حرمة العلماء


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراًًً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، اللهم! صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزىً له فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً فاطلبوه. فطلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال: قتل سبعة ثم قتلوه! هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه. قال: فوضعه على ساعديه -ليس له سرير إلا ساعدا النبي صلى عليه وسلم- قال: فحُفر له ووُضع في قبره. ولم يذكر غسلاً) رواه مسلم في فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والحديث يرويه أبو برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزىً له)، يعني: كان في سفر غزو. ويفهم من ذلك أنه كان في هذا السفر ومعه جليبيب رضي الله تعالى عنه. (فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناًً وفلاناً وفلاناً. ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه).

وجليبيب اسم لهذا الصحابي الجليل، وجليبيب تصغير جلباب، وقوله: (فطلب في القتلى)، أي: بحث عنه في القتلى: (فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه) أي: سبعة من المشركين قتلهم وحده رضي الله تعالى عنه، ثم بعد ذلك كأنه كان فيهم بقية روح فاجتمعوا عليه حتى قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (قتل سبعه ثم قتلوه! هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه) والمقصود بهذا التعبير المبالغة في اتحاد طريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق جليبيب رضي الله تعالى عنه، واتفاقهما في طاعة الله تعالى في مقابلة قوله في الجهة الأخرى في بعض المعاصي والذنوب: من فعل كذا فليس مني كما في قوله -مثلاً-: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) أما هنا فمبالغة في بيان شدة انتمائه إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (هذا مني وأنا منه) وكأنه قطعة من جسده أو بضعة من لحمه، قال: (فوضعه على ساعديه) نال جليبيب هذا الشرف، أن حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه الشريفتين: (ليس له -أي: ليس لـجليبيب - سرير إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فحُفر له ووُضع في قبره)، وفي رواية: (ثم وضعه في قبره ولم يذكر غسلاً) لأن الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه.

وعن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب النبي صلى عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار) وهذا الخبر مما يطلعنا على بعض من سيرة جليبيب وشدة محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، فرغم أن جليبيباً كان في وجهه دمامة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحبه؛ لأن الله ورسوله لا ينظران إلى الصور والأشكال، وإنما إلى القلوب والأعمال، فمن ثم كان له هذه المكانة الخاصة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه خطب على جليبيب امرأة من الأنصار: (فلما حدث في ذلك أباها قال: حتى أستأمر أمها. فقال النبي صلى عليه وسلم: فنعم إذاً. فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر ذلك لها، فقالت: لا هاالله! إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً ؟) (لا هاالله!) تعني: هذا يميني فكلمة (لا) هي لنفي كلام الرجل الذي أبلغهم هذا أو زوجها، و(هاالله) الهاء بالمد والقصر، بمعنى واو القسم، ولفظ الجلالة مجرور بها، و(إذاً) جواب القسم: (إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟) وإنما قالت المرأة ذلك لأن جليبيباً رضي الله عنه كان في وجهه دمامة.

تقول: (إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟! وقد منعناها من فلان وفلان! قال: والجارية في سترها تستمع) أي أن الجارية كانت في الخدر أو في الستر تستمع لهذا الحوار من وراء الستر، قال: (فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟! إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه) جعلتهم يفيقون من هذا المسلك الذي يسلكونه لرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] وفي رواية أنها قالت: (ادفعوني إليه؛ فإنه لن يضيعني) أي: ما دام هذا هو اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نسمع له ونطيع: (فكأنها جلت عن أبويها) يعني: فكأنها كشفت وأوضحت أمراً خفي عليهما، حتى كأنهما أفاقا من هذه الغشاوة التي جعلتهما يكادان يقعان في معارضة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالفعل أجابا في الوقت، وقالا لها: (صدقت. فذهب أبوها إلى النبي صلى عليه وسلم، فقال: إن كنت قد رضيته فقد رضينا. قال: فإني قد رضيته، فزوجها، ثم فزع أهل المدينة) يعني: حصل بعد ذلك أن أخافهم العدو (فركب جليبيب) يعني: كان جليبيب في أول من خرج في مواجهة هؤلاء المشركين: (فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم).

قال أنس : (فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة) يعني أن هذه المرأة التي تزوجها جليبيب رغم أنها كانت ثيباً بعد الزواج لكن مع ذلك كانت من أنفق بيت في المدينة، وكلمة أنفق هنا مأخوذة من النَّفاق -بفتح النون- وهو ضد الكفاف، ويقصد بالنفاق الرواج، كما جاء في الحديث: (إن الحلف ينفق ثم يمحق) أي أن التاجر حينما يحلف على بضاعته فإن هذا يروجها وينفقها، لكنه يمحق البركة بعد ذلك.

فالمقصود أنها كانت أعظم امرأة أيم في بيوت المدينة، بحيث كان يتسابق إليها الخطاب بعد قتل جليبيب، وذلك ببركة كونها رضيت بنكاح جليبيب الذي كان ينفر منه الناس، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها.

وهذا الحديث الأخير صحيح على شرط الصحيحين، رواه أحمد وأبو يعلى مختصراً، ويشهد له حديث أبي برزة السابق عند مسلم .

وفي رواية قال ثابت : (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها).

وحدث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً فقال: هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (اللهم! صب عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كداً كداً) قال: (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها) والأيم: المرأة التي ليس لها زوج بكراً كانت أم ثيباً.

والشاهد من الحديث الوارد في شأن جليبيب رضي الله تعالى عنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه) ففي هذا إشارة -كما ذكرنا- إلى اتحاد طريقهما، وأنهما كانا كأنهما جسد واحد، فقوله: (هذا مني) أي: كأنه قطعة مني أو بضعة مني (وأنا منه) مبالغة في بيان اتحاد الطريق والسبيل، ولهذا التعبير عن اتحاد الطريق بهذه العبارة نظائر، منها: ما روى أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم) متفق عليه.

إن ذلك التعبير الذي يعطينا ميزان المولاة أو ميزان الحب في الله يعطينا أيضاً من الجهة الأخرى ميزان البغض في الله، وميزان البراءة ممن حاد الله ورسوله، وهو التعبير المشهور (من فعل كذا فليس منا)، أو (ليس منا من فعل كذا) فهكذا نصب الشارع علامات يعرف بهذه العلامات كون المعصية كبيرة من كبائر الذنوب، ومن هذه العلامات التعبير عن هذا الفعل بأن صاحبه ليس منا، أي: ليس من أهل سنتنا، وليس على طريقتنا الإسلامية. وذلك أن الله تعالى قال للمؤمنين: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وليس المراد بهذا التعبير الإخراج الحقيقي من الدين، وإنما المراد الزجر عن هذه المعاصي، كما في قوله: (ليس منا من تشبه بغيرنا) وقوله: (لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)، وقوله: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا)، وذلك لأن سنة غيرنا منسوخة بشرعنا، وفي الجهة المقابلة يقول عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم)، أي: يصير منهم وليس منا.

ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ويقول: (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه من النساء بالرجال)، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من تَطير أو تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو تَسحر أو تُسحر له) ويقول أيضاً: (ليس منا من حلف بالأمانة) لأن الحلف بالأمانة حلف بغير الله، ويقول: (ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) (خبب) يعني: أفسد.

ومنها قوله: (ليس منا سلق ومن حلق ومن خرق) (من سلق) أي: رفع صوته عند المصيبة بالبكاء (ومن حلق) أي: حلق شعره جزعاً على المصيبة (ومن خرق) أي: خرق ثوبه جزعاً على الميت.

ومنها -أيضاً- قوله صلى عليه وسلم: (ليس منا من غش)، وقوله: (من غشنا فليس منا).

ومنها: قوله: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، (دعا بدعوى الجاهلية) كما تفعل المرأة النائحة حينما تقول: واكهفاه. واجبلاه. إلى غير ذلك من عبارات الجزع عند نزول المصيبة، أو أن المقصود بدعوى الجاهلية أنه كان من عادتهم في الجاهلية أن الرجل إذا غلب في الخصام نادى بأعلى صوته: يا آل فلان. يا لبني فلان. فيبادرون لنصرته ظالماً كان أو مظلوماً؛ لأنه استغاث بهم، فيفزعون إليه ماداموا من قبيلته ومن عنصره.

وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) والمقصود بالعصبية هنا معاونة الظالم، فالشخص العصبي هو الذي يغضب لعصبيته، ويحامي عنها بقبيلته أو عائلته أو غير ذلك مما ينتمي إليه، فالرسول عليه السلام يبغض إلينا هذا الداء الوبيل، داء الحزبية الجاهلية، وداء العصبية ومناصرة الشخص بمجرد أنه من حزبك أو قبيلتك أو عائلتك، لا لكونه على حق أو غير ذلك، وهذا الفعل القبيح قد شاع وذاع، خاصة بين بعض الجماعات الإسلامية، والذي يعتبر جرم الجماعات الإسلامية هو الحزبية البغيضة الجاهلية؛ حيث إنها تجعل الإنسان لا يحترم هذه القواعد في الولاء والبراء، وإنما يوالي في الحزب، ويعادي في الحزب، وليس مولاة في الله ومعاداة في الله عز وجل.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: بين بهذا الحديث أن تعصب الرجل لطائفة مطلقاً فعل أهل الجاهلية محذور مذموم، بخلاف منع الظالم وإعانة المظلوم من غير عدوان، فإنه حسن، بل واجب.

فلا منافاة بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وبين قوله: في نفس الحديث: (أن تحجزه عن الظلم، فذاك نصرك إياه).

ومن هذه الأحاديث أيضاً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)، كما لاحظنا في حديث جليبيب رضي الله تعالى عنه كيف أن هذه الجارية حينما استجابت وتأدبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفعها هذا الأدب، بحيث كانت رغم قتل زوجها رضي الله عنه أنفق أيم في المدينة كلها، وحظيت بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخير كله، فهذه إحدى ثمرات التزام الأدب مع الشرع المطهر ومع صاحب الشرع، وانظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلي شأن الأدب، إلى حد أنه كان يستعمل هذا التعبير الذي فيه بيان تنافي طريقه مع طريق من يسيء الأدب، وأن من يسيء الأدب ليس من المسلمين، وليس على طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا قال: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه).

ومن هذا الحديث ندلف إلى موضوعنا، وهو الحديث عن حقوق المسلم، وصيانة عرضه، والتحذير من الغيبة ومن إطلاق اللسان في أعراض المسلمين بغير حق، ونحن لا نستوفي حقوق المسلم على المسلم، وإنما نقتصر -فقط- على التنبيه فيما يشيع التقصير فيه بين الناس في مثل هذا الزمان، فهذا الحديث الشريف يبين لنا كيف عظَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدب، حتى إنه عبر عمن لا يراعي الأدب، سواء أكان أدب الكبير مع الصغير في الرفق أم أدب الصغير مع الكبير بالاحترام والتوقير، أم أدب طالب العلم مع شيخه في أن يراعي حق هذا الشيخ عليه، فكل من لم يراع هذه الآداب فإنه متوعد بهذا التعبير الشديد الهول، وهو قوله: (ليس منا).

وقد اهتم السلف الصالح رحمهم الله تعالى بباب الأدب اهتماماً عظيماً، ليس بمجرد التصديق، وإنما أيضاً بسلوكهم وواقعهم، كما سنذكر إن شاء الله تعالى.

فالأدب اهتم به علماء المسلمين، حتى إنهم أفردوا فيه كتباً، ولا تكاد تجد كتاباً من الكتب الجوامع في السنة إلا وتجد كتاب الأدب جزءاً أساسياً من أبوابه ومن أغراضه ومقاصده، فهناك (كتاب الأدب) في صحيح البخاري ، ومع ذلك الإمام البخاري أفرغ الأدب بكتاب آخر، وهو كتاب (الأدب المفرد)، وكذلك مَحضَّ بعض المصنفين بعض مصنفاتهم فقط للأدب، كما فعل السفاريني في كتابه المرسوم بـ (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب) أو بـ(شرح منظومة الآداب)، وكما فعل الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى الذي كان يقول له شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية : إنك لست ابن مفلح، وإنما أنت مفلح. وهو صاحب كتاب (الآداب الشرعية) بخلاف ما صنف من الكتب في الآداب واقتصر مؤلفه على جزء في باب واحد من أبواب الأدب، وذلك مجرد عبور على أبواب الأدب الغالبة المنتشرة في مصنفات علماء المسلمين، وبهذا نجد خطورة مجال الأدب وخطورة هذا الحقل من حقول الأخلاق الإسلامية، ونجد هناك كلاماً في الأدب على النية وآداب النية، والأدب مع الله سبحانه وتعالى، والأدب مع القرآن الكريم، والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدب مع الملائكة، والأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والأدب مع النفس بالتوبة والمراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والأدب مع الخلق باختلاف أنواع هؤلاء الخلق، والأدب مع الوالدين، والأدب مع الأولاد، والأدب مع الإخوة، والأدب فيما بين الزوجين، والأدب مع الأقارب، والأدب مع الجيران، والأدب مع أخيك المسلم، حتى الأدب مع الكافر أفردوه بالكلام، وذكروا الآداب الشرعية التي ينبغي أن يلتزمها المسلم مع الكافر، بل تكلموا حتى في الأدب مع الحيوان ومع البهائم.

وفي الكلام على حقوق الأخوة والأدب مع الإخوان في الله ذكروا آداب المجالس، وآداب الأكل والشرب، وآداب الضيافة، وآداب الاستئذان، وآداب السفر، وآداب اللباس، وخصال الفطرة، وآداب النوم، وآداب المسجد، وآداب حلق العلم، والأدب مع المشايخ، والأدب مع حاملي القرآن، والأدب مع كبير السن، وغير ذلك.

وربما يتصور بعض الناس أن الآداب فقط هي أشياء من باب المروءة أو أشياء مستحبة ونوافل، وهذا ليس بصحيح، بل من الآداب ما هو فرض متحتم وواجب أكيد على كل مسلم، كما سنبين إن شاء الله تعالى.

وقد بلغ من احتفاء السلف بوظيفة التأديب أن الأدب كان وظيفة من الوظائف التي يُرصد لها إنسانٌ خبيرٌ بها، فكما يتعلم الإنسان العلم وكما يحفظ القرآن كذلك كان يُجعل له مؤدب يؤدبه، حتى إن الإمام ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى كان يلقب (مؤدب أولاد الخلفاء) فكان هناك وظيفة شخص اسمه (المؤدب) يتولى تهذيب الطفل من صغره ومنذ نعومة أظفاره، ويربيه على مكارم الأخلاق وعلى تعظيم الدين، وغير ذلك من هذه الآداب الشرعية.

ومما يعكس خطورة موضوع الأدب والتربية أهميته بالنسبة للأولاد؛ لأن الأدب أعظم ما ينفع إذا بدأ منذ صغرهم ومنذ نعومة أظفارهم، وقد جاء أن بعض الخلفاء كان قد سجن بعض خصومه، فلما أفرج عنهم وأطلقهم من السجن قال: ما أشد ما مر عليكم في هذا الحبس؟ قالوا: ما فاتنا من تأديب أولادنا. ولم يقولوا: ما فاتنا من حرياتنا أو من كذا أو كذا. وإنما قالوا: ما فاتنا من تأديب أولادنا.

والكلام في باب الأدب كلام يطول جداً، لكننا سنجتزئ -كما أشرنا من قبل- أهم المهم من عيون هذا الموضوع.

نماذج من أدب الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

إذا رجعنا إلى سلوك الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأدبهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنرى من ذلك نماذج عظيمة وكبيرة، حتى إن الكافر الذي أوفده المشركون في صلح الحديبية حينما رجع كان من أشد ما أثر فيه أدب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه قال لإخوانه من المشركين: لقد وفدت على قيصر وعلى كسرى فما وجدت أحداً يعظم أحداً مثلما يعظم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- محمداً، ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، ولا توضأ وضوءاً إلا تقاتلوا عليه يعني أنهم كانوا يتبركون بوضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قال رويم بن أحمد البغدادي لابنه: يا بني! اجعل عملك ملحاًً وأدبك دقيقاً. قال له هذا مع أن المعروف أن نسبة الملح تكون قليلة حتى يصلح الطعام، فقوله له: اجعل عملك ملحاً يعني: قليلاً. لكن اجعل أدبك هو الدقيق، قال: اجعل عملك ملحاً، وأدبك دقيقاً. يأمره بالاستكثار من الأدب، حتى تكون نسبة الأدب في سلوكه من حيث الكثرة كنسبة الدقيق إلى الملح الذي يوضع فيه، وكثير من الأدب مع قليل من العمل الصالح خير من كثير من العمل مع قلة الأدب.

وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس أتمنى لقاءه، وأتأسف على فوته.

وقيل للعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (هو أكبر مني، وأنا أسن منه) حاله كما قال الشاعر:

أدب كمثل الماء لو أفرغته يوماً لسال كما يسيل الماء

وقيل لـأبي وائل : أيكما أكبر أنت أم الربيع بن خثيم ؟ قال: أنا أكبر منه سناً وهو أكبر مني عقلاً.

ودخل عروة بن مسعود الثقفي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، فجعل يحدثه ويشير بيده إليه حتى تمس لحيته، والمغيرة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده السيف، فكان عروة بن مسعود يسيء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه كان يشير إليه بيده، حتى يلمس لحية الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان المغيرة رضي الله تعالى عنه واقفاً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده السيف، فكلما أهوى أو أشار بيده إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يضرب يده بالسيف ويقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو: اقبض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك. يهدده أن يقطع يده إذا امتدت ثانية إلى لحية رسول الله صلى الله وعليه وسلم وهو يكلمه، فقبض عروة يده.

ويكفي في ذم سوء الأدب أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في الأعراب الجفاة الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه من وراء الحجرات -وسورة الحجرات تسمى سورة الآداب؛ لما اشتملت عليه من الآداب الشرعية- فوصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين لم يراعوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] فنفى عنهم العقل لعدم مراعاتهم الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

اهتمام السلف بباب الأدب

السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا يولون باب الأدب اهتماماً عظيماً، كما روي عنهم أنهم كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم، ولم يكونوا يقتصرون على تحصيل العلم النظري، وإنما أيضاً كانوا يمحضون نياتهم ويوجهونها نحو الاقتداء بالهدي وبالسمت الحسن.

ولذلك يقول إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه.

وقال ابن سيرين: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) فلابد أن يدقق الإنسان أولاً قبل أن يتلقى العلم، وأن ينظر في سمت وحال من يتلقى منه العلم.

وذلك هو ما فعله الإمام مالك رحمه الله تعالى، حيث يقول: رأيت أيوب السختياني بمكة حجتين فما كتبت عنه، ورأيته في الثالثة قاعداً في فناء زمزم، فكان إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيت ذلك كتبت عنه.

أي أنه كان رقيق القلب شديد التعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كان يسمع كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبكي، وليس بكاءً عادياً، وإنما كان يتمادى في البكاء، حتى إن من يجالسونه كانوا يرحمونه ويشفقون عليه لشدة تأثره وشوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذاً ما كانوا يقتصرون على تلقي العلوم النظرية حتى يضموا إلى ذلك أدب النفس، ومن ثم يقول الفراء الحنبلي : أدب النفس ثم أدب الدرس.

وقال بعضهم لابنه: يا بني! لأن تتعلم باباً من الأدب أحب من أن تتعلم سبعين باباً من أبواب العلم.

وقال مخلد بن الحسين لـابن المبارك : نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث.

وذكر البرهان البقاعي أنه سأله بعض العجم أن يقرأ عليه فأذن له، فجلس متربعاً، فامتنع من إقرائه وقال له: أنت أحوج إلى الأدب منك إلى العلم الذي جئت تطلبه.

أي: لأنه جلس أمامه متربعاً، ولم يجلس جلسة المتعلم التي وردت في حديث جبريل عليه السلام.

وعن الأمام أبي حازم الأعرج رحمه الله تعالى قال: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا. يعني: أقل ما نتعارف عليه من الأخلاق التواسي فيما بيننا. أي: يعطي بعضهم بعضاً مما رزقه الله. يقول: وما رأيت في مجلسه متماريين ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا.

وفي الحقيقة هذا ليس في المقام الأول مدحاً لهؤلاء الطلبة، لكنه مدح لنهج شيخهم الذي رباهم على ذلك، ولذلك صدر الكلام بقوله: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه متماريين -ما كانوا يعرفون الجدل والمراء- ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا.

وقال خالد بن نزار : سمعت مالكاً يقول لفتى من قريش: تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم.

والأدب خير وسيلة لاستدرار علم الشيخ، فقد قال ابن جريج : لم أستخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به.

فمن هنا لا نستبعد ونستغرب ما قاله بعض الشعراء:

ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب

فكأن العلم والأدب هما الأب والأم، وإذا فقدهما صار يتيماً.

إذا رجعنا إلى سلوك الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأدبهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنرى من ذلك نماذج عظيمة وكبيرة، حتى إن الكافر الذي أوفده المشركون في صلح الحديبية حينما رجع كان من أشد ما أثر فيه أدب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه قال لإخوانه من المشركين: لقد وفدت على قيصر وعلى كسرى فما وجدت أحداً يعظم أحداً مثلما يعظم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- محمداً، ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، ولا توضأ وضوءاً إلا تقاتلوا عليه يعني أنهم كانوا يتبركون بوضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قال رويم بن أحمد البغدادي لابنه: يا بني! اجعل عملك ملحاًً وأدبك دقيقاً. قال له هذا مع أن المعروف أن نسبة الملح تكون قليلة حتى يصلح الطعام، فقوله له: اجعل عملك ملحاً يعني: قليلاً. لكن اجعل أدبك هو الدقيق، قال: اجعل عملك ملحاً، وأدبك دقيقاً. يأمره بالاستكثار من الأدب، حتى تكون نسبة الأدب في سلوكه من حيث الكثرة كنسبة الدقيق إلى الملح الذي يوضع فيه، وكثير من الأدب مع قليل من العمل الصالح خير من كثير من العمل مع قلة الأدب.

وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس أتمنى لقاءه، وأتأسف على فوته.

وقيل للعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (هو أكبر مني، وأنا أسن منه) حاله كما قال الشاعر:

أدب كمثل الماء لو أفرغته يوماً لسال كما يسيل الماء

وقيل لـأبي وائل : أيكما أكبر أنت أم الربيع بن خثيم ؟ قال: أنا أكبر منه سناً وهو أكبر مني عقلاً.

ودخل عروة بن مسعود الثقفي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، فجعل يحدثه ويشير بيده إليه حتى تمس لحيته، والمغيرة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده السيف، فكان عروة بن مسعود يسيء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه كان يشير إليه بيده، حتى يلمس لحية الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان المغيرة رضي الله تعالى عنه واقفاً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده السيف، فكلما أهوى أو أشار بيده إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يضرب يده بالسيف ويقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو: اقبض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك. يهدده أن يقطع يده إذا امتدت ثانية إلى لحية رسول الله صلى الله وعليه وسلم وهو يكلمه، فقبض عروة يده.

ويكفي في ذم سوء الأدب أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في الأعراب الجفاة الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه من وراء الحجرات -وسورة الحجرات تسمى سورة الآداب؛ لما اشتملت عليه من الآداب الشرعية- فوصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين لم يراعوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] فنفى عنهم العقل لعدم مراعاتهم الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا يولون باب الأدب اهتماماً عظيماً، كما روي عنهم أنهم كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم، ولم يكونوا يقتصرون على تحصيل العلم النظري، وإنما أيضاً كانوا يمحضون نياتهم ويوجهونها نحو الاقتداء بالهدي وبالسمت الحسن.

ولذلك يقول إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه.

وقال ابن سيرين: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) فلابد أن يدقق الإنسان أولاً قبل أن يتلقى العلم، وأن ينظر في سمت وحال من يتلقى منه العلم.

وذلك هو ما فعله الإمام مالك رحمه الله تعالى، حيث يقول: رأيت أيوب السختياني بمكة حجتين فما كتبت عنه، ورأيته في الثالثة قاعداً في فناء زمزم، فكان إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيت ذلك كتبت عنه.

أي أنه كان رقيق القلب شديد التعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كان يسمع كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبكي، وليس بكاءً عادياً، وإنما كان يتمادى في البكاء، حتى إن من يجالسونه كانوا يرحمونه ويشفقون عليه لشدة تأثره وشوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذاً ما كانوا يقتصرون على تلقي العلوم النظرية حتى يضموا إلى ذلك أدب النفس، ومن ثم يقول الفراء الحنبلي : أدب النفس ثم أدب الدرس.

وقال بعضهم لابنه: يا بني! لأن تتعلم باباً من الأدب أحب من أن تتعلم سبعين باباً من أبواب العلم.

وقال مخلد بن الحسين لـابن المبارك : نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث.

وذكر البرهان البقاعي أنه سأله بعض العجم أن يقرأ عليه فأذن له، فجلس متربعاً، فامتنع من إقرائه وقال له: أنت أحوج إلى الأدب منك إلى العلم الذي جئت تطلبه.

أي: لأنه جلس أمامه متربعاً، ولم يجلس جلسة المتعلم التي وردت في حديث جبريل عليه السلام.

وعن الأمام أبي حازم الأعرج رحمه الله تعالى قال: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا. يعني: أقل ما نتعارف عليه من الأخلاق التواسي فيما بيننا. أي: يعطي بعضهم بعضاً مما رزقه الله. يقول: وما رأيت في مجلسه متماريين ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا.

وفي الحقيقة هذا ليس في المقام الأول مدحاً لهؤلاء الطلبة، لكنه مدح لنهج شيخهم الذي رباهم على ذلك، ولذلك صدر الكلام بقوله: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه متماريين -ما كانوا يعرفون الجدل والمراء- ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا.

وقال خالد بن نزار : سمعت مالكاً يقول لفتى من قريش: تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم.

والأدب خير وسيلة لاستدرار علم الشيخ، فقد قال ابن جريج : لم أستخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به.

فمن هنا لا نستبعد ونستغرب ما قاله بعض الشعراء:

ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب

فكأن العلم والأدب هما الأب والأم، وإذا فقدهما صار يتيماً.

ذكر الله تعالى أدب السحرة مع موسى عليه السلام حينما قالوا: يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [الأعراف:115] فذكر الزمخشري أنهم تأدبوا مع موسى عليه السلام، ثم ذكر أن هذا الأدب مع موسى نفعهم بأن هداهم الله سبحانه وتعالى إلى الإيمان.

وقد قص القرآن الكريم علينا كيف أن العجماوات نفسها راعت الأدب مع نبي الله سليمان حينما قالت نملة: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18] وهذا من حسن الظن والأدب مع مقام سليمان عليه السلام، حيث قالت: إن سليمان وأصحابه لا يتعمدون قتل النمل، لكنهم سيقتلونكم دون أن يشعروا بذلك. وفي هذا تأدب مع نبي الله ومع أصحابه أيضاً.

ومن مواضع الإشارة إلى هذه الآداب في القرآن الكريم قول الله سبحانه تعالى: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس:8-10] فقوله: (وأما من جاءك) فيه أن العلم يؤتى، ثم قال: (يسعى) ولم يقل: من جاءك يمشي. إنما قال: (يسعى) لشدة حرصه على التعلم. وقوله: (وهو يخشى) أي: يخشى الله سبحانه وتعالى.

ومن المواضع التي يستفاد منها كثير من الأدب في القرآن الكريم -وما أكثر الآداب في القرآن الكريم- قصة موسى والخضر عليها السلام، حينما قال موسى للخضر عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] فهذه الآيات في هذا الموضع في القرآن الكريم تبين لنا أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، فمادمت تريد أن تتعلم وأن تستفيد فلابد من مراعاة هذه الآداب:

أحد هذه الآداب أنه جعل نفسه تبعاً له، فقال له: (هل أتبعك) بخلاف من يذهب إلى الشيخ وإذا به يناطحه رأساً برأس وكلمة بكلمة، ويجلس متربصاًً كي يقذف سهام الاعتراض والتجاوز على شيخه، لكن انظر كيف أن نبي الله موسى كليم الله يرحل هذه الرحلة الشاقة التي يقول في شأنها: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]، وذلك في سبيل طلب العلم، ففي في سبيل طلب العلم رحل موسى هذه المسافة الكبيرة.

فلما لقي الخضر عليه السلام قال له: (هل أتبعك)، فموسى جعل نفسه تبعاً لمن يريد أن يتعلم منه.

ومن هذه الآداب أيضاً أنه استأذن في إثبات هذه التبعية، ولم يقل له: أنا تابع لك. وإنما تلطف واستأذن فقال: (هل أتبعك) يعني: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك؟ وبلا شك أن هذه مبالغة عظيمة في التواضع من موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

وأيضاً قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف:66] فهذا يتضمن الإقرار على نفسه بالجهل، وإقراراً لأستاذه بالعلم، فهناك عالم وهناك متعلم مفتقر إلى هذا العلم ولذلك قال موسى عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] فأثبت أنه طالب علم مفتقر إلى ما عنده من العلم، ثم قال: تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] و(من) هنا للتبعيض، يعني: من بعض ما علمك الله سبحانه وتعالى. فهذا أيضاً -بلا شك- مشعر بالتواضع، وكأنه يقول له: لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءاً من ماله.

وأيضاً قال موسى عليه السلام: أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ [الكهف:66] إشارة إلى الاعتراف بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي علمه ذلك العلم، وفي ذلك نسبة الفضل إلى صاحبه والمفيض به وهو الله عز وجل، وقوله: رُشْدًا [الكهف:66] هذا طلب منه للإرشاد والهداية، والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل للإنسان لحصلت له الغواية والضلال.

وقوله: أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ [الكهف:66] طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به، ولم يقل: أن تعلمن مما تعلمت. أو: تعلمن مما عندك من العلم. وإنما أشار إشارة عظيمة جداً هنا فقال: أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ [الكهف:66] وفي هذا إشارة في غاية التهذيب والأدب والتواضع، أي أنه كما علمك الله فعلمني مما علمك الله. يعني: عاملني بجنس ما عاملك الله به، فبما أن الله أفاض عليك بهذا العلم فقابل أنت هذه النعمة بالشكر بأن تفيض علي أيضاًً مما علمك الله. ولعل هذا هو حكمة قوله: مِمَّا عُلِّمْتَ [الكهف:66] وعدم قوله: مما عندك من العلم. أو: مما تعلمت. وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم، ولهذا شاع في العبارة المشهورة على ألسنة الناس: أنا عبد من تعلمت منه حرفاً. أو: من علمني حرفاً صرت له عبداً. وطبعاً ليس معناها العبودية التي هي عبودية من دون الله، لكن المقصود العبد الرقيق، يعني أنه يملكني كالعبد أو الرقيق.

كما أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: (لا إله إلا الله) فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة، فلا تكون متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة؛ لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها، وإنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا إنما أتينا بها لأجل أنه صلى الله عليه وسلم أتى بها، ولا جرم حينئذ أننا يصدق علينا الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا مختصون بتبعيتنا له، قال عز وجل: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158] وقال سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وفي هذا أمر لنا بالاتباع.

فقول موسى عليه السلام: (هل أتبعك) يدل على أنه سيأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها، وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض فيما لا يصادم الشرع مصادمة صريحة.

كذلك قوله: (أتبعك) يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء.

وأيضاً ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أنه من بني إسرائيل؛ لأن موسى لما أتى إلى الخضر عليه السلام قال له: من أنت؟ قال: موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ فالخضر عرف أن الذي يحادثه هو من بني إسرائيل، وأنه موسى صاحب التوراة، وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة، وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة، وهذا هو اللائق به؛ لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان طلبه لها أشد، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد؛ لأنه يعرف قيمة العلم.

وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

أدبني الدهر فأراني نقص عقلي كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي

وكذلك في قوله: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف:66] أثبت كونه تبعاًً له أولاً، ثم طلب ثانياً منه أن يعلمه.

وكذلك قال موسى عليه السلام: (هل أتبعك على أن تعلمن)، فلم يطلب على تلك المتابعة شيئاً غير التعليم، كأنه قال: لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه، ولا غرض لي إلا طلب العلم.

وهذا هو محصل ما ذكره الفخر الرازي في هذا الباب، حيث ذكر الآداب المستقاة من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام.