فهرس الكتاب
الصفحة 136 من 536

قَوْلُهُ:"خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ".

ش: خَلَقَ: أَيْ: أَوْجَدَ وَأَنْشَأَ وَأَبْدَعَ. وَيَأْتِي خَلَقَ أَيْضًا بِمَعْنَى: قَدَّرَ. وَالْخَلْقُ: مَصْدَرٌ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَقَوْلُهُ: بِعِلْمِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: خَلَقَهُمْ عَالِمًا بِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [سورة الْمُلْكِ: 14] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [سورة الْأَنْعَامِ: 59, 60] . وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ.

قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ صَاحِبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَلِيسُهُ، فِي كِتَابِ"الْحَيْدَةِ"1، الَّذِي حَكَى فِيهِ مُنَاظَرَتَهُ بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ عِنْدَ الْمَأْمُونِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى: فَقَالَ بِشْرٌ: أَقُولُ: لَا يَجْهَلُ، فَجَعَلَ يُكَرِّرُ السُّؤَالَ عَنْ صِفَةِ الْعِلْمِ، تَقْرِيرًا لَهُ، وَبِشْرٌ يَقُولُ: لَا يَجْهَلُ، وَلَا يَعْتَرِفُ لَهُ أَنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ، فَقَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: نَفْيُ الْجَهْلِ لَا يكون صفة مدح، فإن هذه الأسطوانة لا تجهل، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْعِلْمِ، لَا بِنَفْيِ الْجَهْلِ, فَمَنْ أَثْبَتَ الْعِلْمَ فَقَدْ نَفَى الْجَهْلَ، وَمَنْ نَفَى الْجَهْلَ لَمْ يُثْبِتِ الْعِلْمَ، وَعَلَى الْخَلْقِ أَنْ يُثْبِتُوا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ، وَيَنْفُوا مَا نَفَاهُ، وَيُمْسِكُوا عَمَّا أَمْسَكَ عَنْهُ.

وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى علمه تعالى: أنه يستحيل إيجاده الأشياء بالجهل، وَلِأَنَّ إِيجَادَهُ الْأَشْيَاءَ بِإِرَادَتِهِ، وَالْإِرَادَةُ تَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَ الْمُرَادِ، وَتَصَوُّرُ الْمُرَادِ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ، فَكَانَ الْإِيجَادُ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِرَادَةِ، وَالْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةً لِلْعِلْمِ، فَالْإِيجَادُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ. وَلِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ مَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْفَاعِلِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ2؛ وَلِأَنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ عَالِمٌ، وَالْعِلْمُ صِفَةُ كَمَالٍ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَالِقُ عَالِمًا. وَهَذَا لَهُ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْخَالِقَ أَكْمَلُ من المخلوق، وأن

1 قلت: في ثبوت نسبة الكتاب للمكي نظر، راجع"الحاشية: 142".

2 في الأصل: العالم.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام