Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

منزلة العلم وكيفية الحصول عليه


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

ليس هناك خلاف بين أحد في أن أشرف موروث هو العلم؛ ذلك لأنه ميراث الأنبياء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، ذلك أن للعلم حُسناً ذاتياً، فهذا هو ميراثهم.

كما روى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسند قال فيه الحافظ المنذري إنه حسن إن أبا هريرة رضي الله عنه ذهب إلى السوق فقال للتجار هناك: ما أعجزكم يا أهل السوق! أنتم هنا والناس يقتسمون ميراث النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فتركوا تجارتهم وهرعوا إلى المسجد، فدخلوا فوجدوا الناس بين مصل وبين ذاكر وبين متفقه، فوقف ينتظرهم، فلما رجعوا قالوا له: ما وجدنا شيئاً يقسم في المسجد. فقال لهم: وما وجدتم؟ قالوا: وجدنا الناس ما بين مصل وذاكر ومتفقه. قال: ذلك ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فهذا هو الميراث الذي يجب أن يحرص عليه الناس ليورثوه أبناءهم؛ إن الشيء الوحيد الذي ينبغي أن يغبط المرء إذا حصّله هو العلم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله علماً فهو يعلمه الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق).

ليس هناك شيء يحسد المرء لأجله إلا هذين فقط: العلم والمال، لكن المال لا يحسد لأجل ذاته أبداً، ما حسد صاحب المال إلا لأنه سلطه على هلكته في الحق، وإلا فصاحب المال المتعالي عن العلم مذموم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر:

رجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويعرف لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل.

ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء.

ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله لا يتقي الله فيه، ولا يصل به رحمه، ولا يعرف لله فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل.

ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الوزر سواء) .

فأنت ترى الرجل الأول آتاه الله علماً ومالاً، والرجل الثالث آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فقال عليه الصلاة والسلام في الرجل الأول: (فذلك بأفضل المنازل) ، وقال في الرجل الثالث: (فذلك بأخبث المنازل) ، فما الذي رفع الأول ووضع الثالث؟ لا شك أنه العلم؛ لأن الأول عنده علم ومال، والثالث عنده مال فقط، فعندما تأخذ القاسم المشترك بينهما تجد الأول متفرد بالعلم، فالذي رفع هذا إلى أفضل المنازل وحط ذاك إلى أخبث المنازل هو العلم.

فلذلك صاحب المال الذي يُحسد ليس هو صاحب المال المحض فقط، ما حسد هذا الرجل إلا لأنه سلطه على هلكته في الحق، ولا يستطيع الرجل أن يسلطه على هلكته في الحق إلا إذا كان عالماً، أو طالب علم، أو يصاحب عالماً، هذا لابد منه، إما أن يكون عالماً كالرجل الأول، وإما أن يكون طالب علم، أقل شيء أن يعرف البيوع المنهي عنها والتي يجوز أن يتبايع بها.

معرفة فقه البيوع فرض عين على التجار، لا يعذرون بجهلهم في هذا الباب، طالما أنه دخل في التجارة لا بد أن يدرس فقه البيوع دراسة جيدة، وهو ليس فرضاً عينياً علي مثلاً، فإن فرائض الأعيان بعد المتفق عليه، بعد معرفة التوحيد ومعرفة تصحيح العبادات وهذه الأشياء، هناك أشياء تتفاوت، ممكن تكون فرضاً عينياً على إنسان، وفرضاً كفائياً على رجل آخر.

فالرجل صاحب المال إما عالماً وإما طالب علم، وإما أن يكون ملاصقاً لعالم يستفتيه ويستشيره، فهذا الإمام البخاري كان والده تاجراً، وقد بارك الله تعالى له في تجارته، فقال لابنه -الإمام البخاري - أثناء الموت: يا بني! تركت لك ألف ألف درهم، ما أعلم درهماً فيه شبهة، لم يقل: ما أعلم درهماً حراماً، لا، الرجل بعيد، لأن المناطق ثلاث: منطقة الحلال المحض، ثم منطقة الشبهة، ثم منطقة الحرام، فما بين الحلال والحرام منطقة واسعة جداً، وهي منطقة الشبهة، إذا قفزت السور من باب الحلال ودخلت في الشبهة فأنت تقترب شيئاً فشيئاً من الحرام، لكن الرجل لو اتقى الشبهة يظل في منطقة الحلال المحض، بينه وبين الحرام مفاوز بعيدة.

والد الإمام البخاري ليست له رواية، ولو كانت له رواية لكان ابنه الإمام البخاري روى عنه وأثبت له رواية، فما الذي أوصله لهذه المرتبة؟ ليس عنده درهم فيه شبهة فضلاً عن الحرام؛ لأنه كان ملاصقاً للعلماء، دائماً يمشي مع العلماء، ولقد كان يصاحب سفيان بن عيينة ،و سفيان الثوري ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وعبد الله بن المبارك ، والواحد من هؤلاء يزن بلداً، فهو حين يلتقي بهؤلاء جميعاً كلما عنَّ له شيء فيه شبهة يسأل العالم: أفعل أم لا أفعل؟ أو هل فيه شبهة أم لا؟ فيقول له، فانتفع بصحبة العلماء إذ لم يكن مؤهلاً لأن يكون عالماً.

فلأن حسن العلم ذاتي، وأن العلم هو الحكمة، كما فسرته الرواية الأخرى: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها) وفي الرواية الأخرى: (رجل آتاه الله العلم) فالعلم هو الحكمة، والحكمة حسنها ذاتي، ولذلك عندما تقرأ قوله تبارك وتعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ، انظر الترتيب الجميل، لم يقل: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة الحسنة)، لأن الحكمة حسنة في ذاتها فلا توصف بها أصلاً، لكن الموعظة يمكن أن تكون جافة، فمثلاً قد يخرج عليك رجل غليظ الرقبة يتهجم ويشتم وهو يعظ، وحين يخوّف بالنار ينسى أنه من البشر أيضاً، ويندد بالمعاصي التي قد يكون هو مقيماً على بعضها، فلذلك لما ذكر الله عز وجل الموعظة وصفها بالحسنى، ولأن الرجل قد يعظ بدون شد وجذب، فوصفها بالحسن، وفي أثناء الجدال أمرك بالأحسن، لا بالحسن فقط، لأن الجدال فيه أخذ ورد، وفيه حظوظ للنفس، فالإنسان حين يذهب ليناظر إنساناً، فإنه يكون حريصاً جداً أن يغلبه ويسحقه ويقيم عليه الحجة، وهذا مما هو مركوز عند الإنسان، أعني حب الظهور، ولذلك عندما تغالب نفسك تؤجر؛ لأنك تجاهد ما هو مغروز فيك، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) دل هذا الحديث على أن المركوز هو ألا تحب لغيرك ما تحب لنفسك، لذلك كلما غالبت وتعبت ارتقيت، فالمركوز في النفس هو محبة العلو، لاسيما بسلطان العلم، فحروف العلم وسلطانه أشد من سلطان المال والجاه، العلم سلطانه شديد جداً، لذلك الذي يُحرم الأدب والإخلاص في العلم يكون وبالاً عليه.

لقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أقوام فقال: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23] فتستعجب من هذا الرجل! المفروض أن العلم يضيء لصاحبه، فكيف إذاً ضل؟! نقول: إن عماه حصل من داخله، وإلا فالمصباح موجود، فمثلاً: أنت لو رأيت رجلاً معه مصباح، وهو (يمشي) وكلما واجه حفرة وقع فيها، بل لو فاتته حفرة يرجع حتى يقع فيها مرة أخرى، إذاً فالرجل لا يمكن أن يكون مستفيداً بنور الكشاف الذي معه، لأن عماه داخلي.

فسلطان غرور العلم شديد جداً، لذلك العلماء وضعوا آداباً لطالب العلم، فهو إذا لم يتق الله عز وجل، ولم يخلص النية لله كان وبالاً عليه، فـابن العميد كان صاحب الوزارتين، أي: كرئيس الوزراء في أيامنا، يقول: شهدت مرة مناظرة بين الطبراني وأبي بكر الجعابي ، فكان أبو بكر يغلبه بدهائه والطبراني يغلبه بحفظه، فهما طرفا رهان، فهم متساويان، لم يغلب أياً منهما الآخر في المناظرة، فـأبو بكر الجعابي قال له: عندي حديث ليس في الدنيا لأحد غيري. قال له: وما هو؟ قال: حدثني أبو خليفة ، قال: حدثني سليمان بن أحمد ،قال: حدثني فلان عن فلان... وساق حديثاً. فقال له الطبراني : أنا سليمان بن أحمد ، سمعه مني أبو خليفة فخذه مني عالياً. قال: فاستحى الجعابي وفرح الطبراني ، فتمنيت أن لم تكن الوزارة لي وفرحت كفرح الطبراني .

لما قال له: أنا سليمان بن أحمد ، يعني الحديث عند الطبراني ، وهو أخذه بواسطة عن الطبراني أيضاً: أبو خليفة عن الطبراني ، قال له: لا، خذه مني مباشرةً عالياً، فالعلم حسنه ذاتي، كذلك يكون الغروبة شديد ولذلك قال علي بن أبي طالب (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه).

تجد بعض الناس يدعي من العلم ما ليس له، في أي منحى من مناحي الحياة، ولو عيرته بالجهل لغضب، لكن لو وصفته بأي نعت آخر لا يهتز، لو قلت له: يا فقير، يقول لك: الأنبياء أغلبهم فقراء، ولازال الفضل موجوداً في الفقراء، والفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، ويظل يعدد فضائل الزهد والفقر فيغلبك.

ولو قلت له مثلاً: أنت لست ملكاً. يقول لك: كم من أهل الأرض كان ملكاً، الأنبياء لم يكونوا ملوكاً، خُيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون ملكاً رسولاً أو عبداً رسولاً قال: لا عبداً رسولاً، فترك الملك، إذاً: وجود الملك ليس من العلم.

فقد يستطيع الرجل أن ينصب أدلة على أن عدم وجود هذه الصفة فيه أفضل، إلا ما يختص بالاتصاف بالعلم.

إذاً: طالب العلم كيف يصل؟

نحن الآن بعدما سمعنا هذه المقدمة تحمسنا ونريد أن نكون طلاب علم، هل هناك آداب وشروط لطالب العلم ينبغي أن يسلكها حتى يصل؟

أقول: نعم، هذه الشروط نظمها إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في بيتين من الشعر، فقال:

أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيـان

ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمـان

هذه هي الصفات الست التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم ليصل.

وبعض الطلاب يطلب العلم منذ سنوات، ومع ذلك لم يقتنع بالقدر الذي حصله!

لأن الخلل في هذه الشروط يورث خللاً في التحصيل، لذلك إذا التزم الإنسان بهذه الشروط ونفذها تنفيذاً حسناً، فإن تحصيله يكون حسناً.

أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان

الذكاء

أما الذكاء فهو أول درجات السلم، إن العلم لا يسلم زمامه لغبي ولا بليد، لابد أن يكون طالب العلم ذكياً جداً، نحن ابتلينا بأناس تصدروا للفتيا ليس عندهم ذكاء، لأن الذكاء يورث ما يسمى عند الفقهاء: بفقه النفس، وفقه النفس: هو مراعاة مقتضى حال المخاطب.

جاء رجل وطلب منك فتوى، فأنت لابد أن تتفرس في الرجل وتزنه، وهذه الفراسة كانت موجودة عند أسلافنا بكثرة، لكنها أصبحت الآن أندر من الكبريت الأحمر.

وقد صح عن ابن عباس أنه كان يجلس مع بعض أصحابه كـسعيد بن جبير وعكرمة وطاوس ، فجاءه رجل فقال له: ( ألقاتل المؤمن توبة؟ قال له: لا. فلما مضى الرجل قال له أصحابه الجلوس: أولم تفتنا قبل ذلك أن لقاتل المؤمن توبة؟ قال: بلى، ولكني رأيت في عينيه الشر). فالسائل يريد أن يقتل، وجاء مسعوراً، ويريد أن يأخذ فتوى بأن قاتل المؤمن له توبة فيقول: إذاً سنقتل ونتوب إن شاء الله، أما إذا لم يكن له توبة فلا، فـابن عباس لاحظ هذه المسألة، فقال له: ليس لقاتل المؤمن توبة.

وهنا مسألة يتكلم العلماء فيها، وهي: أنه يجوز للمفتي أن يفتي بأشد الوجهين، إذا كان له وجه في الدليل، مراعاة لحال المستفتي، إذا كان الدليل يحتمل وجهين، فمراعاة لحال المستفتي يفتيه بالأشد.

والشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله استخدم هذا الأصل في فتوى تحريم نقاب البرقع، لأن بعض الناس طار بها طيراناً، على أساس أن الشيخ ابن عثيمين يقول: النقاب حرام وليس كذلك، فالشيخ محمد صالح رحمه الله ممن يوجب ستر المرأة وجهها، فكيف يقول: إن النقاب حرام؟ فالنقاب الذي فيه إدلاء، وهو أن تضرب المرأة بالثوب الواحد من شعر رأسها لأخمص قدميها قطعة واحدة، فهذا هو الذي يوجبه الشيخ ويقول به.

ويبقى النقاب الآخر وهو نقاب البرقع الذي اشتهر في مصر والشام، وهو عبارة عن قطعتين: قطعة غطاء رأس، وقطعة تضرب على الوجه، فالزائر إلى مكة يلاحظ النساء اللواتي يرتدين لباس البرقع، بدأن يتوسعن فيه، ترفع الغطاء الأعلى قليلاً، وتنزل غطاء الوجه قليلاً، فإذا بنصف وجهها يظهر، أي من منتصف الجبهة إلى أول الأنف، فلما بدأن يتوسعن في ذلك قال: لا، لا يجوز، وإن كان نقاب البرقع موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا نراه الآن؛ لأن النساء توسعن في ذلك.

والعلماء يقولون في هذه أيضاً: إن المفتي إذا أفتى في مسألة بشروط جواز فلم يلتزم الناس الشروط، فله ألا يذكر الشرط، أي: إذا قال مثلاً: يجوز أن تلبسي نقاب البرقع، لكن إياك أن تفعلي كذا وكذا، وهو يعرف أنها لن تلتزم بهذا الشرط؛ فحينئذ له أن يطلق المنع بغير ذكر الشرط؛ لأن الشرط لا قيمة له، بل هذا الشرط يمكن أن يستخدمه بعض الناس في الفوضى، فيقولون: من الأفضل أن نغلق هذا الباب، وهذا من ذكاء المفتي، لابد أن يراعي المفتي حال المستفتي.

فطالب العلم في بداية الطلب لا بد أن يتمتع بهذا الذكاء، وإلا فسيخسر كثيراً، إما في التحصيل، أو إذا ابتلى الله العباد به مفتياً بعد ذلك.

فأول درجات الذكاء: أن طالب العلم يبدأ بالأهم فالمهم.

أول واجبات طالب العلم :

والإنسان يعجب من الطلبة الذين يريدون دراسة علم مصطلح الحديث، ولم يجودوا القرآن بعد، هو لا يستطيع أن يقرأ القرآن ويريد أن يدرس المصطلح، فطالب العلم إذا كانت بدايته هكذا فلن يفلح، وقد تجد أيضاً طالب العلم أول ما يبدأ في الفقه يبدأ يقرأ في المحلى لـابن حزم ، وهذا من علامات الخسران: أن يكون أول ما يقرأ من الفنون وأول ما يبتدئ، وأول درجة في الفقه أن يقرأ المحلى لـابن حزم أو نيل الأوطار، أو الكتب التي تعنى بذكر الأدلة والمناقشة.

لنفرض أنني رجل ليس عندي فهم، أي: ميزان أعرف به الحق من غيره، فإذا أنا دخلت في الكتب التي تعنى بذكر الخلاف، واحد في الشرق والثاني في الغرب، الثاني يحضر دليلاً وهذا يحضر مقابله دليلاً، فأنت في النهاية ماذا تصنع؟

لا يمكن إلا واحدة من ثلاث:

1- إما أن يختار بهواه القول المناسب له.

2- وإما أن يسوء ظنه بالعلماء جملة، فيقول: لو كانوا على حق ما اختلفوا والدليل واحد، فواحد مشرق والآخر مغرب وما ذلك إلا لأن مدارك الفهم متسعة، فهذا أفتى بمنطوق الدليل، والثاني أفتى بمفهوم الدليل، والمفهوم غاب على هذا الرجل فلم يتفطن هذا كيف أخذ هذه الفتوى.

وإما أن يعرض عن العلم جملة، طالما أنه لم يجتهد.

فالصواب: أن نبدأ بصغار العلم قبل كباره، كما ذكره الإمام البخاري في تبويب له على تفسير معنى الرباني، في قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] ، قال: الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، وكما قال القائل: غذاء الكبار سم الصغار. أي: لو أحضرت ولداً وهو لا يزال يرضع وأعطيته قطعة لحم فإنه يموت بها؛ لأن معدته لم تتعود على هذا الهضم، فلذلك الإنسان أول ما يبدأ لا بد أن يعمل ذكاءه، ما الذي ينبغي أن يبدأ به، لكن أول ما يدخل مباشرة يدخل في سلك الأئمة المجتهدين، هذا يضر الطالب أشد الضرر.

هذا الذكاء ينفعه فيما بعد في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، وبعض الناس يظن أن الكتاب والسنة كافيان وافيان لكل ما يستجد للبشر، لدرجة أنهم قالوا: إن تسعة أعشار الأحكام الشرعية تؤخذ من القياس، وهذا من الخطأ، فالأحكام الشرعية بكاملها وكل الأدلة كافية، لكن المشكلة في الذي يستنبط الأحكام؟

فهذا الإمام البخاري إمام أهل الحديث والفقه في زمانه كان من العلماء الذين يستنبطون الفقه من الأدلة، ففي كتاب المواقيت قال: (باب من أدرك ركعة من العصر) أي: قبل أن تغرب الشمس، ذكر في هذا الباب ثلاثة أحاديث، فالحديث الأول مناسب للتبويب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، وإذا أدرك أحدكم سجدة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك).

والتبويب كأنه مأخوذ من نص الحديث، ولكن المهم في الحديثين الباقيين، أما الحديث الثاني بعد حديث أبي هريرة فهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً، قال الله: هل ظلمتكم من أجوركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).

وأردف حديث أبي موسى الأشعري عقب حديث ابن عمر قال: (مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر، قالوا لك: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر قوماً فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين) .

أولاً: ما علاقة هذين الحديثين بحديث: (من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس)

هذا الجواب الإمام البخاري يريد أن يقول:

إن العمل لا يقبل إلا إذا استوفى شرائطه، والله تبارك وتعالى قال: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] ، فإذا أدرك رجل سجدة أو ركعة واحدة قبل أن تغرب الشمس، بمعنى أنه أنهى الركعة ودخل وقت المغرب، فهل وقع أغلب صلاته في غير الوقت أم لا؟ ثلاث ركعات وقعت في غير وقت العصر، فالجزء القليل من الصلاة هو الذي وقع في الوقت، ومع ذلك عاملك الله تبارك وتعالى بالفضل، فوهب الأكثر للأقل، واعتبر أنك أدركت الصلاة.

ولو أنه حاسبك بالعدل لقال: لك ركعة واحدة فقط، وثلاث ركعات لا قيمة لها؛ لكنه عاملك بالفضل، فوهب لك الأكثر الذي وقع على غير شرطه.

كذلك عامل هذه الأمة بالفضل، فكانت أقل أعماراً وأكثر أجراً، ولو أنه عاملها بالعدل لعاملها أقل، فيعطيها من الأجر أقل ما يعطي للأطول عمراً، هذا هو وجه الربط، فالإمام البخاري يريد أن يقول: إن هذا تفضل من الله عز وجل أن يقبل منك صلاتك وقد وقع أغلبها في غير الوقت، مع قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] ، أي: لها وقت أول ولها وقت آخر، فعاملك هنا بالفضل، كما عامل الأمة جملة بالفضل لما أعطاها الأجر الجزيل مع العمر القصير، وهذا واضح جداً في أشياء كثيرة، منها ومن أجلّها قوله تبارك وتعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] ، فأطول عمر نحن نعلمه هو عمر نوح عليه السلام أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] ، وتلفت نظرك هذه العبارة، لماذا لم يقل: (تسعمائة وخمسين)؟ إذا كان ألف سنة إلا خمسين عاماً هي تسعمائة وخمسين، فهل هناك فرق بينهما؟ هناك فرق كبير، فقد جرت عادة الناس أن تلغي الكسر في العد، مثاله: كم الساعة الآن؟ فتقول مثلاً: السادسة وثلاث عشرة دقيقة تقول له السادسة والربع أو السادسة وعشر دقائق، هكذا، فتلغي الكسر، فجرت عادتهم، إلغاء الكسر دائماً في العد. فلو قال: (تسعمائة وخمسين عاماً)، لقلنا: يحتمل أن تكون تسعمائة وثلاثة وخمسين، أو أربعة وخمسين، أو خمسة وخمسين، فلما قال: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] لا يحتمل أن يكون هناك كسر إطلاقاً.

فأطول عمر نحن نعرفه عمر نوح عليه السلام: (تسعمائة وخمسين عاماً)، وقد ذكر ابن عباس -ويبدو أنه أخذه عن بعض الإسرائيليات-: أن الرجل كان يُختن وهو ابن ثمانين!

فهؤلاء أعمارهم طويلة جداً، وأقصى عمر ممكن أن يصله رجل في هذه الأمة: مائة سنة أو مائة وخمسين سنة، مع أن متوسط أعمار الأمة كما قال عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك) فبعمرك القصير هذا تسبق كثير من الذين عمروا قبل ذلك، مع أن عمرك أقل، قال الله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] ، أي: ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر الأيام، فأنت لو وفقت ووفقك الله عز وجل لقيام ليلة القدر كل عام، وكان عمرك ستين سنة غير أنك ابتدأت تصلي وأنت ابن خمسة عشر سنة ثم مت على رأس ستين سنة، فقد أدركت خمسة وأربعين رمضان، أي: خمسة وأربعين ليلة قدر، فإذا ضربت هذا في هذا تصير ثلاثة آلاف سنة وقليل، تحسب عليك أنك عابد.. قائم.. ذاكر، فتكتب في صحيفتك أنك ذاكر لله، فمن مِن السابقين يدركك؟ إن عاش ألف سنة، فكم قضى منها في النوم والأكل والشرب والتشاجر والصلاة والعمل.. ستجد أن الذي لله عز وجل في فترة ألف سنة قليلة جداً، فهذا مظهر واحد فقط من مظاهر تفضيل هذه الأمة.

أراد الإمام البخاري أن يلفت النظر إلى هذه المسألة: وهي أن الله عاملك في قبول معظم صلاتك في غير الوقت بالفضل.

حسناً.. في حديث ابن عمر قال: (عجزوا فأعطوا قيراطاً) وفي حديث أبي موسى الأشعري فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك) فلم يأخذوا.

ما الفرق بين العجز في حديث ابن عمر وبين العجز في حديث أبي موسى ؟

الجواب: الفرق دقيق جداً ومهم، وهو أنه ليس كل عجز يعذر المرء به، وقد روى أبو داود في سننه، قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي الله ونعم الوكيل) .

العجز هنا: هو الحمق وسوء التصرف، وسمي عجزاً لأنه عجز عن إدراك منيته بحمقه وسوء تصرفه، فحيث ترى إنساناً يريد أن يهدد شخصاً فيرمي نفسه تحت سيارة مثلاً، أو يريد أن يشم رائحة (البارود) فيشعل (كبريتاً) ويشعل في شيء يلتهم كل شيء لأجل أن يشم رائحة البارود..! فهذا من الحمق، فمثل هذا الرجل ضامن.

رجل -مثلاً- ليس بطبيب، ورأى أنه ذكي، وأنه عالج شخصاً فشفي، وعالج آخر فشفي، قال: إذاً أعمل طبيباً، فلما عمل طبيباً أتلف النفوس، فليس له أن يقول: أنا لم أكن أقصد قتله.. لأن هذا من الحمق والعجز، ولذلك فهو ضامن، فلا بد أن يدفع الدية.

فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يلوم على العجز) ، أي: على الحمق وسوء التصرف، ولكن إذا سلكت الأسباب الشرعية كما أمرت فغلبك أمر، وجاءك القدر الأعلى فلا تستطيع له دفعاً؛ حينئذ قل: حسبي الله ونعم الوكيل؛ لأنه ليس بيدك شيء.

فالعجز هذا هو عجز الحمق، ولذلك لم يعطهم شيئاً، بخلاف العجز الذي ورد في حديث ابن عمر ، أقبل وعمل بجهده، ولكن انقطع جهده في أثناء العمل، فهذا يعذر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب).

فالعجز في حديث ابن عمر المقصود به رجل أدى ما عليه ثم عجز، أي: بغير تقصير وبغير حمق منه، لذلك أعطي قيراطاً، بخلاف العجز الآخر، فقد كان بسبب حمق وسوء تصرف، فهم الذين قالوا له: لا حاجة لنا في أجرك، فرفضوا الأجر، وهذا من حمقهم وسوء تصرفهم، لذلك لم يعطهم الله تبارك وتعالى شيئاً.

فالإمام البخاري قصد التنبيه على هذه المعاني، فتصور لو أن طالب العلم كان بمنزلة الإمام البخاري ، فإنه سيستفيد جداً من تحصيل العلم، أولاً: ينتفع بترتيب العلوم في بدء الطلب، ثم بعد ذلك ينتفع جداً بذكائه في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، فالذكاء هو أول ما ينبغي أن يكون متوفراً عند طالب العلم.

الحرص على الأوقات

ثم قال: (وحرصٌ) وأعظم الحرص إنما يكون على رأس المال، ورأس مال الإنسان في الدنيا هو الوقت؛ لأن العمر هو الوقت، فإذا ضيع الإنسان رأس ماله، فسيغبن هناك، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

أصل (الغبن): شراء الشيء بسعر عالٍ، وبيعه بسعر أقل، فهذا خسر في كلا مرتين: خسر في المرة الأولى عندما اشترى بأكثر من الثمن، وخسر في المرة الثانية عندما باع بأقل من الثمن، فهذا هو أصل الغبن، (فنعمتان مغبون فيهما كثير من الناس) دل على أن المغتنمين لهما لهاتين قليل (الصحة والفراغ) والعلم لا يتأتى إلا بهما، فلا بد من فراغ ولا بد من صحة تعينك على الطلب.

وإذا ضيع طالب العلم وقته -لاسيما في بدء الطلب- في الجدال وعمل الحلقات فلن يصل أبداً، وعليه أن يطالع سير العلماء السالفين ليعلم كيف كانوا يستثمرون أوقاتهم؛ لأن كثيراً من الناس يضيع وقت طالب العلم بدعاوى كثيرة: دعوى الشوق، ودعوى السؤال، ودعوى الرؤية... أي دعوى، فلا ينبغي لطالب العلم أن يوافق الناس على أهوائهم في بداية الطلب، وإلا سيخسر خسراناً كبيراً؛ لأنه سيضحي برأس ماله والعائد عليه قليل.

ما الفائدة في جلوس جماعة من الغلمان -الذين هم حديثو عهد بطلب العلم- جلسة إلى الفجر يقررون فيها مسألة خلافية، وكل واحد إنما ينقل قول من قلده فقط؟ ليلة كاملة ذهبت على طالب العلم لم يستفد منها، بل قد توغر الصدور؛ لأنه دخل في الخلاف قبل أن يتأدب، لذلك من الممكن أن تتقطع الأواصر، وهذا هو الواقع الآن!

طالب العلم المفلح هو الذي يضرب على نفسه حصاراً في أول الطلب، ولذلك كانوا يقولون: (أول العلم الصمت، ثم التعلم، ثم العمل، ثم الدعوة)، وأنت طالما أنك لم تتضلع ولم تصبح رجل دعوة فلا تنشغل بها، فالدعوة ليست فرضاً عينياً عليك، فأنت في سعة من الوقت، والعلماء المتقدمون كانوا يحرصون جداً على الوقت؛ لأنه رأس المال.

ذكر الإمام النسائي في جزء له لطيف أملاه على بعض أصحابه أن إبراهيم النخعي ورجلاً آخر كانوا بعد صلاة العشاء يتذاكرون في العلم، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر.

وفي مقدمة الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم كان الإمام أحمد بن حنبل والإمام علي بن المديني والإمام يحيى بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وآخرون بعدما يصلون العشاء يتدارسون في علل الأحاديث، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر.

فطالب العلم لا بد أن يكون حريصاً على وقته في بداية الطلب، وإذا أهدر رأس ماله كيف يصل؟ وأنى له أن يصل؟! والليل والنهار يتجددان بصفة دائمة، لاسيما وأن معظمنا بدأ يطلب العلم بعد سن متأخرة، وعندما جاء يطلب العلم لم يجد من المشايخ من يجلس معهم ويطلب العلم على أيديهم، فهو يعاني من مصيبتين معاً: الأولى: طلاب العلم في سن متأخرة، والثانية: أنه لا يجد الشيوخ الذين يدرس عليهم هذا العلم، ومصيبة ثالثة وهي: عدم وجود المعين على الطلب، فقد يتوفر لك شيخ، وقد تتوفر لك همة؛ ولكن لا يتوفر لك ظروف مناسبة: إما أنك مسئول عن أسرة، وإما أن أباك يريدك مثلاً في جهة أخرى. وإما أن الجو العام سيعرقل في سبيل الطلب؛ لأن المتقدمين لم يكن يشغلهم شيء إطلاقاً، كان الآباء والأمهات عوامل مساعدة للطلبة، فأم سفيان الثوري كانت تقول: يا بني، اذهب فاطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، انظر إلى أم يصل بها فقه النفس إلى هذا الحد، تغزل النسيج وتبيعه وتكفي ولدها.

وكانت أم الإمام الشافعي تهيئه وهو ذاهب إلى مالك ، وكانت توصيه وتضع له أرغفة، فكان يحاول بقدر المستطاع ألا يكون أكولاً حتى لا تأخذه هذه الأرغفة أطول وقت.

عبد الله بن أبي داود عندما ذهب يسمع من أبي سعيد الأشج -وهو أكبر شيخ له ومن أجل شيوخه رحمه الله- قال: دخلت إلى أبي سعيد الأشج لأسمع منه، فاشتريت ثلاثين مداً باقلاء، فكنت كل يوم آكل عدداً من حبات الفول، ونحن الواحد منا اليوم يضع نصف كيلو في (السندويتش) انظر الفرق..!- قال: فما نفد الفول إلا وكنت قد كتبت عن أبي سعيد ثلاثين ألف حديث.

ثلاثون كيلو فول يعادل ثلاثين ألف حديث كتبها عن شيخ واحد فقط! وابن أبي داود له مشايخ كثيرون جداً، وعلماء المسلمين الأوائل لم يكونوا أيتاماً في الشيوخ، بل كان أقل واحد فيهم له مائتان وخمسون وثلاثمائة شيخ وهو يبكي على نفسه يقول: لم أقابل أحداً، وهذا الإمام الطبراني له ألف ومائة وتسعون شيخاً.

وحتى لا يكون هناك يأس ننزل إلى المتأخرين قليلاً، فهذا الإمام الذهبي صاحب سير أعلام النبلاء، وتلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقد بلغ معجم شيوخه حدود ألف ومائة ونيف، لما ذكر حرف (الزاي) وجدت سبعة عشر شيخة له اسمها (زينب) فقط، من النساء اللاتي تلقى عليهن العلم، وقد تجاوزن المائة والعشرين.

فكيف كان العلم عندهم؟ كم من العلم كان عند هؤلاء؟! نحن كمتأخرين ينبغي للإنسان أن يخجل إذا ذكر عند المتقدمين، إذ لم يبق معنا من العلم إذا ذكر الأول إلا فضل بزاق، والإمام أحمد بن حنبل لو وزع علمه علينا لأصبح كل واحد منا يصبح عالماً فحلاً، فكيف إذا نشر علمه ووزعه؟!

إذاً: الشخص حين يأتي يناقش علوم المتقدمين فلا يغتر بنفسه، لا يلبس ثياب غيره، حتى إنه إذا تعقب أحداً يقول: المتقدم أخطأ، ولابد أن تتعامل معه بلطف، ولابد أن تعرف قدره ومقداره، وتعرف قدرك ومقدارك، فالعلماء المتقدمون كانوا يسابقون الزمن، كان ابن أبي حاتم الرازي يقول: كنت أقرأ على أبي وهو يأكل، وهو يشرب، وهو يمشي، وهو في الخلاء. أي: يدخل الخلاء وهو جالس في الخارج يقرأ عليه!

بل وصلت الهمة أن الإمام الدارقطني كان يُقرأ عليه وهو يصلي النافلة!

والخطيب البغدادي -كما ذكر ذلك ابن الجوزي في المنتظم في ترجمته- قال: كان يمشي في الطريق وهو يطالع جزءاً. فهؤلاء العلماء كانوا حريصين جداً على الوقت.

وما أجمل ما يحدثنا به أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي ، وهذا الرجل له مصنف اسمه (الفنون) في ثمانمائة مجلد، وهو خلاصة ما كان يخطر له، نشر منه مجلدان هي كالأحاجي والألغاز، حين تقرأ في المجلدين تشعر أنك لا تفهم كلمة، فحين يكون نائماً ويخطر على باله خاطرة يقوم يكتبها وينام مرة أخرى، وكتاب (الفنون) جاء بالتتابع هكذا، وابن عقيل ليس له كتاب واحد فقط، بل له كتب عدة، وقد كان رجلاً له أولاد وزوجة وله مشاكل، والعوام كانوا يأتون إليه، فكيف صنف مثل هذه الكتب؟

يقول عن نفسه: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار دق الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ. فهو يقول: بدلاً من أن أمضغ خمس دقائق.. وأجعلها دقيقاً، وأبلها بالماء، وأسكت شدة الجوع وأنتهي؛ لأن المطلوب من الأكل: أنك لا تشعر بوقع الجوع.

وكان يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا كلَّ لساني عن مناظرة، وبصري عن مطالعة، فإذا استطرحت فأعمل فكري حال استطراحتي، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره.

وابن الجوزي استفاد من صحبة ابن عقيل ، فقال: إن كثيراً من العوام يطالبك بالزيارة لأنه يدعي الشوق، وأنت لو رددتهم صارت بينك وبينهم نفرة، ولو وافقتهم ضاع عمرك.. فماذا أفعل؟ قال: فصرت أهيئ للقائهم حزم الدفاتر، وبري الأقلام، وقطع الورق، فإن هذا شيء لابد منه ولا يحتاج إلى فقه، فأنا لدي كتب مبعثرة، فأول ما يأتي أحد لزيارتي أبدأ بترتيبها وتحزيمها وتنظيف التراب وغير ذلك، ويمكن أن أقول له: شارك بيدك معي؛ لأن هذه أشياء ضرورية، فأنا لو تركت مثل هذه الأشياء واستجبت لهؤلاء العوام ضاع عمري..

لذلك فهؤلاء العلماء صنفوا كتباً كثيرة جداً، وأنت تندهش أن ابن الجوزي له ستمائة مصنف، منها ماقد يصل إلى عشرين مجلداً، ومنها خمسة مجلدات وعشرة مجلدات، وهذا إنما حصلوه بالحرص على العمر..

الافتقار والتواضع

وقوله: (وافتقار) الافتقار في هذه الأيام، التواضع، بأن تكون في زي الفقير، لا تتعالى على غيرك، ليس عندك من العلم ما تتعالى به، فحين تشعر دائماً أنك فقير إلى هذا العلم تزداد منه، كالمؤمن الذي يخشى الله تبارك وتعالى ويعبده بالخوف والرجاء؛ فإنه دائماً في ازدياد؛ لأنه كلما عمل عملاً يقول: ربما لا يتقبله الله؟ إذاً: الحل أن أحسن العمل فإذا لم تستحضر النية، لم تركع وتسجد كما ينبغي، كنت مرائياً، إذاً: أنا سأحسن العمل أكثر، فترجع النفس اللوامة تقول له: ما صنعتَ شيئاً، فماذا أفعل؟ حسِّن العمل أكثر، فلا يزال يحسن عمله أكثر فيلقى الله تبارك وتعالى في ازدياد دائم، فطالب العلم ينبغي أن يكون هكذا فقيراً مفتقراً متواضعاً، لا يعلو على أقرانه.

كان بعض العلماء يقول: ما رأيت أفضل من أحمد بن حنبل ، كان والله يجمع ألواناً من العلم وما افتخر علينا قط، والذي يقول هذه المقالة هو أحد أقرانه الكبار.

يقول: أبو زرعة الرازي (ما افتخر أحمد علينا)، برغم ما كان عنده من العلم؛ بل كان الإمام أحمد متواضعاً دائماً، وكان معدوداً في أئمة الجرح والتعديل الكبار، ومع ذلك كان إذا ذُكر أحد الرواة يقول: ليس هنا أبو زكريا -أي: يحيى بن معين ، فقال له رجل: وما تصنع به؟ قال له: ويلك..! إنه يحسن هذا الشأن، مع أن الإمام أحمد قد تكلم في هذا الراوي الذي احتاج فيه لـيحيى بن معين ، لكنه يقول: ليس هنا فلان؛ لأنه يحسن هذا الأمر، لكن هذا هو التواضع والافتقار!.

قال سفيان الثوري رحمه الله: (لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن فوقه وعمن مثله وعمن دونه).

لأن منا من يستنكف أن يكتب عن تلميذه، يقول: أنا شيخه، فلا أكتب عنه، فهذا من حظ النفس وليس من النبل.

وهذا الإمام البخاري فقد روى عن الترمذي مع أن الترمذي تلميذ الإمام البخاري ، وكان الترمذي يرى أن رواية البخاري عنه مدعاة فخر، فكان إذا حدث بهذا الحديث يقول: ورواه عني محمد بن إسماعيل البخاري ، كلما يروي هذا الحديث يقول هذا التنبيه.

وابن خزيمة أيضاً من طبقة تلاميذ البخاري ، ومع ذلك روى عنه البخاري .

ومسلم بن الحجاج -رحمه الله- أيضاً روى عنه الإمام البخاري ، والإمام البخاري شيخ مسلم كما هو معروف.

فعندما تنبل فإنك لا ترى استنكافاً، أن تأخذ من تلميذك، فالافتقار نحتاج إليه، وكذلك التواضع! مهما أخذت من العلم، فاعلم أن الذي لم تحصله أكثر وأكثر، فهذا يحملك على ألا تجعل لنفسك مقاماً أعلى من مقامها، لاسيما إذا كنت في بدء الطلب.

الاغتراب والرحلة في طلب العلم

الغربة نوعان:

النوع الأول: الغربة عن الناس.

النوع الثاني: الغربة عن الوطن.

وكلاهما مقصود، أما الغربة عن الناس فهي تعني: أن طالب العلم ينبغي ألا يشغله شيء مما يشغل الناس؛ لأنه إذا لم ينصرف إلى العلم بكليته فلن يحصل ما أوهم نفسه أنه تفرغ له، وهي ما يسميها بعض العلماء: (العزلة الشعورية) بأن تكون في وسط الناس لكن تزايلهم بعملك، فطالب العلم ينبغي ألا ينخرط في سلك الناس؛ لأن اهتمامات الناس لا تعينه بشيء، إنما يقبل بكليته على العلم، فلا يرى من الدنيا إلا العلم.

أما النوع الثاني، وهو النوع الأعظم والأكبر والأشهر: وهو ما يسمى بالرحلة في طلب العلم، فيغترب الإنسان عن الوطن لتحصيل العلم، وهذا هو أشهر المعنيين بالنسبة للغربة، لكن هذا النوع يحتاج إلى همة أكبر من النوع الأول، ولذلك تجد من جلد هؤلاء العلماء في الرحلة، والصبر على الجوع والبرد، والصبر على المهانة والذل ما تقف أمامه مستعجباً مستغرباً..!!

فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما نفدت نفقته باليمن حين ذهب هو ويحيى بن معين وأحمد بن منصور الرمادي وجماعة من المحدثين إلى عبد الرزاق بن همام ، وكان عبد الرزاق آنذاك هو عالم اليمن ومحدثها الكبير، فلما رحلوا إليه نفدت نفقة الإمام أحمد في اليمن، فقدَّم بعض أصحابه مواساة له، فأبى أن يأخذها -والمواساة أن يعطيه نفقة ونوعاً من المعونة- فقال له: خذها على سبيل العارية، وردها إذا رجعت إلى بغداد؛ فرفض أيضاً، فماذا فعل؟ أكرى نفسه عند بعض القوافل حتى لا يأخذ مواساة من أحد!

وكان لا يأخذ الدقيق إلا من رجل واحد فقط، وكان إذا ذهب اقترض الدقيق يرده سريعاً، فذات مرة بعدما رجع من رحلة من هذه الرحلات، والإنسان حين يرجع من الرحلة يكون منهك القوى ومتعباً جداً، فذهب البيت فلم يجد دقيقاً، فذهب إلى صاحبه هذا فجاء بدقيق وأعطاه امرأته، فبعد وقت قريب جاءت بالخبز ساخناً، فاستغرب من ذلك وسألها؟! فقالت: وجدنا تنور صالح موقداً فخبزنا فيه، فأبى الإمام أحمد أن يأكل.

صالح هذا ابنه، فلماذا يأبى أن يأكل؟! لأن صالحاً قبل جائزة الخليفة المتوكل ، عندما أرسل للإمام أحمد صرة فيها مال فردها، فلما أرسلها إلى ابنه صالح قبلها، فأغلق الإمام أحمد الباب بينه وبين ولده، وكان بينهما باب فأغلقه، مع أن قبول جوائز الأمراء لا شيء فيها، ومن الصحابة من كان يقبل ذلك، ومنهم الصحابي الورع العابد التقي عبد الله بن عمر ، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله !) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (عبد الله رجل صالح) ، وكان إذا أتاه المال من الحجاج أخذه، فسُئل عن ذلك، فقال: (لست أطلب منهم شيئاً، ولا أرد ما رزقني الله عز وجل) وهذا إنما أخذه من قول النبي عليه الصلاة والسلام لأبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف له فخذه) ، والمقصود أن لا تطمع، لكن لو جاءك المال من غير مسألة ولا استشراف فخذه.

فالجوائز قبلها الأئمة الكبار، كـمالك ، والشافعي وعلي بن المديني وابن معين ، وقبلها أئمة كثيرون، ورفضها أئمة كثيرون أيضاً، فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف: والحق في المسألة أن القبول والرد لا بد أن تحتف به قرائن للقبول أو الرد، بمعنى إذا علمت أنك إذا أخذت جائزة الأمير طمع فيك وكسر عينيك فلا تأخذها؛ لأنه إنما يعطيك ليأخذ، والإنسان في مقابل الإحسان يذل، كما قال الحكيم الترمذي : (ليس هناك حمل أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك) فإذا أردت أن تسترق إنساناً فأحسن إليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على محبة الإحسان، كما قال تبارك وتعالى: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، ومعنى الآية: لا ينبغي أن يكون جزاء الإحسان إلا من جنسه.

فالإمام أحمد لما نهى ولده عن الأخذ؛ لأن الفتنة التي خرج منها الإمام أحمد كانت مدلهمة؛ فأبى أن يأخذ جائزة المتوكل ، فلما أخذها ابنه ابن عباس أنه كان يجلس مع بعض أصحابه كـسعيد بن جبير وعكرمة وطاوس ، فجاءه رجل فقال له: ( ألقاتل المؤمن توبة؟ قال له: لا. فلما مضى الرجل قال له أصحابه الجلوس: أولم تفتنا قبل ذلك أن لقاتل المؤمن توبة؟ قال: بلى، ولكني رأيت في عينيه الشر). فالسائل يريد أن يقتل، وجاء مسعوراً، ويريد أن يأخذ فتوى بأن قاتل المؤمن له توبة فيقول: إذاً سنقتل ونتوب إن شاء الله، أما إذا لم يكن له توبة فلا، فـابن عباس لاحظ هذه المسألة، فقال له: ليس لقاتل المؤمن توبة.

وهنا مسألة يتكلم العلماء فيها، وهي: أنه يجوز للمفتي أن يفتي بأشد الوجهين، إذا كان له وجه في الدليل، مراعاة لحال المستفتي، إذا كان الدليل يحتمل وجهين، فمراعاة لحال المستفتي يفتيه بالأشد.

والشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله استخدم هذا الأصل في فتوى تحريم نقاب البرقع، لأن بعض الناس طار بها طيراناً، على أساس أن الشيخ ابن عثيمين يقول: النقاب حرام وليس كذلك، فالشيخ محمد صالح رحمه الله ممن يوجب ستر المرأة وجهها، فكيف يقول: إن النقاب حرام؟ فالنقاب الذي فيه إدلاء، وهو أن تضرب المرأة بالثوب الواحد من شعر رأسها لأخمص قدميها قطعة واحدة، فهذا هو الذي يوجبه الشيخ ويقول به.

ويبقى النقاب الآخر وهو نقاب البرقع الذي اشتهر في مصر والشام، وهو عبارة عن قطعتين: قطعة غطاء رأس، وقطعة تضرب على الوجه، فالزائر إلى مكة يلاحظ النساء اللواتي يرتدين لباس البرقع، بدأن يتوسعن فيه، ترفع الغطاء الأعلى قليلاً، وتنزل غطاء الوجه قليلاً، فإذا بنصف وجهها يظهر، أي من منتصف الجبهة إلى أول الأنف، فلما بدأن يتوسعن في ذلك قال: لا، لا يجوز، وإن كان نقاب البرقع موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا نراه الآن؛ لأن النساء توسعن في ذلك.

والعلماء يقولون في هذه أيضاً: إن المفتي إذا أفتى في مسألة بشروط جواز فلم يلتزم الناس الشروط، فله ألا يذكر الشرط، أي: إذا قال مثلاً: يجوز أن تلبسي نقاب البرقع، لكن إياك أن تفعلي كذا وكذا، وهو يعرف أنها لن تلتزم بهذا الشرط؛ فحينئذ له أن يطلق المنع بغير ذكر الشرط؛ لأن الشرط لا قيمة له، بل هذا الشرط يمكن أن يستخدمه بعض الناس في الفوضى، فيقولون: من الأفضل أن نغلق هذا الباب، وهذا من ذكاء المفتي، لابد أن يراعي المفتي حال المستفتي.

فطالب العلم في بداية الطلب لا بد أن يتمتع بهذا الذكاء، وإلا فسيخسر كثيراً، إما في التحصيل، أو إذا ابتلى الله العباد به مفتياً بعد ذلك.

فأول درجات الذكاء: أن طالب العلم يبدأ بالأهم فالمهم.

أول واجبات طالب العلم :

والإنسان يعجب من الطلبة الذين يريدون دراسة علم مصطلح الحديث، ولم يجودوا القرآن بعد، هو لا يستطيع أن يقرأ القرآن ويريد أن يدرس المصطلح، فطالب العلم إذا كانت بدايته هكذا فلن يفلح، وقد تجد أيضاً طالب العلم أول ما يبدأ في الفقه يبدأ يقرأ في المحلى لـابن حزم ، وهذا من علامات الخسران: أن يكون أول ما يقرأ من الفنون وأول ما يبتدئ، وأول درجة في الفقه أن يقرأ المحلى لـابن حزم أو نيل الأوطار، أو الكتب التي تعنى بذكر الأدلة والمناقشة.

لنفرض أنني رجل ليس عندي فهم، أي: ميزان أعرف به الحق من غيره، فإذا أنا دخلت في الكتب التي تعنى بذكر الخلاف، واحد في الشرق والثاني في الغرب، الثاني يحضر دليلاً وهذا يحضر مقابله دليلاً، فأنت في النهاية ماذا تصنع؟

لا يمكن إلا واحدة من ثلاث:

1- إما أن يختار بهواه القول المناسب له.

2- وإما أن يسوء ظنه بالعلماء جملة، فيقول: لو كانوا على حق ما اختلفوا والدليل واحد، فواحد مشرق والآخر مغرب وما ذلك إلا لأن مدارك الفهم متسعة، فهذا أفتى بمنطوق الدليل، والثاني أفتى بمفهوم الدليل، والمفهوم غاب على هذا الرجل فلم يتفطن هذا كيف أخذ هذه الفتوى.

وإما أن يعرض عن العلم جملة، طالما أنه لم يجتهد.

فالصواب: أن نبدأ بصغار العلم قبل كباره، كما ذكره الإمام البخاري في تبويب له على تفسير معنى الرباني، في قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] ، قال: الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، وكما قال القائل: غذاء الكبار سم الصغار. أي: لو أحضرت ولداً وهو لا يزال يرضع وأعطيته قطعة لحم فإنه يموت بها؛ لأن معدته لم تتعود على هذا الهضم، فلذلك الإنسان أول ما يبدأ لا بد أن يعمل ذكاءه، ما الذي ينبغي أن يبدأ به، لكن أول ما يدخل مباشرة يدخل في سلك الأئمة المجتهدين، هذا يضر الطالب أشد الضرر.

هذا الذكاء ينفعه فيما بعد في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، وبعض الناس يظن أن الكتاب والسنة كافيان وافيان لكل ما يستجد للبشر، لدرجة أنهم قالوا: إن تسعة أعشار الأحكام الشرعية تؤخذ من القياس، وهذا من الخطأ، فالأحكام الشرعية بكاملها وكل الأدلة كافية، لكن المشكلة في الذي يستنبط الأحكام؟

فهذا الإمام البخاري إمام أهل الحديث والفقه في زمانه كان من العلماء الذين يستنبطون الفقه من الأدلة، ففي كتاب المواقيت قال: (باب من أدرك ركعة من العصر) أي: قبل أن تغرب الشمس، ذكر في هذا الباب ثلاثة أحاديث، فالحديث الأول مناسب للتبويب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، وإذا أدرك أحدكم سجدة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك).

والتبويب كأنه مأخوذ من نص الحديث، ولكن المهم في الحديثين الباقيين، أما الحديث الثاني بعد حديث أبي هريرة فهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً، قال الله: هل ظلمتكم من أجوركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).

وأردف حديث أبي موسى الأشعري عقب حديث ابن عمر قال: (مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر، قالوا لك: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر قوماً فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين) .

أولاً: ما علاقة هذين الحديثين بحديث: (من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس)

هذا الجواب الإمام البخاري يريد أن يقول:

إن العمل لا يقبل إلا إذا استوفى شرائطه، والله تبارك وتعالى قال: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] ، فإذا أدرك رجل سجدة أو ركعة واحدة قبل أن تغرب الشمس، بمعنى أنه أنهى الركعة ودخل وقت المغرب، فهل وقع أغلب صلاته في غير الوقت أم لا؟ ثلاث ركعات وقعت في غير وقت العصر، فالجزء القليل من الصلاة هو الذي وقع في الوقت، ومع ذلك عاملك الله تبارك وتعالى بالفضل، فوهب الأكثر للأقل، واعتبر أنك أدركت الصلاة.

ولو أنه حاسبك بالعدل لقال: لك ركعة واحدة فقط، وثلاث ركعات لا قيمة لها؛ لكنه عاملك بالفضل، فوهب لك الأكثر الذي وقع على غير شرطه.

كذلك عامل هذه الأمة بالفضل، فكانت أقل أعماراً وأكثر أجراً، ولو أنه عاملها بالعدل لعاملها أقل، فيعطيها من الأجر أقل ما يعطي للأطول عمراً، هذا هو وجه الربط، فالإمام البخاري يريد أن يقول: إن هذا تفضل من الله عز وجل أن يقبل منك صلاتك وقد وقع أغلبها في غير الوقت، مع قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] ، أي: لها وقت أول ولها وقت آخر، فعاملك هنا بالفضل، كما عامل الأمة جملة بالفضل لما أعطاها الأجر الجزيل مع العمر القصير، وهذا واضح جداً في أشياء كثيرة، منها ومن أجلّها قوله تبارك وتعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] ، فأطول عمر نحن نعلمه هو عمر نوح عليه السلام أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] ، وتلفت نظرك هذه العبارة، لماذا لم يقل: (تسعمائة وخمسين)؟ إذا كان ألف سنة إلا خمسين عاماً هي تسعمائة وخمسين، فهل هناك فرق بينهما؟ هناك فرق كبير، فقد جرت عادة الناس أن تلغي الكسر في العد، مثاله: كم الساعة الآن؟ فتقول مثلاً: السادسة وثلاث عشرة دقيقة تقول له السادسة والربع أو السادسة وعشر دقائق، هكذا، فتلغي الكسر، فجرت عادتهم، إلغاء الكسر دائماً في العد. فلو قال: (تسعمائة وخمسين عاماً)، لقلنا: يحتمل أن تكون تسعمائة وثلاثة وخمسين، أو أربعة وخمسين، أو خمسة وخمسين، فلما قال: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] لا يحتمل أن يكون هناك كسر إطلاقاً.

فأطول عمر نحن نعرفه عمر نوح عليه السلام: (تسعمائة وخمسين عاماً)، وقد ذكر ابن عباس -ويبدو أنه أخذه عن بعض الإسرائيليات-: أن الرجل كان يُختن وهو ابن ثمانين!

فهؤلاء أعمارهم طويلة جداً، وأقصى عمر ممكن أن يصله رجل في هذه الأمة: مائة سنة أو مائة وخمسين سنة، مع أن متوسط أعمار الأمة كما قال عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك) فبعمرك القصير هذا تسبق كثير من الذين عمروا قبل ذلك، مع أن عمرك أقل، قال الله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] ، أي: ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر الأيام، فأنت لو وفقت ووفقك الله عز وجل لقيام ليلة القدر كل عام، وكان عمرك ستين سنة غير أنك ابتدأت تصلي وأنت ابن خمسة عشر سنة ثم مت على رأس ستين سنة، فقد أدركت خمسة وأربعين رمضان، أي: خمسة وأربعين ليلة قدر، فإذا ضربت هذا في هذا تصير ثلاثة آلاف سنة وقليل، تحسب عليك أنك عابد.. قائم.. ذاكر، فتكتب في صحيفتك أنك ذاكر لله، فمن مِن السابقين يدركك؟ إن عاش ألف سنة، فكم قضى منها في النوم والأكل والشرب والتشاجر والصلاة والعمل.. ستجد أن الذي لله عز وجل في فترة ألف سنة قليلة جداً، فهذا مظهر واحد فقط من مظاهر تفضيل هذه الأمة.

أراد الإمام البخاري أن يلفت النظر إلى هذه المسألة: وهي أن الله عاملك في قبول معظم صلاتك في غير الوقت بالفضل.

حسناً.. في حديث ابن عمر قال: (عجزوا فأعطوا قيراطاً) وفي حديث أبي موسى الأشعري فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك) فلم يأخذوا.

ما الفرق بين العجز في حديث ابن عمر وبين العجز في حديث أبي موسى ؟

الجواب: الفرق دقيق جداً ومهم، وهو أنه ليس كل عجز يعذر المرء به، وقد روى أبو داود في سننه، قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي الله ونعم الوكيل) .

العجز هنا: هو الحمق وسوء التصرف، وسمي عجزاً لأنه عجز عن إدراك منيته بحمقه وسوء تصرفه، فحيث ترى إنساناً يريد أن يهدد شخصاً فيرمي نفسه تحت سيارة مثلاً، أو يريد أن يشم رائحة (البارود) فيشعل (كبريتاً) ويشعل في شيء يلتهم كل شيء لأجل أن يشم رائحة البارود..! فهذا من الحمق، فمثل هذا الرجل ضامن.

رجل -مثلاً- ليس بطبيب، ورأى أنه ذكي، وأنه عالج شخصاً فشفي، وعالج آخر فشفي، قال: إذاً أعمل طبيباً، فلما عمل طبيباً أتلف النفوس، فليس له أن يقول: أنا لم أكن أقصد قتله.. لأن هذا من الحمق والعجز، ولذلك فهو ضامن، فلا بد أن يدفع الدية.

فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يلوم على العجز) ، أي: على الحمق وسوء التصرف، ولكن إذا سلكت الأسباب الشرعية كما أمرت فغلبك أمر، وجاءك القدر الأعلى فلا تستطيع له دفعاً؛ حينئذ قل: حسبي الله ونعم الوكيل؛ لأنه ليس بيدك شيء.

فالعجز هذا هو عجز الحمق، ولذلك لم يعطهم شيئاً، بخلاف العجز الذي ورد في حديث ابن عمر ، أقبل وعمل بجهده، ولكن انقطع جهده في أثناء العمل، فهذا يعذر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب).

فالعجز في حديث ابن عمر المقصود به رجل أدى ما عليه ثم عجز، أي: بغير تقصير وبغير حمق منه، لذلك أعطي قيراطاً، بخلاف العجز الآخر، فقد كان بسبب حمق وسوء تصرف، فهم الذين قالوا له: لا حاجة لنا في أجرك، فرفضوا الأجر، وهذا من حمقهم وسوء تصرفهم، لذلك لم يعطهم الله تبارك وتعالى شيئاً.

فالإمام البخاري قصد التنبيه على هذه المعاني، فتصور لو أن طالب العلم كان بمنزلة الإمام البخاري ، فإنه سيستفيد جداً من تحصيل العلم، أولاً: ينتفع بترتيب العلوم في بدء الطلب، ثم بعد ذلك ينتفع جداً بذكائه في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، فالذكاء هو أول ما ينبغي أن يكون متوفراً عند طالب العلم.

ثم قال: (وحرصٌ) وأعظم الحرص إنما يكون على رأس المال، ورأس مال الإنسان في الدنيا هو الوقت؛ لأن العمر هو الوقت، فإذا ضيع الإنسان رأس ماله، فسيغبن هناك، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

أصل (الغبن): شراء الشيء بسعر عالٍ، وبيعه بسعر أقل، فهذا خسر في كلا مرتين: خسر في المرة الأولى عندما اشترى بأكثر من الثمن، وخسر في المرة الثانية عندما باع بأقل من الثمن، فهذا هو أصل الغبن، (فنعمتان مغبون فيهما كثير من الناس) دل على أن المغتنمين لهما لهاتين قليل (الصحة والفراغ) والعلم لا يتأتى إلا بهما، فلا بد من فراغ ولا بد من صحة تعينك على الطلب.

وإذا ضيع طالب العلم وقته -لاسيما في بدء الطلب- في الجدال وعمل الحلقات فلن يصل أبداً، وعليه أن يطالع سير العلماء السالفين ليعلم كيف كانوا يستثمرون أوقاتهم؛ لأن كثيراً من الناس يضيع وقت طالب العلم بدعاوى كثيرة: دعوى الشوق، ودعوى السؤال، ودعوى الرؤية... أي دعوى، فلا ينبغي لطالب العلم أن يوافق الناس على أهوائهم في بداية الطلب، وإلا سيخسر خسراناً كبيراً؛ لأنه سيضحي برأس ماله والعائد عليه قليل.

ما الفائدة في جلوس جماعة من الغلمان -الذين هم حديثو عهد بطلب العلم- جلسة إلى الفجر يقررون فيها مسألة خلافية، وكل واحد إنما ينقل قول من قلده فقط؟ ليلة كاملة ذهبت على طالب العلم لم يستفد منها، بل قد توغر الصدور؛ لأنه دخل في الخلاف قبل أن يتأدب، لذلك من الممكن أن تتقطع الأواصر، وهذا هو الواقع الآن!

طالب العلم المفلح هو الذي يضرب على نفسه حصاراً في أول الطلب، ولذلك كانوا يقولون: (أول العلم الصمت، ثم التعلم، ثم العمل، ثم الدعوة)، وأنت طالما أنك لم تتضلع ولم تصبح رجل دعوة فلا تنشغل بها، فالدعوة ليست فرضاً عينياً عليك، فأنت في سعة من الوقت، والعلماء المتقدمون كانوا يحرصون جداً على الوقت؛ لأنه رأس المال.

ذكر الإمام النسائي في جزء له لطيف أملاه على بعض أصحابه أن إبراهيم النخعي ورجلاً آخر كانوا بعد صلاة العشاء يتذاكرون في العلم، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر.

وفي مقدمة الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم كان الإمام أحمد بن حنبل والإمام علي بن المديني والإمام يحيى بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وآخرون بعدما يصلون العشاء يتدارسون في علل الأحاديث، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر.

فطالب العلم لا بد أن يكون حريصاً على وقته في بداية الطلب، وإذا أهدر رأس ماله كيف يصل؟ وأنى له أن يصل؟! والليل والنهار يتجددان بصفة دائمة، لاسيما وأن معظمنا بدأ يطلب العلم بعد سن متأخرة، وعندما جاء يطلب العلم لم يجد من المشايخ من يجلس معهم ويطلب العلم على أيديهم، فهو يعاني من مصيبتين معاً: الأولى: طلاب العلم في سن متأخرة، والثانية: أنه لا يجد الشيوخ الذين يدرس عليهم هذا العلم، ومصيبة ثالثة وهي: عدم وجود المعين على الطلب، فقد يتوفر لك شيخ، وقد تتوفر لك همة؛ ولكن لا يتوفر لك ظروف مناسبة: إما أنك مسئول عن أسرة، وإما أن أباك يريدك مثلاً في جهة أخرى. وإما أن الجو العام سيعرقل في سبيل الطلب؛ لأن المتقدمين لم يكن يشغلهم شيء إطلاقاً، كان الآباء والأمهات عوامل مساعدة للطلبة، فأم سفيان الثوري كانت تقول: يا بني، اذهب فاطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، انظر إلى أم يصل بها فقه النفس إلى هذا الحد، تغزل النسيج وتبيعه وتكفي ولدها.

وكانت أم الإمام الشافعي تهيئه وهو ذاهب إلى مالك ، وكانت توصيه وتضع له أرغفة، فكان يحاول بقدر المستطاع ألا يكون أكولاً حتى لا تأخذه هذه الأرغفة أطول وقت.

عبد الله بن أبي داود عندما ذهب يسمع من أبي سعيد الأشج -وهو أكبر شيخ له ومن أجل شيوخه رحمه الله- قال: دخلت إلى أبي سعيد الأشج لأسمع منه، فاشتريت ثلاثين مداً باقلاء، فكنت كل يوم آكل عدداً من حبات الفول، ونحن الواحد منا اليوم يضع نصف كيلو في (السندويتش) انظر الفرق..!- قال: فما نفد الفول إلا وكنت قد كتبت عن أبي سعيد ثلاثين ألف حديث.

ثلاثون كيلو فول يعادل ثلاثين ألف حديث كتبها عن شيخ واحد فقط! وابن أبي داود له مشايخ كثيرون جداً، وعلماء المسلمين الأوائل لم يكونوا أيتاماً في الشيوخ، بل كان أقل واحد فيهم له مائتان وخمسون وثلاثمائة شيخ وهو يبكي على نفسه يقول: لم أقابل أحداً، وهذا الإمام الطبراني له ألف ومائة وتسعون شيخاً.

وحتى لا يكون هناك يأس ننزل إلى المتأخرين قليلاً، فهذا الإمام الذهبي صاحب سير أعلام النبلاء، وتلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقد بلغ معجم شيوخه حدود ألف ومائة ونيف، لما ذكر حرف (الزاي) وجدت سبعة عشر شيخة له اسمها (زينب) فقط، من النساء اللاتي تلقى عليهن العلم، وقد تجاوزن المائة والعشرين.

فكيف كان العلم عندهم؟ كم من العلم كان عند هؤلاء؟! نحن كمتأخرين ينبغي للإنسان أن يخجل إذا ذكر عند المتقدمين، إذ لم يبق معنا من العلم إذا ذكر الأول إلا فضل بزاق، والإمام أحمد بن حنبل لو وزع علمه علينا لأصبح كل واحد منا يصبح عالماً فحلاً، فكيف إذا نشر علمه ووزعه؟!

إذاً: الشخص حين يأتي يناقش علوم المتقدمين فلا يغتر بنفسه، لا يلبس ثياب غيره، حتى إنه إذا تعقب أحداً يقول: المتقدم أخطأ، ولابد أن تتعامل معه بلطف، ولابد أن تعرف قدره ومقداره، وتعرف قدرك ومقدارك، فالعلماء المتقدمون كانوا يسابقون الزمن، كان ابن أبي حاتم الرازي يقول: كنت أقرأ على أبي وهو يأكل، وهو يشرب، وهو يمشي، وهو في الخلاء. أي: يدخل الخلاء وهو جالس في الخارج يقرأ عليه!

بل وصلت الهمة أن الإمام الدارقطني كان يُقرأ عليه وهو يصلي النافلة!

والخطيب البغدادي -كما ذكر ذلك ابن الجوزي في المنتظم في ترجمته- قال: كان يمشي في الطريق وهو يطالع جزءاً. فهؤلاء العلماء كانوا حريصين جداً على الوقت.

وما أجمل ما يحدثنا به أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي ، وهذا الرجل له مصنف اسمه (الفنون) في ثمانمائة مجلد، وهو خلاصة ما كان يخطر له، نشر منه مجلدان هي كالأحاجي والألغاز، حين تقرأ في المجلدين تشعر أنك لا تفهم كلمة، فحين يكون نائماً ويخطر على باله خاطرة يقوم يكتبها وينام مرة أخرى، وكتاب (الفنون) جاء بالتتابع هكذا، وابن عقيل ليس له كتاب واحد فقط، بل له كتب عدة، وقد كان رجلاً له أولاد وزوجة وله مشاكل، والعوام كانوا يأتون إليه، فكيف صنف مثل هذه الكتب؟

يقول عن نفسه: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار دق الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ. فهو يقول: بدلاً من أن أمضغ خمس دقائق.. وأجعلها دقيقاً، وأبلها بالماء، وأسكت شدة الجوع وأنتهي؛ لأن المطلوب من الأكل: أنك لا تشعر بوقع الجوع.

وكان يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا كلَّ لساني عن مناظرة، وبصري عن مطالعة، فإذا استطرحت فأعمل فكري حال استطراحتي، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره.

وابن الجوزي استفاد من صحبة ابن عقيل ، فقال: إن كثيراً من العوام يطالبك بالزيارة لأنه يدعي الشوق، وأنت لو رددتهم صارت بينك وبينهم نفرة، ولو وافقتهم ضاع عمرك.. فماذا أفعل؟ قال: فصرت أهيئ للقائهم حزم الدفاتر، وبري الأقلام، وقطع الورق، فإن هذا شيء لابد منه ولا يحتاج إلى فقه، فأنا لدي كتب مبعثرة، فأول ما يأتي أحد لزيارتي أبدأ بترتيبها وتحزيمها وتنظيف التراب وغير ذلك، ويمكن أن أقول له: شارك بيدك معي؛ لأن هذه أشياء ضرورية، فأنا لو تركت مثل هذه الأشياء واستجبت لهؤلاء العوام ضاع عمري..

لذلك فهؤلاء العلماء صنفوا كتباً كثيرة جداً، وأنت تندهش أن ابن الجوزي له ستمائة مصنف، منها ماقد يصل إلى عشرين مجلداً، ومنها خمسة مجلدات وعشرة مجلدات، وهذا إنما حصلوه بالحرص على العمر..