سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْوِلْدَانِ , فِي الْجَنَّةِ هُمْ ؟ قَالَ : " حَسْبُكَ مَا اخْتَصَمَ فِيهِ مُوسَى وَالْخَضِرُ "
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ , نا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذٍ الْعَدْلُ , نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي , نا أَبُو الْوَلِيدِ , نا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ , عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ , قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْوِلْدَانِ , فِي الْجَنَّةِ هُمْ ؟ قَالَ : حَسْبُكَ مَا اخْتَصَمَ فِيهِ مُوسَى وَالْخَضِرُ وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ الثَّابِتَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَمْرَهُمْ مَوْكُولٌ إِلَى مَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ , وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ مَعْنَاهُ عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ , وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ , أَوْ عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ , وَعَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ دَلَّ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ , أَوْ عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الْخِلْقَةُ . وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ الْبَيَانُ أَنْ لَا حُكْمَ لِلطِّفْلِ فِي نَفْسِهِ , إِنَّمَا حُكْمُهُ بِأَبَوَيْهِ , وَأَرَادَ حُكْمَ الدُّنْيَا , لَا حُكْمَ الْآخِرَةِ , ثُمَّ يَكُونُ حُكْمُ الْآخِرَةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ آخِرَ الْخَبَرِ وَذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ , وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ , أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ مِنَ الْبَشَرِ فِي أَوَّلِ مَبْدَإِ الْخِلْقَةِ , وَأَصْلِ الْجِبِلَّةِ عَلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ , وَالطَّبْعِ الْمُتَهِيِّئِ لِقَبُولِ الدِّينِ فَلَوْ تُرِكَ عَلَيْهَا وَخَلَّى سَبِيلَهُ لَاسْتَمَرَّ عَلَى لُزُومِهَا , وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا , وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ مَوْجُودٌ حُسْنُهُ فِي الْعُقُولِ وَيُسْرُهُ فِي النُّفُوسِ , وَإِنَّمَا يَعْدِلُ عَنْهُ مَنْ يَعْدِلُ إِلَى غَيْرِهِ , وَيُؤْثِرُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ آفَاتِ النُّفُوسِ النُّشُوءُ وَالتَّقْلِيدُ , فَلَوْ سَلِمَ الْمَوْلُودُ مِنْ تِلْكَ الْآفَاتِ لَمْ يَعْتَقِدْ غَيْرَهُ وَلَمْ يَخْتَرْ عَلَيْهِ مَا سِوَاهُ , ثُمَّ تَمَثَّلَ بِأَوْلَادِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي اتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ , وَالْمَيْلِ إِلَى أَدْيَانِهِمْ , فَيَنْزِلُونَ بِذَلِكَ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ , وَعَنِ الْمَحَجَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ , وَحَاصِلُ الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى هَذَا الدِّينِ , وَالْإِخْبَارُ عَنْ مَحَلِّهِ مِنَ الْعُقُولِ , وَحُسْنِ مَوْقِعِهِ مِنَ النُّفُوسِ , وَلَيْسَ مِنْ إِيجَابِ حُكْمِ الْإِيمَانِ لِلْمَوْلُودِ سَبِيلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ الشَّيْخُ : وَإِلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَقَوْلُهُ : {{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }} يُرِيدُ مَا وَصَفَهُ فِي عُقُولِهِمْ مِنْ إِمْكَانِ مَعْرِفَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْسِهِ بِهَا , وَيَكُونُ الْمَعْنَى : الْزَمْ مَا فِي عَقْلِكَ مِنْ هَذَا , وَلَا تُخَالِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ : {{ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ }} أَيْ : لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يُبَدِّلَ مَا رَكَّبَ اللَّهُ فِي النَّاسِ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ آلَةُ التَّمْيِيزِ وَالْمَعْرِفَةِ , وَالْحُجَّةُ بِهِ قَائِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ كَفَرَ وَأَشْرَكَ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ , وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ نَفْسَ الْإِسْلَامِ لَكَانَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ : {{ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ }} رَاجِعًا إِلَيْهِ , وَلَنَاقَضَ ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَفْطُورًا عَلَى الْإِسْلَامِ , وَكَانَ الْإِسْلَامُ هُوَ الْمُرَادُ بِفِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا , ثُمَّ هَوَّدَهُ أَبَوَاهُ أَوْ نَصَّرَاهُ أَوْ مَجَّسَاهُ فَقَدْ بَدَّلَا مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَاللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ يَقُولُ : {{ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ }} وَفِي هَذَا مَا أَبَانَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِفِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ , لَكِنْ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ دَلَالَةِ الْعَقْلِ وَهِيَ الَّتِي لَا يَتَهَيَّأُ لِأَحَدٍ تَبْدِيلُهَا , وَإِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ كَانَتْ هِيَ بِحَالَةِ حُجَّةٍ عَلَيْهِ وَدَاعِيَةٌ لَهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ