دروس من سورة الغاشية


الحلقة مفرغة

الحمد لله على نعمة الإسلام التي أنعم الله بها علينا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] الحمد لله الذي أنشأنا في بلد إيمانٍ، وبلد هو منبع الرسالة ونزول القرآن.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه.

وبعد:

ألتقي بأحبتي في هذه المدينة المباركة، وإني في مقدمة كلمتي أشكر فرع الوزارة على أن هيأ لي هذا اللقاء، الذي أسأل الله أن ينفعني وإياكم به، كما أشكر المكتب التعاوني بمدينة الرس على ما بذلوه من جهدٍ وعلى حرصهم ومتابعتهم، وليس هذا بغريب عليهم.

أقول لأحبتي: إن الأمة بحاجة إلى الوقوف مع كتاب ربها تلك الوقفات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقفها مع صحابته رضوان الله عليهم، تلك الوقفات التي تترجم سلوكاً عملياً لهذا القرآن في سلوكه صلوات الله وسلامه عليه، لما سئلت عائشة رضي الله عنها وأرضاها عن خلقه، ما زادت على أن قالت: [كان خلقه القرآن] فهذا هو الخلق الذي تُرجم إلى سلوك عملي وقيل للأمة: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

إن الأمة لفي حاجة إلى إقامة دروس حول القرآن، وحول هذا الكتاب العزيز، وأقول للأحبة: ربما يقام درس في الحديث أو الفقه فترى عدداً هائلاً، ولكنك حين تقيم درساً لتفسير القرآن ترى قلةً ممن يحضره، وربما لا يحضره إلا طلاب العلم الذين يحرصون على الاستفادة من كتاب ربهم.

كانت مجالس الصحابة هي القرآن، وهاهو أسيد رضي الله عنه وأرضاه يجلس لـعمر ، ويقول له عمر : [شوقنا لربنا، ذكرنا ربنا] وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لـابن عباس فيقول: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) ومعنى علمه التأويل: أن يعلم معاني هذا القرآن العظيم.

سبحان الله! إني أتأمل في حياة شيخنا العلامة مفتي هذه الديار سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ما من درسٍ يقيمه إلا والتفسير معه، بل إنه جعل له درساً خاصاً يوم الجمعة بعد الصلاة يقرأ في تفسير الإمام البغوي وحده غير الدرس الذي في الفجر، وفي المساء في تفسير ابن كثير ، وما نسي التفسير لعلمه أن القرآن هو أصل هذه الأمة وعزها، وتمكينها.

وأقول للأحبة: نحن في حاجة لأن نرتبط بهذا القرآن ارتباطاً قوياً، وما شرفت أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الكتاب العظيم، إذ أنزل عليها أفضل الكتب وأحسنها.

وقد أنزله الله لأي شيء: أهو لأجل أن يتبرك به؟!

أو يُقرأ على الموتى وفي المصائب إذا حلَّت بالناس من مسٍ أو جنون؟!

أم أنزل ليعلق ويصبح تحفة جميلة في مجلس أو صالة أو غيرها؟!

أم أنه أُنزل ليبتدأ به في الحفلات؟!

أو ليصبح حروزاً تعلق على صدور المرضى؟!

لا وربي! إنه أنزل ليعمل به المسلمون، وليترجم إلى سلوك عملي، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنه ونقل عن ابن مسعود وغيره من أصحاب رسول الله: [إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فارعها سمعك؛ فإما خير تؤمر به، أو شر تحذر منه] كم نسمع: (يا أيها الذين آمنوا) وما ندري، وكأن الخطاب يرجع للصحابة وحدهم، ونعوذ بالله أن نكون من قومٍ ذكرهم الله -وهم الكفار- ويتشبه بهم بعض الناس قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45].

إن هذا القرآن وصفه الله بصفات عجيبة بديعة:

- أنه هدى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].

- أنه شفاء: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ [الإسراء:82].

- أنه نور وروح وحياة: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ [الشورى:52].

فمن هدي لهذا القرآن وهدي للعمل به فوالله إنه هو المستقيم على دين الله تعالى.

ونحن والله في حاجة إلى أن نرتبط بكتاب ربنا.

لعل بعض الأحبة يقول: لم اخترت هذه السورة دون غيرها؟

فأقول: قد فكرت في نفسي وقلت: لم أقيم درساً طويلاً في القرآن، ولكن لو جعلتها دروساً متعلقة بالسور التي نقرؤها نحن، ونسمعها دائماً، وترتبط بنا بمناسبات وبأوقات محددة، فالناس في حاجة إلى أن يكشف لهم شيء من معانيها، وأن يستفيدوا شيئاً من دروسها، وأن يتأثروا بما فيها من معانٍ ودلالات، وإن كنا بحاجة إلى معرفة تفسير القرآن كله وليس سوراً محددة؟

وسبحان الله! إني أتأمل قول الشافعي رحمه الله تعالى حين قال كلمته المشهورة في سورة والعصر: أنها لو أنزلت على الناس كحجة وحدها لكفتهم. لما تشتمل عليه من المعاني العظيمة؛ من الأمر بالإيمان، والعمل والصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهذا هو الدين، وهي سورة جامعة عظيمة.

كيف والناس في حاجة إلى علمٍ بسورة الفاتحة -أعظم سورة في كتاب الله- وفي حاجة إلى أن يعلموا شيئاً من السور التي نقرؤها في مناسبات عدة؟ مثلاً سورة الغاشية فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه وأرضاه أنه سئل: (بم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة؟ قال: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]) نسمعها يوم الجمعة، ويوم العيد، ونقرؤها في الوتر، وتجد أن الإنسان يحتاج إليها ويقرؤها لما تشتمل عليه من المعاني العظيمة.

المواضيع التي تحدثت عنها سورة الغاشية

هذه السورة سميت بهذا الاسم في المصاحف وكتب التفسير، وكذا كان عنوانها في سنن الترمذي رحمه الله.

وهي سورة مكية بالاتفاق، نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف، وآياتها ست وعشرون آية، وهذه السورة ترتكز على أربعة مواضيع ضخمة:

الموضوع الأول: عن تهويل يوم القيامة، وما فيه من عقاب قوم أعرضوا عن ربهم، مبينة حالهم، ومشوهة حالتهم، ومبينة واقعهم في النار، نعوذ بالله من النار.

الموضوع الثاني: عن طائفة وهم أهل الإيمان. أسأل الله أن نكون وإياكم منهم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية:8] بين الله حالهم وما لهم من النعيم وما أعد لهم في جنات عدن؛ بسبب صلاحهم وإيمانهم وتقواهم.

الموضوع الثالث: اشتملت السورة على الركن الثاني: وهو النظر في آيات الله الكونية، والاستدلال بمخلوقات الله تعالى التي نصبها الله أمام أعين الناس يشاهدونها ليل نهار، بل إنها تلتصق بحياتهم فلا يستغنون عنها طرفة عين، سواء في الإبل -وهذه حالة العرب معهم، وسيأتي الكلام عليهم- أو في السموات أو الجبال أو الأرض إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] من كان ذا لبٍ ممتلئٍ بالإيمان والصلاح والتقوى فإنه يستجيب لتلك الآيات: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101] ومن كان في غفلة وإعراض عن ربه فلا يدري مهما جاءته من آية، ومهما مرت عليه، فما تغني عنه تلك الآيات، ونعوذ بالله أن نكون من القوم الغافلين.

الموضوع الرابع: ختمت بالركن الثالث: وهو تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، وألا يعبأ بإعراض الكافرين: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21].

وختام هذه السورة يحتاج إلى محاضرة كاملة؛ لأنها منهج للذين يدعون إلى الله ويريدون أن يتأسوا بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك تربية ربانية للأنبياء والرسل، وتربية لنا نحن ممن يريد أن يتأسى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتربية للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء: (فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

ومبينة في ختام هذا الركن: أن الذين يعرضون عن دين الله أن وراءهم البعث، وأنهم راجعون إلى ربهم سبحانه وتعالى وسيجازيهم على كفرهم وعنادهم.

هذه السورة سميت بهذا الاسم في المصاحف وكتب التفسير، وكذا كان عنوانها في سنن الترمذي رحمه الله.

وهي سورة مكية بالاتفاق، نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف، وآياتها ست وعشرون آية، وهذه السورة ترتكز على أربعة مواضيع ضخمة:

الموضوع الأول: عن تهويل يوم القيامة، وما فيه من عقاب قوم أعرضوا عن ربهم، مبينة حالهم، ومشوهة حالتهم، ومبينة واقعهم في النار، نعوذ بالله من النار.

الموضوع الثاني: عن طائفة وهم أهل الإيمان. أسأل الله أن نكون وإياكم منهم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية:8] بين الله حالهم وما لهم من النعيم وما أعد لهم في جنات عدن؛ بسبب صلاحهم وإيمانهم وتقواهم.

الموضوع الثالث: اشتملت السورة على الركن الثاني: وهو النظر في آيات الله الكونية، والاستدلال بمخلوقات الله تعالى التي نصبها الله أمام أعين الناس يشاهدونها ليل نهار، بل إنها تلتصق بحياتهم فلا يستغنون عنها طرفة عين، سواء في الإبل -وهذه حالة العرب معهم، وسيأتي الكلام عليهم- أو في السموات أو الجبال أو الأرض إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] من كان ذا لبٍ ممتلئٍ بالإيمان والصلاح والتقوى فإنه يستجيب لتلك الآيات: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101] ومن كان في غفلة وإعراض عن ربه فلا يدري مهما جاءته من آية، ومهما مرت عليه، فما تغني عنه تلك الآيات، ونعوذ بالله أن نكون من القوم الغافلين.

الموضوع الرابع: ختمت بالركن الثالث: وهو تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، وألا يعبأ بإعراض الكافرين: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21].

وختام هذه السورة يحتاج إلى محاضرة كاملة؛ لأنها منهج للذين يدعون إلى الله ويريدون أن يتأسوا بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك تربية ربانية للأنبياء والرسل، وتربية لنا نحن ممن يريد أن يتأسى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتربية للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء: (فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

ومبينة في ختام هذا الركن: أن الذين يعرضون عن دين الله أن وراءهم البعث، وأنهم راجعون إلى ربهم سبحانه وتعالى وسيجازيهم على كفرهم وعنادهم.

قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] استفتحت هذه السورة بالاستفهام: هل بلغك حديث الغاشية؟ وهل هذا معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغه؟

لا. وهو خطاب لنا، وجيء بهذا الاستفهام للتشويق إلى معرفة الخبر بما يترتب عليه من الموعظة، ويدل على أهمية الخبر الذي بعده، وهذا في القرآن كثير كما في قوله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ [ص:21] .. وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [طه:9] وهنا: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] وذكر الحديث ولم يفصل فيه أي حديث عن الغاشية هو؛ وذلك لزيادة التشويق في القلب: أي حديث هو؟! وذلك لأن الآتي من الأخبار عنهم، فيصبح الذهن متوجهاً ليعرف هذا الخبر وهذا الحديث، وليتمكن في القلب.

والحديث هو: الخبر المتحدث عنه.

ثم تأتي قضية الغاشية، وسبحان الله! إنك إن تتأمل أسماء يوم القيامة تجد أنها أسماء ضخمة: حاقة، قارعة، صاخة، غاشية، آزفة، كلها تهز القلب والوجدان.. كلها معانٍ ضخمة يقف المسلم معها متأملاً: أي حديث هو؟!

وسميت غاشية؛ لأنها من الغشيان، فهي تغطي على القلوب فلا تستشعر شيئاً، ويصبح الإنسان في فزع، وقد حكاه الله في قوله: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى [الحج:2].

وذكر الله عنها: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

وسميت غاشية؛ لأنها إذا قامت لم يجد الناس مفراً من أهوالها، فكأنها غشت على عقولهم، ويبقون حيارى فيها.

وتلك المعاني في هذه الأسماء ليوم القيامة تقف في النفس موقفاً عجيباً: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-3] .. الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2] إنها تقرع القلوب وتغشاها وتفزعها، هذا إذا كان في القلب شيء من الإيمان يحركه.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع القرآن تأثر به أشد التأثر، أليس لما سمع من ابن مسعود رضي الله عنه سورة النساء ووصل إلى قوله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء:41] قال النبي: (حسبك)؟ لأن ما بعدها مفزع: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42] ويصبح محمد أشفق الناس وبكى وذرفت عيناه بالدمع صلوات الله وسلامه عليه؛ من هول ذلك اليوم ومطلعه، إذ يقف محمد شهيداً على الأمة، والله سبحانه وتعالى مطلع لا تخفى عليه خافية.

قال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] وما هو حديث الغاشية؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ [الغاشية:2] وجيء بلفظ الوجوه؛ لأن الوجه تظهر فيه معالم ما في القلب، فإنك عندما ترى أخاك أو عزيزك أو قريبك وتنظر إلى ملامح وجهه تعرف أهو مسرور أم مصاب، وتعرف أنه في حزن أو في فرح، وتصبح تلك الوجوه تعبر عما في القلوب وأثر الجوارح عليها، وليس المقصود هنا الوجه وحده وإنما الجسد كله، ويعبر عن الوجه هنا بالذات، وقال بعض العلماء: يستدل عليه بقول الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] مقصود به الله سبحانه وتعالى، قالوا: واستدل لذلك في قوله تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6] كناية عن الناس وليس كناية عن الوجوه؛ لأن الطعام للجسد وليس للوجه.

وسبحان الله! نجد هذا في القرآن كثيراً: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38-39].

وفي القرآن كذلك: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:40-41] والسبب؟ لأن المعاصي أظلمت عليه، أو الكفر والشرك والبدع أثرت عليهم فتصبح وجوههم مغبرة، ونعوذ بالله من تلك الوجوه.

ووصفها أنها خاشعة، ويقصد به الذل، خشعت من الذل والفضيحة والخزي، ونعوذ بالله أن يفضحنا ربنا بسوء أعمالنا، بل نسأله سبحانه وتعالى أن يسدل علينا كنفه وألا يبدي لنا سوءة نكرهها يوم القيامة.

ويأتي الخشوع بمعنى الذلة: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ [الشورى:45] وكذلك في قوله تعالى: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم:43] وفي قوله تعالى: وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً [طه:108] يصبح الناس في هذا اليوم في خشوع وسكون فما يستطيع أحد أن يحرك ساكناً، وهذه حال أهل الكفر والعناد والإعراض عن صراط الله المستقيم.

معنى قوله تعالى: (عاملة ناصبة)

هذه الوجوه الخاشعة: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3] أي: أنها تكلفت الكثير من العمل والمشاق يومئذ، أي: في يوم القيامة، وأصبحت ناصبة، أي: متعبة، فهذه الوجوه -نعوذ بالله منها- ليست في نعيم، بل في تعب وشقاء، ويجرى عليها العذاب بأنواعه.

وكل هذه الصفات تعريضاً بشقائهم، وتذكيراً لهم بأنهم تركوا الخشوع لله تعالى والعمل بأمره في الدنيا، فجازاهم الله بالنصب والتعب يوم القيامة، وبخشوع المذلة وبالإرهاق.

ويقول بعض المفسرين رحمهم الله تعالى: إن هذه الآية: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3] تنطبق في الدنيا على طائفتين: الأولى: على أهل الكفر والعناد، ونجد دليلاً على ذلك في أثر أورده ابن المنذر رحمه الله تعالى: [أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مرَّ بديرٍ للنصارى وإذا فيه راهب، فنودي هذا الراهب وخرج على عمر ، فلما رآه عمر رضي الله عنه وجد عليه آثار الخشوع والتعبد، وما فيه من النصب والتعب في اجتهاده في عبادته التي هو عليها، فلما رآه عمر بكى، قالوا لـعمر : إنه نصراني، قال: إنني أعلم أنه نصراني وإنما بكيت رحمة به؛ إذ أنه يشقي نفسه في الدنيا، وفي الآخرة مصيره إلى النار لا يستفيد شيئاً من هذا التعب] وأصبحت نظرته نظرة رحمة، وهنا أنبه على أدب لطيف نبه عليه الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين وهو: يجب أن تكون نظرتنا إلى أهل المعاصي نظرة إشفاق وعطف ورحمة.

ويقول ابن القيم : لو كانوا يعرفون الله حق المعرفة ما عصوه، وما تجرءوا عليه بالعصيان، وليس هذا مما ينافي قضية الولاء والبراء، ولا ينافي أنهم يُبغضون في الله، لكن مع ذلك ينظر إليهم نظرة شفقة ورحمة؛ حتى يحسن أسلوب الإنسان في عرضه ونصحه وتوجيهه، وفي بيان الحق لهم. وهذا المنهج نأخذه مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.

إذاً: فقوله: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3] تنطبق على طائفتين:

الطائفة الأولى: أهل الأديان الباطلة والملل الفاسدة.

الطائفة الثانية: وتنطبق على المبتدعة؛ لعدم تأسيهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.

من الناس من يكون مبتدعاً في دينه، ترى عنده كثرة التأله، والذكر، والركوع، والسجود، ولكنك لا تراه متأسياً بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.

كم نرى من الصوفية من الأذكار العظيمة، وكثرة الصلاة والصيام والمواصلة فيه، ومع ذلك لا يستفيدون؛ لأن من شرط العمل: أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، وأن يكون متأسياً فيه بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الواجب علينا؛ فنحرص أشد الحرص على هذين الأصلين العظيمين: الإخلاص والمتابعة.

معنى قوله تعالى: (تصلى ناراً حامية)

ما نتيجة هذه الطائفة التي عملت ونصبت سواء عملت في الدنيا كثيراً ثم تعبت في الآخرة، أو أنها عملت في الدنيا ونصبت وتعبت في الدنيا، على كلا التفسيرين: تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:4] يقال: يصلى إذا أصابه حر النار.

وسبحان الله! نجد الله يقول: تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:4] ومجرد الصلي يكفي في حرارتها؛ لأنها تحيط بهم من كل مكان.

وذكر النار بعد (تصلى) وأنها حامية؛ لزيادة التهويل، ولزيادة الإرهاب والإفزاع من يوم القيامة، وذلك يبين لنا أنها تجاوزت في الحد مقدارها المعروف؛ لأن الحمي عليها من لوازم النار، وهذا يدل على شدة حمي النار.

ويصبح هؤلاء في دركات النار -نعوذ بالله من النار- ولقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم وفزع منها أشد الفزع، ورآها النبي صلى الله عليه وسلم وتأثر منها تأثراً عجيباً وهو يقول: (أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار) رآها رأي العين يحطم بعضها بعضاً: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] .. تبحث عن أهلها تريد أن تلتهمهم، ونعوذ بالله أن نكون من أهل هذه النار.

ولهذا كان دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في يوم الغاشية؛ هذا اليوم العظيم: (اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم) هم في فزعٍ وهلع وهم أنبياء الله! دعاؤهم: (اللهم سلم سلم) حين يذهبون إلى آدم ونوح وإبراهيم، ما يزيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يقولوا للناس: (إن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) ويقول النبي: (نفسي نفسي، نفسي نفسي) مع عظم منزلتهم عند الله وكرامتهم على ربهم.

وهذا يدلنا على أن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولذهبتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش).

أي شيء رآه المصطفى؟

إنه رأى النار وما فيها من الفزع والهلع.

معنى قوله تعالى: (تسقى من عين آنية)

وما حال هؤلاء الذين يسقون النار: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5]؟

سبحان الله! أقول للأحبة: ونجدها سنة، كلما اشتد علينا الحر نحتاج إلى الماء، في أيام الحر الشديد تجد أن جسد الإنسان يفرز عرقاً فيحتاج إلى كثرة الماء، وهؤلاء يصلون في نار حامية تحيط بهم من كل مكان، يستغيثون فيغاثون: بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29] يشربه فيسقط لحم وجهه على الأرض من شدة حره وخبث طعمه.

ولما ذكر الله الاحتراق في النار فإن الذهن يتصور مباشرة أن هذه الأجساد تحتاج إلى إطفاء شيء من حرارتها بالشراب، فجعل الله لهم هذا الشراب -نعوذ بالله أن نشربه- وهو من عين حامية أي: شديد حرها.

وهنا نتذكر قصة رجل آخر يدخل الجنة، والحديث قصته في الصحيح وأنا أرويها لكم بالمعنى، وهو حديث عظيم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم حال آخر رجل يدخل الجنة، ونحن نعلم يقيناً أن الشمس تدنو من الخلائق، وأنهم يلجمهم العرق والناس على حسب ذنوبهم ومعاصيهم، فمنهم من يصل العرق إلى ثدييه ومنهم إلى حقويه ومنهم إلى ركبتيه ويحتاج الناس إلى ماء، فمن الناس من يسقون من حوض محمد صلى الله عليه وسلم -نسأل الله أن نكون ممن يرده- فإن من شرب منه فإنه لا يظمأ بعدها أبداً، وآخر أهل الجنة دخولاً يمشي على الصراط، وليتصور المسلم هذا الصراط الذي نُصب على النار، وهذه النار كما سيأتي شيء من صفاتها، تأتي يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع على كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ [الملك:8] تجر جراً، وسيمشي كل واحدٍ منا عليها كما قال الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71] هذا الصراط دحض مزلة، وهو أحد من السيف، وأدق من الشعر، ويمشي الناس عليه على مقدار أعمالهم في الدنيا، ويحتاجون إلى نور؛ لأن النار سوداء مظلمة، والإنسان في حاجة إلى نور، فمن الناس من يكون نوره كالشمس، ومن الناس من يكون نوره كالقمر، ومنهم من يكون نوره كالكوكب الدري.. وهكذا.

أما آخر أهل الجنة دخولاً فإنه يمشي ومعه نور في إبهام قدمه، وهذا لا يغني، فهو يمشي قليلاً ويسقط ويتعلق بيده، ثم يصعد على الصراط فيمشي قليلاً ثم يسقط فيتعلق مرة أخرى، والنار تسفعه يمنة ويسرة، ويمشي على هذا الصراط، وما يدري ما حاله، ويرى حوله الكلاليب تتخطف العصاة وأهل الكفر والبدع يمنة ويسرة، حتى إذا نجاه الله من النار التفت إليها وقال: الحمد لله الذي أنجاني منك. ويصبح جسده كالفحم، فالجسد مع شدة الحرارة يحتاج إلى أمرين:

الأمر الأول: الظل البارد؛ لأنه يريد أن يطفئ حرارة جلده.

الأمر الثاني: يحتاج إلى الماء البارد ليطفئ حرارة جوفه، فيخلق الله له شجرة طيبة وهي بعيدة عنه ويجري من تحتها ماء بارد فيقول: يا رب! إني أريد أن أجلس تحت هذه الشجرة؟ فيقول الله: ألم أنجك من النار؟ -يعني: أليس أمراً عظيماً أن تنجو من النار- قال: بلى، ولكنه يعلم بأن رحمة ربه واسعة وسعت كل شيء، فأين الذين يريدون أن يتعرضوا لنفحات الله تعالى في هذا اليوم؟!!

ويأخذ الله عليه العهد: ألا يطلب غير ذلك، فينقله الله إلى هذه الشجرة، يستظل ويشرب، ثم يخلق الله شجرة أحسن منها وأطيب ماءً فيلتفت إليها ويسأل، فيقول: يا رب! إني أريد أن أجلس تحت هذه الشجرة، فيقول الله: ألم آخذ عليك العهود والمواثيق، ما أغدرك يا بن آدم! ولكن ظنه بربه أنه لن يخيبه، والله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة:186] فينقله الله إلى تلك.

ثم يخلق الله شجرةً ثالثة وهي عند باب الجنة، فإذا قرب منها دعا ربه، ثم ينقل إليها فيرى أهل الجنة ويرى ما فيها من نعيم، فيقول: يا رب! إني أريد أن أدخل الجنة، أدخلني الجنة، فيقول: ما أغدرك يا بن آدم! وما أكثر ما تعاهد وتنقض، فيقول الله له: ادخل الجنة، أترضى أن يكون لك مثل ملك الدنيا، وفي بعض الروايات: أن الله تعالى قال: ادخل الجنة، فلما وجدها مليئة بالبشر قال: يا رب قد أخذ الناس منازلهم، فيضحك الجبار سبحانه وتعالى.

وقال له في بعض الروايات: أترضى أن يكون لك مثل ملك الدنيا، قال: أيا رب! أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها. أقلَّ الناس دخولاً للجنة له عشرة أمثال الدنيا. هذا فضل أهل الجنة وما أعد الله لهم.

وبيت القصيد : تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5] شتان بين هذين الماءين؛ أهل الإيمان يسقون أولاً من حوض محمد صلى الله عليه وسلم، ويسقون من نعيم أهل الجنة وأنهارها وما فيها من الخير، وأهل النار يسقون من هذا الماء: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29] وشتان بين هذين الماءين.

معنى قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع)

من احتاج إلى سقي يحتاج إلى شيء من الطعام، وماذا يطعم هؤلاء؟

إنهم يطعمون الضريع، يطعمون طعاماً كله آلام وتنغيص وتعذيب؛ فإنه لا ينفعهم أبداً، والأصل في الطعام أن الإنسان حين يطعم فإنه يطعم لأمرين:

إما أن يطعم لكي يسمن، وإما أن يطعم ليدفع حاجة الجوع التي في جسده وشدتها، ولهذا قال الله: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:6-7] فما يزيده إلا ألماً على ألم، كما أن شرابهم لا يكفي أن يسد عنهم رمق الظمأ، وهذا الضريع يابس وهو نبت ذو شوك إذا كان أخضر أكلته الإبل، وإذا يبس سمي ضريعاً ويصبح هذا الشوك ساماً، وقد وصف بهاتين الصفتين؛ لأنه لا يعود على آخذه بالسِّمَن حتى يصلح أجسادهم التي أكلتها النار، ولا يغني عنهم من دفع ألم الجوع شيئاً، وسبحان الله! ولعل الجوع نوع من عذابهم يوم القيامة، فيصبحون يعذبون في النار بشدة الظمأ والجوع، فيطلبون ماءً فيسقون ماءً حميماً، ويطلبون طعاماً فيطعمون ضريعاً فما يستفيدون شيئاً، نعوذ بالله من حالهم.

وهذا يدل على أن المسلم الواجب عليه أن يحرص على الأعمال الطيبة في هذه الحياة الدنيا.

وأقول للأحبة: إن هذه النار هي عذاب الله تعالى لمن أعدت له -ونعوذ بالله أن نكون من أهلها- وهي سجن المجرمين، والخزي الأكبر الذي لا خزي فوقه أبداً، والخسران العظيم الذي لا خسران بعده أبداً، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192] .. فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة:63] .. قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

هذه الوجوه الخاشعة: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3] أي: أنها تكلفت الكثير من العمل والمشاق يومئذ، أي: في يوم القيامة، وأصبحت ناصبة، أي: متعبة، فهذه الوجوه -نعوذ بالله منها- ليست في نعيم، بل في تعب وشقاء، ويجرى عليها العذاب بأنواعه.

وكل هذه الصفات تعريضاً بشقائهم، وتذكيراً لهم بأنهم تركوا الخشوع لله تعالى والعمل بأمره في الدنيا، فجازاهم الله بالنصب والتعب يوم القيامة، وبخشوع المذلة وبالإرهاق.

ويقول بعض المفسرين رحمهم الله تعالى: إن هذه الآية: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3] تنطبق في الدنيا على طائفتين: الأولى: على أهل الكفر والعناد، ونجد دليلاً على ذلك في أثر أورده ابن المنذر رحمه الله تعالى: [أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مرَّ بديرٍ للنصارى وإذا فيه راهب، فنودي هذا الراهب وخرج على عمر ، فلما رآه عمر رضي الله عنه وجد عليه آثار الخشوع والتعبد، وما فيه من النصب والتعب في اجتهاده في عبادته التي هو عليها، فلما رآه عمر بكى، قالوا لـعمر : إنه نصراني، قال: إنني أعلم أنه نصراني وإنما بكيت رحمة به؛ إذ أنه يشقي نفسه في الدنيا، وفي الآخرة مصيره إلى النار لا يستفيد شيئاً من هذا التعب] وأصبحت نظرته نظرة رحمة، وهنا أنبه على أدب لطيف نبه عليه الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين وهو: يجب أن تكون نظرتنا إلى أهل المعاصي نظرة إشفاق وعطف ورحمة.

ويقول ابن القيم : لو كانوا يعرفون الله حق المعرفة ما عصوه، وما تجرءوا عليه بالعصيان، وليس هذا مما ينافي قضية الولاء والبراء، ولا ينافي أنهم يُبغضون في الله، لكن مع ذلك ينظر إليهم نظرة شفقة ورحمة؛ حتى يحسن أسلوب الإنسان في عرضه ونصحه وتوجيهه، وفي بيان الحق لهم. وهذا المنهج نأخذه مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.

إذاً: فقوله: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3] تنطبق على طائفتين:

الطائفة الأولى: أهل الأديان الباطلة والملل الفاسدة.

الطائفة الثانية: وتنطبق على المبتدعة؛ لعدم تأسيهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.

من الناس من يكون مبتدعاً في دينه، ترى عنده كثرة التأله، والذكر، والركوع، والسجود، ولكنك لا تراه متأسياً بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.

كم نرى من الصوفية من الأذكار العظيمة، وكثرة الصلاة والصيام والمواصلة فيه، ومع ذلك لا يستفيدون؛ لأن من شرط العمل: أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، وأن يكون متأسياً فيه بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الواجب علينا؛ فنحرص أشد الحرص على هذين الأصلين العظيمين: الإخلاص والمتابعة.

ما نتيجة هذه الطائفة التي عملت ونصبت سواء عملت في الدنيا كثيراً ثم تعبت في الآخرة، أو أنها عملت في الدنيا ونصبت وتعبت في الدنيا، على كلا التفسيرين: تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:4] يقال: يصلى إذا أصابه حر النار.

وسبحان الله! نجد الله يقول: تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:4] ومجرد الصلي يكفي في حرارتها؛ لأنها تحيط بهم من كل مكان.

وذكر النار بعد (تصلى) وأنها حامية؛ لزيادة التهويل، ولزيادة الإرهاب والإفزاع من يوم القيامة، وذلك يبين لنا أنها تجاوزت في الحد مقدارها المعروف؛ لأن الحمي عليها من لوازم النار، وهذا يدل على شدة حمي النار.

ويصبح هؤلاء في دركات النار -نعوذ بالله من النار- ولقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم وفزع منها أشد الفزع، ورآها النبي صلى الله عليه وسلم وتأثر منها تأثراً عجيباً وهو يقول: (أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار) رآها رأي العين يحطم بعضها بعضاً: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] .. تبحث عن أهلها تريد أن تلتهمهم، ونعوذ بالله أن نكون من أهل هذه النار.

ولهذا كان دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في يوم الغاشية؛ هذا اليوم العظيم: (اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم) هم في فزعٍ وهلع وهم أنبياء الله! دعاؤهم: (اللهم سلم سلم) حين يذهبون إلى آدم ونوح وإبراهيم، ما يزيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يقولوا للناس: (إن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) ويقول النبي: (نفسي نفسي، نفسي نفسي) مع عظم منزلتهم عند الله وكرامتهم على ربهم.

وهذا يدلنا على أن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولذهبتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش).

أي شيء رآه المصطفى؟

إنه رأى النار وما فيها من الفزع والهلع.

وما حال هؤلاء الذين يسقون النار: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5]؟

سبحان الله! أقول للأحبة: ونجدها سنة، كلما اشتد علينا الحر نحتاج إلى الماء، في أيام الحر الشديد تجد أن جسد الإنسان يفرز عرقاً فيحتاج إلى كثرة الماء، وهؤلاء يصلون في نار حامية تحيط بهم من كل مكان، يستغيثون فيغاثون: بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29] يشربه فيسقط لحم وجهه على الأرض من شدة حره وخبث طعمه.

ولما ذكر الله الاحتراق في النار فإن الذهن يتصور مباشرة أن هذه الأجساد تحتاج إلى إطفاء شيء من حرارتها بالشراب، فجعل الله لهم هذا الشراب -نعوذ بالله أن نشربه- وهو من عين حامية أي: شديد حرها.

وهنا نتذكر قصة رجل آخر يدخل الجنة، والحديث قصته في الصحيح وأنا أرويها لكم بالمعنى، وهو حديث عظيم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم حال آخر رجل يدخل الجنة، ونحن نعلم يقيناً أن الشمس تدنو من الخلائق، وأنهم يلجمهم العرق والناس على حسب ذنوبهم ومعاصيهم، فمنهم من يصل العرق إلى ثدييه ومنهم إلى حقويه ومنهم إلى ركبتيه ويحتاج الناس إلى ماء، فمن الناس من يسقون من حوض محمد صلى الله عليه وسلم -نسأل الله أن نكون ممن يرده- فإن من شرب منه فإنه لا يظمأ بعدها أبداً، وآخر أهل الجنة دخولاً يمشي على الصراط، وليتصور المسلم هذا الصراط الذي نُصب على النار، وهذه النار كما سيأتي شيء من صفاتها، تأتي يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع على كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ [الملك:8] تجر جراً، وسيمشي كل واحدٍ منا عليها كما قال الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71] هذا الصراط دحض مزلة، وهو أحد من السيف، وأدق من الشعر، ويمشي الناس عليه على مقدار أعمالهم في الدنيا، ويحتاجون إلى نور؛ لأن النار سوداء مظلمة، والإنسان في حاجة إلى نور، فمن الناس من يكون نوره كالشمس، ومن الناس من يكون نوره كالقمر، ومنهم من يكون نوره كالكوكب الدري.. وهكذا.

أما آخر أهل الجنة دخولاً فإنه يمشي ومعه نور في إبهام قدمه، وهذا لا يغني، فهو يمشي قليلاً ويسقط ويتعلق بيده، ثم يصعد على الصراط فيمشي قليلاً ثم يسقط فيتعلق مرة أخرى، والنار تسفعه يمنة ويسرة، ويمشي على هذا الصراط، وما يدري ما حاله، ويرى حوله الكلاليب تتخطف العصاة وأهل الكفر والبدع يمنة ويسرة، حتى إذا نجاه الله من النار التفت إليها وقال: الحمد لله الذي أنجاني منك. ويصبح جسده كالفحم، فالجسد مع شدة الحرارة يحتاج إلى أمرين:

الأمر الأول: الظل البارد؛ لأنه يريد أن يطفئ حرارة جلده.

الأمر الثاني: يحتاج إلى الماء البارد ليطفئ حرارة جوفه، فيخلق الله له شجرة طيبة وهي بعيدة عنه ويجري من تحتها ماء بارد فيقول: يا رب! إني أريد أن أجلس تحت هذه الشجرة؟ فيقول الله: ألم أنجك من النار؟ -يعني: أليس أمراً عظيماً أن تنجو من النار- قال: بلى، ولكنه يعلم بأن رحمة ربه واسعة وسعت كل شيء، فأين الذين يريدون أن يتعرضوا لنفحات الله تعالى في هذا اليوم؟!!

ويأخذ الله عليه العهد: ألا يطلب غير ذلك، فينقله الله إلى هذه الشجرة، يستظل ويشرب، ثم يخلق الله شجرة أحسن منها وأطيب ماءً فيلتفت إليها ويسأل، فيقول: يا رب! إني أريد أن أجلس تحت هذه الشجرة، فيقول الله: ألم آخذ عليك العهود والمواثيق، ما أغدرك يا بن آدم! ولكن ظنه بربه أنه لن يخيبه، والله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة:186] فينقله الله إلى تلك.

ثم يخلق الله شجرةً ثالثة وهي عند باب الجنة، فإذا قرب منها دعا ربه، ثم ينقل إليها فيرى أهل الجنة ويرى ما فيها من نعيم، فيقول: يا رب! إني أريد أن أدخل الجنة، أدخلني الجنة، فيقول: ما أغدرك يا بن آدم! وما أكثر ما تعاهد وتنقض، فيقول الله له: ادخل الجنة، أترضى أن يكون لك مثل ملك الدنيا، وفي بعض الروايات: أن الله تعالى قال: ادخل الجنة، فلما وجدها مليئة بالبشر قال: يا رب قد أخذ الناس منازلهم، فيضحك الجبار سبحانه وتعالى.

وقال له في بعض الروايات: أترضى أن يكون لك مثل ملك الدنيا، قال: أيا رب! أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها. أقلَّ الناس دخولاً للجنة له عشرة أمثال الدنيا. هذا فضل أهل الجنة وما أعد الله لهم.

وبيت القصيد : تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5] شتان بين هذين الماءين؛ أهل الإيمان يسقون أولاً من حوض محمد صلى الله عليه وسلم، ويسقون من نعيم أهل الجنة وأنهارها وما فيها من الخير، وأهل النار يسقون من هذا الماء: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29] وشتان بين هذين الماءين.

من احتاج إلى سقي يحتاج إلى شيء من الطعام، وماذا يطعم هؤلاء؟

إنهم يطعمون الضريع، يطعمون طعاماً كله آلام وتنغيص وتعذيب؛ فإنه لا ينفعهم أبداً، والأصل في الطعام أن الإنسان حين يطعم فإنه يطعم لأمرين:

إما أن يطعم لكي يسمن، وإما أن يطعم ليدفع حاجة الجوع التي في جسده وشدتها، ولهذا قال الله: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:6-7] فما يزيده إلا ألماً على ألم، كما أن شرابهم لا يكفي أن يسد عنهم رمق الظمأ، وهذا الضريع يابس وهو نبت ذو شوك إذا كان أخضر أكلته الإبل، وإذا يبس سمي ضريعاً ويصبح هذا الشوك ساماً، وقد وصف بهاتين الصفتين؛ لأنه لا يعود على آخذه بالسِّمَن حتى يصلح أجسادهم التي أكلتها النار، ولا يغني عنهم من دفع ألم الجوع شيئاً، وسبحان الله! ولعل الجوع نوع من عذابهم يوم القيامة، فيصبحون يعذبون في النار بشدة الظمأ والجوع، فيطلبون ماءً فيسقون ماءً حميماً، ويطلبون طعاماً فيطعمون ضريعاً فما يستفيدون شيئاً، نعوذ بالله من حالهم.

وهذا يدل على أن المسلم الواجب عليه أن يحرص على الأعمال الطيبة في هذه الحياة الدنيا.

وأقول للأحبة: إن هذه النار هي عذاب الله تعالى لمن أعدت له -ونعوذ بالله أن نكون من أهلها- وهي سجن المجرمين، والخزي الأكبر الذي لا خزي فوقه أبداً، والخسران العظيم الذي لا خسران بعده أبداً، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192] .. فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة:63] .. قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

وأما النار فلا ندري عما نتحدث عنها.

أنتحدث عن عمقها؟! فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس إذ سمعنا وجبة -أي: صوتاً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً -سبعين عاماً- فهو يهوي في النار إلى هذه اللحظة) الآن وصل إلى قعرها، ومع ذلك وعد الله سبحانه وتعالى هذه النار للعصاة وللكفار، والعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدخل بعضهم ثم يخرجون؛ فإن النار لا يخلد فيها إلا المشرك، وأما الموحد -فلله الحمد- لا يخلد في النار.

وما ندري أنتحدث عن كثرة الملائكة الذين يأتون بالنار؟ فهذا الحديث رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: (يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك).

أم نتحدث عن وقودها؟ فقد ذكره الله في القرآن: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] ونعوذ بالله أن نكون من وقود النار.

أم نتحدث عن شدة حرها؟ فقد روى لنا البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن نارنا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، فقيل للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن نارنا لكافية) كافية أن يعاقب بها الإنسان، والصحابة رضي الله عنهم يحكون عن واقع، من منا يتحمل أن يضع إصبعه على وقود النار التي عندنا، من منا يستطيع أن يضع إصبعه على عود الثقاب حتى ينطفئ، فكيف إذا وعد الإنسان أن يكون في غمرات النار من فوقه وتحته -نعوذ بالله من النار- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها فضلت عليها -يعني: على ناركم- بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها) نعوذ بالله منها.

أنتكلم عن بشاعة منظرها؟ فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني رأيت الجنة) ونسأل الله أن نكون من أهل الجنات، وقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، صلى النبي بالصحابة وإذا به تفتح له الجنة ويراها رأي العين، ويتقدم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم يريد أن يأخذ عنقوداً من عناقيد الجنة، قال الراوي: (فتقدم الصحابة ثم تأخر النبي فتأخر الصحابة فسألوا الرسول: لم تقدمت وتأخرت؟ فقال النبي: فتحت لي الجنة ورأيتها رأي العين فأردت أن آخذ عنقوداً من عناقيدها، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) عنقود واحد يبقى مع الناس ما بقيت الدنيا يأكلون منه، كيف بمن يتقدم في القصور والجنات، ويتقلب بين الأنهار والأشجار والخير العميم الذي أعده الله لأوليائه؟ وقال النبي في سبب تأخره: (رأيت النار فلم أر كاليوم منظراً أفظع منه أبداً، ورأيت أكثر أهلها النساء) ثم فسر النبي صلى الله عليه وسلم سبب ذلك.

أما كثرة ساكنيها، فقد روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الله يقول لآدم: (يا آدم! أخرج بعث النار؟ قال: يا رب! وما بعث النار، قال: أخرج من كل ألفٍ من ذريتك واحداً إلى الجنة، وتسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، فلما سمع الصحابة ذلك الخبر غطوا رءوسهم ولهم خنين، يقولون: متى النجاة يا رسول الله؟! -متى ننجو إذا كان من الألف واحد إلى الجنة وتسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار- فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبشروا، ثم ذكر أن معظمهم من يأجوج ومأجوج -ثم أسرهم ببشرى عظيمة- قال لهم صلوات الله وسلامه عليه: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، قال: فكبرنا فرحاً، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، قال: فكبرنا فرحاً، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، فكبر الصحابة -فرحاً بهذا الخير العظيم-).

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع) ولعلها تضخم أجسادهم والسبب: لتكون العقوبة على كل جزءٍ من أجسادهم.

وقد ثبت في مسلم : (إن ضرس الكافر يوم القيامة أو نابه مثل أحد ، وإن غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام) ونعوذ بالله أن نكون من الكافرين.

وهذا يوجب لنا أحبتي أن نحمد الله تعالى على الهداية لهذا الدين، وعلى تحبيب الإيمان في قلوبنا، وأن تسأل الله دائماً الثبات على دينه.

وقفات للنجاة من النار

الوقفة الأولى: ينبغي لكل مسلم منا أن يكون له زاد في معرفة أهل النار، ومعرفة أحوالها وصفاتها، وثمرة ذلك أن نحذر أشد الحذر أن نكون من أهلها.

الوقفة الثانية: ينبغي لنا أن نعرف الأسباب التي توجب لأهل النار أن يدخلوها، بأي شيء دخل هؤلاء؟! ولم دخل هؤلاء؟! طائفة دخلت لكفرها، وطائفة دخلت لنفاقها، وطائفة دخلت لردتها، وطائفة دخلت لمعاصيها وبعدها عن ربها، فاحذر أشد الحذر أن تكون من هؤلاء، وإن كنت على صلاح وإيمان فسل ربك الثبات إلى أن تلقاه، وأن يختم لك بخاتمة خير، وهذه المعلومات التي ذكرت عن النار ليست خاصة بالعلماء، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بها صحابته صغيرهم وكبيرهم، ويحدث ذكرهم وأنثاهم؛ لأن الخطاب عام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].

إن أهلك لفي حاجةٍ أن يحدثوا عن النار ولو بشيء يسير، وأن يحدثوا عن أصناف أهل النار، وعن الأسباب الموجبة للنار -نعوذ بالله من النار- وكم نحن في حاجة إلى أن يبصر الناس بمثل هذه الحقائق، عقولنا تسمع وتؤمن بها ولله الحمد، ونبقى في معرفة لهذا الغيب العظيم الذي يقف المسلم معه بإيمانه ويقينه أن هذا حق؛ لأنه ثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ويحدثنا الله عن الجنس الثاني، وسنة من سننه تعالى ومنهج في كتاب ربنا سبحانه وتعالى أنه إذا ذكر أهل النار ذكر أهل الجنة مقابلاً.

ولعل السبب في ذلك: أن الإنسان يذكر النار فربما يجزم بأنه من أهلها، فيأتي خبر الجنة فيسليه ويحرص أن يكون من أهلها، وأن يعمل بما يوجب له دخولها.