الصفحة 12 من 56

ثم انظر كيف ردّت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حُسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عزّ وجلّ: {ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقوْمٍ يُوقِنون} .

قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: (ينكر اللهُ على من خرج من حكم الله المُحْكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شرّ، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهكم وأهوائهم، وكما يحكم به التتارُ من السياسات الملكية المأخوذة عن مَلِكهم"جنكيز خان"الذي وضع لهم كتابًا مجموعًا من أحكامٍ قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بَنيهِ شرعا مُتّبعا يقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافرٌ يجب قتاله حتى يرجعَ إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحَكِّم سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الجاهليةِ يَبْغون} . أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. {ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يوقِنونَ} . أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لِمَن عَقَل عن الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلِم أنّ الله أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء، العادل في كل شيء) انتهى قول الحافظ ابن كثير.

وقد قال عزّ شأنه قبل ذلك مخاطبا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: {وأَنِ احْكُمْ بَيْنهُم بما أنزل اللهُ ولا تَتَّبِعْ أهْواءهُم عَمّا جاءَك مِن الحقّ} .

وقال تعالى: {وأنِ احْكُمْ بَيْنهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ واحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إليك} .

وقال تعالى مُخيرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، بين الحُكم بين اليهود والإعراض عنهم إنْ جاءُوه لذلك: {فَإنْ جاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم أوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإنْ تَعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ} . والقسط هو: العدل، ولا عدل حقا إلاّ حُكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور، والظلم، والضلال، والكفر، والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرون} {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظالِمُون} {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقون} .

فانظر كيف سجّل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل اللهُ الكفرَ والظلمَ والفسوقَ، ومِن الممتنع أنْ يُسمِّي اللهُ سبحانه الحاكمَ بغير ما أنزل اللهُ كافرًا ولا يكون كافرًا، بل كافرٌ مطلقًا، إمّا كفر عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدلُّ أنّ الحاكم بغير ما أنزل اللهُ كافرٌ إمّا كفرُ اعتقادٍ ناقلٌ عن الملّة، وإمّا كفرُ عملٍ لا ينقلُ عن الملّة.

أمّا الأول: وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:

أحدها:

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام