الالتفات إلى الأسباب


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، ونفي الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، هذه الكلمات الثلاث اشتملت على الدين كله، الالتفات -أي التفات القلب إلى الأسباب- قدح في التوحيد؛ لذلك فإن الله تبارك وتعالى ألغى السبب فيما يتعلق بدعائه والإخلاص له.

نحن كما قال ابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وأبو ذر في جماعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: كنا ضلالاً لا نعرف شيئاً حتى جاءنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو الواسطة بيننا وبين الله في العلم به، وبأحكامه، وبما يحب ويكره، نحن لا نعرف لنا سبباً إلى السماء غير الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لذلك كان هو الواسطة الطبيعية، كما يتضح ذلك جلياً في كثير من الآيات، ومنها: قوله سبحانه وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ [البقرة:189] وقوله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ [البقرة:219] وقوله جل ثناؤه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ [البقرة:217] وقوله تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ [البقرة:215] وقوله عز وجل: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53] وقوله سبحانه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:83] وقوله: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127] وقوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176].

(قل) هذه التي هي دلالة على الواسطة، إثبات وجود الرسول عليه الصلاة والسلام في تبليغ الأحكام الشرعية، إلا في الدعاء: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، لم يقل: فقل: إني قريب؛ وذلك حتى يلغي الواسطة؛ لأنه من الممكن أن تفرغ ما عندك من العبودية عند الواسطة، ولله المثل الأعلى.

ولك أن تتصور أن يوجد أمير عادل حكيم لا يرد مظلمة إنسان، ولكن له نائب لئيم، كلما رفعت شكوى حجبها ذلك النائب ولم يرفعها للأمير، فحتى تصل شكايتك للأمير، ماذا تفعل؟ لابد أن تتزلف إلى هذا النائب اللئيم حتى يسمح بمرور شكايتك إلى الأمير، وكلما كان هذا الرجل أشد لؤماً كنت أنت أشد ذلاً، وهكذا استفرغت ما يجب أن يكون لله تبارك وتعالى -من العبادة والذل والخضوع- عند أقدام الواسطة، ولهذا ألغى الواسطة؛ حتى تكون عبوديتك كاملة لله تبارك وتعالى، إذا سألت مباشرة ليس هناك واسطة.

لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجماعة الذين يصرخون في دعائهم، قال: (أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً).

الحرص على التوحيد وحماية جنابه

إن التفات القلب إلى السبب قدح في التوحيد، ومعنى ذلك أنه إذا علمت -أو ظننت- أن السبب هو المؤثر كان ذلك قدحاً في التوحيد، ولذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (من قال: لولا الكلب لسرق اللص الدار؛ فقد أشرك)، لكن يجب أن يقول: لولا أن الله سخر الكلب، فلا يجعل الكلب هو الذي أنقذ الدار من السرقة.

وتأمل جيداً قول إبراهيم الخليل عليه السلام لما عرّف إلهه الذي يعبده إلى قومه، فقد كان في غاية الدقة، وكان الرائد في هذا المضمار، ولذا فكلامه موزون، وكذلك الداعيه إلى الله عز وجل يجب أن يكون كلامه موزوناً، أليس الكفر بكلمة، والإيمان بكلمة، واستحلال أعراض الناس بكلمة؟! كل شيء في الدنيا أليس يتم بكلمة؟!

لما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً يقول: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله نداً). والرجل ما أتم كلمة أشرك بها، إنما أشرك بحرف، قال: ما شاء الله وشئت، فعطف بحرف الواو، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً).

ونحن نعلم أن الرجل لم يقصد أن يجعل لله نداً في حقيقة أمره وقرارة قلبه وإلا فهو كافر، إنما قال كلمة درجت على لسانه، كما يقول العوام اليوم: توكلت على الله وعليك، فالقائل: لا يقصد أن يجعل هذا الرجل كالله تبارك وتعالى.

والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكتف بقوله: (أجعلتني لله نداً) بل علمه، فقال: (قل ما شاء الله ثم شئت)، فإذا كان العبد يمكن أن يشرك بحرف، ألا يمكن أن يشرك بكلمة؟! أو بجملة، فطالما أن كل شيء مبني على الكلمة، يجب الحرص على أن تكون الكلمة في موضعها.

ولذلك فإن الغلام الذي حكى النبي عليه الصلاة والسلام قصته مع الراهب والساحر، لما جاءه جليس الملك وكان قد عمي، قال: رد علي بصري! اشفني! فكان الغلام يتكلم بتؤدة وكلام يعلم عاقبته وخطره، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك، فخلع نفسه، قال: أنا ليس لي إلا أن أدعو فقط، وأنت ليس عليك إلا أن تؤمن، إنما الشفاء منه تبارك وتعالى.

التأكيد على أن الأسباب لا تؤثر إلا بمشيئة الله

إبراهيم الخليل عليه السلام، أول ما بدأ يدعو قومه دعاهم بكلام في غاية الدقة، وقد حكى القرآن الكريم أنه قال عليه السلام عن الأصنام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77]، كأنهم سألوه وما رب العالمين؟ قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:78-81].

تلاحظ في الآيات الثلاث الأول ضمير الرفع المنفصل (هو)، ويقول النحاة: إن هذا الضمير يأتي لتأكيد الكلام، بدليل أنك لو حذفته لا يؤثر في السياق، إنما يأتي لتأكيد الكلام، الذي خلقني فيهديني .. كلام مستقيم، إنما جاء (هو) لتأكيد هذا المعنى.

والهداية لفظة مشتركة، فهي من العبد: الدلالة والبيان، وهي من الله: التوفيق إلى طريق الهداية حقاً، وقد أثبت الله الهداية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم مرة ونفاها عنه أخرى، قال وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، فأثبتها له، وفي الآية الأخرى نفاها عنه فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، إذاً: الهداية الأولى هي هداية الدلالة والبيان، والهداية التي نفاها الله عنه توفيق العبد وإقامته على طريق الهداية حقاً.

فلما التبس هذا المعنى للهداية التي هي مشتركة بين العبد وبين ربه؛ احتاج إبراهيم عليه السلام أن يؤكد أن الهداية الحقة ليست لأحد، إنما هي لله وحده، فأكدها بهذا الضمير: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، كأنه قال: فهو يهديني لا غيره، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:79].

من الجائز أن تقول: كنت سأموت من الجوع لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يقول: إن الأكل والشرب وإن كانا سبباً في دفع الجوع والظمأ؛ لكن ليسا دافعين حقيقيين للجوع والظمأ.. ألم تجرب -ولو مرة- أنك أكلت بنهم شديد أضعاف ما يكفيك، وتحس أنك في حاجة إلى طعام، أما مر عليك يوم شربت فيه ماءً حتى كادت بطنك أن تنفجر من الماء، ومع ذلك تحس أنك لا زلت في حاجة إلى مزيد من الماء، فالماء يدفع الظمأ، لكن ليس دائماً، كذلك إذا مرضت ألست تأخذ الدواء مرة فتبرأ بإذن الله، وتأخذه أخرى فلا تبرأ، والعلة هي العلة، والدواء هو الدواء، وإن كان سبباً في دفع المرض، لكن ليس دائماً.

فكأن إبراهيم عليه السلام قال: والذي إذا أطعمني أوجد فيَّ الري والشبع وهي الفائدة المقصودة من ذلك السبب، وقد ثبت في الصحيحين: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان كافراً، فقال: اسقني يا محمد! فسقاه لبن شاة، ثم قال: اسقني فسقاه لبن شاة أخرى.. اسقني.. حتى حلب له سبع شياه، فأسلم الرجل -لعله لما وجد من حسن الخلق- فجاء في اليوم التالي، وقال: اسقني يا رسول الله! فحلب له لبن شاة واحدة، فشرب وأفضل شيئاً، وحمد الله، فقال عليه الصلاة والسلام: المؤمن يأكل في معيٍّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) .. كما قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه يوماً: (كلوا والبركة من الله).

إذاً: إيجاد الري وإيجاد الشبع من الله تبارك وتعالى، وإن كان الأكل سبباً في دفع ذلك، لكن ليس بالضرورة أن يدفع، فأراد إبراهيم الخليل أن يؤكد أنه: ليس بمجرد أن يأكل يشبع، إنما الذي يطعمه ويسقيه ويوجد فيه الرِّيَّ، ويوجد فيه الشبع -وهما المقصودان من الأكل- هو الله تبارك وتعالى لا غيره.

وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، من الجائز أن يقول العبد: كنت سأموت لولا أن الطبيب الفلاني أنقذني، أنت ترى ضعفاء الإيمان إذا كان أحدهم مريضاً بمرض خطير، وأُدخِل غرفة العمليات، يقف مرافقوه عند باب الغرفة ينتظرون الطبيب، فإذا ما خرج الطبيب، نظروا إلى شفتيه.. قالوا جميعاً: خير يا دكتور..! -وكأنه هو الذي سيقول الكلمة الأخيرة- لو قال: أبشروا.. فإنهم يكادون يموتون من الفرح، ولو قال: ليس هناك أمل، يرتمي بعضهم على الأرض من وقع كلامه الباعث على اليأس، كأن الطبيب يملك من الأمر شيئاً، هؤلاء يعاملون الطبيب كما لو كان له الكلمة الأخيرة، وليس لأحد كلمة أخيرة، إنما الكلمة الفاصلة لله تبارك وتعالى، والعباد في قرارة أنفسهم يتصرفون خلال ذلك.

كما أنه من الممكن أن يكون لعبد ما ولد، وقال له جميع الأطباء: وفر فلوسك، لا أمل، فهو ميت لا محالة، ومع ذلك يخرج الرجل بابنه من عند هذا الطبيب ليذهب إلى طبيب آخر، لماذا مع أنهم قالوا له: لا أمل؟ هو يقول في قرارة نفسه: من الجائز أن الله تبارك وتعالى يجعل شفاءه عند رجل آخر، وإذا لم يكن عنده فلس واحد فإنه يستدين، وهو موقن أنه ميت، وهو يعلم أنه لا أمل في شفاء ابنه، لكن لماذا يقترض؟! لماذا يثقل كاهله بالديون؟! لأنه يعلم في قرارة نفسه أنه ليس لعبد كلمة أخيرة، فإن الله تبارك وتعالى يصرف المقادير حيث شاء.

وعلى سبيل المثال -كي نعلم أن الأمر كله لله- امرأة مغربية، مرضت بالسرطان.. ذهب بها أولادها إلى كل أطباء العالم، وكلهم يقول: بقي من عمرها شهر أو أقل، فقالوا لها: أَلا تعتمرين!! فذهبت المرأة تعتمر، ثم طاب لها المقام في الحرم، فكان ليس لها طعام ولا شراب إلا ماء زمزم، فمضى شهر.. وشهران .. وثلاثة أشهر .. وأربعة .. وستة .. وعشرة، والمرأة بصحة جيدة، ثم ذهبت إلى إحدى مدن المملكة، وعمدت إلى أشهر أطباء المملكة وكلهم يقول لها: ليس عندك شيء، قالت: هؤلاء لا يفهمون، حتى أولادها قالوا: الطب عند العرب متأخر، سنذهب إلى البلاد التي وصلت إلى القمة، عندما ذهبوا إلى الأطباء في تلك البلاد إذا بهم يشدهون، أين ذهب المرض؟! عند من تعالجت؟! قالوا: أبداً، الوضع كذا وكذا.. وصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال في ماء زمزم: (إنه طعام طعم، وشفاء سقم)، فهذا فضل الله، ولو أن الأولاد تركوها لحكموا عليها بالإعدام.

إذن الإنسان يتحرك من داخله بعقيدة أنه ليس لأحد شيء، وإن كانت تصرفاته -أحياناً- غير ذلك، لكنه مجبول ثابت في فطرته أن الكلمة الأخيرة الفاصلة لله تبارك وتعالى في كل شيء، فمن الجائز أن يقول العبد: فلان الطبيب شفاني، فأكد إبراهيم عليه السلام إن الذي يشفي ويرفع المرض هو الله تبارك وتعالى لا غيره.

هذه القضايا الثلاث التي ذكرها إبراهيم مشتركة بين العبد وبين ربه، العبد له جزء من المعنى والله تبارك وتعالى له جزء ٌ آخر، أما القضية الأخيرة فلا خلاف بين جميع العباد عليها فلم يؤكدها، وهي: (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) لم يقل: فهو يحيين.. لماذا؟ لأنه لا خلاف بين العباد كلهم أن الذي يحيي ويميت هو الله تبارك وتعالى، وهذا نفي من إبراهيم عليه السلام للسبب، وللواسطة.

لذلك كان التفات القلب إلى هذه الأسباب قدحاً في توحيد العبد، ويجب أن لا يلتفت القلب إلى السبب، وليكن يقيننا أن الذي يجعل التأثير في الأشياء هو الله تبارك وتعالى وحده، كما قال عز وجل: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، رمى: الأولى بمعنى أصاب، ورمى الثانية بمعنى سدد الرمية، ورمى الثالثة بمعنى أصاب، فيكون معنى الآية: وما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، ليس لأنك سددت الرمية، بدليل أن العبد قد يصاب برصاصة في عنقه فيموت، ورجل آخر يضرب برصاصة في نفس الموضع فلا يموت، فإن كان لابد أن يموت إذا جاءت الرصاصة في هذا الموضع لمات كل من أصيب بها، لكن إنما يصيب الله تبارك وتعالى، ليس لأنك أحدثت الأثر، لا. إنما الله تبارك وتعالى هو الذي أحدث الأثر.

ومن العجائب، هذا القلب الذي يُعد ملك البدن، إذا اجتمع القلب وجدت في أعضائك قوة، وإذا تفرق همك وجدت في أعضائك الخور كله، لذلك همة العبد إنما تكون باجتماع قلبه، فإذا اجتمع قلبك اجتمعت جوارحك تبعاً للقلب، أليس هو ملك البدن، هذا القلب الذي قوام حياتك به، لو توقف لمت، فتصور أن قلبك الذي تتحرك به أنت لا تملكه، أليس هذا من أعظم دلائل العجز؟

ومما يدل على أن العبد لا يملك قلبه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيف شاء).. وكان أكثر دعائه يقول: (يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك) وكان قسمه الذي يكثر أن يقسم به يقول: (لا. ومقلب القلوب).

ومثالاً على ذلك -من الواقع-: ألم تحب إنساناً يوماً ما حتى غُلبت على حبه، وكدت تهلك في حبه، فقيل لك: انْسَ، قلت: لا أستطيع، تمضي في أقصى مكان في الأرض، والذكرى لا تفارق قلبك، لو كان قلب العبد بيده، لما كفر طرفة عين، لكن ليس قلبه بيده، وهذا من أعظم دلائل عجزه وافتقاره إلى الله تبارك وتعالى، أليس هو صندوق الإخلاص في البدن، ومحل السر فيه، وفيه ما لا يمكن للإنسان معرفته حتى مع تطور علم التشريح، على سبيل المثال العلقة التي استخرجها الملك من قلب النبي عليه الصلاة والسلام علقة محسوسة ترى وتمس باليد، هل يستطيع إنسان على وجه الأرض إذا شَرَّحَ القلب أن يحدد موضعها، سر عظيم من أسرار الله تبارك وتعالى في بدن العبد.

فإذا التفت هذا الملك -ملك البدن- إلى الأسباب هلك العبد، إذاً هو إنما بقلبه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر البدن، وإذا فسدت فسد سائر البدن، ألا وهي القلب).

نفي الأسباب محال عقلا ..

التفات هذا القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، ونفي الأسباب نقص في العقل، فلو أن رجلاً قال: أريد ولداً بغير نكاح، فكل العباد يقولون عنه: مجنون، أو قال: أريد أن أشبع بغير أكل، لقالوا: مجنون، ولو قال آخر: أريد أن أذهب إلى أول الشارع بغير سعي مني ولا مشي، يقولون: أنى لك ذلك؟! فمعنى أن يلغي العبد السبب أن يقول: لا قيمة له أبداً في الفعل، هذا القول نقص في العقل.

ولعله يأتي من يقول: إنه لا يوجد أحد على وجه الأرض يمكن أن ينفي أن يكون السبب مؤثراً، نقول: بلى! يوجد أناس يقال لهم: الفرماوية يرون أن الأخذ بالأسباب كفر، ويرون أن من مرض فذهب إلى الطبيب فهو كافر، ومن أراد الولد فنكح فهو كافر، مع أنهم ينكحون ويذهبون إلى الأطباء، لأنه يستحيل أن ينفي السبب بالكلية وإلا مات، ولقد رأينا بعضهم وقد انقسموا فريقين: جماعة يلبسون قمصاً بيضاء، وجماعة يلبسون قمصاً خضراء، فالذي يلبس قميصاً أبيض لا يأخذ بالأسباب لأنه وصل إلى درجة اليقين.

كما أنه قيل لـابن الجوزي يوماً: إن فلاناً ترك الصلاة والزكاة وترك العبادة، لأن الله تبارك وتعالى يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وقال: إنه قد أتاني اليقين وأنا وصلت درجة رفع التكليف، فقال ابن الجوزي : نعم، وصل، ولكن إلى سقر.

فالذي وصل إلى هذه الدرجة من الفرماوية يلبس القميص الأبيض، أما الذي يلبس القميص الأخضر فهذا دءوب العمل لخدمة الصنف الأول دائماً، وهو الذي يأخذ بالأسباب، ومن عجيب أمرهم أنهم يعتقدون أن الذي يلبس الأخضر كافر كفراً مؤقتاً، حتى تدب الولاية -ولاية الشيطان- في قلبه فيلبس قميصاً أبيض.

وهذا الكلام لو عرضوه على أجهل خلق الله تبارك وتعالى ما قبله، لأنه يصادم صريح العقل، فإنكار أن تكون الأسباب أسباباً من حيث هي أسباب نقص في العقل بلا شك، ونحمد الله تبارك وتعالى أنه لا يوجد من هذه الطائفة أحد الآن، لقد كانوا يحرقون صحيح البخاري فلما سئلوا:، لماذا؟ قالوا: أصل البخاري شيوعي، أليس من الاتحاد السوفييتي ؟! هذا لما كانت بخارى ضمن الاتحاد السوفييتي، أما الآن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى أين سينسبوا البخاري ؟

وكانوا يقولون: كل أحاديث عائشة باطلة.. فلما قيل لهم لماذا؟ قالوا: صوت المرأة عورة، كل حديث عن أي امرأة غير صحيح، لأن صوت المرأة عورة.

وهكذا من يرد الأحاديث قائلاً: هذا مضاد لصريح العقل، وإذا وجدت حديثاً يضاد صريح العقل فاعلم أنه مكذوب!!

وأنا أقول: صريح العقل ليس عقلك وحدك، إنما صريح عقل المسلمين، لأنه من الممكن أن يصادم عقلك أنت فقط، لكن لا يصادم عقل غيرك، هذا هو معنى القيد الذي وضعه علماء المسلمين عندما قالوا: إذا وجدت الحديث يخالف صريح المعقول فاعلم أنه مكذوب.

وهم يقصدون بصريح المعقول أي صريح معقول عقول المسلمين، ليس عقل واحد، ولا عقل اثنين، إنما عقول المسلمين.

ففعل الفرماوية هؤلاء وتأويلهم يضاد صريح عقول المسلمين، لذلك نجزم أنه من الباطل المحض الذي لا يتردد فيه إنسان.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..

إن التفات القلب إلى السبب قدح في التوحيد، ومعنى ذلك أنه إذا علمت -أو ظننت- أن السبب هو المؤثر كان ذلك قدحاً في التوحيد، ولذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (من قال: لولا الكلب لسرق اللص الدار؛ فقد أشرك)، لكن يجب أن يقول: لولا أن الله سخر الكلب، فلا يجعل الكلب هو الذي أنقذ الدار من السرقة.

وتأمل جيداً قول إبراهيم الخليل عليه السلام لما عرّف إلهه الذي يعبده إلى قومه، فقد كان في غاية الدقة، وكان الرائد في هذا المضمار، ولذا فكلامه موزون، وكذلك الداعيه إلى الله عز وجل يجب أن يكون كلامه موزوناً، أليس الكفر بكلمة، والإيمان بكلمة، واستحلال أعراض الناس بكلمة؟! كل شيء في الدنيا أليس يتم بكلمة؟!

لما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً يقول: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله نداً). والرجل ما أتم كلمة أشرك بها، إنما أشرك بحرف، قال: ما شاء الله وشئت، فعطف بحرف الواو، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً).

ونحن نعلم أن الرجل لم يقصد أن يجعل لله نداً في حقيقة أمره وقرارة قلبه وإلا فهو كافر، إنما قال كلمة درجت على لسانه، كما يقول العوام اليوم: توكلت على الله وعليك، فالقائل: لا يقصد أن يجعل هذا الرجل كالله تبارك وتعالى.

والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكتف بقوله: (أجعلتني لله نداً) بل علمه، فقال: (قل ما شاء الله ثم شئت)، فإذا كان العبد يمكن أن يشرك بحرف، ألا يمكن أن يشرك بكلمة؟! أو بجملة، فطالما أن كل شيء مبني على الكلمة، يجب الحرص على أن تكون الكلمة في موضعها.

ولذلك فإن الغلام الذي حكى النبي عليه الصلاة والسلام قصته مع الراهب والساحر، لما جاءه جليس الملك وكان قد عمي، قال: رد علي بصري! اشفني! فكان الغلام يتكلم بتؤدة وكلام يعلم عاقبته وخطره، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك، فخلع نفسه، قال: أنا ليس لي إلا أن أدعو فقط، وأنت ليس عليك إلا أن تؤمن، إنما الشفاء منه تبارك وتعالى.

إبراهيم الخليل عليه السلام، أول ما بدأ يدعو قومه دعاهم بكلام في غاية الدقة، وقد حكى القرآن الكريم أنه قال عليه السلام عن الأصنام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77]، كأنهم سألوه وما رب العالمين؟ قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:78-81].

تلاحظ في الآيات الثلاث الأول ضمير الرفع المنفصل (هو)، ويقول النحاة: إن هذا الضمير يأتي لتأكيد الكلام، بدليل أنك لو حذفته لا يؤثر في السياق، إنما يأتي لتأكيد الكلام، الذي خلقني فيهديني .. كلام مستقيم، إنما جاء (هو) لتأكيد هذا المعنى.

والهداية لفظة مشتركة، فهي من العبد: الدلالة والبيان، وهي من الله: التوفيق إلى طريق الهداية حقاً، وقد أثبت الله الهداية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم مرة ونفاها عنه أخرى، قال وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، فأثبتها له، وفي الآية الأخرى نفاها عنه فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، إذاً: الهداية الأولى هي هداية الدلالة والبيان، والهداية التي نفاها الله عنه توفيق العبد وإقامته على طريق الهداية حقاً.

فلما التبس هذا المعنى للهداية التي هي مشتركة بين العبد وبين ربه؛ احتاج إبراهيم عليه السلام أن يؤكد أن الهداية الحقة ليست لأحد، إنما هي لله وحده، فأكدها بهذا الضمير: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، كأنه قال: فهو يهديني لا غيره، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:79].

من الجائز أن تقول: كنت سأموت من الجوع لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يقول: إن الأكل والشرب وإن كانا سبباً في دفع الجوع والظمأ؛ لكن ليسا دافعين حقيقيين للجوع والظمأ.. ألم تجرب -ولو مرة- أنك أكلت بنهم شديد أضعاف ما يكفيك، وتحس أنك في حاجة إلى طعام، أما مر عليك يوم شربت فيه ماءً حتى كادت بطنك أن تنفجر من الماء، ومع ذلك تحس أنك لا زلت في حاجة إلى مزيد من الماء، فالماء يدفع الظمأ، لكن ليس دائماً، كذلك إذا مرضت ألست تأخذ الدواء مرة فتبرأ بإذن الله، وتأخذه أخرى فلا تبرأ، والعلة هي العلة، والدواء هو الدواء، وإن كان سبباً في دفع المرض، لكن ليس دائماً.

فكأن إبراهيم عليه السلام قال: والذي إذا أطعمني أوجد فيَّ الري والشبع وهي الفائدة المقصودة من ذلك السبب، وقد ثبت في الصحيحين: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان كافراً، فقال: اسقني يا محمد! فسقاه لبن شاة، ثم قال: اسقني فسقاه لبن شاة أخرى.. اسقني.. حتى حلب له سبع شياه، فأسلم الرجل -لعله لما وجد من حسن الخلق- فجاء في اليوم التالي، وقال: اسقني يا رسول الله! فحلب له لبن شاة واحدة، فشرب وأفضل شيئاً، وحمد الله، فقال عليه الصلاة والسلام: المؤمن يأكل في معيٍّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) .. كما قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه يوماً: (كلوا والبركة من الله).

إذاً: إيجاد الري وإيجاد الشبع من الله تبارك وتعالى، وإن كان الأكل سبباً في دفع ذلك، لكن ليس بالضرورة أن يدفع، فأراد إبراهيم الخليل أن يؤكد أنه: ليس بمجرد أن يأكل يشبع، إنما الذي يطعمه ويسقيه ويوجد فيه الرِّيَّ، ويوجد فيه الشبع -وهما المقصودان من الأكل- هو الله تبارك وتعالى لا غيره.

وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، من الجائز أن يقول العبد: كنت سأموت لولا أن الطبيب الفلاني أنقذني، أنت ترى ضعفاء الإيمان إذا كان أحدهم مريضاً بمرض خطير، وأُدخِل غرفة العمليات، يقف مرافقوه عند باب الغرفة ينتظرون الطبيب، فإذا ما خرج الطبيب، نظروا إلى شفتيه.. قالوا جميعاً: خير يا دكتور..! -وكأنه هو الذي سيقول الكلمة الأخيرة- لو قال: أبشروا.. فإنهم يكادون يموتون من الفرح، ولو قال: ليس هناك أمل، يرتمي بعضهم على الأرض من وقع كلامه الباعث على اليأس، كأن الطبيب يملك من الأمر شيئاً، هؤلاء يعاملون الطبيب كما لو كان له الكلمة الأخيرة، وليس لأحد كلمة أخيرة، إنما الكلمة الفاصلة لله تبارك وتعالى، والعباد في قرارة أنفسهم يتصرفون خلال ذلك.

كما أنه من الممكن أن يكون لعبد ما ولد، وقال له جميع الأطباء: وفر فلوسك، لا أمل، فهو ميت لا محالة، ومع ذلك يخرج الرجل بابنه من عند هذا الطبيب ليذهب إلى طبيب آخر، لماذا مع أنهم قالوا له: لا أمل؟ هو يقول في قرارة نفسه: من الجائز أن الله تبارك وتعالى يجعل شفاءه عند رجل آخر، وإذا لم يكن عنده فلس واحد فإنه يستدين، وهو موقن أنه ميت، وهو يعلم أنه لا أمل في شفاء ابنه، لكن لماذا يقترض؟! لماذا يثقل كاهله بالديون؟! لأنه يعلم في قرارة نفسه أنه ليس لعبد كلمة أخيرة، فإن الله تبارك وتعالى يصرف المقادير حيث شاء.

وعلى سبيل المثال -كي نعلم أن الأمر كله لله- امرأة مغربية، مرضت بالسرطان.. ذهب بها أولادها إلى كل أطباء العالم، وكلهم يقول: بقي من عمرها شهر أو أقل، فقالوا لها: أَلا تعتمرين!! فذهبت المرأة تعتمر، ثم طاب لها المقام في الحرم، فكان ليس لها طعام ولا شراب إلا ماء زمزم، فمضى شهر.. وشهران .. وثلاثة أشهر .. وأربعة .. وستة .. وعشرة، والمرأة بصحة جيدة، ثم ذهبت إلى إحدى مدن المملكة، وعمدت إلى أشهر أطباء المملكة وكلهم يقول لها: ليس عندك شيء، قالت: هؤلاء لا يفهمون، حتى أولادها قالوا: الطب عند العرب متأخر، سنذهب إلى البلاد التي وصلت إلى القمة، عندما ذهبوا إلى الأطباء في تلك البلاد إذا بهم يشدهون، أين ذهب المرض؟! عند من تعالجت؟! قالوا: أبداً، الوضع كذا وكذا.. وصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال في ماء زمزم: (إنه طعام طعم، وشفاء سقم)، فهذا فضل الله، ولو أن الأولاد تركوها لحكموا عليها بالإعدام.

إذن الإنسان يتحرك من داخله بعقيدة أنه ليس لأحد شيء، وإن كانت تصرفاته -أحياناً- غير ذلك، لكنه مجبول ثابت في فطرته أن الكلمة الأخيرة الفاصلة لله تبارك وتعالى في كل شيء، فمن الجائز أن يقول العبد: فلان الطبيب شفاني، فأكد إبراهيم عليه السلام إن الذي يشفي ويرفع المرض هو الله تبارك وتعالى لا غيره.

هذه القضايا الثلاث التي ذكرها إبراهيم مشتركة بين العبد وبين ربه، العبد له جزء من المعنى والله تبارك وتعالى له جزء ٌ آخر، أما القضية الأخيرة فلا خلاف بين جميع العباد عليها فلم يؤكدها، وهي: (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) لم يقل: فهو يحيين.. لماذا؟ لأنه لا خلاف بين العباد كلهم أن الذي يحيي ويميت هو الله تبارك وتعالى، وهذا نفي من إبراهيم عليه السلام للسبب، وللواسطة.

لذلك كان التفات القلب إلى هذه الأسباب قدحاً في توحيد العبد، ويجب أن لا يلتفت القلب إلى السبب، وليكن يقيننا أن الذي يجعل التأثير في الأشياء هو الله تبارك وتعالى وحده، كما قال عز وجل: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، رمى: الأولى بمعنى أصاب، ورمى الثانية بمعنى سدد الرمية، ورمى الثالثة بمعنى أصاب، فيكون معنى الآية: وما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، ليس لأنك سددت الرمية، بدليل أن العبد قد يصاب برصاصة في عنقه فيموت، ورجل آخر يضرب برصاصة في نفس الموضع فلا يموت، فإن كان لابد أن يموت إذا جاءت الرصاصة في هذا الموضع لمات كل من أصيب بها، لكن إنما يصيب الله تبارك وتعالى، ليس لأنك أحدثت الأثر، لا. إنما الله تبارك وتعالى هو الذي أحدث الأثر.

ومن العجائب، هذا القلب الذي يُعد ملك البدن، إذا اجتمع القلب وجدت في أعضائك قوة، وإذا تفرق همك وجدت في أعضائك الخور كله، لذلك همة العبد إنما تكون باجتماع قلبه، فإذا اجتمع قلبك اجتمعت جوارحك تبعاً للقلب، أليس هو ملك البدن، هذا القلب الذي قوام حياتك به، لو توقف لمت، فتصور أن قلبك الذي تتحرك به أنت لا تملكه، أليس هذا من أعظم دلائل العجز؟

ومما يدل على أن العبد لا يملك قلبه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيف شاء).. وكان أكثر دعائه يقول: (يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك) وكان قسمه الذي يكثر أن يقسم به يقول: (لا. ومقلب القلوب).

ومثالاً على ذلك -من الواقع-: ألم تحب إنساناً يوماً ما حتى غُلبت على حبه، وكدت تهلك في حبه، فقيل لك: انْسَ، قلت: لا أستطيع، تمضي في أقصى مكان في الأرض، والذكرى لا تفارق قلبك، لو كان قلب العبد بيده، لما كفر طرفة عين، لكن ليس قلبه بيده، وهذا من أعظم دلائل عجزه وافتقاره إلى الله تبارك وتعالى، أليس هو صندوق الإخلاص في البدن، ومحل السر فيه، وفيه ما لا يمكن للإنسان معرفته حتى مع تطور علم التشريح، على سبيل المثال العلقة التي استخرجها الملك من قلب النبي عليه الصلاة والسلام علقة محسوسة ترى وتمس باليد، هل يستطيع إنسان على وجه الأرض إذا شَرَّحَ القلب أن يحدد موضعها، سر عظيم من أسرار الله تبارك وتعالى في بدن العبد.

فإذا التفت هذا الملك -ملك البدن- إلى الأسباب هلك العبد، إذاً هو إنما بقلبه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر البدن، وإذا فسدت فسد سائر البدن، ألا وهي القلب).

التفات هذا القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، ونفي الأسباب نقص في العقل، فلو أن رجلاً قال: أريد ولداً بغير نكاح، فكل العباد يقولون عنه: مجنون، أو قال: أريد أن أشبع بغير أكل، لقالوا: مجنون، ولو قال آخر: أريد أن أذهب إلى أول الشارع بغير سعي مني ولا مشي، يقولون: أنى لك ذلك؟! فمعنى أن يلغي العبد السبب أن يقول: لا قيمة له أبداً في الفعل، هذا القول نقص في العقل.

ولعله يأتي من يقول: إنه لا يوجد أحد على وجه الأرض يمكن أن ينفي أن يكون السبب مؤثراً، نقول: بلى! يوجد أناس يقال لهم: الفرماوية يرون أن الأخذ بالأسباب كفر، ويرون أن من مرض فذهب إلى الطبيب فهو كافر، ومن أراد الولد فنكح فهو كافر، مع أنهم ينكحون ويذهبون إلى الأطباء، لأنه يستحيل أن ينفي السبب بالكلية وإلا مات، ولقد رأينا بعضهم وقد انقسموا فريقين: جماعة يلبسون قمصاً بيضاء، وجماعة يلبسون قمصاً خضراء، فالذي يلبس قميصاً أبيض لا يأخذ بالأسباب لأنه وصل إلى درجة اليقين.

كما أنه قيل لـابن الجوزي يوماً: إن فلاناً ترك الصلاة والزكاة وترك العبادة، لأن الله تبارك وتعالى يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وقال: إنه قد أتاني اليقين وأنا وصلت درجة رفع التكليف، فقال ابن الجوزي : نعم، وصل، ولكن إلى سقر.

فالذي وصل إلى هذه الدرجة من الفرماوية يلبس القميص الأبيض، أما الذي يلبس القميص الأخضر فهذا دءوب العمل لخدمة الصنف الأول دائماً، وهو الذي يأخذ بالأسباب، ومن عجيب أمرهم أنهم يعتقدون أن الذي يلبس الأخضر كافر كفراً مؤقتاً، حتى تدب الولاية -ولاية الشيطان- في قلبه فيلبس قميصاً أبيض.

وهذا الكلام لو عرضوه على أجهل خلق الله تبارك وتعالى ما قبله، لأنه يصادم صريح العقل، فإنكار أن تكون الأسباب أسباباً من حيث هي أسباب نقص في العقل بلا شك، ونحمد الله تبارك وتعالى أنه لا يوجد من هذه الطائفة أحد الآن، لقد كانوا يحرقون صحيح البخاري فلما سئلوا:، لماذا؟ قالوا: أصل البخاري شيوعي، أليس من الاتحاد السوفييتي ؟! هذا لما كانت بخارى ضمن الاتحاد السوفييتي، أما الآن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى أين سينسبوا البخاري ؟

وكانوا يقولون: كل أحاديث عائشة باطلة.. فلما قيل لهم لماذا؟ قالوا: صوت المرأة عورة، كل حديث عن أي امرأة غير صحيح، لأن صوت المرأة عورة.

وهكذا من يرد الأحاديث قائلاً: هذا مضاد لصريح العقل، وإذا وجدت حديثاً يضاد صريح العقل فاعلم أنه مكذوب!!

وأنا أقول: صريح العقل ليس عقلك وحدك، إنما صريح عقل المسلمين، لأنه من الممكن أن يصادم عقلك أنت فقط، لكن لا يصادم عقل غيرك، هذا هو معنى القيد الذي وضعه علماء المسلمين عندما قالوا: إذا وجدت الحديث يخالف صريح المعقول فاعلم أنه مكذوب.

وهم يقصدون بصريح المعقول أي صريح معقول عقول المسلمين، ليس عقل واحد، ولا عقل اثنين، إنما عقول المسلمين.

ففعل الفرماوية هؤلاء وتأويلهم يضاد صريح عقول المسلمين، لذلك نجزم أنه من الباطل المحض الذي لا يتردد فيه إنسان.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..


استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسئلة وأجوبة[1] 2879 استماع
التقرب بالنوافل 2827 استماع
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 2769 استماع
لماذا نتزوج 2706 استماع
انتبه أيها السالك 2697 استماع
سلي صيامك 2670 استماع
منزلة المحاسبه الدرس الاول 2656 استماع
إياكم والغلو 2632 استماع
تأملات فى سورة الدخان 2619 استماع
أمريكا التي رأيت 2602 استماع