المستقبل للإسلام


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فقد طرح المستشرق الإنكليزي المعاصر استبن سؤالاً يقول فيه: هل يمكن أن نقع يوماً تحت وطأة الخطر الإسلامي؟

ثم أراد أن يأتي ببعض الأجوبة، فقال: أجل، إنهم اليوم دعاة متفرقون، لا نرى عزماً أكيداً لدى كبارهم يحملهم على التضحية، ولا نرى عند ذوي الرأي والوجاهة فيهم أنهم يستطيعون الجلوس معاً جلسة جدية يتحدثون فيها عن مشاكلهم فضلاً عن أن يتكلموا عن حلها، ففي طوال ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن من تاريخ الإسلام يصعب أن نشير إلى حالة واحدة اجتمع فيها ممثلون من جميع أقطار العالم الإسلامي ليتشاورا في مشاكل تعنيهم جميعاً، وليقروا اتباع طريق واحد في العمل.

يقول: إن المسلمين قد يستمرون مدة طويلة من الزمن في هذا التفرق والتشرذم، لكن ينبغي أن لا نبالغ في تقدير طول هذه المدة؛ لأن هناك ظاهرة كثيراً ما يهملها الباحثون في حركات المجتمع الإسلامي مهما كان نوعها، وهي أنها تنضج بسرعة مدهشة، حتى إن وجودها -كما أشار الأستاذ لاسنيون أحد المستشرقين الفرنسيين- يندر أن يخطر على بال أحد قبل أن يندلع لهيبها ويروع العالم، والمسألة الكبرى هي مسألة الزعامة، فحينما يجد الإسلام صلاح الدين الجديد رجلاً يجمع بين الحنكة السياسية العظيمة وبين شعور برسالته الدينية يبلغ أعماق نفسه فإن ما عدا ذلك ينحل من تلقاء نفسه. اهـ

أما الأمريكي جورج تتسون فيقول في كتاب الشرق الأوسط في مؤلفات الأمريكيين: إن المآثر التي قامت بها الشعوب التي تتكلم اللغة العربية بين القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر كانت عظيمة لدرجة تخمل أجسامنا، وإن شعوب الشرق الأوسط سبق لها أن قادت العالم في مرحلتين طول ألفي عام على الأقل قبل أيام اليونان، وفي العصور الوسطى لمدة أربعة قرون، وليس ثمة ما يمنع تلك الشعوب من أن تقود العالم مرة ثالثة في المستقبل القريب أو البعيد. اهـ

ويقول أستاذ فرنسي لطلابه إبان الاحتلال الألماني لفرنسا في الحرب العالمية الثانية -والذي حكى هذه القصة طالب عربي كان يتلقى العلم عليه في ذلك الوقت-، قال لمن يريد أن يربيهم للمستقبل من أبناء بلاده منبهاً إياهم ومعزياً أولاد بلاده الفرنسيين عن الاحتلال الألماني: إن الخطر الذي داهمهم من الألمان ليس هو الذي يخافه عليهم وعلى مستقبلهم، وإنما الخطر الجدير بالخوف هو ما يمكن أن تأتي به هذه الشعوب التي تربض خلف البحر الأبيض المتوسط؛ لأن خطرها هو الذي يهز الكيان ويزلزل الأركان. ا هـ

قال هذا والعرب والمسلمون في أشد حالات الضعف.

ويقول لورن استرون : لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد الاختبار لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي والخطر الأطلس باليابان وتزاعمها على الصين، وبالخطر البلشفي، إلا أن هذا التخوف كله ما وجدناه كما تخيلناه؛ لأننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد، ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا أثناء الحرب العالمية الثانية، أما الشعوب الصفراء فإن هناك دولاً ديمقراطية كبرى تتكفل بمقاومتها، ولكن الخطر الحقيقي كامن في المسلمين، وفي قدرتهم على التوسع والإخضاع، وفي الحيوية المدهشة العنيفة التي يمتلكونها، ألا إنهم السد الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي. اهـ

وهذا سلا زار يصرح في حديث له فيقول: الخطر الحقيقي هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون من تغيير نظام العالم. فقيل له: إنهم في شغل عن أن يفكروا في هذا لخلافاتهم ونزاعاتهم، فقال: إني أخشى أن يخرج من بينهم من يوجه خلافهم إلينا. ا هـ

**ويقول أحد علماء (الصربون) في إحدى مؤلفاته: إن العالم فيه ثلاث قوى: قوة الشرق، وقوة الغرب -والآن حصل تغيير- وهناك قوة ثالثة لو عرفت نفسها لأمكنها أن ترث القوتين وهذه القوة هي القوة الكامنة وراء يقظة المسلمين؛ لأن لهم نظرة انفردوا بها عن العالم في تنشأة الرجال. ا هـ

وقال أحد المسئولين في وزارة خارجية فرنسا سنة (1951م) ليست الشيوعية خطراً على أوروبا فيما يبدو لي، فهي حلقة لحلقات سابقة، وإذا كان هناك خطر فهو خطر سياسي عسكري فقط، ولكنه على أي حال ليس خطراً حضارياً تتعرض معه مقومات وجودنا الفكري والإنساني للزوال والفناء، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً عنيفاً هو الخطر الإسلامي، والمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي خاصة، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، وهم جديرون أن يقيموا بها قواعد عالم جديد دون حاجة إلى الاستغراب -أي: دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية بصورة خاصة في الشخصية الحضارية الغربية- وفرصتهم في تحقيق أحلامهم هي في اكتساب التقدم الصناعي الذي أحرزه الغرب، فإذا أصبح لهم علمهم، وإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الفتي، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الروح الغربية، ويقذفون رسالتهم إلينا عبر التاريخ، وقد حاولنا خلال حكمنا الطويل في الجزائر أن نتغلب على الشخصية التاريخية لسعة هذا البلد فلم نأل جهداً في فرض شخصية غربية لهم؛ فكان الإخفاق الكامل من نتائج مجهودنا الضخم الطويل. إن العالم الإسلامي يقعد اليوم فوق ثروة خيالية من الذهب الأسود والمواد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة، وهو في حاجة إلى الاستقلال في استغلال هذه الإمكانات الضخمة الكامنة في بطون سهوله وجباله وصحاريه، فهو -وتأملوا هذه العبارة- في عين التاريخ عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه بعد اكتشافاً تاماً، فهو حذر، وهو قلق، وهو كاره لماضيه في عصر الانحطاط، راغب رغبة يخالطها شيء من الكسل أو بعبارة أخرى من الفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر، فلنعطي هذا العالم ما يشاء، ولنقوي في نفسه الرغبة في الإنتاج ، ولنصنع له ما يشاء من منجزات الصناعة الحديثة؛ شرط أن نبتعد به عن الإنتاج الصناعي والفني -ويقصد الإنتاج التكنولوجي- فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة، وتحرر العملاق من قيود جهله، وعقدة الشعور بعجزه من مباراة الغرب في الإنتاج؛ فقد بوءنا بالإخفاق الذريع، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً يتعرض به التراث الحضاري الغربي لكارثة تاريخية ينتهي بها الغرب، وتنتهي معه وظيفته القيادية. ا هـ

أما (جوستريونغ) فقد كتب كتاب أثناء الحساب الأخير الذي اخترعه -يعني: تصفية الحساب- وهو يعني أن العالم الإسلامي سيفيق، وسوف ينتقم من العالم الغربي واليهود الصهيونية ويتولى هو حسابهم.

يقول: إن العالم الإسلامي قد أفلت من قبضة الموت الذي أعده ونسق أكفانه الاستعمار الأوروبي، وإن العالم الإسلامي يسرع الخطا إلى الشباب، فيصفي حسابه مع الاستعمار الأوربي الصهيوني، وهو حساب عسير رهيب. اهـ

جاء في مجلة التاريخ الجاري الأمريكية مقال بعنوان: محمد عليه الصلاة والسلام: محمد يتهيأ للعودة، وفي عنوان آخر: إن المسلمين رقدوا خمسمائة سنة، وهم يتحركون الآن ويتوثبون إلى استنفار.

وقال الفير نشادور : إن هذا المسلم الذكي الشجاع قد ترك لنا حيث حل آثار علمه وفنه، آثار مجده وفخاره، إن هذا المسلم الذي نام نوماً عميقاً مئات السنين قد استيقظ وأخذ ينادي: هأنذا لم أمت إني أعود إلى الحياة، لا لأكون أداة طيعة أو كتلاً بشريه تسيرها العواصف الكبرى. ثم قال: ومن يدري قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددة بالمسلمين، فيهبطون من السماء لغزو العالم مرة ثانية في الوقت المناسب أو الزمن الموقوت؟! لست أدعي النبوة، ولكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة لا تقوى الذرة ولا الصورايخ على وقف تيارها. اهـ

هذا ما يقوله شخص يستقرئ أحداث التاريخ وعبره، فماذا يقول الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] صلى الله عليه وآله وسلم.

أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير من النصوص التي تبشر بأن المستقبل حتماً للإسلام، وهذه حقيقة نوقن بها تماماً كما نؤمن أن الشمس غداً ستشرق من المشرق؛ يقول الله تبارك وتعالى في شأن هؤلاء الكفار: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة:32]، تخيل أن اليهود والنصارى يحاولون إطفاء نور الله بأفواههم، والله عز وجل يأبى إلا أن يتم نوره.

فهم الآن في كل بقاع العالم الإسلامي يحاولون إطفاء نور الله، يحاولون وأد الصحوة الإسلامية بأفواههم، وبكل ما أوتوا من قوة، انظر إلى هذا التمثيل! تخيل نوراً عظيماً، وهناك أناس يحاولون أن يطفئوه، كل واحد ينفخ ليطفئه بفمه، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32] * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] حتى وإن كرهوا فلابد أن تحقق كلمة الله عز وجل.

عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) فهذه نبوءة بأن الإسلام سوف يسيطر على كل الكرة الأرضية.

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] أن ذلك يكون تاماً؟! قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله).

(أن ذلك يكون تاماً) يعني: أن وعد الله بظهور هذا الدين على سائر الأديان سوف يتحقق لا محالة، فبشرها عليه الصلاة والسلام وقال: (إنه سيكون من ذلك ما شاء الله).

وعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً) وهو ما نحن فيه الآن ومنذ زمن بعيد قال: (ثم تكون ملكاً جبرياً فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).

إذاً: سوف ينتهي هذا الليل الحالك بإشراق شمس الإسلام من جديد: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) وفي هذا إشارة إلى أنه بقدر ما تقترب الدعوة من منهاج النبوة بقدر ما تكون هي المؤهلة لإعادة التمثيل لهذه الخلافة.

ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)، ويقول أيضاً: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)، ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره)، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: (بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب).

تحقق وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية -أي: روما-؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً) يعني: القسطنطينية، وتحقق هذا بعد حوالى ثمانمائة سنة على يد السلطان محمد الفاتح العثماني.

ولهذا السلطان ترجمة طيبة نرجو أن تأتي فرصة نتكلم بالتفصيل في ترجمته وحياته، لكن نشير إشارة عابرة إلى شيء مهم جداً يعكس أننا لابد أن نهتم دائماً بالجيل القادم، لابد أن نربي أولادنا لأجل أن يحملوا هذه الرسالة، وإذا كنا قد هدينا إلى الالتزام وإلى الإسلام في سن متأخرة، ربما التزم بعض الإخوة بعد أن دخل الجامعة أو في ثانوي، فنرجو أن يكون الجيل المقبل إن شاء الله أسعد حظاً في أن ينشأ من صغره على هدف يعيش من أجله.

قصة محمد الفاتح باختصار شديد أنه كان ابن السلطان، فكان يؤدبه شيخ وهو طفل صغير، ومؤدبه يدعى أخ شمس الدين ، وكان هذا العالم المربي هو الذي يربيه ويهذبه ويعلمه، وكان هذا الشيخ يأخذ يد الطفل الصغير محمد الفاتح بين وقت وآخر، ويذهب به إلى الساحل الذي يفصل آسيا عن أوروبا؛ لأن اسطنبول يقع جزء منها في آسيا وجزء منها في أوروبا، وكانت تسمى (الاستانة) في الحقيقة لكن أتاتورك سماها اسطنبول، وهي أصلاً (إسلام بول) يعني مدينة الإسلام، فكان يأخذ محمد الفاتح وهو صبي صغير إلى الساحل بصفة مستمرة، ويقول له: انظر إلى هذه المدينة التي هناك، هذه المدينة هي القسطنطينية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون القسطنطينية، فنعم الجيش جيشها، ونعم الأمير أميرها)، ثم ينصرف، ثم يأخذه بعد ذلك مرة أخرى، ويسحبه بيده وهو طفل صغير، فظل مداوماً على هذا حتى تولد لدى هذا الصبي الصغير الهمة في أن يدخل في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمغفرة لهذا الجيش، وبالمدح والثناء لأميره: (فنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشها) فعاش لأجل هذا الهدف فقط لا لغاية أخرى، وهذا الشيخ كان يعلم أن هذا الرجل سيكون في يوم من الأيام سلطاناً، فأراد أن يساهم في تحقيق هذا النصر العظيم، فأوجد في هذا الصبي من صغره هذه الهمة، فيعيش ليؤدي هذه الرسالة، ويحمل هذا الشرف، ليس كل همه أن يجمع المال، وأن يخرج بمنصب مرموق، وأن يعيش عيشة طيبة، فهذه همة دون، أما أصحاب الهمم العالية فهم يهتمون بمعالي الأمور.

فعليك أن تربي أولادك، لا يبعد أن يكون ابنك الصغير الذي يركض في المهد ويصرخ ويصيح هو الذي سوف يمكن الله للإسلام على يديه، لا تحتقر ما في هذه الأجيال والأطفال من طاقات، فينبغي الاهتمام الشديد بالأجيال المقبلة، ونرجو أن تكون أسعد حظاً من جيلنا.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية -أي: روما-؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً) يعني: القسطنطينية، وتحقق هذا بعد حوالى ثمانمائة سنة على يد السلطان محمد الفاتح العثماني.

ولهذا السلطان ترجمة طيبة نرجو أن تأتي فرصة نتكلم بالتفصيل في ترجمته وحياته، لكن نشير إشارة عابرة إلى شيء مهم جداً يعكس أننا لابد أن نهتم دائماً بالجيل القادم، لابد أن نربي أولادنا لأجل أن يحملوا هذه الرسالة، وإذا كنا قد هدينا إلى الالتزام وإلى الإسلام في سن متأخرة، ربما التزم بعض الإخوة بعد أن دخل الجامعة أو في ثانوي، فنرجو أن يكون الجيل المقبل إن شاء الله أسعد حظاً في أن ينشأ من صغره على هدف يعيش من أجله.

قصة محمد الفاتح باختصار شديد أنه كان ابن السلطان، فكان يؤدبه شيخ وهو طفل صغير، ومؤدبه يدعى أخ شمس الدين ، وكان هذا العالم المربي هو الذي يربيه ويهذبه ويعلمه، وكان هذا الشيخ يأخذ يد الطفل الصغير محمد الفاتح بين وقت وآخر، ويذهب به إلى الساحل الذي يفصل آسيا عن أوروبا؛ لأن اسطنبول يقع جزء منها في آسيا وجزء منها في أوروبا، وكانت تسمى (الاستانة) في الحقيقة لكن أتاتورك سماها اسطنبول، وهي أصلاً (إسلام بول) يعني مدينة الإسلام، فكان يأخذ محمد الفاتح وهو صبي صغير إلى الساحل بصفة مستمرة، ويقول له: انظر إلى هذه المدينة التي هناك، هذه المدينة هي القسطنطينية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون القسطنطينية، فنعم الجيش جيشها، ونعم الأمير أميرها)، ثم ينصرف، ثم يأخذه بعد ذلك مرة أخرى، ويسحبه بيده وهو طفل صغير، فظل مداوماً على هذا حتى تولد لدى هذا الصبي الصغير الهمة في أن يدخل في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمغفرة لهذا الجيش، وبالمدح والثناء لأميره: (فنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشها) فعاش لأجل هذا الهدف فقط لا لغاية أخرى، وهذا الشيخ كان يعلم أن هذا الرجل سيكون في يوم من الأيام سلطاناً، فأراد أن يساهم في تحقيق هذا النصر العظيم، فأوجد في هذا الصبي من صغره هذه الهمة، فيعيش ليؤدي هذه الرسالة، ويحمل هذا الشرف، ليس كل همه أن يجمع المال، وأن يخرج بمنصب مرموق، وأن يعيش عيشة طيبة، فهذه همة دون، أما أصحاب الهمم العالية فهم يهتمون بمعالي الأمور.

فعليك أن تربي أولادك، لا يبعد أن يكون ابنك الصغير الذي يركض في المهد ويصرخ ويصيح هو الذي سوف يمكن الله للإسلام على يديه، لا تحتقر ما في هذه الأجيال والأطفال من طاقات، فينبغي الاهتمام الشديد بالأجيال المقبلة، ونرجو أن تكون أسعد حظاً من جيلنا.

الأدلة على أن المستقبل للإسلام كثيرة جداً، وقد ذكرنا منها من غير نصوص الوحي من الكتاب والسنة أقوال المفكرين والمشاهير من الغربيين الذين يقرون بهذه الحقيقة، مع أننا في أشد حالات الضعف والهوان، فالأمة الإسلامية لن تتخلى عن عقيدتها بالرغم من الذل الذي تتجرعه كل وقت، ومع ذلك هم يخافون من الأمة! لماذا؟

لأنهم يعرفون مكامن القوة في هذه الأمة.

ومن الأدلة أيضاً: أن الإسلام هو دين الفطرة، وهذا الدين حفظه الله عز وجل من التحريف، فهو منهج حياة شامل، يسهل كل مقومات الحياة، والبشرية الآن في حالة تعطش إلى الإسلام، من يرى أحوال الكفار أو يسمعها أو يقرأها سيحكم أن هذه الأمم كلها انهارت، وليست الشيوعية فقط الذي انهارت، بل العالم الغربي الآن منغمس في حمئة الرذيلة، وأسباب الانهيار تعمل فيه بأقصاها لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران:196].

وإذا أردنا أن نتكلم عن انهيار النظم البشرية فلن نضع أمريكا في مؤخرة القائمة بل هي في أول هذه القائمة؛ لأنها مع قوتها المادية الهائلة إلا أنها منهارة انهياراً شديدة جداً، ومن الخيانة أن كثيراً من الكتاب والناس يعودون من تلك البلاد فيمدحونها مدحاً شديداً حتى يصوروا للناس أنها الفردوس المفقود، لكن من خبر الأمر على حقيقته وجد أننا متقدمون عنهم بمراحل عظيمة جداً مع ما نحن فيه من الانحراف عن الإسلام، فاعملوا أن إخوانكم الذين يعيشون هناك، وفيه خير، وفيه ولاء لله ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ فإنه يعتبر عودته إلى مصر -على ما فيها من فساد- أمنية عظيمة جداً، لكنه دخل في أسر الدنيا، فقل من يضحي حتى يعود إلى بلاد المسلمين، فهم جميعاً في حاله شقاء وضنك وعذاب وحرمان من نعمة الحياة بين المسلمين.

فالمقصود أن الانهيار ليس فقط في الشيوعية، ولكن أيضاً أمريكا في قمة من ينهار في الحقيقة، والبشرية الآن كلها تبحث عن منقذ، ليس عندهم قيم في أمور البشرية على الإطلاق، ليس عندهم أي شيء يقدموه للبشرية.

ومن الأدلة أيضاً: أن بشائر الصحوة الإسلامية في كل أرجاء العالم الإسلامي -بل في أعماق أوروبا وأمريكا نفسها- تطل من جديد، مع أن الجهود الدعوية التي تبذل في كل البلاد الإسلامية دون المستوى المطلوب بكثير جداً، ومع ذلك فتجد انتشاراً كبيراً جداً لهذه الصحوة؛ فهذا مما يبشر باقتراب هذا الوعد والأجل المحتوم، يقول الله تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110]، ويقول الله تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى:28]، فبعد القنوط والإياس يأتي النور والحياة؛ لكن هذا الدين لم يقم إلا على تضحيات وبذل وأشلاء وجماجم، ولم توقد مصابيح الهداية إلا بدماء الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة.

عدم اليأس من النصر بسبب حال المسلمين اليوم

عن خباب رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله! ألا تدعوا لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، فتأمل هذا الحديث، وانظر إلى الحال التي نحن فيها الآن من الضعف، فالحال في كثير من بلاد المسلمين ليست كالحالة التي نطق فيها النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث، قال الصحابي: (وقد لقينا من المشركين شدة)، فقد كان المشركون يعذبون الصحابة أشد العذاب، ولما هرعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدل عن الدعاء لهم بتسليتهم وتعزيتهم بأن هذه سنة من الله ماضية، ولابد من البلاء، وبشرهم بالنصر وهم في هذه الحالة من الضعف، والدعوة كانت في بدايتها، والصحابة كانوا يعذبون أشد العذاب، وهذا كما جاء في الحديث الآخر: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا)، يعني: لم يزل شكوانا، ولم يدع لنا؛ لأن هذه سنة ماضية من الله عز وجل.

وفي هذه الحالة من الاضطهاد الشديد بشرهم رسول الله صلى الله علي وسلم بالأمل، وأحيا في نفوسهم الأمل بالتمكين للدين، بل حلف على ذلك وهو الصادق المصدوق فقال: (والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر)، ونحن الآن نقسم أيضاً أن الله سيتم هذا الأمر كما وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88].

نختم الكلام بقصة سراقة بن مالك عندما كان يطارد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه كما في حديث الهجرة، فكان يتعثر به فرسه كلما هم أن يلحق الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه بدافع الطمع في الجائزة المغرية التي نصبتها قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أو بخبر عنهما، ثم ساخت قوائم فرسه في الأرض، فناداهما أن ينقذاه على أن يرجع، وعاهد النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه أن يكفيهما من وراءهما، ويضلل قريش حتى لا تصل إلى طريقهما، فخطر في نفسه أن يرجع ويغدر، ويعود من جديد في ملاحقتهما طمعاً في تلك الجائزة، وفي هذه اللحظة التي حدث فيها نفسه بهذه النية وهذا الهم طمعاً في الجائزة إذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول له: (يا سراقة ! كيف بك وسواري كسرى في يديك؟!)، يقول الشيخ سيد قطب رحمه الله تعالى في كتابه المستقبل لهذا الدين: يعده سواري كسرى ملك الفرس، والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة حول هذا العرض العجيب من ذلك المطارد الوحيد إلا من صاحبه الذي لا يغني شيئاً عنه، والمهاجر سراً معه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عارفاً بالحق، وعارفاً بالباطل الذي عليه أهل الجاهلية في الأرض كلها يوم ذاك، كان واثقاً من أن هذا الحق لابد أن ينتصر على الباطل، وأنه لا يمكن أن يوجد الحق في صورته هذه، وأن يوجد الباطل في صورته هذه، ثم لا يكون ما يكون، كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها بحيث لا يصلحها ري ولا سماد، كانت قد خرفت بحيث يتحتم أن تجتث، وكانت البذرة الطيبة في يده معدة للغرس والنماء، وكان واثقاً من هذا كله ثقة اليقين، ونحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته وكل سماته مع الجاهلية كلها من حولنا، فلا يجوز من ثم أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة، العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا. إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج ليست بأقل من حاجتها يوم ذاك، وإن وزن هذا المنهج اليوم بالقياس إلى كلما لدى البشرية من مناهج لا يقل عنه يوم ذاك ومن ثم ينبغي ألا يخالجنا الشك بأن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لابد أن يقع، ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك بسبب ما نراه من حولنا من التصرفات الوحشية التي تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان.

ونسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما قلنا، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.