بين ابن عباس وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما [1، 2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أخرج الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4] حتى حج وحججت معه، وعدل وعدلت معه بالإداوة ، فقضى حاجته، ثم جاء فكشفت عليه منها، فقلت: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]؟ فقال عمر : واعجباً لك يا ابن عباس ! هما عائشة وحفصة ، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة ، فكنت أنزل يوماً وينزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل هو فعل مثل ذلك، وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار.فصخبت عليَّ امرأتي ذات يوم فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني. فقالت: ولِمَ تنكر أن أراجعك يا ابن الخطاب وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يراجعنه ويهجرنه اليوم حتى الليل؟! قال: فقلت: أوتفعل حفصة ذلك؟ لقد خابت وخسرت.

قال: ثم جمعت عليَّ ثيابي ونزلت إلى حفصة فقلت: أي بنية! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم.

فقال لها: أو أمنتِ أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟ لا تستكثري النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تسأليه شيئاً، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لكِ، ولا يغرنكِ أن كانت جارتكِ -يعني عائشة - أوضأ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكِ.

قال: وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فنزل صاحبي الأنصاري نوبته، ثم جاءني عشاءً فطرق الباب طرقاً شديداً، وقال: أثم هو؟ قال: فخرجت إليه، فقال: حدث اليوم أمر عظيم! قلت: ماذا؟! جاء غسان؟ قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم؛ طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه.

فقلت: قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون، ونزلت فصليت الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مشربة له، وجلست عند المنبر مع رهط يبكي بعضهم؛ فغلبني ما أجد فأتيت المشربة، فإذا غلام أسود فقلت له: استأذن لـعمر . فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت.

قال عمر: فرجعت، فجسلت بجنب المنبر، ثم غلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـعمر . فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فرجعت إلى المنبر فجلست فغلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لـعمر . فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت. فانصرف فلما وصلت إلى الباب إذا هو يدعوني، وقال: قد أذن لك.

قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وإذا هو مضطجع على حصير، ليس بينه وبين الحصير فراش، قد أثر الحصير في جنبه.

فقلت: يا رسول الله! أطلقت نساءك؟

فرفع بصره إليَّ وقال: لا.

فقلت: الله أكبر! ثم أردت أن أستأنس فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم؛ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: فقلت له: يا رسول الله لو رأيتني وأنا أقول لـحفصة : لا يغرنك إن كانت جارتكِ أوضأ منكِ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فجلست.

ثم أدرت نظري في بيته فلم أرَ شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله. وكان متكئاً فجلس فقال: أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب ؟! هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا.

فقلت: يا رسول الله! استغفر لي.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقسم ألا يدخل على نسائه شهراً من شده موجدته عليهن، فلما انقضت تسعٌ وعشرون دخل على عائشة فقالت له: يا رسول الله! قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً، فقد دخلت علينا من تسع وعشرين أعدها عداً. فقال لها: الشهر تسعٌ وعشرون، فكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين.

ثم بدأ النبي صلى الله عليه وسلم فخير عائشة فاختارته، ثم خير نساءه كلهن فقلن مثلما قالت عائشة) .

الصحابة قدوة في علمهم وسلوكهم

هذا الحديث الجليل يوقفنا على طرف من حياة المسلمين رأساً ومرءوسين، ويبين لك السبب في تماسك هذا المجتمع، والسبب أنهم جعلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأفئدة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يحكي طرفاً من حياته مع بعض أصحابه.

فياليتنا إذ نسمع مثل هذا الكلام نترجمه وننقله إلى الواقع؛ فإن بيننا وبين نصوص الإسلام بوناً بعيداً، وأنا أشبه واقع المسلمين مع نصوص الإسلام قرآناً وسنة بهرم، هذا الهرم أو هذا المثلث حاد الزاوية، له ثلاثة نقاط: رأس وهذا ضلع وذاك ضلع، حياة المسلمين الأولى هي هذه النقطة التي في رأس المثلث، فكلما نزلت زادت المسافة بين الضلعين، فإذا أردت أن تقل المسافة اصعد إلى فوق.

وهكذا: كلما اقتربنا من القرن الأول سلوكاً وعلماً وعملاً قل الفرق ما بين الواقع والمثال، وكلما ابتعدنا عن هذا القرن الفاضل ونزلنا إلى تحت -مثل هذا الزمان- وجدت هذا البون شاسعاً.

هذه النقطة لا أبعاد فيها، ليس فيها طول ولا عرض، وإذا كان فيها طول وعرض فهو يسير جداً لا يكاد يذكر.. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله سلم : (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فكان القرن الثاني والثالث فرعاً عن القرن الأول، إذاً ما بقي إلا القرن الأول.

وهذا الحديث الذي نتولى شرحه في هذه الخطبة دليل ظاهر على ذلك، الذي يحكي هذه الحكاية هو عمر بن الخطاب ، وإن كان الحديث حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]) .

في رواية البخاري قال: (ظللت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب فتمنعني هيبته، حتى حج وحججت معه، وعدل -أي: ترك طريق الناس ليقضي حاجته- فلما قضى حاجته وجاء وكانت الإداوة -وهي شيء يشبه الإبريق فيه ماء- في يد ابن عباس ، وهو يصب عليه وضوءه قال: يا أمير المؤمنين! إنني أريد أن أسألك منذ سنة، ولكن تمنعني هيبتك. فقال: يا ابن أخي! إذا علمت أن عندي علماً فاسألني.

فقال له: من المرأتان اللتان قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]؟

فقال: واعجباً لك يا ابن عباس !) وإنما تعجب عمر رضي الله عنه من هذا إما لشدة تتبع ابن عباس لتفسير القرآن، ومعروف أنه ترجمان القرآن ، وكان من أكثر الصحابة تفسيراً، وهناك نتف تفسيرية كثيرة عن ابن عباس ، فالذي له هذا الباع في التفسير كيف خفي عليه مثل هذا الموضع؟

أو لأنه ما ظن أن ابن عباس يتتبع مثل هذه وتبلغ عنايته حتى يعرف أسباب النزول، وكان لـابن عباس مكانة عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في الصحيحين أيضاً ( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُدخل ابن عباس مع مشايخ بدر . فلما دخل ابن عباس أكثر من مرة -وكان عمر حريصاً على إدخاله مع شيوخ بدر- فغضب عبد الرحمن بن عوف ، وقال: ماله يدخل هذا ولنا ولدان مثله -لنا غلمان مثله-: فسمعها عمر فأسرها في نفسه.

فلما اجتمعوا يوماً قال لهم: ما تقولون في قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3] ما تقول يا فلان؟

فقال: إن الله عز وجل أمر نبيه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] أن يستغفر ربه.

وأنت يا فلان؟ قال: أقول كما قال صاحبنا.

وأنت يا فلان؟ كلهم يقول ما قال الأول.

فقال: وما تقول يا ابن عباس ؟ قال: يا أمير المؤمنين! هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلامة موته؛ لأنه (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ودخل الناس أفواجاً في دين الله فما بقاؤه؟! فإنه قد أدى ما عليه. قال: هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال عمر : والله يا ابن أخي! ما أعلم منها إلا ما تقول.

قال ابن عباس : وكان يريد أن يريهم ما عندي، فقال لهم عمر بن الخطاب بعد ذلك: إنه من حيث علمتم -أي أنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم- ) .

فكان لـابن عباس هذه المكانة عند عمر ، فتعجب أن يفوته هذا الموضع مع شهرته، ومع أن خبر عائشة وحفصة في هذا شاع بين المسلمين.

وفي هذا دلالة على أن الشيء قد يخفى عن الإمام الجليل ويعلمه من هو دونه، وإنما نقول هذا لبعض المقلدة الذين إذا قيل لهم: إن الإمام الفلاني لم يعلم بالحديث الفلاني، يقولون: كيف لا يعلم هو به وتعلم أنت به، وهو أعلم منك؟!.

نعم هو أعلم من حيث الجملة، لكن جزئيات العلم لا تتناهى، ولم يجمع واحد قط -بدءاً من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أدنى رجل- العلم كله ولا جزئيات العلم في صدره، لا يجمع جزئيات العلم جميعاً في صدره إلا نبي، أما غير الأنبياء فقرنهم الله عز وجل بالعجز، ووصفهم بالحاجة، فما منا من أحد -كما يقول الشافعي رحمه الله- إلا وتعزب عنه سنة للنبي صلى الله عليه وسلمُ وقد يكون عند المفضول من العلم ما ليس عند الفاضل.

وخذ مثالاً للخضر وموسى عليهما السلام، ولا شك عند جميع المسلمين أن موسى أفضل من الخضر ، ومع ذلك لما أراد الله عز وجل أن يعلم موسى عاتبه وذلك عندما سأله رجل من بني إسرائيل فقال: يا كليم الله! أتعلم أحداً هو أعلم منك؟ قال: لا؛ فعتب الله عليه أنه لم يرد العلم إليه، قال: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك.. وبعد ذلك قصة الخضر وموسى عليهما السلام معروفة، ولكن كان عند الخضر من العلم ما لم يكن عند موسى ، والخضر مفضول وموسى فاضل.

فقد يكون عند المفضول من العلم ما ليس عند الفاضل، فينبغي على المرء أن يتواضع لله، وأن يعلم أن في الزوايا خبايا، وأن في الناس بقايا؛ فلا ينبغي أن يستطيل على أحد.

فهاهو ابن عباس مع اهتمامه بالتفسير وتقدمه فيه، خفي عليه موضع يعرفه جل المسلمين.

من سلوكيات الصحابة ونسائهم

(ثم استقبل عمر رضي الله عنه الحديث يسوقه، قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد ، وهم من عوالي المدينة) وهذا يدلك على حرص عمر بن الخطاب على تحصيل العلم، وأن طالب العلم لا يشترط له أن يتفرغ، ما كان عمر متفرغاً، إنما كان صاحب همة.

ومن هذا ننبه بعض طلبة العلم إلى أن من يقول: أنا لا أستطيع أن أطلب العلم إلا إذا تفرغت. نقول له: لا، لو كنت صاحب همة لا يعوقك عن طلب العلم ما تجده من العمل.

فقسم عمر رضي الله عنه الأيام بينه وبين صاحبه، ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، ويكون صاحبه في تجارته أو زراعته، ثم ينزل عمر إلى تجارته أو زراعته، ويكون هذا الأنصاري عند النبي صلى عليه الصلاة والسلام، فيأتيه بخبر ذلك اليوم، لو نزل وحي أتاه به، ولو قضى النبي صلى الله عليه وسلم في قضية أتاه بها، ولو قال حديثاً أو حدثت واقعة يقص عليه ما حدث من خبر ذلك اليوم.

قال رضي الله عنه: (كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار، ينزل يوماً وأنزل يوماً. قال: وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) وفي بعض الروايات (قال: فلما أنزل الله عز وجل ذكر النساء تبجحن، ورأين أن لهن علينا فضلاً) فبدأت النساء لما نزل الوحي يشاركن الرجل في العبادة وتحمّل تكاليف الشريعة، وأهل مكة أم القرى، يعاملون النساء معاملة مباينة لمعاملة أهل المدينة، فأهل المدينة يعاملون النساء معاملة ألطف من معاملة أهل مكة.

وفي بعض الروايات الأخرى قال عمر : (وإنما كانت المرأة لحاجة أحدنا، فإذا أحتاجها قضى حاجته، ثم لا يكون لها بعد ذلك ذكر ولا كلام) .

فلما هاجروا من مكة إلى المدينة، والطبع ينتقل من إنسان إلى آخر؛ بدأت النساء يرمقن فعل نساء الأنصار مع أزواجهن، وينقلن مثل هذا الأدب إلى بيوتهن، انظر إلى لطف عمر وحسن تعبيره، مع أنه معترض! قال: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) ولم يقل: من قلة أدب.. مع أنها من وجهة نظر عمر قلة أدب، لأنه معترض، ومع ذلك يقول: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي الألفاظ سعة، فالعرب كان عندهم ذوق رفيع في استخدام الألفاظ، مثلاً: (القافلة) إنما تقال للذين رجعوا ولا تقال للذين ذهبوا. ومع ذلك يقولون للذين ذهبوا (قافلة)؛ تيمناً برجوعها. (اللديغ) كانوا يسمونه (سليماً) رجاء سلامته، الصحراء كانوا يسمونها (مفازة) تفاؤلاً بالنجاة منها.

ثم هذا أوقع من أن يذكر اللفظ الصريح.

فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي رواية أخرى أيضاً في صحيح البخاري : (يأخذن من أرابيب نساء الأنصار) (الأرب): هو العقل.

قال: (فصخبت عليَّ امرأتي ذات يوم فراجعتني) والصخب من وجهة نظر عمر ، مجرد أنها تراجعه.

في بعض الروايات قال: (فتناولت قضيباً فضربتها، وقلت لها: أتراجعينني؟ قالت: ولِمَ لا أراجعك؟ وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وليس هذا فقط، بل ويهجرنه اليوم حتى الليل) وهذا يبين لك أثر القدوة.

وقد تعبر كلمة واحدة عن مكنون ما في النفس، على سبيل المثال مرة وفي بعض المؤتمرات في بعض البلاد رجل نيف على التسعين عاماً، معه عصا يتوكأ عليها، وذهب إلى هذا المؤتمر، وبعد ذلك قال: أيها الناس! اسمعوني.. رفع العصا، وقال: العصا هذه معوجّة من أين؟ قالوا له: من فوق. قال لهم: السلام عليكم.

هذا الذي أراد أن يقوله، ومضى الرجل بعد أن أوصل رسالة مهمة إلى أذهان الحاضرين.

القدوة له أثر عظيم في استقامة المجتمع، إن الله تبارك وتعالى حكم عدل، إذا كان الرأس صالحاً رزقه الله مرءوسين صالحين، وإذا كان فاسداً رزقه فاسدين، هذه من السنن الكونية التي لا تتخلف، والله عز وجل لا يحابي أحداً من عباده.

فامرأة عمر بن الخطاب تقول له: لِمَ تنكر وأزواج النبي -اللاتي هن القدوة- يفعلن كذا وكذا؟! (يراجعنه، بل ويهجرنه اليوم حتى الليل) ولم تقل: ويهجرنه الليل حتى الصبح؛ لأن هذا لا يجوز، ولا تقع فيه واحدة من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن المرأة إذا باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح، إنما الواحدة منهن كانت تغاضب النبي عليه الصلاة والسلام من أول النهار إلى آخر النهار.

زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وفضل عائشة

قال عمر : (فأفزعني ذلك، وقلت: أوتفعل حفصة ذلك؟!) ولم يقل: أتفعل عائشة ، أتفعل أم سلمة ؛لأن الإنسان إنما يكون عطوفاً على ولده، يبحث عن ولده قبل أن يبحث عن غيره، ما ذكر إلا حفصة وقال: ( لقد خابت وخسرت، ثم جمع ثيابه ونزل في الحال، وقال: أي بنية! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم. قال: وما يؤمنكِ أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟ لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لكِ ).

الإمام البخاري رحمه الله بوب على هذا الحديث لأجل هذه الفقرة، قال: ( باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها )، يا ليت الآباء الذين زوجوا بناتهم يتعلمون من هذا الدرس، ( باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها ).

أي رجل منا له بنت فزوجها ذراعه مكسور مهما كان ملكاً مطاعاً، وإذا كان زوج البنت ليس بذاك الرجل النبيل، ومع ذلك أنت ممكن تنفق على بنتك، وتعطيه مالاً، وتثني عليه بما ليس فيه ليستقيم الحال بخلاف الولد.

فأنت ينبغي عليك أن تعين زوج ابنتك، ولا تحرض ابنتك عليه، ومن المشاكل الكثيرة الشائعة التي زلزلت البيوت أن الأب مثلاً ممكن يذهب فيقرّع زوج البنت أمام البنت، يقول له: أنت غلطان، وهي محقة، المفروض تفعل كذا وكذا.. لا يا أخي! ينبغي أن تظل قوامة الرجل كما هي، ولا توغر صدره، مر ابنتك بالمعروف والإحسان، فإذا خلوت بزوجها فمره بالإحسان، لكن لا تسمح لابنتك أن تذكر سيئات الزوج هكذا أمامه، كل هذا رعاية لصدر الزوج، وإعمالاً لتمام قوامته على المرأة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لها: ( لا تسأليه، ولا تستكثريه، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لكِ. ثم قال لها: ولا يغرنكِ أن كانت جارتكِ أوضأ منكِ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يريد بذلك عائشة- ) يريد أن يقول لها: إن عائشة أجمل منكِ، ولها دلال على النبي عليه الصلاة والسلام، فقد يحتمل ذلك لها لمكانتها عنده، فإذا حاولت أن تقلديها لا يحتمل لكِ؛ لأنه ليس لكِ من المكانة مثل ما لها.

وكانت عائشة رضي الله عنها محبوبة جداً لدى النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك، بل كان يبديه أحياناً، لما حدث بينه وبين بعض زوجاته كلام بشأن عائشة قال: (لا والله، ما نزل الوحي في لحاف امرأة غيرها) وجعل هذا منقبة لها، وكان هذا -كما قلت سابقاً- لا ينكره النبي عليه الصلاة والسلام حتى علمه الصحابة، فكانوا يتحرون بهداياهم ليلة عائشة كما في الصحيحين ، من حديثها أيضاً رضي الله عنها، قالت: ( كان المسلمون يتحرون بهداياهم ليلة عائشة ) فحبيب حبيبي حبيبي، إذا أكرمت من أحب أحببتك.

فكان الصحابة يعلمون ذلك، فكانوا يتحرون بهداياهم ليلة عائشة ، من أراد أن يهدي النبي صلى الله عليه وسلم هدية فإنه يمكث حتى إذا كانت ليلة عائشة يعطيه الهدية، حتى صار عند عائشة هدايا كثيرة، وأزواج النبي عليه الصلاة والسلام يعلمن ذلك، فما أعجبهن هذا الحال، فأردن أن يراجعن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأنه يقسم الهدايا عليهن، فأرسلن أحب الناس إليه، وهي فاطمة رضي الله عنها.

قالت عائشة: (فدخلت فاطمة لا تخطئ مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في لحافي، فدخلت فقال: أهلاً بابنتي! فأجلسها، فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك يسألنك العدل في ابنة ابن أبي قحافة . فقال: أي بنيتي! أتحبينني؟ قالت: أجل. قال: فأحبي هذه. وذهبت إليهن وهن مؤتمرات في بيت إحداهن، فلما دخلت قالت: والله! لا أراجعه فيها أبداً) ، فأرسلن بعد ذلك زينب ، وهي التي كانت تسامي عائشة رضي الله عنها في المنزلة عند النبي عليه الصلاة والسلام.

قالت عائشة : (فدخلت زينب والنبي صلى الله عليه وسلم في لحافي، فكلمت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم وجهت كلاماً لـعائشة وأضجعت في الكلام -يعني: قالت كلاما قوياً- قالت عائشة : فنظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم هل يكره أن أنتصر؟ -يعني: لو رددت عليها هل يكره ذلك؟- قالت: فلما علمت أنه لا يكره أن ينتصر قمت لها فأفحمتها، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها ابنة أبي بكر!) أي: لا تغلب.

فانظر إلى هذا الوفاء من قبل عائشة رضي الله عنها تقول: ( فنظرت إليه هل يكره أن أنتصر؟ ) المرأة ينبغي أن تراعي شعور زوجها، فلا تأتي الشيء الذي يكرهه أبداً، هذا من العشرة بالمعروف، من حقه عليها، ولم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم بقسمة الهدايا؛ لأن هذا ليس ملكاً له عليه الصلاة والسلام، إنما يسأل الرجل -إذا تزوج بأكثر من امرأة- العدل فيما يملك، أما الهدايا فلا تدخل في هذا؛ ولهذا لم يجبهن النبي عليه الصلاة والسلام.

وكانت أخبار عائشة رضي الله عنها فاشية يتحدث بها الخاص والعام، فيقول عمر بن الخطاب لها: يا بنيتي ليس لكِ من الإجلال ولا المكانة ولا الجمال مثل عائشة ، فلا تقلديها، فإنه يحتمل لها ولا يحتمل لكِ. وهكذا وعظها أبوها، وحضها على أن تعاشر النبي صلى الله عليه وسلم بالمعروف.

عظيم حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وحالنا اليوم

قال عمر : ( وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا ) وغسان موالون لملوك الروم، وكانوا في الشام ، وكان المسلمون قد أمنوا كل الجهات إلا من جهة ملك غسان فقد كان يهدد أنه سوف يغزوهم في المدينة ، فكان الصحابة على أتم استعداد لملاقاة هذا الرجل إذا تحرك إلى المدينة .

واستخدم هذه الاستعارة الجميلة: ( تنعل الخيل لغزونا ) الرجل إذا انتعل فهذا معناه أنه سيمشي وسيمضي، و(تنعل الخيل): أي تهيئ الخيل لتغزونا.

ففي يوم من الأيام بعد صلاة العشاء، وفي نوبة هذا الأنصاري جاء فضرب الباب ضرباً شديداً، في بعض الروايات قال عمر : (فخرجت إليه عرياناً -طبعاً ليس عرياناً بمعنى غير متستر، وإنما لم يكن متهيئاً بكامل زيه، وهو دال عن السرعة والمبادرة- فقلت: مالك؟ قال: حدث اليوم أمر عظيم. قال: أجاءت غسان -لأن هذا هو الأمر العظيم الذي كانوا يتوقعونه، وما خطر ببال عمر أبداً هذا الذي سيسمعه من الأنصاري-؟. قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم!).

ما أعظم حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم حتى إن تَكَدُّرَ خاطره صلى الله عليه وسلم كان عندهم أعظم من أن تستولي غسان على المدينة، ما كانوا يصبرون على أن يلحقه أذى أياً كان!!

أمّا ما يجري الآن في زماننا في حق النبي عليه الصلاة والسلام فما كان الصحابة يسمحون بعشر عشر معشاره؛ لأن محبتهم كانت صادقة، الآن الرسول عليه الصلاة والسلام يسب في ديار المسلمين ويلمز ويغمز، وقد صرح بعضهم به تصريحاً، لما رسم أحدهم في رسومه الساخرة (الكاريكاتير) ديكاً وتسع دجاجات، وكتب فوق -هذا كان سنة خمسة وستين في جريدة الأهرام - هذا الرسم "محمد جمعة وزوجاته التسعة" من الذي تزوج تسعاً في المسلمين ولا يحل إلا أربعة لسائرهم؟ من الذي تزوج تسعاً فقط؟ هو النبي عليه الصلاة والسلام، يخرج الرسم بهذا السفور الفاضح، ومع ذلك يظل هذا الرجل في مكانه ولا يحاسب، وكل هذا بدعوى حرية الرأي وحرية الكلمة، وأننا لا نحجر على كلام أحد.. كيف لا نحجر؟ إذا كان هناك إنسان يستحق أن يحجر عليه فليحجر عليه، فالألفاظ قوالب المعاني.

إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلاً يوماً يقول: (والله! ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية. فجلده الحد، وقال: إن هذا تعريض بالزنى) أي: لو أن الأب أو الأم كانا طاهرين، لِمَ نفيت التهمة عنهما؟ أكيد هناك أصل لهذه التهمة، فجلده حد القاذف؛ لأن هذا فيه إيماء وفيه معنى القذف بالزنى.

فالنبي عليه الصلاة والسلام يعتدى عليه، ويعتدى على سنته من قبل الجهلة الذين لا يعرفون شيئاً في هذا العلم، كل يوم لما أطالع مثلاً بعض الصحف لا يكاد يوم يمر إلا وفيه هجوم على السنة، أو على القرآن أو على النبي عليه الصلاة والسلام، أو على الله تبارك وتعالى.

فأغرى هذا أعداءنا وجرأهم، فرسموا النبي عليه الصلاة والسلام على صورة خنزير، وفي الضربة الأخيرة للعراق في شهر رمضان كانت الصواريخ التي تضرب بها بغداد مكتوب عليها: (هدية رمضان للمسلمين) فلما استنكر بعض المسلمين هذا رد الرئيس الأمريكي وقال: أحد الجنود كتبه ماذا نصنع به؟! متأسفين.. وانتهى الأمر على هذا، وما أرى حالنا اليوم إلا كما يقول الشاعر:

لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا

إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لاَنا

قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا

لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا

لَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا

يَجْزُونَ مِنْ ظلَمْ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِـرَةً وَمنْ إسَاءَة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا

كأَنَّ رَبَكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانا

الورع البارد هذا أغرى أعداءنا أن يعتدوا على النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك الاعتداء الصارخ لم يكن هناك أي رد فعل رسمي لأي بلد من بلاد المسلمين.

يا أخي: اسحب السفير، اعمل احتجاجاً رسمياً، اعمل مؤتمراً صحفياً، اعترض، قل: كيف تسبون نبينا؟ كيف ترسمونه على هيئة خنزير؟ هذا أقل ما يجب، لكن لم يكن هناك أي رد فعل رسمي على الإطلاق، كأن هذا النبي لا يدين بدينه أحد..!

الرسول عليه الصلاة والسلام لما طلق نساءه، يقول هذا الصحابي لما سأله عمر : ( أجاءت غسان ؟ يقول: بل ما هو أهول من ذلك وأعظم ) مجرد أن يطلق نساءه هذا أعظم من أن تستولي غسان على المدينة .

فقال عمر : ( قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون ) لماذا؟ لأن له مقدمات: المرأة التي تعترض على زوجها وتهجره، وتنشز عليه... ماذا يُتصور أن يكون رد فعله تجاه ذلك التصرف الخاطئ؟!

الرجل الذي تتدفق دماء الرجولة في عروقه لا يطيق أن تفعل به المرأة ذلك، أنها تهجره، وكلما يأمرها تعصيه، ولا تسمع له كلاماً، وتحط من كلامه، وأي رجل يأبى هذا.

فهذه مقدمات كان عمر يرى أنها قد تؤدي إلى ذلك، ولذلك أول ما سمع الخبر قال: (قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون)، فنزل وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، والنبي عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة دخل المشربة، ما كلم أحداً -المشربة: غرفة ملحقة بالمسجد- ولم يجرؤ عمر بن الخطاب أن يراجعه أو أن يكلمه؛ لأنه كان غاضباً، فجلس مع قوم عند المنبر، قال عمر :(يبكي بعضهم).

أنا على يقين -بما أعلمه من سير الصحابة- لو أن واحداً من هؤلاء الذين يبكون عند المنبر طلقت ابنته لما بكى.. فلماذا يبكي إذاً؟ يبكي لتكدر خاطره عليه الصلاة والسلام، مجرد أنه متكدر الخاطر -متعكر- هذا يقلقه؛ لأنهم كان يحبونه غاية الحب.

هذا الموقف موقف مهيج ومثير، ناس يبكون حزناً.. قال عمر: (فغلبني ما أجد) يعني: ما كان في صدره من الهم والغم غلبه فلم يصبر على هذه الجلسة، وذهب إلى هذا الغلام وقال له: استأذن لـعمر.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

هذا الحديث الجليل يوقفنا على طرف من حياة المسلمين رأساً ومرءوسين، ويبين لك السبب في تماسك هذا المجتمع، والسبب أنهم جعلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأفئدة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يحكي طرفاً من حياته مع بعض أصحابه.

فياليتنا إذ نسمع مثل هذا الكلام نترجمه وننقله إلى الواقع؛ فإن بيننا وبين نصوص الإسلام بوناً بعيداً، وأنا أشبه واقع المسلمين مع نصوص الإسلام قرآناً وسنة بهرم، هذا الهرم أو هذا المثلث حاد الزاوية، له ثلاثة نقاط: رأس وهذا ضلع وذاك ضلع، حياة المسلمين الأولى هي هذه النقطة التي في رأس المثلث، فكلما نزلت زادت المسافة بين الضلعين، فإذا أردت أن تقل المسافة اصعد إلى فوق.

وهكذا: كلما اقتربنا من القرن الأول سلوكاً وعلماً وعملاً قل الفرق ما بين الواقع والمثال، وكلما ابتعدنا عن هذا القرن الفاضل ونزلنا إلى تحت -مثل هذا الزمان- وجدت هذا البون شاسعاً.

هذه النقطة لا أبعاد فيها، ليس فيها طول ولا عرض، وإذا كان فيها طول وعرض فهو يسير جداً لا يكاد يذكر.. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله سلم : (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فكان القرن الثاني والثالث فرعاً عن القرن الأول، إذاً ما بقي إلا القرن الأول.

وهذا الحديث الذي نتولى شرحه في هذه الخطبة دليل ظاهر على ذلك، الذي يحكي هذه الحكاية هو عمر بن الخطاب ، وإن كان الحديث حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]) .

في رواية البخاري قال: (ظللت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب فتمنعني هيبته، حتى حج وحججت معه، وعدل -أي: ترك طريق الناس ليقضي حاجته- فلما قضى حاجته وجاء وكانت الإداوة -وهي شيء يشبه الإبريق فيه ماء- في يد ابن عباس ، وهو يصب عليه وضوءه قال: يا أمير المؤمنين! إنني أريد أن أسألك منذ سنة، ولكن تمنعني هيبتك. فقال: يا ابن أخي! إذا علمت أن عندي علماً فاسألني.

فقال له: من المرأتان اللتان قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]؟

فقال: واعجباً لك يا ابن عباس !) وإنما تعجب عمر رضي الله عنه من هذا إما لشدة تتبع ابن عباس لتفسير القرآن، ومعروف أنه ترجمان القرآن ، وكان من أكثر الصحابة تفسيراً، وهناك نتف تفسيرية كثيرة عن ابن عباس ، فالذي له هذا الباع في التفسير كيف خفي عليه مثل هذا الموضع؟

أو لأنه ما ظن أن ابن عباس يتتبع مثل هذه وتبلغ عنايته حتى يعرف أسباب النزول، وكان لـابن عباس مكانة عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في الصحيحين أيضاً ( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُدخل ابن عباس مع مشايخ بدر . فلما دخل ابن عباس أكثر من مرة -وكان عمر حريصاً على إدخاله مع شيوخ بدر- فغضب عبد الرحمن بن عوف ، وقال: ماله يدخل هذا ولنا ولدان مثله -لنا غلمان مثله-: فسمعها عمر فأسرها في نفسه.

فلما اجتمعوا يوماً قال لهم: ما تقولون في قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3] ما تقول يا فلان؟

فقال: إن الله عز وجل أمر نبيه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] أن يستغفر ربه.

وأنت يا فلان؟ قال: أقول كما قال صاحبنا.

وأنت يا فلان؟ كلهم يقول ما قال الأول.

فقال: وما تقول يا ابن عباس ؟ قال: يا أمير المؤمنين! هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلامة موته؛ لأنه (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ودخل الناس أفواجاً في دين الله فما بقاؤه؟! فإنه قد أدى ما عليه. قال: هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال عمر : والله يا ابن أخي! ما أعلم منها إلا ما تقول.

قال ابن عباس : وكان يريد أن يريهم ما عندي، فقال لهم عمر بن الخطاب بعد ذلك: إنه من حيث علمتم -أي أنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم- ) .

فكان لـابن عباس هذه المكانة عند عمر ، فتعجب أن يفوته هذا الموضع مع شهرته، ومع أن خبر عائشة وحفصة في هذا شاع بين المسلمين.

وفي هذا دلالة على أن الشيء قد يخفى عن الإمام الجليل ويعلمه من هو دونه، وإنما نقول هذا لبعض المقلدة الذين إذا قيل لهم: إن الإمام الفلاني لم يعلم بالحديث الفلاني، يقولون: كيف لا يعلم هو به وتعلم أنت به، وهو أعلم منك؟!.

نعم هو أعلم من حيث الجملة، لكن جزئيات العلم لا تتناهى، ولم يجمع واحد قط -بدءاً من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أدنى رجل- العلم كله ولا جزئيات العلم في صدره، لا يجمع جزئيات العلم جميعاً في صدره إلا نبي، أما غير الأنبياء فقرنهم الله عز وجل بالعجز، ووصفهم بالحاجة، فما منا من أحد -كما يقول الشافعي رحمه الله- إلا وتعزب عنه سنة للنبي صلى الله عليه وسلمُ وقد يكون عند المفضول من العلم ما ليس عند الفاضل.

وخذ مثالاً للخضر وموسى عليهما السلام، ولا شك عند جميع المسلمين أن موسى أفضل من الخضر ، ومع ذلك لما أراد الله عز وجل أن يعلم موسى عاتبه وذلك عندما سأله رجل من بني إسرائيل فقال: يا كليم الله! أتعلم أحداً هو أعلم منك؟ قال: لا؛ فعتب الله عليه أنه لم يرد العلم إليه، قال: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك.. وبعد ذلك قصة الخضر وموسى عليهما السلام معروفة، ولكن كان عند الخضر من العلم ما لم يكن عند موسى ، والخضر مفضول وموسى فاضل.

فقد يكون عند المفضول من العلم ما ليس عند الفاضل، فينبغي على المرء أن يتواضع لله، وأن يعلم أن في الزوايا خبايا، وأن في الناس بقايا؛ فلا ينبغي أن يستطيل على أحد.

فهاهو ابن عباس مع اهتمامه بالتفسير وتقدمه فيه، خفي عليه موضع يعرفه جل المسلمين.

(ثم استقبل عمر رضي الله عنه الحديث يسوقه، قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد ، وهم من عوالي المدينة) وهذا يدلك على حرص عمر بن الخطاب على تحصيل العلم، وأن طالب العلم لا يشترط له أن يتفرغ، ما كان عمر متفرغاً، إنما كان صاحب همة.

ومن هذا ننبه بعض طلبة العلم إلى أن من يقول: أنا لا أستطيع أن أطلب العلم إلا إذا تفرغت. نقول له: لا، لو كنت صاحب همة لا يعوقك عن طلب العلم ما تجده من العمل.

فقسم عمر رضي الله عنه الأيام بينه وبين صاحبه، ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، ويكون صاحبه في تجارته أو زراعته، ثم ينزل عمر إلى تجارته أو زراعته، ويكون هذا الأنصاري عند النبي صلى عليه الصلاة والسلام، فيأتيه بخبر ذلك اليوم، لو نزل وحي أتاه به، ولو قضى النبي صلى الله عليه وسلم في قضية أتاه بها، ولو قال حديثاً أو حدثت واقعة يقص عليه ما حدث من خبر ذلك اليوم.

قال رضي الله عنه: (كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار، ينزل يوماً وأنزل يوماً. قال: وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) وفي بعض الروايات (قال: فلما أنزل الله عز وجل ذكر النساء تبجحن، ورأين أن لهن علينا فضلاً) فبدأت النساء لما نزل الوحي يشاركن الرجل في العبادة وتحمّل تكاليف الشريعة، وأهل مكة أم القرى، يعاملون النساء معاملة مباينة لمعاملة أهل المدينة، فأهل المدينة يعاملون النساء معاملة ألطف من معاملة أهل مكة.

وفي بعض الروايات الأخرى قال عمر : (وإنما كانت المرأة لحاجة أحدنا، فإذا أحتاجها قضى حاجته، ثم لا يكون لها بعد ذلك ذكر ولا كلام) .

فلما هاجروا من مكة إلى المدينة، والطبع ينتقل من إنسان إلى آخر؛ بدأت النساء يرمقن فعل نساء الأنصار مع أزواجهن، وينقلن مثل هذا الأدب إلى بيوتهن، انظر إلى لطف عمر وحسن تعبيره، مع أنه معترض! قال: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) ولم يقل: من قلة أدب.. مع أنها من وجهة نظر عمر قلة أدب، لأنه معترض، ومع ذلك يقول: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي الألفاظ سعة، فالعرب كان عندهم ذوق رفيع في استخدام الألفاظ، مثلاً: (القافلة) إنما تقال للذين رجعوا ولا تقال للذين ذهبوا. ومع ذلك يقولون للذين ذهبوا (قافلة)؛ تيمناً برجوعها. (اللديغ) كانوا يسمونه (سليماً) رجاء سلامته، الصحراء كانوا يسمونها (مفازة) تفاؤلاً بالنجاة منها.

ثم هذا أوقع من أن يذكر اللفظ الصريح.

فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي رواية أخرى أيضاً في صحيح البخاري : (يأخذن من أرابيب نساء الأنصار) (الأرب): هو العقل.

قال: (فصخبت عليَّ امرأتي ذات يوم فراجعتني) والصخب من وجهة نظر عمر ، مجرد أنها تراجعه.

في بعض الروايات قال: (فتناولت قضيباً فضربتها، وقلت لها: أتراجعينني؟ قالت: ولِمَ لا أراجعك؟ وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وليس هذا فقط، بل ويهجرنه اليوم حتى الليل) وهذا يبين لك أثر القدوة.

وقد تعبر كلمة واحدة عن مكنون ما في النفس، على سبيل المثال مرة وفي بعض المؤتمرات في بعض البلاد رجل نيف على التسعين عاماً، معه عصا يتوكأ عليها، وذهب إلى هذا المؤتمر، وبعد ذلك قال: أيها الناس! اسمعوني.. رفع العصا، وقال: العصا هذه معوجّة من أين؟ قالوا له: من فوق. قال لهم: السلام عليكم.

هذا الذي أراد أن يقوله، ومضى الرجل بعد أن أوصل رسالة مهمة إلى أذهان الحاضرين.

القدوة له أثر عظيم في استقامة المجتمع، إن الله تبارك وتعالى حكم عدل، إذا كان الرأس صالحاً رزقه الله مرءوسين صالحين، وإذا كان فاسداً رزقه فاسدين، هذه من السنن الكونية التي لا تتخلف، والله عز وجل لا يحابي أحداً من عباده.

فامرأة عمر بن الخطاب تقول له: لِمَ تنكر وأزواج النبي -اللاتي هن القدوة- يفعلن كذا وكذا؟! (يراجعنه، بل ويهجرنه اليوم حتى الليل) ولم تقل: ويهجرنه الليل حتى الصبح؛ لأن هذا لا يجوز، ولا تقع فيه واحدة من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن المرأة إذا باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح، إنما الواحدة منهن كانت تغاضب النبي عليه الصلاة والسلام من أول النهار إلى آخر النهار.