الحاجة إلى العلماء الربانيين


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

من السالف المعروف أن العرب في الجاهلية الأولى كانوا شذر مذر، لا تربطهم عاطفة، ولا يجمعهم جامع، وليس بينهم قاسم مشترك، إنما هي العصبية للدم والعرض، فالقبيلة القوية هي التي تسود، والضعيفة تحت الأقدام.. هذا هو موقف الجاهلية الأولى.

لذلك لما أراد بعض الناس أن ينقل هذا المنطق إلى الإسلام رفضه النبي صلى الله عليه وسلم رفضاً قاطعاً، فإنه لما سرقت المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع فتجحده، فثبت أنها جحدت -سرقت- فرفع الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فخرج حكمه بقطع يدها، فاستشاط بنو مخزوم، فقالوا: يا للعار! امرأة من بني مخزوم التي حازت الشرف، ولها موقع عالٍ في وسط العرب تعير بأن امرأة منهم سرقت! وقطعت يدها! لا، فذهب الرجال بعضهم خلف بعض يشفعون، وقالوا: ندفع أي فدية، نفعل أي شيء.

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى إلا أن يقطع يدها، فأرسلوا إليه الحب بن الحب أسامة بن زيد بن حارثة ، ظناً منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يداهن في حدود الله بحبه لرجل، فلما ذهب إليه أسامة ، وهو الحب بن الحب، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أتشفع يا أسامة في حدٍ من حدود الله؟! والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمدٌ يدها) .

تنفيذ الحد حق الله تبارك وتعالى، ليس حق بشر، فإذا رفعت الحدود فلا شفاعة فيها، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم الحق في إسقاط الحد بعد أن يرفع إليه، وفي السنن أن صفوان بن أمية رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ فاستل بردتي من تحت رأسي، فأمسكته، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت البردة تساوي ثلاثين درهماً، فأمر بقطع يده. فقلت: يا رسول الله! تقطع يده في ثلاثين درهماً! وهبتها له، لا أريدها، فقال عليه الصلاة والسلام: هلا قبل ذلك -هلا عفوت عنه قبل أن ترفع الحد إليّ- ثم أمر بقطع يده).

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعقب على هذا الخُلق: (إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) فهل دم الضعيف أرخص من دم الشريف؟ لماذا تقيسون الرجال بالشرف والمال؟

وحين جاء النبي صلى الله عليه قلب المفاهيم التي كانت في الجاهلية، وأقامها على الجادة، وأصبح الرجال يوزنون عند الله بقلوبهم لا بأجسامهم، حتى أنك ترى الرجل العظيم لا يساوي عند الله جناح بعوضة، جاء في الصحيح: (أن رجلاً مر، له شارةٌ حسنة، وعليه سمت حسن. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ما تقولون في هذا؟ قالوا: هذا حري إذا تكلم أن يسمع له، وإذا تزوج أن ينكح، فسكت.. فمر رجلٌ فقير، عضه الفقر بنابه، قال لهم: ما تقولون في هذا؟ قالوا: هذا حري إن تكلم ألا يسمع له، وإن تزوج ألا ينكح؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هذا خيرٌ من ملء الأرض مثل هذا) ولك أن تتخيل سعة الأرض.

فالله تبارك وتعالى يزن الناس بالقلوب؛ قال تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89] فألغى مظاهر التفريق، وأرجع المسلمين كلهم إلى رجلٍ واحد، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما المؤمنون كرجلٍ واحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) هذا لفظ مسلم ، وفي الصحيحين: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) .

ظل الأوس والخزرج يقتتلون أربعين عاماً، فلما جاء الإسلام أعطى بعضهم ماله -بل وزوجته- لأخيه الذي هاجر، وهذا النوع من الأخلاق لم يكن من أخلاق العرب، فقد كان العرب عندهم غيرة شديدة على النساء، ومن ذلك ما حكي عن سعد بن عبادة أنه لم يكن يسمح لرجلٍ أن يتزوج امرأته إذا طلقها؛ لأن سعداً يغار، فكان الرجل منهم بعد أن مس الإسلام قلبه يتنازل عن امرأته لأخيه، حتى أنهم صاروا جسداً واحداً فعلاً.

لما اختصم رجل من المهاجرين مع رجلٍ من الأنصار قال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً؛ كأنما فقئ حب الرمان في وجهه من حمرته، يقول: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة، دعوها فإنها منتنة) .

حرص الإسلام على أن يجعل شعائر جماعية للمسلمين حتى تذكرهم بهذه الآصرة القوية برحم الإسلام، فجعل شعيرة يومية: وهي الصلوات الخمس، وأسبوعية: وهي صلاة الجمعة، وسنوية وهي الحج؛ لأن الإنسان ينسى، وقد قال ابن عباس : (إنما سمي الإنسان إنساناً لكثرة نسيانه)، وكما قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، فهل استفاد المسلمون من هذه الشعائر في تقوية روابط الأخوة فيما بينهم؟ أم أنهم ينسون بعد كل اجتماع فيحتاجون إلى تذكير آخر؟ فلذلك جعل الله شعائر الاجتماع على فترات، فبعد الصلوات الخمس تأتي شعيرة الجمعة، وبعد الجمعة تأتي شعيرة الحج.

لماذا تفرق المسلمون اليوم؟ ولماذا صار المسلمون وحدهم هم الذين يطعنون ويضربون؟ لماذا أصبح دمهم أرخص دمٍ في العالم؟ أدمهم أرخص من دم عباد البقر ومن دم أولاد القردة والخنازير؟ أدمهم أرخص من دم عابد الحجر؟ لماذا رخص دمهم؟! لأنهم ليس لهم كيان، وليست لهم دولة على وجه الأرض.. هذه هي الحقيقة وإن كانت مرة.

أذل شيء على الإنسان -إذا كان حراً- أن يكون ضعيفاً، هذا هو الذي يذل الحر ويكسر نفسه.

في البوسنة والهرسك قتل منهم ثلاثة عشر ألف رجل مسلم بيد النصارى، ومجلس الأمن يفكر في عقد اجتماع، بينما أحداث الخليج لم تستغرق أكثر من أسبوع حتى حسمت القضية.

هل يجهلون هؤلاء الألوف الذين يقتلون؟ وبعض الناس يغضب من ظاهرة عدم وجود المسلمين، فأقول له: حنانيك.. بعض الشر أهون من بعضه، أليس من عدة أشهر سب رسول الإسلام على صفحات الصحف العربية ووصف بأنه أحمق..! ولم يتحرك أحد؟!

ليست هناك دولة تتبنى هذا الرسول؟! يسب، ويكتب صاحب المقال اسمه، ومقر الصحيفة معروف، ومع ذلك ما فعل أحدٌ شيئاً، والرجل آمن في داره، والصحيفة ما زالت تصدر حتى الآن.. بم يفسر هذا؟!

إن بعض الناس الآن إذا أراد أن يتكلم على رئيس دولةٍ عظمى لا يكتب اسمه؛ لأنه لا يأمن غوائله، هذا يدل على ضعف شديد جداً، المسلمون لا ينطقون على ساحة العالم، ماذا استفادوا من الاجتماعات الأسبوعية واليومية والسنوية..؟

قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] (حتى يغيروا ما) وليس (حتى يغيروا أنفسهم) لأن الله تبارك وتعالى يوم خلق الناس خلقهم على الفطرة، فالفطرة هي الإسلام، لكن إذا طال به العهد اجتالته الشياطين عن هذه الفطرة، فهذا هو الذي عناه ربنا تبارك وتعالى بقوله: (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، أي: حتى يغيروا الذي علق بأنفسهم.

المؤمنون كرجلٍ واحد.. فهل شعرت بعضو من بجسدك ينضح عليك بالألم، وأنت تسمع أن ثلاثة عشر ألف مسلم يقتلون في عدة أشهر؟ هل المؤمنون الآن كرجلٍ واحد..؟ لا.

إن عمورية فتحت لأن رجلاً يهودياً فعل شيئاً لا يساوي ذرة على الشمال مما فعله اليهود بالمسلمين الآن، فالذي حدث في عمورية هو أن امرأة مسلمة كانت في السوق تشتري، فعصب أحد اليهود طرف إزارها من خلف حتى إذا قامت انكشفت سوءتها، فصاحت المرأة وهي في السوق: وامعتصماه! فكيف علم المعتصم بأمرها؟ سمعها مسلم عنده عزة الإسلام، فقال: والله لأبلغنها المعتصم ! ورحل الرجل يركب الأيام والليالي حتى وصل إلى المعتصم ، وقال له الذي سمع، فتحركت النخوة في دم المعتصم ، لفتح عمورية ، وساق إليها الجيوش الجرارة لامرأة ظهرت سوءتها.

ولقد أظهر اليهود اليوم عورات نساء المسلمين؛ لأنهم ملوك الموضة، وهل الذي نراه في شوارع المسلمين إلا من غرس أيديهم؟! فإنك عندما تنزل بلاد المسلمين، ثم تنزل بلاد الكافرين لا ترى فرقاً بينها، أين عزة الإسلام؟

إن المسلمين لم يستثمروا هذه الاجتماعات؛ فإنك تجد المسلم يصلي بجانب أخيه خمس سنوات وهو لا يعرف اسمه ولا نسبه ولا داره، ولا يزوره، وهو يراه في كل صلاة، فلماذا شُرعت إذاً الصلوات الخمس في جماعة؟ ألمجرد أن نقف بجانب بعض فقط؟ لا.

كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وقد استفادوا هذا الخلق من النبي عليه الصلاة والسلام- يعرف بعضهم بعضاً، بحيث لو وطئت قدم رجلٍ غريب المدينة، فإنهم يعلمون به.. وهذا ظاهر في أحاديث كثيرة؛ من أشهرها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي انفرد به مسلم ، قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاءه رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد). كانوا يحفظون المدينة كلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفقد أصحابه، ففي إحدى المرات نظر في وجوه أصحابه فلم ير ثابت بن قيس ، فأرسل إليه أنس بن مالك ، فوجده معتكفاً في داره يبكي، فقال له: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عنك ما حجبك؟ فقال: أنا من أهل النار، حبط عملي، لأنني كنت أرفع صوتي على صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكان ثابت جهوري الصوت.

فذهب أنس بن مالك رضي الله عنه يحمل هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: بل أخبره أنه من أهل الجنة. قال أنس : فكان يمشي بيننا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة).

من أعظم ثمرات الصلوات الخمس: أن يعرف المسلمون بعضهم بعضاً، ويؤاسي بعضهم بعضاً، ويشتركون في المسرات والمضرات، فإن العبد إذا رأى غيره يشاركه خف عليه إذا كان متألماً، أو زادت سعادته إذا كان سعيداً، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: (فظللت يومي وليلتي أبكي، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فاستأذنت عليّ امرأةٌ من الأنصار فجلست تبكي معي) لما ترى غيرها يشاركها في البكاء يخف عليها الألم، حتى أشارت الخنساء إلى ذلك في بعض قولها في أخيها كليب لما قتل، فقالت:

ولولا كثرة الباكين حولـي على إخوانهم لقتلت نفسي

فالعبد إذا رأى غيره يشاركه خف عليه الألم وتزداد سعادته.

لماذا فقدنا حلاوة الصلوات الخمس؟ لأننا لا نستقيم كما أمرنا الله، كما في حديث النعمان بن بشير عند البخاري ومسلم ، قال عليه الصلاة والسلام: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) فعدم تسوية الصف ينتج عنه أن الله تبارك وتعالى يفرق بين الوجوه.

وفي رواية أبي داود لهذا الحديث: (أو ليفرقن الله بين قلوبكم) ، ويمكن الجمع بين اللفظين: بأن استواء الباطن معناه استواء الظاهر، فإذا اختلفت الفروض تغيرت الوجوه.

إذاً: قلبك لا يكون مع قلب أخيك؛ لأنك لا تسوي الصف، فالذين يستهينون بتسوية الصفوف، ويقولون: إن هذه مسألة جزئية، فكيف تهتمون بتسوية الصفوف وتقيمون الدنيا عليها، بينما المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يذبحون ويقتلون، وهذا قول خطأ؛ لأننا نكون بذلك قد تركنا سنة من السنن ولم نجد حلاً لمشاكل المسلمين.

وعندما تذهب إلى موسم الحج الأكبر ترى المسلمين متنافرين في عبادتهم، فيتعجب الإنسان قائلاً: هل هؤلاء يجمعهم دين واحد؟! وفي الطواف يأتون بأذكار غير مشروعة، مثل: أذكار الشوط الأول، أذكار الشوط الثاني، وأذكار الشوط الرابع، من أين لهم هذا؟ هل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرع لهم ذلك؟ فيأتون بأشياء لم يأذن بها الله ورسوله، فأنى يستجاب لهم؟

وفي صفوف الحجاج لا تجد بينهم الرحمة، فإذا سقط أحدهم فقد حكم عليه بالموت، فإذا لم تكن فتياً فلا تستطيع أن تطوف؛ لجهل المسلمين، هل المسلمون يعجزون أن ينظموا في الحج؟ لو أرادوا أن يفعلوا لفعلوا، لكن الدولة هناك لا تتبنى تنظيم الحج، إنما تتبنى تنظيم السفر إلى الحج، وتوفير الأكل والشرب. ولا نقول: إنهم لا يولون الحج اهتماماً كلياً، وإنما اهتمام ضعيف، فالبدع العلنية تفعل عند الكعبة، ومكة والمدينة مليئتان بالروافض، وهم الذين يسكنونها، حتى أن الدولة لما أرادت أن تُصلح أجهزة التكييف على الغرفة النبوية هاج الروافض في المدينة، وقالوا: يريدون أن ينبشوا القبر؛ فتوقفت الدولة خوفاً من الروافض، وخافت أن يثور الروافض في العالم.

وقد كان أحد هؤلاء الروافض يجلس في المسجد الحرام، وكان الناس يأتونه ويقبلون يده ورجله، فلما اشتدت النكارة عليه ذهب إلى المدينة.

التنظيم قد يكون صعباً لكن ليس مستحيلاً، فالذين يأتون من ديارهم قد يكون بينهم من لا يفقه شيئاً عن الحج، يعرف كل شيء إلا الحج، يعرف قيمة تذاكر الباخرات، والحافلات، والطائرات، ويظل سنة كاملة يحسب لها، وما فكر أن يسأل عالماً ماذا يفعل في الحج..!

يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة) ما معنى المبرور؟ أي: الحج على السنة، فمعظم الذين يذهبون إلى الحج لا يعلمون شيئاً عنه، فإنك عندما تذهب إلى الجمرات ترى العجب، فترى البعض منهم يرجمون الشيطان بالنعال، ورأيت رجلاً أتى بدف يريد أن يرجم به الشيطان..!

حنانيك أيها الراجم للشيطان! إن شيطاناً يعشش في داخلك ويجري منك مجرى الدم في العروق، فهل رجمته يوماً؟

ماذا استفاد المسلمون من مناسك الحج وليس عندهم الرحمة ولا الود؟ هل إذا رأوا رجلاً ضعيفاً أخذوا بيده؟ لو وقع رجلٌ ولم يستطع النهوض.. يموت.

وكم مات أناس تحت أقدام الحجاج، ولو كان المسلمون كالبدن الواحد لوجد هذا الذي سقط من يأخذ بيده.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (مثل الصلوات الخمس، كمثل نهرٍ جارٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات.. هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه -أي: وسخه- شيء. قال: ذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا).

وعلى مستوى الجمعة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجمعة إلى الجمعة كفارةٌ لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر).

وعلى مستوى الحج: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ، و(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).

فإذا كان العبد تشمله عناية الله يومياً وأسبوعياً وسنوياً، فمن أين يدركه الشقاء؟ لماذا شقي إذاً ولم تدركه العناية؟ لأنه لم يقم بالفرض كما أمر.

إذاً: نرجع أدراجنا فننظر في صلاتنا: الصلوات الخمس، والجمعة، وننظر في الحج، فإذا استطاع المسلم أن يجبر الكسر الذي أحدثه في هذه الشعائر الجماعية حينئذ تدركه عناية الله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله تبارك وتعالى ما جعل داءً إلا وجعل له دواءً).

فدواؤنا في وجود العالم الرباني، إذ لا يمكن أن يستقيم حال المسلمين بغير وجود العلماء، نريد العالم الرباني الذي نتعلم من سمته كما نتعلم من علمه، نريد العالم الرباني الذي يصدع بالحق ويستقيم عليه، نريد العالم الرباني الذي إذا رأيناه ذكرنا الله.. أين هؤلاء العلماء؟ ولا يستقيم حال الدنيا إلا بوجودهم، فكيف أغفل المسلمون البحث عنهم؟

في بلدنا كم طيباً يكفيهم؟ وكم مهندساً يكفيهم؟ وكم موظفاً في الجهة الفلانية يكفيهم؟ لا شك أنها ألوف مؤلفة، وإلا تعطلت مصالح الناس، كم عالماً يكفيهم؟ ألف.. ألفان.. ثلاثة آلاف.. عشرة آلاف؟ قليل، كم موجود منهم الآن؟ تستطيع أن تعدهم بأصابع اليدين، بل لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة عند العالمين وغير العالمين.

لو تصورنا أن الناس أضربوا عن دخول كليات الطب، فسوف نرى على صفحات الصحف والمجلات الكل يتكلم، ويقولون: المسلمون آثمون؛ لأنهم قصروا في فرض الكفاية، ومعلوم أن فرض الكفاية: أن يقوم جماعةٌ بشيء فيسقط عن الآخرين، فإذا قصروا جميعاً عن القيام بالفرض الكفائي صار فرضاً عينياً عليهم جميعاً حتى يقوم فيهم من يفعله، فيسقط حينئذٍ عن الباقين، فلو تمالأ أهل قرية على ترك الأذان، ونحن نعلم أن رفع الأذان فرض كفاية، إذا قام به فرد سقط الفرض عن باقي المسلمين.

ولو تمالئوا جميعاً على ترك شعيرة الأذان أثم جميع الموجودين حتى يقوم رجل فيرفع الأذان؛ فيسقط الإثم عن الباقين، هذا هو الفرض الكفائي.

لماذا لا نرى أيضاً الذين يقولون: يأثم المسلمون جميعاً بعدم وجود العلماء الربانيين؟ لأن المسلم لا يستطيع أن يبلغ يسير في طريقه إلى الله تبارك وتعالى بسلام إلا إذا وجد هذا العالم.

من الذي يعرفهم السنة من البدعة؟ من الذي يعرفهم الحق من الضلال إلا العالم الرباني، لاسيما إذا غابت أنوار النبوة اشتدت الحاجة إلى هذا العالم أشد من الطعام والشراب.

إن حاجة الناس إلى العالم الرباني أهم من حاجتهم إلى الأكل والشرب، بدلاً من أولئك الذين يضللون الناس قصداً أو جهلاً عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويقفون في وجه العلماء الربانيين يحاربونهم وينبذونهم بأقذع الألفاظ والنعوت.

وقديماً دافع الشافعي عن آل البيت وأظهر حبهم؛ فنبذوه، وقالوا: رافضي.

الروافض هم شر أناس في الشيعة، مثل روافض شيعة إيران الآن؛ فإن إيران أغلبهم روافض.

ما هو الفرق بين الشيعي والرافضي؟

الشيعي: هو الذي يفضل علياً على عثمان ، لكنه يقر للشيخين أبي بكر وعمر بالتقدم، وأنه لا يوجد أحد يتقدم عليهما.

أما الرافضي: فهو الذي يقدم علياً على الكل، ويزري بـأبي بكر وعمر .

وعلى رأس الروافض الموجودين: الخميني ، فالذين يقرءون كتب الخميني الموجودة الآن يقطعون بكفره، ولذلك كفره جماهير علماء أهل السنة، وله دعاء يلعن فيه أبا بكر وعمر يقول: (اللهم العن الطاغوتين: أبي بكر وعمر ، اللذين حكما في دين الله بأهوائهما، والعن ابنتيهما) والذي لا يصدق أن هذا الكلام صدر منه فليقرأ كتابه (تحرير الوسيلة).

ويقول إمامهم صاحب كتاب الكافي الذي يساوي صحيح البخاري عندنا، يصرح ويقول: (إذا صافحت رجلاً من أهل السنة فاغسل يديك سبع مرات).

فوصف أولئك الشافعي بأنه رافضي، فأنشد أبياتاً يدافع عن نفسه، وكان منها:

إن كان رفضاً حب آل محمدٍ فليشهد الثقلان إني رافضي

إذا كان حب آل محمد رفضاً فأنا أول الرافضين، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81]، وقديماً قالها أيضاً شاعر السنة -أو عالم السنة- لما نبذوه بأنه وهابي، لما رأوه على السنة، فقال:

إن كان ناصر دين محمدٍ متوهباً فأنا المقر بأنني وهابي

إذاً: هؤلاء العلماء هم منارات على الطرق، لا يبصر العباد طريق الله إلا بوجود هذه المنارات.

فنسأل الله تبارك وتعالى أن يأخذ بأيدي المسلمين أخذاً جميلاً، ويردهم إلى دينهم رداً حميداً.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

روى الإمام الترمذي في سننه بسندٍ صحيح عن زر بن حبيش رحمه الله تعالى قال: (أتيت صفوان بن عسال المرادي أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك يا زر ؟ قلت: ابتغاء العلم. قال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، فقال: قد حز في صدري شيء من المسح على الخفين بعد الغائط والبول، فكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هل سمعت منه فيه شيئاً؟ فقال: نعم، رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ بلياليهن إذا كنا سفراً -أو قال: مسافرين- إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم. فقلت له: هل سمعت منه في الهوى شيئاً؟ قال: نعم، كنا معه في سفرٍ، فطفق أعرابي ينادي بصوت له جهوري: يا محمد! فأجابه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأحسن من صوته هاءٌ -وفي رواية أخرى قال له: يا لبيك- فقلت للرجل: اغضض من صوتك، أو لم تنه عن هذا؟ فقال الأعرابي: والله لا أغضض من صوتي. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن المرء يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب).

هذا الحديث فيه جمل من العلم.

أول هذه الجمل: على المسلم إذا حز في صدره شيء أن يطلبه بدليله، فإن زر بن حبيش لما حز في صدره شيء ليس من المسح، إنما في جزئية في المسح سأل.

الخف هو: حذاء من جلد لكن لا نعل له، كالجورب -الشراب- بحيث أنك تستطيع أن تمشي به.

فروى أكثر من أربعين صحابي عن النبي صلى عليه وسلم أنه كان يمسح على الخفين، ويُشترط في المسح على الخفين: أن تلبسهما على طهارة؛ تتوضأ وضوءك للصلاة، ثم تلبس الخف على طهارة.

لما قال صفوان لـزر بن حبيش -وهو أحد الصحابة-: ما جاء بك يا زر ؟ قال ابتغاء العلم. فقال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع).

هذا الكلام وإن كان من قول صفوان، لكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في غير ما حديث، وحتى لو لم نجد هذا الكلام معزواً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فالقاعدة عند العلماء تقول: إذا قال الصحابي شيئاً من الغيب الذي لا يعرف فيحمل على أنه سمعه من الرسول عليه الصلاة والسلام.

فإذا قرأت -مثلاً- قولاً لصحابي: (إن في الجنة شجرة من ذهب) هل الصحابي دخل الجنة ورآها ثم أتى فوصفها؟ لا؛ لأن الجنة غيب، فهو إذاً من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ما يسميه العلماء: (مرفوعٌ حكماً) أي: أنه ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

فقول صفوان: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، إنما هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر الإمام النووي في كتابه المعروف (بستان العارفين)، والسند كل رواته أئمة: أن بعض أهل الحديث رأى رجلاً ماجناً يلبس قبقاباً -الخشب المعروف- ولكنه وضع فيه بعض المسامير، فقالوا له: لم هذه المسامير؟ قال: حتى أخرق أجنحة الملائكة. فيبس. -أي: شُل- لأنه يستهزئ بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا جزاء من لا يوقر الحديث، ولا يوقر كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

وقد حدثت حادثة شبيهة بهذه الحادثة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يأكل بشماله، فقال له: (كل بيمينك. قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت؛ فشلت يده، قال عليه الصلاة والسلام: ما منعه إلا الكبر) لذلك شلت يده؛ لأنه لا يتصور أن رجلاً يستطيع أن يستخدم يمينه فيأكل بشماله؛ لأن هذا داخل تحت النهي .. (لا يأكل الرجل بشماله)، لكن إذا كانت بيمينه علة، ولا يستطيع أن يستخدم يمينه في الطعام، هل يقال له: لا بد أن تستخدم يمينك على رغم أنفك؟ لا، معروف أن الشرع جاء لرفع الحرج، فالنبي عليه الصلاة والسلام علل لماذا شلت يد هذا بقوله: (ما منعه إلا الكبر) يرفض أن ينصاع لكلام الرسول عليه الصلاة والسلام.

فهذه عقوبة الذي يتكبر أو يستهزئ بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب) ، قالها صفوان بن عسال المرادي حتى يهون على زر ما وجده من تعبٍ في رحلته لأجل هذا السؤال، ولا يزال العبد يطمع في المزيد إن علم أنه يؤجر، وهذه طبيعة العبد، فالله تبارك وتعالى جعل عمله الصالح بمقابله الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

يقول بعض الناس: لا تعبد الله رجاء الجنة؛ ويقولون: نحن نعبد الله لذاته! وينسبون مقالة إلى رابعة العدوية ،.. ولا نعرف هذه المقالة عن رابعة حتى نعتبرها صحيحة، حتى وإن قالتها رابعة فإنه يرد عليها قولها.

يقولون: إنها كانت تقول: (اللهم إن كنت عبدتك خوفاً من نارك؛ فأحرقني بها، وإن كنت عبدتك طمعاً في جنتك؛ فاحرمني من جنتك، وإن كنت عبدتك لذاتك؛ فلا تحرمني من لقاء وجهك) ما هذا الكلام؟ أين نذهب بعشرات الأحاديث التي جاءت عن الرسول عليه الصلاة والسلام يستعيذ فيها من النار؟! وأين نذهب بقوله تبارك وتعالى: وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، وقوله: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وقوله تبارك وتعالى: لِمِثْلِ هَذَا [الصافات:61] لمثل دخول الجنة وتجنب النار (فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61].

كيف يقال هذا الكلام؟ وهل هناك أحد يعبد ربنا لذاته هكذا؟!

الذين يقولون بهذا القول هم من يقولون بمسألة الفناء، وهذا القول لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه أحد من أصحابه أو التابعين ولا الأئمة المتبوعين، ولا أحد ممن تبعهم بإحسان.

ويقولون بوحدة الوجود وهو: أن كل ما تراه بعينك فهو الله؛ لأنه حل في كل شيء، تعالى الله عن قول الظالمين علواً كبيراً.

معروف أن الإنسان لا يعمل العمل إلا إذا كان فيه حافز، وهذا شيء مفطور عليه الإنسان، ومهما أراد أن يكسره فإنه لا يفلح أبداً، لذلك فنظام الحوافز في الدنيا مشتق من النصوص، فعندما تجد الرجل يعمل ليل نهار؛ فإنما يعمل ذلك للحافز، فإذا علم العبد أنه لا يؤجر على فعله قل عمله وجهده.

ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) .. لأن العبد متعود أن يجني الثمرة من الفعل، فالعبد إذا أراد أن يغرس الفسيلة -التي هي النخلة، والنخلة تمكث عدة سنوات حتى تعطي الثمار- وعلم أن الساعة ستقوم يقول: من الذي يستفيد منها؟

فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول له: اغرسها، وإن كنت لا تستفيد منها.. لأنه يعلم العبد أن لا يفعل الشيء إلا إذا كان هناك مقابل.

وهناك حكاية لرجل طيب مشهور، لكنه لم يرزق بالولد، وكان متزوجاً بابنة خاله، وكان يحبها ويرجو الولد منها، فطاف على الأرض شرقاً وغرباً، وأنفق ألوفاً من الأموال ابتغاء ولدٍ واحد، ولكنه رجع بخفي حنين.

وكان هذا الرجل في أول شبابه عنده طموح؛ لأنه كان يظن أنه إذا لم يرزق بولد هذا العام فسيرزق العام القادم يحدوه أمل، لاسيما وهو طبيب، والنتائج كلها تقول: لا توجد فيه علة.

بعض الدكاترة المشهورين ذهب إليه أحد هؤلاء وله أكثر من عشرة أعوام لا ينجب، وبعدما كشف عليه الطبيب لم يجد به علة، وقال له: إن لم أجعلك تنجب لأعتزلن الطب، عباد لا يعرفون قدر أنفسهم، فالله إذا لم يأذن فلا يستطيع أحد أن يعمل شيئاً.

فذلك الرجل لم تكن به علة ولا امرأته، لذلك كان يحدوه أمل، فكان يذهب إلى أي مكان يأمره الطبيب، مرة يقول له: انتظرني في إيرلندا، ومرة يقول له: انتظرني في هولندا، وبعد فترة قال له: انتظرني في أستراليا، والرجل دائخ وراءه ابتغاء ولد..!

وكان قد اشترى عمارة ومصنعاً، وفتح عيادة... وعنده أموال كثيرة، فلما بلغ الخمسين من عمره يئس تماماً، فبدأ يبيع ويصفي كل ممتلكاته، فسئل عن السبب فقال: لمن أتركها؟

إذاً: هذا الرجل كان يعمل لكي يترك لأولاده ثروة، هذا هو السبب الذي جعله يعمل ليل نهار، وهو الذي جعله يقلص أوقات راحته حتى يستطيع أن يدخر هذه الأشياء لأولاده، فلما يئس وعلم أنه لا سبيل للانتفاع بكل ما جمع، بدأ يبدد هذا الذي جمعه.

إذا لم يكن هناك حافز للإنسان على العمل فإن همته تضعف، وكأنه لذلك لما جاءت امرأةٌ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسأله، ومعها صبي صغير، قالت: (يا رسول الله! ألهذا حجٌ؟ قال: نعم. ولك أجر) مع أن المرأة لم تسأل: هل أنا أؤجر على المسألة هذه أم لا؟ لكنه قال لها: (ولكِ أجر) حتى يحفز المسلمين أن يصحبوا أولادهم من الصبيان إلى شهود مناسك الحج.

ولذلك أنت عندما تعلم أنك ستؤجر، فهذا حافز لك أن تصطحب ابنك.

قال زر بن حبيش لـصفوان يشرح له سبب مجيئه: (إنه حز في صدري شيء) وهذا دليل على أن المسلم إذا حز في صدره شيء في الحكم الشرعي أن يسأل عنه.

قال: (حز في صدري شيء في المسح على الخفين بعد الغائط والبول -وانظر إلى السؤال! وكما قيل: حسن السؤال نصف العلم- هل سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً -لم يقل له: ما رأيك في الموضوع؟ بل نسب الكلام لصاحب الشرع، نريد أن نسمع حكم صاحب الشرع- هل سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ قال: نعم، أمرنا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إذا كنا سفراً -أو قال: مسافرين- إلا من جنابة؛ لكن من بول أو غائط أو نوم) أي: لا ننزع خفافنا إلا من الجنابة، لكن في الغائط والنوم والبول لا ننزع خفافنا.

إذاً: أنت إذا أصابتك جنابة تخلع الخف؛ لأنك ستغتسل، فإذا اغتسلت ابتل الخف، فإذا ابتل الخف.. فما الحكمة في مسحه إذاً؟ أنت تمسح حتى لا يصل الماء إلى قدميك، وقد وصل، ولا بد من غسل القدمين في حال الغسل؛ إذاً: يلزمك نزع الخف.

لكن إذا تغوط المرء أو تبول أو نام -وكل هذا ينقض الوضوء- فلا يلزمه أن ينزع الخف.

وطالب العلم عندما يجلس إلى من هو أعلم منه فإنه لا يكتفي بسؤال، قال زر :، فقلت له: (هل سمعت في الهوى شيئاً؟) أي من الرسول عليه الصلاة والسلام، (الهوى) أي: الميل، يسأل عن الهوى حتى يجعل ميله وهواه على وفق ما يريد الله ورسوله، لكن انظر إلى الذي يقول لك: الهوى هواي..! أرأيت عبداً أضل من هذا؟! كالذي قال الله فيه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، أي: جعل هواه إلهه الذي يعبده.

وهناك من الناس من يسأل عن الهوى حتى يجعله نيله وهواه على وفق ما يريد الله: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]، لا يستقيم كما أمر إلا إذا جعل هواه تبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ميل القلب، وهذه من أعلى درجات الإيمان: أن تجعل ميل قلبك لما يحبه الله ورسوله، وإن كانت مصلحة في غير ذلك، وأوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً، فقال له: (إذا أشكل عليك أمران -لا تعرف الصواب من الخطأ- فانظر أقربهما إلى نفسك فخالفه، فإن النفس تحب الهوى) انظر إلى ما تحبه من الأمرين واتركه.. لماذا؟ لأن النفس تحب الهوى، هذا نوع من أنواع التربية، والإنسان يذل هذه النفس؛ حتى يقيمها على أمر الله تبارك وتعالى.

وكان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل حتى تعجز قدماه عن حمل جسمه، فإذا شعر بالإعياء أخذ العصا وضرب بها قدميه، ويقول: (والله أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً، والله لأزاحمنهم على الحوض) وما يستطيع المرء على أمر الله إلا إذا ملك نفسه.

ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه...) لأنه إذا ملك نفسه ملك غيره، فإن عجز عن ملك نفسه فهو أعجز عن غيره من باب أولى (ليس الشديد بالصرعة -أي: الذي يصرع الناس- ولكن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب).

فهذا التابعي الجليل يسأل عن الهوى: هل سمعت في الهوى شيئاً-؟ قال: نعم. كنا في سفر فصاح أعرابي -وأنتم تعرفون أن الأعراب فيهم غلظة وجفاء، والأعرابي صوته عالٍ، خليقة؛ لأن الإنسان يتكيف بالبيئة، تجد مثلاً الذي يسكن في البراري -المسافات الواسعة جداً- فيحتاج أن ينادي بصوت عالٍ فيكون صوته جهورياً، أما أهل الحضر فبين الجار وجاره نصف طوبة، فتجدهم يتهامسون همساً.

لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يشدد عليهم في ذلك، مع أن رفع الصوت على الرسول عليه الصلاة والسلام منهي عنه، وجعل غض الصوت عنه من علامات الإيمان: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3]، وذم أقواماً آخرين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] فقد كانوا يصرخون من وراء الحجرات: يا محمد! اخرج لنا.

فذم أقواماً برفع الصوت، ومدح أقواماً بخفض الصوت، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يشدد على مثل هذه الأمور التي قد تبدو جبلية، كما في حديث صفوان بن المعطل السلمي لما شكته امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (يا رسول الله! إن صفوان يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي الصبح إلا بعد شروق الشمس. وكان صفوان جالساً، فقال: يا رسول الله! لا تعجل علي، أما قولها: (فيضربني إذا صليت) فإنها تصلي بعد الفاتحة بسورتين، وقد نهيتها. فقال: أطيعي زوجك، وأما قولها: (يفطرني إذا صمت) فأنا رجل شاب، وهي تتعمد الصوم -أي بدون إذني، فكان يقع عليها فيفسد عليها صومها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصوم امرأةٌ تؤمن بالله واليوم الآخر وزوجها شاهد إلا بإذنه)، غير رمضان. وأما قولها: (ولا يصلي الصبح إلا بعد شروق الشمس) -وهذا محل الشاهد- قال: إنا أهل بيتٍ عرف عنا ذلك، أي: أن نومه ثقيل، وهذا معروف عن أسلافه، وهو شيء جبلي، وقد جاءت الشريعة برفع الحرج، فماذا قال له عليه الصلاة والسلام؟ قال له: (إذا استيقظت فصل) طالما أنه عمل بالأسباب الشرعية حتى يستيقظ في الفجر، فلا يسهر أحد حتى الساعة الواحدة أو الساعة الثانية أمام مسلسل وبعد ذلك قبل الفجر بساعة ينام، فكيف سيستيقظ؟ وأدهى من هذا أنه يصحو الساعة السابعة أو الساعة الثامنة ولا يريد أن يستيقظ!

فالصحابي اتخذ الأسباب الشرعية، ونام مبكراً من بعد العشاء، ومع ذلك نام حتى ذهب وقت الفجر، قال: (إذا استيقظت فصل) هذه المسائل الجبلية كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يشدد فيها؛ ابتغاء رفع الحرج.

استنكر بعض الصحابة منهم صفوان بن عسال على الأعرابي الذي رفع صوته ونادى: يا محمد.

وقد ارتكب هذا الأعرابي خطأين:

الخطأ الأول: أنه رفع صوته.

الخطأ الثاني: أن لم يتأدب في النداء.. قال: يا محمد! والله تبارك وتعالى أدب أقواماً فقال لهم: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]؛ لأن الله تبارك وتعالى ما دعاه باسمه في حال المناداة أبداً، وإنما قال: (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول)، وذكر جميع الأنبياء بأسمائهم، يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46]، إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه لما ناداه ناداه بالرسالة والنبوة تشريفاً له، وما ذكره باسمه إلا بمعرض الذكر المجرد، كقوله تبارك وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، أو كقوله تبارك وتعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [الأحزاب:40]، وهذا ليس فيه نداء، أعرابي أخطأ مرتين: مرة في رفع الصوت، والمرة الأخرى بأنه نادى النبي عليه الصلاة والسلام باسمه.

كان في عصر الصحابة رجل من المسلمين يكنى بأبي القاسم ، فناداه أحدهم قال: (يا أبا القاسم! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا لبيك -انظر الأدب!- قال له: لم أعنك -أي: لم أقصدك- فقال عليه الصلاة والسلام -تعقيباً على هذا الموضع-: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) فمنعهم أن يكنوا بأبي القاسم تأدباً مع النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: (فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بنحو صوته -أي: رفع صوته- وقال له: هاؤم. -أي: أقبل، أو ماذا تريد؟ وفي الرواية الأخرى قال له: يا لبيك -قال صفوان: فقلت له: اغضض من صوتك، أو لم تنه عن ذلك -أي: عن رفع الصوت-؟! فقال له: والله لا أغضض من صوتي..).

فالرسول عليه الصلاة والسلام لما جاءه الأعرابي لم يؤاخذه؛ لأنه أعرابي، وكان يتسامح معهم، وكانوا أحياناً يقومون بأشياء قد يكفر قائلها لولا أنه قد عذرهم، مثل الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي وغيره بإسنادٍ قوي، عن قتيبة بن زيد الأنصاري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فابتاع جملاً من أعرابي، -أي: اشترى- وكنا في سفر، فقال: نأخذ إذا رجعنا -أي: إلى المدينة- فجاء أقوام يشترون الجمل، وهم لا يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام اشتراه، فقال لهم الأعرابي: بكم؟ -لم يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى الجمل، كان له أن يقول: لا، هذا الجمل بيع- فأعطوه أكثر من الثمن الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام قرضه، فعلم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال: أولم تبعني الجمل؟ قال: ما بعتك شيئاً؟ قال: كلا، بل بعتني الجمل. فقال: كلا، ما بعتك شيئاً. هذا تكذيب للرسول عليه الصلاة والسلام، فقال الأعرابي: هلم شهيداً -أي: ائتني بشهيد يشهد معك أنني بعتك الجمل، فأحجم الصحابة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام على ما يبدو من ظاهر الرواية أنه اشترى الجمل من الأعرابي دون أن يُشهد أحداً والصحابة لم يحضر أحد منهم البيعة، فلم يشهد أحد، لكن خزيمة بن ثابت الأنصاري انبرى، وقال: أنا أشهد أنك بعته -مع أنه لم يحضر- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بم تشهد يا خزيمة ؟ قال: بتصديقك. فجعل شهادته بشهادة رجلين).

وفي الصحيح: (أن رجلاً من الأعراب دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الرحمة مائة جزء، أنزل الله إلى الأرض جزءاً واحداً، تتراحم به الخلائق) من والإنس والجن، من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، حتى أن الدابة لترفع حافرها عن وليدها خشية أن تدوسه.

أحياناً من كثرة الشفقة على إنسان يمكن قلبك أن ينفطر، فتكاد أن تموت من الرحمة على هذا الشخص، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، (لعلك باخع) أي: قاتل نفسك أسفاً عليهم أنهم لا يؤمنون.

فيأتي الأعرابي ويقول: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد حجرت واسعاً -أي: ضيقت ما وسعه الله- فلم يلبث أن بال في المسجد، فهم الصحابة به أن يأذوه -فقال عليه الصلاة والسلام: لا تزرموه- لا تزعجوه، لا تفزعوه- إنما بعثتم ميسرين، ألقوا على بوله ذنوباً من ماء) وإذا كانت المسألة لها حل.. فلماذا تشدد؟ فإذا ارتكب إنسان خطأً وهو جاهل به فارفق به، ولا تعامله كأنه معاند وتشدد عليه في الكلام.

عند الخرائطي في مكارم الأخلاق، وقد روى هذا الحديث، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على أن بلت في مسجدنا، أو لست برجل مسلم؟ فقال: والذي بعثك بالحق! ما ظننته إلا كمثل هذه الصعدات) أنا ظننت أن هنا مثل الخارج، وماذا يعني لو وضعتم عليه جدران؟ هل أصبح أحسن من الخارج؟ ظننت أن هنا كهناك، كلها أرض الله، وكما أتبول في أي مكان تبولت في المسجد.

هذا جاهل أم لا؟ جاهل ما عنده علم، فلذلك تلطف الرسول عليه الصلاة والسلام معه.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا.