اختيار الزوجة الصالحة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فلا زال حديثنا متواصلاً عن جيل التمكين.. وكيف السبيل إليه، ولقد ذكرنا أن أهم غراسٍ يغرسه الإنسان هو الولد، وهذا الغراس يحتاج إلى ثلاثة أشياء: إلى أرضٍ خصبة، وعاملٍ جيدٍ، وماءٍ عذب، وقلنا في الأرض -والمقصود بها المرأة-: يشترط فيها أشياء:

أولها ومحور ارتكازها هو: الدين، فالنبي صلى الله عليه وسلم حث على اختيار ذات الدين فقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ولا مانع أن تضم صفةً أو صفتين أو أكثر مع الدين.. لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ، وجمالها، وحسبها، ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) فذات دينٍ جميلةٍ أفضل من ذات دينٍ فقط، وذات دين جميلة وغنية أفضل من ذات دينٍ جميلة فقط، وهكذا...

نذكر اليوم صفتين ذكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث معقل بن يسار ، الذي رواه النسائي وأبو داود قال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة) الودود الولود: انظر إلى هذا الجمع! إن هناك ارتباطاً قوياً جداً بين الود وبين ولادة المرأة، إن الرجل قد يحب المرأة لأجل أولادها، ويحب الأولاد لأجل أمهم، والعلاقة بين الرجل والمرأة إذا أنجب منها الولد أقوى وأمكن من العلاقة بين الرجل والمرأة التي لا ينجب منها؛ ولذلك جمعهما معاً: (الودود الولود) الودود: كثيرة الود، عروب، محبةٌ لزوجها، لا تنغصه ولا تكدره.

وإنه ليطول عجبي أن تدفع المرأةُ زوجها دفعاً إلى العمل لفترة وفترتين وثلاث، ثم يأتي الرجل إليها في آخر اليوم يشتكي ألم مفاصله، وظهره، ويشتكي صداعاً في رأسه، ومع ذلك لا ترضى عنه المرأة!! أي ودٍ هذا؟! وأي وفاء؟! كيف تسعد المرأة بحياتها وهي ترى زوجها يعاني كل هذه المعاناة، ولا تعيش معه على ذات يده؟

إن النبي عليه الصلاة والسلام امتدح نساء قريش، كما روى ذلك الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (خير نساءٍ ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد، وأرعاه على زوجٍ في ذات يده)؛ لذلك كنَّ خير النساء..

تريد أن تعرف المرأة الودود؟ انظر إلى حال خديجة رضي الله عنها، سيدة النساء، ورد في الصحيحين من حديث عائشة ذكر بدء الوحي: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء؛ ولما جاءه الملك وقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. وهزه هزاً عنيفاً، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره يرجف فؤاده، وقال: زملوني.. زملوني، وقال لـخديجة : لقد خشيتُ على نفسي، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً -وفي روايةٍ وقعت في بعض روايات صحيح البخاري، قالت-: كلا. والله لا يحزنك الله أبداً. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلْ، وتقْري الضيف، وتساعد الضعيف، وتعين على نوائب الحق) فانظر إلى كمال عقلها وصدقها وحسن مواساتها لزوجها!

أما كمال عقلها: فلأن الإنسان إذا أصابه الروع والفزع احتاج أن يذكره أحد بمآثره وصفاته، ومن أمثلة ذلك ما رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن كماشة النهري رحمه الله قال: دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فلما رآنا حول وجهه إلى الجدار وبكى طويلاً، فأقبل عليه ابنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقال: يا أبتِ! ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فواساهُ وذكره بالبشارات وهو بين يدي الموت، وهذا أدعى لأن يطمئن قلبه، فلما سمع ذلك أقبل عليهم، فقال: لقد رأيتني على أطباق ثلاث -أي: على ثلاث مراحلٍ في حياتي- رأيتني وما أحدٍ أشد بغضاً إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إلي من أن أكون استمكنت منه فقتلته، فلئن متُ على هذا الحال لكنت من أهل النار، ثم أسلمتُ فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: (يا رسول الله! ابسط يدك لأبايعك، فبسط يده، فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو ؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أشترط أن يغفر لي، قال: يا عمرو ! أو ما علمت أن الإسلام يهدم ما قبلهُ، وأن الحج يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، قال: فما كان أحدٌ أحبّ إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، وما كنت أملأُ عيني منه إجلالاً له، ولئن سُئلت أن أصفه لكم ما استطعت ذلك؛ لأنني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، فلئن متُ على هذا الحال لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة؛ ثم حدثت أشياء لا أدري ما الله صانعٌ بي) .

لما حضرت سفيان الثوري رحمه الله الوفاة انتفض وبكى، فقال له عبد الرحمن بن مهدي -تلميذه الوفي- ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟ اسكن، فسكن، ففزع من الموت، فذكره أنه قادمٌ على الذي سجد له وركع، والذي كان يقوم له الليالي، والذي كان يتحمل الهجير في الصيام من أجله، فذكره وما كان سفيان يغفل وقد قضى حياته كلها لله عز وجل، لكنه الفزع الذي ينسي الإنسان حلمه ويزيل عنه عقله.

فإذا وقع المرء في مثل هذا الفزع احتاج إلى حسن المواساة، وقد رجع النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده مما رأى وهو يقول: (لقد خشيت على نفسي، فقالت -وصدرت ذلك بالقسم من قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً) واستدلت بكريم شمائله، وجميل نعوته على أنه لا يخزيه، فقالت: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل -أي: العالة يحمله حملاً- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) فكيف يخزى من هذه صفاته؟!!

وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة

أيها الرجال! أعينوا النساء على البر، إن الصدق هو أقصر طريق للإقناع، كن رجلاً في بيتك واحذر أن تسقط من عين امرأتك بالكذب أو بالخداع أو بالمماراة.. الصدق أقصر طريق للإقناع، إنك ترفع امرأتك رفعاً إذا كنت على هذا المستوى، واعتبر بما رواهُ البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أول من اتخذ المنطق هاجر ، ثم ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام من الشام إلى مكة ، وقد حمل هاجر وابنها إسماعيل إلى مكة ، ولم يكن بها إنسان قط، فحملها وتركها في مكة ورجع إلى الشام ، فنادته: يا إبراهيم! يا إبراهيم! يا إبراهيم! فلم يلتفت ولم يرد، ومضى، فتركت ولدها ومضت تعدو خلفه، حتى أدركته في عوالي مكة .. إلى من تتركنا وليس بمكة إنسي؟ فلم يرد عليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم. فقالت: رضيت بالله..) ورجعت هاجر وبقيت في مكة وحدها، تمضي عليها الليالي والأيام وهي وحدها، قضت فترة طويلة، ليس بمكة إنسان تأنس به.. لما قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. وفي روايةٍ: (فلم يرد عليها، ولكن أومأ برأسه -أي: نعم، قالت: إذاً: لا يضيعنا) وفي رواية البخاري : (قالت: رضيت بالله)، صدق الرجل له أثرٌ عظيم في استقامة المرأة، ما فسدت نساؤنا إلا بعد أن فسد رجالُنا، وما نشزت امرأةٌ في الغالب إلا كان الرجل سبباً في نشوزها، لأنه لم يقم عليها بحق القوامة.

نظرت خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأت فيه رجلاً أميناً صادقاً وفياً، وكان كثير الثناء عليها بعدما ماتت، حتى قالت عائشة رضي الله عنها -كما رواه البخاري وغيرهُ- (ما غرت على امرأةٍ قط غيرتي على خديجة ).

يقول الإمام الذهبي رحمه الله: وهذا أعجب شيء أن تغار من امرأةٍ ميتة، ولا تغار من نسوة يعشن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تغار من أم سلمة ، ولا من أم حبيبة ، ولا من حفصة ، ولا من زينب .. وتغار من امرأةٍ ميتة! وهذا من لطف الله بنبيه حتى لا يتكدر عيشه.

تقول عائشة : (ما غرت على امرأةٍ قط غيرتي من خديجة لكثرة ما كان يذكرها ويثني عليها، وقد كان عليه الصلاة والسلام يذبح الذبيحة فيقطع الأعضاء ثم يرسل إلى صديقات خديجة ، فقلت له يوماً: كأن ليس في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة ، فقال لي: إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد).

وفي إحدى المرات -كما في صحيح البخاري- : (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة -وكان صوتها يشبه صوت خديجة ، واستئذانها يشبه استئذان خديجة ، وذلك بعد موت خديجة رضي الله عنها بزمان- استأذنت هالة بنت خويلد ، فلما سمع صوتها ارتاع لذلك -ارتاع أي: فزع، وهذا فزع الشوق واللهفة، وفي رواية أخرى: ارتاح لذلك- فقال: اللهم هالة -يعني: اللهم اجعلها هالة ، نفس الاستئذان ونفس الصوت- قالت عائشة: فغرت -مجرد الصوت يذكره بها فقلت له: وما تفعل بعجوزٍ حمراء الشدقين هلكت في الدهر أبدلك الله خيراً منها؟) قولها: (حمراء الشدقين) كناية عن سقوط أسنانها، وعديم الأسنان لا يبقى في فمه إلا حمرة اللثة وقولها: (أبدلك الله خيراً منها) أي: تقصد نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا ليس عند البخاري : (لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كذبني الناس، وأعطتني إذ حرمني الناس، وواستني بمالها عندما منعني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء).

خديجة من أكمل النساء

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: خديجة ، ومريم ، وفاطمة وامرأة فرعون) إن لـخديجة رضي الله عنها الشرف في أن تأخذ أجر كل مؤمنة بعدها إلى يوم القيامة؛ لأنها أول من آمنت به مطلقاً، قبل أبي بكر الصديق ؛ ولأنها أول من علمت ببعثته صلى الله عليه وسلم، فآمنت به، فلها أجر كل مؤمنٍ إلى يوم القيامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) فـخديجة هي التي سنت سُنة الإيمان.

وقال صلى الله عليه وسلم مؤكداً لهذه القاعدة: (ما من نفسٍ تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ منها)؛ لأنهُ أول من سن القتل، ابن آدم الأول الذي قتل أخاه، يحمل كفلاً وتبعةً من كل رجلٍ قتل ظلماً إلى قيام الساعة.

والذي يسن وينشر الدين والعلم والسنة في بلدٍ ليس فيها شيءٌ من ذلك؛ له أجر الدعاة إلى هذا الدين إلى يوم القيامة.

أيها الرجال! أعينوا النساء على البر، إن الصدق هو أقصر طريق للإقناع، كن رجلاً في بيتك واحذر أن تسقط من عين امرأتك بالكذب أو بالخداع أو بالمماراة.. الصدق أقصر طريق للإقناع، إنك ترفع امرأتك رفعاً إذا كنت على هذا المستوى، واعتبر بما رواهُ البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أول من اتخذ المنطق هاجر ، ثم ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام من الشام إلى مكة ، وقد حمل هاجر وابنها إسماعيل إلى مكة ، ولم يكن بها إنسان قط، فحملها وتركها في مكة ورجع إلى الشام ، فنادته: يا إبراهيم! يا إبراهيم! يا إبراهيم! فلم يلتفت ولم يرد، ومضى، فتركت ولدها ومضت تعدو خلفه، حتى أدركته في عوالي مكة .. إلى من تتركنا وليس بمكة إنسي؟ فلم يرد عليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم. فقالت: رضيت بالله..) ورجعت هاجر وبقيت في مكة وحدها، تمضي عليها الليالي والأيام وهي وحدها، قضت فترة طويلة، ليس بمكة إنسان تأنس به.. لما قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. وفي روايةٍ: (فلم يرد عليها، ولكن أومأ برأسه -أي: نعم، قالت: إذاً: لا يضيعنا) وفي رواية البخاري : (قالت: رضيت بالله)، صدق الرجل له أثرٌ عظيم في استقامة المرأة، ما فسدت نساؤنا إلا بعد أن فسد رجالُنا، وما نشزت امرأةٌ في الغالب إلا كان الرجل سبباً في نشوزها، لأنه لم يقم عليها بحق القوامة.

نظرت خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأت فيه رجلاً أميناً صادقاً وفياً، وكان كثير الثناء عليها بعدما ماتت، حتى قالت عائشة رضي الله عنها -كما رواه البخاري وغيرهُ- (ما غرت على امرأةٍ قط غيرتي على خديجة ).

يقول الإمام الذهبي رحمه الله: وهذا أعجب شيء أن تغار من امرأةٍ ميتة، ولا تغار من نسوة يعشن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تغار من أم سلمة ، ولا من أم حبيبة ، ولا من حفصة ، ولا من زينب .. وتغار من امرأةٍ ميتة! وهذا من لطف الله بنبيه حتى لا يتكدر عيشه.

تقول عائشة : (ما غرت على امرأةٍ قط غيرتي من خديجة لكثرة ما كان يذكرها ويثني عليها، وقد كان عليه الصلاة والسلام يذبح الذبيحة فيقطع الأعضاء ثم يرسل إلى صديقات خديجة ، فقلت له يوماً: كأن ليس في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة ، فقال لي: إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد).

وفي إحدى المرات -كما في صحيح البخاري- : (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة -وكان صوتها يشبه صوت خديجة ، واستئذانها يشبه استئذان خديجة ، وذلك بعد موت خديجة رضي الله عنها بزمان- استأذنت هالة بنت خويلد ، فلما سمع صوتها ارتاع لذلك -ارتاع أي: فزع، وهذا فزع الشوق واللهفة، وفي رواية أخرى: ارتاح لذلك- فقال: اللهم هالة -يعني: اللهم اجعلها هالة ، نفس الاستئذان ونفس الصوت- قالت عائشة: فغرت -مجرد الصوت يذكره بها فقلت له: وما تفعل بعجوزٍ حمراء الشدقين هلكت في الدهر أبدلك الله خيراً منها؟) قولها: (حمراء الشدقين) كناية عن سقوط أسنانها، وعديم الأسنان لا يبقى في فمه إلا حمرة اللثة وقولها: (أبدلك الله خيراً منها) أي: تقصد نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا ليس عند البخاري : (لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كذبني الناس، وأعطتني إذ حرمني الناس، وواستني بمالها عندما منعني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء).

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: خديجة ، ومريم ، وفاطمة وامرأة فرعون) إن لـخديجة رضي الله عنها الشرف في أن تأخذ أجر كل مؤمنة بعدها إلى يوم القيامة؛ لأنها أول من آمنت به مطلقاً، قبل أبي بكر الصديق ؛ ولأنها أول من علمت ببعثته صلى الله عليه وسلم، فآمنت به، فلها أجر كل مؤمنٍ إلى يوم القيامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) فـخديجة هي التي سنت سُنة الإيمان.

وقال صلى الله عليه وسلم مؤكداً لهذه القاعدة: (ما من نفسٍ تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ منها)؛ لأنهُ أول من سن القتل، ابن آدم الأول الذي قتل أخاه، يحمل كفلاً وتبعةً من كل رجلٍ قتل ظلماً إلى قيام الساعة.

والذي يسن وينشر الدين والعلم والسنة في بلدٍ ليس فيها شيءٌ من ذلك؛ له أجر الدعاة إلى هذا الدين إلى يوم القيامة.

قال الله تبارك وتعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، ثم ذكر صنفي النساء أمام هذه القوامة.

فالصنف الأول: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].

والصنف الثاني: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].

فانظر بعدما ذكر القوامة قال: (فَالصَّالِحَاتُ) أي: اللواتي لا يهدرن قوامة الرجل، ويطعن أزواجهن، ووصفهن بذلك، وقد أتى بالفاء العاطفة التي تفيد الترتيب مع سرعة المبادرة.

(فَالصَّالِحَاتُ) أي: يمتثلن مباشرةً إذا أمر الزوج بالمعروف وفي قدر الاستطاعة.

(قَانِتَاتٌ) أي: طائعات لربهن. والمرأة التي تعصي ربها يسهل عليها أن تعصي زوجها، كيف تطيع زوجها وقد نكثت على ربها؟ لذلك ذكر أول صفةٍ إذا كانت فيها أتت بقية الصفات بعد ذلك.

(حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ): (تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فسُئل: من خير النساء يا رسول الله؟ قال: التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أقسمتَ عليها أبرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك).

(حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ): أي: لغيبة أزواجهن، إذا غاب الزوج تحفظ ماله وعرضه.

قوله: (إذا نظرت إليها سرتك) ليس المقصود من هذا جمال الوجه؛ إنما المقصود به جمال الروح، فكثير من النساء يعشقن النكد، فلا يرى الرجل من زوجته إلا وجهاً عابساً يوحي عن عدم الرضا. (إذا نظرت إليها سرتك): دائمة البشر والابتسام، عندما تدخل عليها تشعر أن الدنيا كلها رجعت إليها وحازتها، وتفقد أغلى ما لديها إذا غبت عنها، فإذا ما رجعت ارتاحت وسكنت.

قوله: (وإذا أقسمت عليها أبرتك): لا تحنثك في يمينك أبداً، مهما كان الذي حلفت عليه شاقاً عليها، هذه هي خير النساء، الذي يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم: (الودود)، كثيرة الود، دائمة البشر.

ويدخل في قوله تعالى: (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ) أن تحفظ المرأةُ غيب زوجها فلا يطلع عليه أحد، نساءٌ اطلعنَ على بعض عورات أزواجهن من فعل المعاصي، فإذا غضبت تفشي كل ذلك وتفضحه، تقول: إنه يفعل كذا وكذا، وتعدد ما غاب عن الناس، لماذا تفضحين زوجك عند الخلاف؟ هذا لا يجوز أن يقال إلا في حضرة القاضي أو المفتي، بشرط: أن يكون لهذا القول تأثيرٌ في الحكم، وإذا لم يكن له تأثيرٌ في الحكم؛ فلا يجوز للمرأة أن تفشي سر زوجها.

في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يحطم وثناً فوق الكعبة، فانطلق مع وعلي بن أبي طالب ، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصعد فوق أكتاف علي ليكسره، فعجز علي عن حمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، له: اصعد أنت، فصعد علي على أكتاف النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بالوثن فكسره) فقالوا: إن من خصائص علي أن النبي صلى الله عليه وسلم، حمله ولم يحمل أحداً غيره، فرد شيخ الإسلام ابن تيمية -العالم الرباني المفتوح عليه- بقوله: لا شك أن من انتفع به النبي صلى الله عليه وسلم خير ممن انتفع بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كان أبو بكر الصديق أفضل من علي بن أبي طالب ؛ لأنه نفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، وليس لأحدٍ علينا منة ولا يدٌ إلا أبو بكر فله عليّ يدٌ يجزيه الله بها) وكأنه يقول: أنا لا أستطيع أن أجزيه بها، إنما الذي يجازيه هو الله تبارك وتعالى، فانتفاع النبي صلى الله عليه وسلم بـأبي بكر أكثر من انتفاعه بأي أحدٍ؛ فلذلك كان هو الأفضل، فـخديجة كانت أفضل النساء؛ لأنها نفعت الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد نصرته في وقت عزَّ فيه النصير، وأنت إذا أردت أن تعرف شمائل الناس ونعوت الخلق فاختبرهم في وقت المحن ووقت الشدائد.

جزى الله الشدائد كل خـيرٍ عرفت بها عدوي من صديقي

وقال آخر:

لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عَرْفِ العود

فـخديجة رضي الله عنها أفضل النساء، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة لما قالت له: (لقد أبدلك الله خيراً منها، قال: لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها)، وفي صحيح مسلم: (أنها أكثرت على النبي صلى الله عليه وسلم من اللوم في الثناء على خديجة ، فقال لها: إني رزقت حبها) فحب الرجل للمرأة رزق كالولد والمال، فمقصود النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة ! لا تلوميني، فأنا مغلوبٌ على الثناء عليها؛ لأني رزقت حبها).

وحب الرجل للمرأة هو بسبب شمائلها.

المرأة -أحياناً- تريد أن تسمع الثناء من الرجل بلسانه، مع أن الرجل يعاملها معاملة جيدة، وهي تلمس الحنان في تصرفاته وفي كرمه وعطفه وإغضائه عما يرى منها من المكروه، لكنها تحتاج إلى الكلام الحسن، فإذا الرجل لم يتكلم معها بكلام معسول تبدأ المرأة بلومه ومعاتبته وتقول: لماذا لا تقول لي كذا وكذا، فتلقنه كلاماً تريد أن يقوله لها، فالرجل قد يكون مقراً بفضلها ومعروفها لكنه لا يحسن صناعة الكلام، أو ربما لم يتكلم من علةٍ عنده، فالمرأة العاقلة لا تحمله على الكلام حملاً، وكل إنسان قد لا يعترف بالمعروف علانيةً، ولكنه يعترف بينه وبين نفسه في لحظة الصفاء، عندما يسكن يبدأ يقلب الأحداث، فتمر عليه المواقف، فيعرف الوفي من غير الوفي، ويعترف بذلك بينه وبين نفسه. إنك قد تخدع كل الناس في بعض الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت، كل إنسان له لحظات يصفو فيها، فالمرأة لا تكدر صفو زوجها، لاسيما إذا لمست منه العشرة بالمعروف، وهنا قصة أذكرها لكم، وهي:

رجل مرضت امرأته، فبكى عليها بكاءً شديداً، فقال له بعضهم: لِمَ تبكي عليها هذا البكاء؟ فقال: إنني أخشى لو ماتت ألا أجد مثلها، ثم شرع يقص بعض شأنها معه، يقول: لقد كانت ابنة مقاول كبير وشهير وصاحب مال، وكنتُ عاملاً عنده، فلما لمس المقاول مني الإخلاص والأمانة والجد والتفاني جعلني رئيساً للعمال، فمارست عملي الجديد بكل إخلاص وود، فأراد الرجل الذكي أن يحتفظ بماله عند يد أمينة، فقال: أزوج ابنتي من هذا الرجل، فزوجني ابنته، فحفظت هذا المعروف، وكنت فقيراً، لم يكن عندي من المال ما أستطيع أن أجعلها في مستوى معيشة أبيها، فكانت الأيام تمضي علينا لا نأكل لحماً، وكان موعدنا كل يوم جمعة عند أبيها على مائدة الغداء، فيأتي والدها بما لذ وطاب وما تشتهيه الأنفس وتسر به الأعين، قال: فكانت لا تأكل شيئاً من اللحم ولا الدجاج ولا البط، فيقولون لها: لِمَ لا تأكلي؟ فقالت: لقد تعبنا من كثرة أكل هذه الأشياء، نأكل دجاجاً ولحماً وبطاً كل يوم، رغم أنها تأكله ولا تراه، فهذه ليست من النساء اللواتي كلما حصل لهن شيء قدمن الشكاوى إلى أهلهن.

يقول: وظلت على ذلك زمناً وأنا لا أعرف، حتى قالت لي والدتها: لا تجعل ابنتي تأكل لحماً دائماً حتى لا تأتي إلينا ولا تأكل معنا، فذرفت عيني، وصرت آخذ لها جزءاً من اللحم، فقلت له: يحق لك أن تبكي، فالمرأة لا تفضح زوجها ولا تكشف ستره أبداً.

ليت نساءنا يتعلمن من خديجة رضي الله عنها، فقد استدلت على جميل نعوته فقالت: (إن الله لا يخزيك) فقد يبتلي الله عز وجل المؤمن، لكن لا يخزيه.

ولذلك لم تقل: لا والله، لا يبتليك الله أبداً، بل قالت: لا والله، لا يخزيك الله، يبتلى المؤمن لكن يخرج من الدنيا بشرف، يخرج من الدنيا بالثناء الجميل والذكر الحسن بين الناس، مثل: الإمام أحمد بن حنبل .

كان الإمام أحمد بعد المحنة أفضل منه قبل المحنة، وأخذ لقب إمام أهل السنة بجدارة، كما كان داود عليه السلام أفضل بعد المعصية منه قبل المعصية -المعصية التي ذكرها الله عز وجل في سورة ص- كما يقول ذلك ابن تيمية رحمه الله.

فالإمام أحمد زكا ونما وصار اسمه علماً مع كثرة نظرائه في زمانه، كان هناك ألوف العلماء مثل أحمد بن حنبل في الذكر والعلم؛ وصار إماماً يقتدى به في علم الحديث وفي غيره من العلوم؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

استدلت خديجة على قولها: (كلا، لا يخزيك) بقولها بعد ذلك: (إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتساعد الضعيف، وتعين على نوائب الحق) وفي غير صحيح البخاري ، قالت: (وتؤدي الأمانة، وتصدق الحديث)، المرأة تعلم كل هذا من زوجها بالعشرة، لأن الرجل قد يخدع الناس في الخارج؛ لكن إلى متى يجامل امرأته؟ فهذه المرأة هي التي تعرف أسرار زوجها، ولذلك عندما يموت أحد الكبراء يذهبون إلى امرأته فيسألونها عنه، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته من الذي جلاها لنا إلا أزواجه، إذا كنت تريد أن تعرف صدق الرجل ونبله فاسأل امرأته، بشرط أن تكون امرأة تتقي الله تبارك وتعالى وتخشاه، فلذلك خديجة كانت أفضل من عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا سر فضلها على عائشة ، نصرته في وقتٍ عزَّ فيه النصير.

يقول صلى الله عليه وسلم: (وواستني بمالها)، وليس على الرجل غضاضة أن يستفيد من مال امرأته؛ لكن الرجل -أحياناً- لا يأخذ المال من امرأته لعلةٍ عنده، لكن إذا انتفت العلل فلا غضاضة عليه أن يستفيد من مال امرأته، كما استفاد ابن مسعود من مال امرأته، ومن قبله سيده وسيدنا صلى الله عليه وسلم عندما استفاد من مال خديجة، إذا كنت لا تخشى من امرأتك المن والأذى فاقبل مالها.

إذا كان الود له الثقل الكبير في استقرار الحياة الزوجية، فكيف يعرف ود المرأة؟

أقول: كما أنك تستطيع أن تعرف المرأة ولود، فيمكنك أن تعرف أنها ودود أيضاً، فمن أين علمت أنها ولود؟ لا شك أنه بالنظر إلى أمها وأختها وعمتها وخالتها، فيندر أن تكون الأم ولوداً كذلك الأخت والعمة والخالة وتكون هي عقيماً، هذا شيء قد يحدث لكن نادراً، ومعروف أن الشاذ النادر لا يقاس عليه، إنما يقاس على الأعم الأغلب.

كذلك إذا رأيت أمها تحب أباها وتكرمه وترفعه، فاعلم أن ابنتها تكون مثلها، وهذه مسألة مهمة جداً، أما الأسرة التي فيها مشاكل، الرجل يسب زوجته، والمرأة تسب زوجها، والمرأة تشتكي من زوجها لابنتها؛ فلو كان الزوج رجلاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، فالأم تحدث ابنتها بما حصل وتسب الرجل وتجترئ عليه، وتقول لابنتها: لولاكِ وإخوتكِ لتركت المنزل، فينطبع في ذهن البنت الخوف من الرجال، وتظن أن كل الرجال كأبيها، فيبقى عندها شهوة الانتقام أو بغض الرجل واستحقاره وعدم الوفاء له، كل هذا بسبب الأم، لكن إذا كان الرجل يتق الله عز وجل والمرأة كذلك، فيندر أن يخرج من هذا الجو الأسري الجميل بنت ناشز، وهذا يؤكد عليك وأنت تبحث عن المرأة أن تبحث عن البيت الذي يظلله الدين.

كثيراً ما يأتيني بعض الشباب، فيقول: أريد أن أتزوج فلانة، وقد كانت متبرجة ولكني أقنعتها بالحجاب، لكن أباها يتعاطى الحشيش، أو أمها كانت .. أوجدها كان .. إلخ، فأنصح هذا الشاب دائماً أن يبحث عن ذات الدين في البيت الذي يظلله الدين، صحيح أن يمكن أن تكون سيئة جداً ومتبرجة وراقصة، ثم قد تصبح من أفضل المؤمنات، وقد تكون امرأة في قعر الفاحشة ثم تصعد إلى قمة العفاف، لكن الشاذ لا يقاس عليه.

أنت -مثلاً- لو جئت إلى امرأة متبرجة تكشف زينتها للأجانب، وقلت: أنا سأكسب فيها أجراً وسأتزوجها وأكون سبباً في هدايتها، فلما تزوجتها ما رأيت منها سعادة قط، فبعد ذلك تأتي وتشتكي، فنقول لك: يا أخي! العينة بينة، أنت تعرف أنها كانت كذا.

وقد يتزوج الرجل امرأةً متحجبة، لكنها تريه النجوم في عز الظهر، فعندما يأتي ويشتكي؛ نقول له: أنت فعلت الذي عليك، وحظك هكذا، انتقيت وأخذت بالأسباب ولكن لم توفق.

فانظر إلى الفرق بين الحالة الأولى وبين الحالة الثانية، الحالة الأولى: يلام؛ لأنه لم يأخذ بالأسباب الشرعية، والحالة الثانية، يحط عنه اللوم، ويُعزى ذلك إلى الغيب وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81]، فالذي عليك أن تبذل وتذهب إلى بيت يضلله الدين، الأب ملتزم والأم كذلك، فإذا تزوجت منهم ووجدت أن هذه المرأة تشقيك فعلى الأقل تكون مستريحاً بينك وبين نفسك؛ لأنك بذلت ما في وسعك.

مسألة الود هي مسألة خفية، وكذلك مسألة الولادة مسألةٌ خفية، يستدل عليها بشيء خارج، وهذه القاعدة قلناها في أكثر من مناسبة، لما ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، هذا السرور عمل قلبي، ونحن لا نستطيع أن ندرك أعمال القلوب، فما الذي يؤكد لي أن هذا الرجل مسرور أو غير مسرور؟ فقال العلماء: ينصب لذلك دلالةٌ وعلامةٌ في الخارج يعلق عليها الحكم، فإذا لم تقم له غضب، فالغضب علامةٌ خارجية أنت تراها، يجدر بك أن تعلق الحكم عليها، فإذا غضب لأنك لم تقم له، دل ذلك على مدلول قلبه وأنه يسر إذا قمت له، فلما كان عمل القلب خفياً لا يعلمه إلا الله، نصب لك دليلاً خارجياً تراه بعينك فتعلق عليه الحكم، كذلك الودود الولود.

الود والولادة نحن نصبنا شيئاً من الخارج مثل: البيت الذي يظلله الدين، والأم الولود، والأخت الولود، والخالة والعمة، فهذه كلها أشياء يصح أن تعلق الحكم عليها: (خير نسائكم من أهل الجنة الودود الولود).

ذكرت كلاماً مجملاً في الخطبة وهو : أن الولد يمثل الأواصر بين الزوج والمرأة، والرجل كلما أحب المرأة فإنه يحب أولاده منها، وإذا كره المرأة قد يكره أولاده منها، والعبارة دقيقة؛ لأن الرجل عادةً لا يكره ولده، لكن قد يكره أولاده منها، وأولاد الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم من خديجة -ما عدا إبراهيم ، فمن جاريته مارية - ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ورزقني الولد منها إذ حرمني أولاد النساء) وأولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها هم: القاسم ، وبه تكنى صلى الله عليه وسلم، والطاهر ،والطيب -على قول لبعض أهل العلم- وقال بعضهم: بل هو عبد الله وكان يلقب بـالطاهر والطيب .. واتفق العلماء جميعاً على أن كل الذكور ماتوا صغاراً، والباقي نساء، وهن: زينب ، ورقية، وأم كلثوم ، وفاطمة ، كلهن من خديجة رضي الله عنها.

ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاً لثمانٍ وثلاثين سنة، منها: خمس وعشرون سنة مع خديجة ، ومن كرامتها عليه أنه لم يتزوج امرأةً معها أبداً، وليس معنى هذا أن الرجل إذا تزوج على امرأته أنه لا يكرمها أو يضيع كرامتها، لم يتزوج عليها وهي حية، وبعد خمس وعشرين سنة تزوج بعدها النساء، أولهن: سودة ، ثم عائشة نكحها بعد موت خديجة بثلاث سنوات، رضي الله عنهن جميعاً.

فالولد يمتن الآصرة، والمرأة إذا لم تلد تبحث عن كل سبيل ليرزقها الله الولد حتى تمتن الآصرة بينها وبين زوجها، وتظل خائفة إلى أن تلد.

جاءت عمة شريح القاضي تزوره بعد سنة من زواجه بابنتها، قالت له: كيف وجدت امرأتك؟ قال: على ما يحب الصديق ويكره العدو، قالت له: يا أبا أمية ! إن المرأة لا تكسد إلا في حالتين: أن يكون لها حظوةٌ عند زوجها، وأن يأتيها الولد.

تعني بذلك: أن المرأة تتكبر وتكثر من طلباتها عندما يكون لها حظ عند زوجها، أي: يحبها كثيراً -لكن المرأة التي لم يرزقها الله الولد تتودد؛ لأنها تريد أن تعيش، لذلك يقل نشوزها عن المرأة التي لها حظوة ولها ولد، فالمرأة إذا كان لها أولاد، فإنها تعرف أن الرجل يحب الأولاد، فدائماً عندما يدخل الأب ويرى الولد ويقبله ويحاول أن يسمع صوته عبر سماعة الهاتف -إذا كان خارج المنزل- فتقوم وتعزف على وتر الأولاد، فتنشز عن زوجها وتأخذ الأولاد معها؛ لأنها تعرف أن زوجها لا يستطيع أن يعيش بدون أولاده؛ فيضطر أن يذهب إليها ليسترضيها ويخطئ نفسه ويعتذر حتى تعود إلى بيتها مع الأولاد، فهذه المرأة تعين شريح القاضي على ابنتها، وهذه من خير النساء.

إن الأب الجيد عندما تأتي ابنته إليه غاضبة من زوجها فإنه يرجعها إليه مباشرة دون تحقيق ولا انتظار، ولا عقد محاكمة للزوج، ويكون قد أعلم ابنته قبل أن تتزوج أن المرأة إذا تزوجت فليس لها إلا بيت زوجها، ويعظم الزوج عند زوجته، بخلاف الذي يجمع ابنته وزوجها ويقول له: أنت مخطئ.. لماذا لا تعاملها بالمعروف؛ فيشجع ابنته على زوجها، وهذا خطأ، فهو بهذا الأسلوب يهدر قوامة الرجل، لكن إذا أراد أن يعاتبه فليعاتبه لوحده منفرداً، ويعيد إليه زوجته ويحفظ له كرامته، وقد يكون الزوج معوزاً فقيراً فأعطه بعض النقود أو هدية، وقل له: اعط هذا ابنتي عن طريقك، فأنت بهذا الأسلوب تكسب قلب الزوج، وفي نفس الوقت الهدية ستصل إلى ابنتك.

هكذا كان خلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ابنته حفصة ، كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه الشيخان من حديث ابن عباس عندما قيل: (إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، قد كن هجرنه من الليل حتى الصباح، فجاء عمر بن الخطاب وقال لـحفصة : أي: حفصة ! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره من الليل حتى الصباح؟! قالت: نعم. قال: ما يؤملك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي، ثم أوصاها بوصية -ينبغي لكل والد أن يوصي ابنته بها- فقال لها: لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك).

ويقول عليه الصلاة والسلام: (نساء قريش خير نساءٌ ركبن الإبل، أحناه على ولدٍ، وأرعاه لزوجٍ في ذات يده).