حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ : " كَانَتِ الْعَمَالِيقُ وَهُمْ وُلَاةُ الْحُكْمِ بِمَكَّةَ فَضَيَّعُوا حُرْمَةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَاسْتَحَلُّوا فِيهِ أُمُورًا عِظَامًا ، وَنَالُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَنَالُونَ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَمُوقٌ ، فَقَالَ : يَا قَوْمِ ، أَبْقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ وَسَمِعْتُمْ مَنْ هَلَكَ مِنْ صَدْرِ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ قَوْمَ هُودٍ ، وَصَالِحٍ ، وَشُعَيْبٍ ، فَلَا تَفْعَلُوا وَتَوَاصَلُوا فَلَا تَسْتَخِفُّوا بِحَرَمِ اللَّهِ وَمَوْضِعِ بَيْتِهِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ وَالْإِلْحَادَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ مَا سَكَنَهُ أَحَدٌ قَطُّ فَظَلَمَ فِيهِ وَأَلْحَدَ إِلَّا قَطَعَ اللَّهُ دَابِرَهُمْ ، وَاسْتَأْصَلَ شَأْفَتَهُمْ ، وَبَدَّلَ أَرْضَهَا غَيْرَهُمْ ، حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ بَاقِيَةٌ . فَلَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ ، وَتَمَادَوْا فِي هَلَكَةِ أَنْفُسِهِمْ . قَالُوا : ثُمَّ إِنَّ جُرْهُمًا وَقَطُورَا خَرَجُوا سَيَّارَةً مِنَ الْيَمَنِ ، وَأَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ عَلَيْهِمْ ، فَسَارُوا بِذَرَارِيِّهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَقَالُوا : نَطْلُبُ مَكَانًا فِيهَا وَمَرْعًى تَسْمَنُ فِيهِ مَاشِيَتُنَا ، وَإِنْ أَعْجَبَنَا أَقَمْنَا فِيهِ ، فَإِنَّ كُلَّ بِلَادٍ يَنْزِلُهَا أَحَدٌ وَمَعَهُ ذُرِّيَّتُهُ وَمَالُهُ فَهِيَ وَطَنُهُ ، وَإِلَّا رَجَعْنَا إِلَى بَلَدِنَا . فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ وَجَدُوا فِيهَا مَاءً طَيِّبًا ، وَعِضَاهًا مُلْتَفَّةً مِنْ سَلَمٍ وَسَمُرٍ ، وَنَبَاتًا يُسْمِنُ مَوَاشِيَهُمْ ، وَسَعَةً مِنَ الْبِلَادِ ، وَدِفْئًا مِنَ الْبَرْدِ فِي الشِّتَاءِ ، فَقَالُوا : إِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ يَجْمَعُ لَنَا مَا نُرِيدُ . فَأَقَامُوا مَعَ الْعَمَالِيقِ ، وَكَانَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ قَوْمٌ إِلَّا وَلَهُمْ مَلِكٌ يُقِيمُ أَمْرَهُمْ ، وَكَانَ ذَلِكَ سُنَّةً فِيهِمْ وَلَوْ كَانُوا نَفَرًا يَسِيرًا ، فَكَانَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو مَلِكً جُرْهُمٍ وَالْمُطَاعَ فِيهِمْ ، وَكَانَ السَّمَيْدَعُ مَلِكَ قَطُورَا ، فَنَزَلَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو أَعْلَى مَكَّةَ ، وَكَانَ يَعْشُرُ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا ، وَكَانَ حَوْزُهُمْ وَجْهَ الْكَعْبَةِ وَالرُّكْنَ الْأَسْوَدَ وَالْمَقَامَ وَمَوْضِعَ زَمْزَمَ مُصْعِدًا يَمِينًا وَشِمَالًا وَقُعَيْقِعَانَ إِلَى أَعْلَى الْوَادِي ، وَنَزَلَ السَّمَيْدَعُ أَسْفَلَ مَكَّةَ وَأَجْيَادِينَ ، وَكَانَ يَعْشُرُ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ أَسْفَلِهَا ، وَكَانَ حَوْزُهُمُ الْمَسْفَلَةَ ظَهْرَ الْكَعْبَةِ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْغَرْبِيَّ وَأَجْيَادِينَ وَالثَّنِيَّةَ إِلَى الرَّمْضَةِ ، فَبَنَيَا فِيهَا الْبُيُوتَ وَاتَّسَعَا فِي الْمَنَازِلِ ، وَكَثُرُوا عَلَى الْعَمَالِيقِ ، فَنَازَعَتْهُمُ الْعَمَالِيقُ ، فَمَنَعَتْهُمْ جُرْهُمٌ ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْحَرَمِ كُلِّهِ ، فَكَانُوا فِي أَطْرَافِهِ لَا يَدْخُلُونَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ صَاحِبُهُمْ عَمُوقٌ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَا تَسْتَخِفُّوا بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ ، فَغَلَبْتُمُونِي . فَجَعَلَ مُضَاضٌ وَالسَّمَيْدَعُ يُقْطِعَانِ الْمَنَازِلَ لِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِمَا مِنْ قَوْمِهِمَا ، وَكَثُرُوا وَرَبَلُوا ، وَأَعْجَبَتْهُمُ الْبِلَادُ ، وَكَانُوا قَوْمًا عَرَبًا ، وَكَانَ اللِّسَانُ عَرَبِيًّا ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَزُورُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَلَمَّا سَمِعَ لِسَانَهُمْ وَإِعْرَابَهُمْ سَمِعَ لَهُمْ كَلَامًا حَسَنًا ، وَرَأَى قَوْمًا عَرَبًا ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ قَدْ أَخَذَ بِلِسَانِهِمْ ، أَمَرَ إِسْمَاعِيلَ أَنْ يَنْكِحَ فِيهِمْ ، فَخَطَبَ إِلَى مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو ابْنَتَهُ رِعْلَةَ ، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَشَرَةُ ذُكُورٍ ، وَهِيَ أُمُّ الْبَيْتِ ، وَهِيَ زَوْجَتُهُ الَّتِي غَسَلَتْ رَأْسَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى الْمَقَامِ . قَالُوا : وَتُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ وَدُفِنَ فِي الْحِجْرِ ، وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدْ دُفِنَتْ فِي الْحِجْرِ أَيْضًا ، وَتَرَكَ وَلَدًا مِنْ رِعْلَةَ ابْنَةِ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيِّ ، فَقَامَ مُضَاضٌ بِأَمْرِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَكَفَلَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ بَنُو ابْنَتِهِ ، فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُ جُرْهُمٍ يَعْظُمُ بِمَكَّةَ وَيَسْتَفْحِلُ حَتَّى وَلُوا الْبَيْتَ ، فَكَانُوا وُلَاتَهُ وَحُجَّابَهُ وَوُلَاةَ الْأَحْكَامِ بِمَكَّةَ ، فَجَاءَ سَيْلٌ فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَانْهَدَمَ ، فَأَعَادَتْهُ جُرْهُمٌ عَلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَكَانَ طُولُهُ فِي السَّمَاءِ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : كَانَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ لِجُرْهُمٍ أَبُو الْجَدَرَةِ ، فَسُمِّيَ عَمْرٌو الْجَادِرَ ، وَسُمُّوا بَنِي الْجَدَرَةِ . قَالَ : ثُمَّ إِنَّ جُرْهُمًا اسْتَخَفُّوا بِأَمْرِ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ ، وَارْتَكَبُوا أُمُورًا عِظَامًا ، وَأَحْدَثُوا فِيهَا أَحْدَاثًا لَمْ تَكُنْ ، فَقَامَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فِيهِمْ ، فَقَالَ : يَا قَوْمِ ، احْذَرُوا الْبَغْيَ ، فَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لِأَهْلِهِ ، قَدْ رَأَيْتُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْعَمَالِيقِ ، اسْتَخَفُّوا بِالْحَرَمِ فَلَمْ يُعَظِّمُوهُ ، وَتَنَازَعُوا بَيْنَهُمْ وَاخْتَلَفُوا حَتَّى سَلَّطَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَخْرَجْتُمُوهُمْ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ ، فَلَا تَسْتَخِفُّوا بِحَقِّ الْحَرَمِ وَحُرْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ ، وَلَا تَظْلِمُوا مَنْ دَخَلَهُ وَجَاءَهُ مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ ، أَوْ آخَرَ جَاءَ بَايِعًا لِسِلْعَتِهِ أَوْ مُرْتَغِبًا فِي جِوَارِكُمْ ، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ تَخَوَّفْتُ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْهُ خُرُوجَ ذُلٍّ وَصَغَارٍ ، حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْحَرَمِ ، لَا إِلَى زِيَارَةِ الْبَيْتِ الَّذِي لَكُمْ حِرْزٌ وَأَمْنٌ ، وَالطَّيْرُ يَأْمَنُ فِيهِ . قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مُجَدَّعٌ : مَنِ الَّذِي يُخْرِجُنَا مِنْهُ ؟ أَلَسْنَا أَعَزَّ الْعَرَبِ وَأَكْثَرَهُمْ رِجَالًا وَسِلَاحًا ؟ فَقَالَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو : إِذَا جَاءَ الْأَمْرُ بَطَلَ مَا تَقُولُونَ . فَلَمْ يُقْصِرُوا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا كَانُوا يَصْنَعُونَ ، وَكَانَ لِلْبَيْتِ خِزَانَةُ بِئْرٍ فِي بَطْنِهِ يُلْقَى فِيهَا الْحُلِيُّ وَالْمَتَاعُ الَّذِي يُهْدَى لَهُ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لَا سَقْفَ لَهُ ، فَتَوَاعَدَ لَهُ خَمْسَةُ نَفَرٍ مِنْ جُرْهُمٍ أَنْ يَسْرِقُوا مَا فِيهِ ، فَقَامَ عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ رَجُلٌ مِنْهُمْ ، وَاقْتَحَمَ الْخَامِسُ ، فَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ ، وَسَقَطَ مُنَكَّسًا فَهَلَكَ ، وَفَرَّ الْأَرْبَعَةُ الْآخَرُونَ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ مُسِحَتِ الْأَرْكَانُ الْأَرْبَعَةُ ، وَقَدْ بَلَغَنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ اللَّهِ مَسَحَ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ كُلَّهَا أَيْضًا ، وَبَلَغَنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ آدَمَ مَسَحَ قَبْلَ ذَلِكَ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَاوَلُوا سَرِقَةَ مَا فِي خِزَانَةِ الْكَعْبَةِ مَا كَانَ بَعَثَ اللَّهُ حَيَّةً سَوْدَاءَ الظَّهْرِ ، بَيْضَاءَ الْبَطْنِ ، رَأْسُهَا مِثْلُ رَأْسِ الْجَدْيِ ، فَحَرَسَتِ الْبَيْتَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ ، لَا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ إِلَّا أَهْلَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَرُومَ سَرِقَةَ مَا كَانَ فِي الْكَعْبَةِ ، فَلَمَّا أَرَادَتْ قُرَيْشٌ بِنَاءَ الْبَيْتِ مَنَعَتْهُمُ الْحَيَّةُ هَدْمَهُ ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اعْتَزَلُوا عِنْدَ الْمَقَامِ ، ثُمَّ دَعَوُا اللَّهَ تَعَالَى ، فَقَالُوا : اللَّهُمَّ رَبَّنَا إِنَّمَا أَرَدْنَا عِمَارَةَ بَيْتِكَ . فَجَاءَ طَيْرٌ أَسْوَدُ الظَّهْرِ ، أَبْيَضُ الْبَطْنِ ، أَصْفَرُ الرِّجْلَيْنِ ، فَأَخَذَهَا فَاحْتَمَلَهَا حَتَّى أَدْخَلَهَا أَجْيَادًا . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ جُرْهُمًا لَمَّا طَغَتْ فِي الْحَرَمِ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٌ يُقَالُ لَهُمَا إِسَافٌ وَنَائِلَةُ الْبَيْتَ ، فَفَجَرَا فِيهِ ، فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَجَرَيْنِ ، فَأُخْرِجَا مِنَ الْكَعْبَةِ ، فَنُصِبَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ؛ لِيَعْتَبِرَ بِهِمَا مَنْ رَآهُمَا ، وَلِيَزْدَجِرَ النَّاسُ عَنْ مِثْلِ مَا ارْتَكَبَا ، فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمَا يَدْرُسُ وَيَتَقَادَمُ حَتَّى صَارَا صَنَمَيْنِ يُعْبَدَانِ "
حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ : كَانَتِ الْعَمَالِيقُ وَهُمْ وُلَاةُ الْحُكْمِ بِمَكَّةَ فَضَيَّعُوا حُرْمَةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَاسْتَحَلُّوا فِيهِ أُمُورًا عِظَامًا ، وَنَالُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَنَالُونَ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَمُوقٌ ، فَقَالَ : يَا قَوْمِ ، أَبْقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ وَسَمِعْتُمْ مَنْ هَلَكَ مِنْ صَدْرِ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ قَوْمَ هُودٍ ، وَصَالِحٍ ، وَشُعَيْبٍ ، فَلَا تَفْعَلُوا وَتَوَاصَلُوا فَلَا تَسْتَخِفُّوا بِحَرَمِ اللَّهِ وَمَوْضِعِ بَيْتِهِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ وَالْإِلْحَادَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ مَا سَكَنَهُ أَحَدٌ قَطُّ فَظَلَمَ فِيهِ وَأَلْحَدَ إِلَّا قَطَعَ اللَّهُ دَابِرَهُمْ ، وَاسْتَأْصَلَ شَأْفَتَهُمْ ، وَبَدَّلَ أَرْضَهَا غَيْرَهُمْ ، حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ بَاقِيَةٌ . فَلَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ ، وَتَمَادَوْا فِي هَلَكَةِ أَنْفُسِهِمْ . قَالُوا : ثُمَّ إِنَّ جُرْهُمًا وَقَطُورَا خَرَجُوا سَيَّارَةً مِنَ الْيَمَنِ ، وَأَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ عَلَيْهِمْ ، فَسَارُوا بِذَرَارِيِّهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَقَالُوا : نَطْلُبُ مَكَانًا فِيهَا وَمَرْعًى تَسْمَنُ فِيهِ مَاشِيَتُنَا ، وَإِنْ أَعْجَبَنَا أَقَمْنَا فِيهِ ، فَإِنَّ كُلَّ بِلَادٍ يَنْزِلُهَا أَحَدٌ وَمَعَهُ ذُرِّيَّتُهُ وَمَالُهُ فَهِيَ وَطَنُهُ ، وَإِلَّا رَجَعْنَا إِلَى بَلَدِنَا . فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ وَجَدُوا فِيهَا مَاءً طَيِّبًا ، وَعِضَاهًا مُلْتَفَّةً مِنْ سَلَمٍ وَسَمُرٍ ، وَنَبَاتًا يُسْمِنُ مَوَاشِيَهُمْ ، وَسَعَةً مِنَ الْبِلَادِ ، وَدِفْئًا مِنَ الْبَرْدِ فِي الشِّتَاءِ ، فَقَالُوا : إِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ يَجْمَعُ لَنَا مَا نُرِيدُ . فَأَقَامُوا مَعَ الْعَمَالِيقِ ، وَكَانَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ قَوْمٌ إِلَّا وَلَهُمْ مَلِكٌ يُقِيمُ أَمْرَهُمْ ، وَكَانَ ذَلِكَ سُنَّةً فِيهِمْ وَلَوْ كَانُوا نَفَرًا يَسِيرًا ، فَكَانَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو مَلِكً جُرْهُمٍ وَالْمُطَاعَ فِيهِمْ ، وَكَانَ السَّمَيْدَعُ مَلِكَ قَطُورَا ، فَنَزَلَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو أَعْلَى مَكَّةَ ، وَكَانَ يَعْشُرُ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا ، وَكَانَ حَوْزُهُمْ وَجْهَ الْكَعْبَةِ وَالرُّكْنَ الْأَسْوَدَ وَالْمَقَامَ وَمَوْضِعَ زَمْزَمَ مُصْعِدًا يَمِينًا وَشِمَالًا وَقُعَيْقِعَانَ إِلَى أَعْلَى الْوَادِي ، وَنَزَلَ السَّمَيْدَعُ أَسْفَلَ مَكَّةَ وَأَجْيَادِينَ ، وَكَانَ يَعْشُرُ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ أَسْفَلِهَا ، وَكَانَ حَوْزُهُمُ الْمَسْفَلَةَ ظَهْرَ الْكَعْبَةِ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْغَرْبِيَّ وَأَجْيَادِينَ وَالثَّنِيَّةَ إِلَى الرَّمْضَةِ ، فَبَنَيَا فِيهَا الْبُيُوتَ وَاتَّسَعَا فِي الْمَنَازِلِ ، وَكَثُرُوا عَلَى الْعَمَالِيقِ ، فَنَازَعَتْهُمُ الْعَمَالِيقُ ، فَمَنَعَتْهُمْ جُرْهُمٌ ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْحَرَمِ كُلِّهِ ، فَكَانُوا فِي أَطْرَافِهِ لَا يَدْخُلُونَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ صَاحِبُهُمْ عَمُوقٌ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَا تَسْتَخِفُّوا بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ ، فَغَلَبْتُمُونِي . فَجَعَلَ مُضَاضٌ وَالسَّمَيْدَعُ يُقْطِعَانِ الْمَنَازِلَ لِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِمَا مِنْ قَوْمِهِمَا ، وَكَثُرُوا وَرَبَلُوا ، وَأَعْجَبَتْهُمُ الْبِلَادُ ، وَكَانُوا قَوْمًا عَرَبًا ، وَكَانَ اللِّسَانُ عَرَبِيًّا ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَزُورُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَلَمَّا سَمِعَ لِسَانَهُمْ وَإِعْرَابَهُمْ سَمِعَ لَهُمْ كَلَامًا حَسَنًا ، وَرَأَى قَوْمًا عَرَبًا ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ قَدْ أَخَذَ بِلِسَانِهِمْ ، أَمَرَ إِسْمَاعِيلَ أَنْ يَنْكِحَ فِيهِمْ ، فَخَطَبَ إِلَى مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو ابْنَتَهُ رِعْلَةَ ، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَشَرَةُ ذُكُورٍ ، وَهِيَ أُمُّ الْبَيْتِ ، وَهِيَ زَوْجَتُهُ الَّتِي غَسَلَتْ رَأْسَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى الْمَقَامِ . قَالُوا : وَتُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ وَدُفِنَ فِي الْحِجْرِ ، وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدْ دُفِنَتْ فِي الْحِجْرِ أَيْضًا ، وَتَرَكَ وَلَدًا مِنْ رِعْلَةَ ابْنَةِ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيِّ ، فَقَامَ مُضَاضٌ بِأَمْرِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَكَفَلَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ بَنُو ابْنَتِهِ ، فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُ جُرْهُمٍ يَعْظُمُ بِمَكَّةَ وَيَسْتَفْحِلُ حَتَّى وَلُوا الْبَيْتَ ، فَكَانُوا وُلَاتَهُ وَحُجَّابَهُ وَوُلَاةَ الْأَحْكَامِ بِمَكَّةَ ، فَجَاءَ سَيْلٌ فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَانْهَدَمَ ، فَأَعَادَتْهُ جُرْهُمٌ عَلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَكَانَ طُولُهُ فِي السَّمَاءِ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : كَانَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ لِجُرْهُمٍ أَبُو الْجَدَرَةِ ، فَسُمِّيَ عَمْرٌو الْجَادِرَ ، وَسُمُّوا بَنِي الْجَدَرَةِ . قَالَ : ثُمَّ إِنَّ جُرْهُمًا اسْتَخَفُّوا بِأَمْرِ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ ، وَارْتَكَبُوا أُمُورًا عِظَامًا ، وَأَحْدَثُوا فِيهَا أَحْدَاثًا لَمْ تَكُنْ ، فَقَامَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فِيهِمْ ، فَقَالَ : يَا قَوْمِ ، احْذَرُوا الْبَغْيَ ، فَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لِأَهْلِهِ ، قَدْ رَأَيْتُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْعَمَالِيقِ ، اسْتَخَفُّوا بِالْحَرَمِ فَلَمْ يُعَظِّمُوهُ ، وَتَنَازَعُوا بَيْنَهُمْ وَاخْتَلَفُوا حَتَّى سَلَّطَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَخْرَجْتُمُوهُمْ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ ، فَلَا تَسْتَخِفُّوا بِحَقِّ الْحَرَمِ وَحُرْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ ، وَلَا تَظْلِمُوا مَنْ دَخَلَهُ وَجَاءَهُ مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ ، أَوْ آخَرَ جَاءَ بَايِعًا لِسِلْعَتِهِ أَوْ مُرْتَغِبًا فِي جِوَارِكُمْ ، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ تَخَوَّفْتُ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْهُ خُرُوجَ ذُلٍّ وَصَغَارٍ ، حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْحَرَمِ ، لَا إِلَى زِيَارَةِ الْبَيْتِ الَّذِي لَكُمْ حِرْزٌ وَأَمْنٌ ، وَالطَّيْرُ يَأْمَنُ فِيهِ . قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مُجَدَّعٌ : مَنِ الَّذِي يُخْرِجُنَا مِنْهُ ؟ أَلَسْنَا أَعَزَّ الْعَرَبِ وَأَكْثَرَهُمْ رِجَالًا وَسِلَاحًا ؟ فَقَالَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو : إِذَا جَاءَ الْأَمْرُ بَطَلَ مَا تَقُولُونَ . فَلَمْ يُقْصِرُوا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا كَانُوا يَصْنَعُونَ ، وَكَانَ لِلْبَيْتِ خِزَانَةُ بِئْرٍ فِي بَطْنِهِ يُلْقَى فِيهَا الْحُلِيُّ وَالْمَتَاعُ الَّذِي يُهْدَى لَهُ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لَا سَقْفَ لَهُ ، فَتَوَاعَدَ لَهُ خَمْسَةُ نَفَرٍ مِنْ جُرْهُمٍ أَنْ يَسْرِقُوا مَا فِيهِ ، فَقَامَ عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ رَجُلٌ مِنْهُمْ ، وَاقْتَحَمَ الْخَامِسُ ، فَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ ، وَسَقَطَ مُنَكَّسًا فَهَلَكَ ، وَفَرَّ الْأَرْبَعَةُ الْآخَرُونَ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ مُسِحَتِ الْأَرْكَانُ الْأَرْبَعَةُ ، وَقَدْ بَلَغَنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ اللَّهِ مَسَحَ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ كُلَّهَا أَيْضًا ، وَبَلَغَنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ آدَمَ مَسَحَ قَبْلَ ذَلِكَ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَاوَلُوا سَرِقَةَ مَا فِي خِزَانَةِ الْكَعْبَةِ مَا كَانَ بَعَثَ اللَّهُ حَيَّةً سَوْدَاءَ الظَّهْرِ ، بَيْضَاءَ الْبَطْنِ ، رَأْسُهَا مِثْلُ رَأْسِ الْجَدْيِ ، فَحَرَسَتِ الْبَيْتَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ ، لَا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ إِلَّا أَهْلَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَرُومَ سَرِقَةَ مَا كَانَ فِي الْكَعْبَةِ ، فَلَمَّا أَرَادَتْ قُرَيْشٌ بِنَاءَ الْبَيْتِ مَنَعَتْهُمُ الْحَيَّةُ هَدْمَهُ ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اعْتَزَلُوا عِنْدَ الْمَقَامِ ، ثُمَّ دَعَوُا اللَّهَ تَعَالَى ، فَقَالُوا : اللَّهُمَّ رَبَّنَا إِنَّمَا أَرَدْنَا عِمَارَةَ بَيْتِكَ . فَجَاءَ طَيْرٌ أَسْوَدُ الظَّهْرِ ، أَبْيَضُ الْبَطْنِ ، أَصْفَرُ الرِّجْلَيْنِ ، فَأَخَذَهَا فَاحْتَمَلَهَا حَتَّى أَدْخَلَهَا أَجْيَادًا . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ جُرْهُمًا لَمَّا طَغَتْ فِي الْحَرَمِ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٌ يُقَالُ لَهُمَا إِسَافٌ وَنَائِلَةُ الْبَيْتَ ، فَفَجَرَا فِيهِ ، فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَجَرَيْنِ ، فَأُخْرِجَا مِنَ الْكَعْبَةِ ، فَنُصِبَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ؛ لِيَعْتَبِرَ بِهِمَا مَنْ رَآهُمَا ، وَلِيَزْدَجِرَ النَّاسُ عَنْ مِثْلِ مَا ارْتَكَبَا ، فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمَا يَدْرُسُ وَيَتَقَادَمُ حَتَّى صَارَا صَنَمَيْنِ يُعْبَدَانِ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ دَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَتِهِمَا ، وَقَالَ لِلنَّاسِ : إِنَّمَا نُصِبَا هَاهُنَا أَنَّ آبَاءَكُمْ وَمَنْ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمَا . وَإِنَّمَا أَلْقَاهُ إِبْلِيسُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ فِيهَا شَرِيفًا سَيِّدًا مُطَاعًا ، مَا قَالَ لَهُمْ فَهُوَ دِينٌ مُتَّبَعٌ . قَالَ : ثُمَّ حَوَّلَهُمَا قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَوَضَعَهُمَا يُذْبَحُ عِنْدَهُمَا وِجَاهَ الْكَعْبَةِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِي نَسَبِهِمَا ، فَقَالَ قَائِلٌ : إِسَافُ بْنُ بَغَا ، وَنَائِلَةُ بِنْتُ ذِئْبٍ . فَالَّذِي ثَبَتَ عِنْدَنَا مِنْ ذَلِكَ عَمَّنْ نَثِقُ بِهِ مِنْهُمْ ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ ، كَانَ يَقُولُ : هُوَ إِسَافُ بْنُ سُهَيْلٍ ، وَنَائِلَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ ذِيبٍ . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّهُ لَمْ يَفْجُرْ بِهَا فِي الْبَيْتِ ، وَإِنَّمَا قَبَّلَهَا . قَالُوا : فَلَمْ يَزَالَا يُعْبَدَانِ حَتَّى كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ ، فَكُسِّرَا ، وَكَانَتْ مَكَّةُ لَا يَقَرُّ فِيهَا ظَالِمٌ وَلَا بَاغٍ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا نُفِيَ مِنْهَا ، وَكَانَ نَزَلَهَا بِعَهْدِ الْعَمَالِيقِ وَجُرْهُمٍ جَبَابِرَةٌ ، فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ الْبَيْتَ بِسُوءٍ أَهْلَكَهُ اللَّهُ ، فَكَانَتْ تُسَمَّى بِذَلِكَ الْبَاسَّةَ