التمام.