• 214
  • عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ رَوْحَةٌ ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا "

    حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ رَوْحَةٌ ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا

    لغدوة: الغَدْوة : المرّة من الغُدُوّ، وهو سير أوّل النهار
    روحة: الروحة : السير بعد الزوال
    " لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ رَوْحَةٌ ، خَيْرٌ مِنَ

    [1880] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) الْغَدْوَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ السَّيْرُ أَوَّلَ النهار إلى الزوال والروحة السير من الزوال إلى آخر النهار وأو هُنَا لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلشَّكِّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرَّوْحَةَ يَحْصُلُ بِهَا هَذَا الثَّوَابُ وَكَذَا الْغَدْوَةُ وَالظَّاهِرُ أنه لايختص ذَلِكَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ مِنْ بَلْدَتِهِ بَلْ يَحْصُلُ هَذَا الثَّوَابُ بِكُلِّ غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ فِي طريقه إلى الغزو وكذا غدوه وَرَوْحَةٍ فِي مَوْضِعِ الْقِتَالِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يُسَمَّى غَدْوَةً وَرَوْحَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فَضْلَ الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَثَوَابَهُمَا خَيْرٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا كُلِّهَا لو ملكها انسان وَتَصَوَّرَ تَنَعُّمَهُ بِهَا كُلِّهَا لِأَنَّهُ زَائِلٌ وَنَعِيمَ الْآخِرَةِ بَاقٍ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ وَمَعْنَى نَظَائِرِهِ مِنْ تَمْثِيلِأمور الآخرة وثوابها بأمور الدنيا أنها خيرمن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ مَلَكَهَا إِنْسَانٌ وَمَلَكَ جَمِيعَ مَا فِيهَا وَأَنْفَقَهُ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ وَلَيْسَ تَمْثِيلُ الْبَاقِي بِالْفَانِي عَلَى ظَاهِرِ إِطْلَاقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

    [1880] لغدوة بِفَتْح الْغَيْن وَهِي السّير أول النَّهَار إِلَى الزَّوَال أَو رَوْحَة هِيَ السّير من الزَّوَال إِلَى آخر النَّهَار قَالَ النَّوَوِيّ وأو هُنَا للتقسيم لَا للشَّكّ وَمَعْنَاهُ أَن الروحة يحصل بهَا هَذَا الثَّوَاب وَكَذَا الغدوة قَالَ وَالظَّاهِر أَنه لَا يخْتَص ذَلِك بالغدوة أَو الرواح من بلدته بل يحصل ذَلِك بِكُل غدْوَة وروحة فِي طَرِيقه إِلَى الْغَزْو وَكَذَا فِي مَوَاضِع الْقِتَال لِأَن الْجَمِيع يُسمى غدْوَة وروحة فِي سَبِيل الله تَعَالَى خير من الدُّنْيَا أَي ثَوَابهَا أفضل من نعيم الدُّنْيَا كلهَا لَو ملكهَا إِنْسَان وتصور تنعمه بهَا كلهَا لِأَنَّهُ زائل ونعيم الْآخِرَة بَاقٍ قَالَ الْقُرْطُبِيّ وَهَذَا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا هُوَ على مَا اسْتَقر فِي النُّفُوس من تَعْظِيم ملك الدُّنْيَا وَأما على التَّحْقِيق فَلَا تدخل الْجنَّة مَعَ الدُّنْيَا تَحت أفعل إِلَّا كَمَا يُقَال الْعَسَل أحلى من الْخلّ وَقد قيل إِن معنى ذَلِك أَن ثَوَاب الغدوة والروحة أفضل من الدُّنْيَا لَو ملكهَا مَالك فأنفقها فِي وجهوه الْبر وَالطَّاعَة غير الْجِهَاد قَالَ وَهَذَا أليق وَالْأول أسبق

    عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
    المعنى العام:
    خلف الله بني آدم وفيهم نوازع الخير، ونوازع الشر. {ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس:
    7-8]
    وكلفه بمحاربة نوازع الشر، وتغليب نوازع الخير، ليكافح في دنياه، فيسعد في أخراه، وهذا هو الجهاد الأكبر، جهاد النفس، وجهاد الشيطان، {قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها} [الشمس:
    9-10]
    وعلى الرغم من هبة العقل، ومعرفته الخير والشر، فإن الله تعالى يرسل رسلا بين الحين والحين، لتعيد للإنسانية شيئا من توازنها، بعد أن يتغلب عليها جهلها وشهواتها {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165]، ويحدثنا القرآن الكريم أنه كلما جاء أمة رسولها كذبوه وحاربوه، فكان انتقام الله من المكذبين بالصيحة أو الصاعقة أو الطوفان أو الحجارة أو الخسف أو المسخ، وكانت وظيفة الرسل في الأعم الأغلب الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة، فإذا يئس من قومه بعد نفاد صبره دعا ربه، فتولى سبحانه وتعالى الانتقام من المكذبين، وكانت دعوات الرسل محلية، ووقتية، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا للعالمين في كل زمان ومكان أراد لدعوته أن تنتشر وأن تستمر عن طريق جهاد من آمن ضد من لم يؤمن. وكما هو الشأن مع الرسل السابقين قوبلت دعوة الإسلام بالتكذيب من أهلها وقومها الأولين، فكان نصيب محمد صلى الله عليه وسلم الإيذاء بشتى صنوف الإيذاء، وكان نصيب من آمن به التعذيب الذي يلجئه إلى ترك وطنه وأهله وماله وكل ما يملك فرارا بدينه إلى الحبشة مرتين ثم إلى المدينة، ولما وصلت المواجهة بين الرسالة وبين أعدائها إلى تبييت الأعداء لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم فهاجر إلى المدينة، وفرضت هجرة من آمن إلى المدينة، حتى تم التجمع الإسلامي، والدولة الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وأحس المهاجرون بقدرتهم على استرداد بعض أموالهم من مشركي مكة، أذن الله لهم بالقتال بقوله {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 49، 40] فبدأت الحروب بين المسلمين والمشركين، وكان لا بد من تشجيع الجهاد والقتال، وكان حتما أن توضع قوانين الحروب وقواعدها، وأن تندفع جند الله نحو النصر بالإعداد المسلح والقوة النفسية، ونزل {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم} [الأنفال: 60]. {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون* الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} [الأنفال: 65، 66]. {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال: 15]. {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق} [محمد: 4]. {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} [التوبة: 14]. وجاءت الأحاديث بفضل الجهاد في سبيل الله، وأن الله قد ضمن للمجاهد دخول الجنة، مكفرا ذنوبه وسيئاته، كما وعده إن رجع سالما رجع بأجر عظيم، أو بأجر عظيم وغنيمة من أموال الكفار، حلال للمجاهدين، ورغب صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها وبشر من يجرح في سبيل الله بجزاء أخروي كبير، وأنه سيكون صاحب علامة يعرفها أهل الجنة، حيث يأتي يوم القيامة، وجرحه كهيئته يوم جرح شكلا وصورة، جرحه يتفجر دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، وقد وعد الله الشهداء بالجنة العالية، حيث قال {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة: 111] وأخبر جل شأنه عن الشهداء بقوله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران: 16
    9- 170]
    وقال صلى الله عليه وسلم أرواحهم في جوف طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش إن النعيم والجزاء الذي يراه الشهيد يعد خير ما يتمنى، حتى إذا سأله ربه: ماذا تتمنى أكثر مما عندك؟ يقول: لا أتمنى أكثر مما أكرمتني به، فإذا ما كرر عليه السؤال، ولم يجد بدا من أن يتمنى، قال: أتمنى أن أرجع إلى الدنيا لأقتل في سبيلك مرة ثانية وثالثة وعاشرة، حتى أحصل عن كل مرة مثل ما حصلت عليه. وهكذا نرى الجهاد أفضل الأعمال الصالحة، وأكثرها ثوابا، وأعلاها درجة عند الله. جمعنا الله بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. المباحث العربية (تضمن الله لمن خرج في سبيله) في الرواية الثانية تكفل الله لمن جاهد في سبيله وعند البخاري انتدب الله لمن خرج في سبيله أي سارع بثوابه وحسن جزائه، وقيل: معناه أجاب إليه، وقيل: معناه تكفل بالمطلوب، وعند البخاري أيضا توكل الله والمعنى في الكل واحد، أي أوجب على نفسه والتزم له بالجنة، بفضله وكرمه سبحانه وتعالى، وهذا الضمان والكفالة موافق لقوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ جهادا بالنصب، وكذا قال بعده وإيمانا بي، وتصديقا وهو منصوب على أنه مفعول له، وتقديره: لا يخرجه مخرج ولا يحركه محرك إلا الجهاد لي، أي لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى. اهـ. وفي هذا التوجيه تعسف، أخف منه أن الخطأ من الناسخين، إذ جميع الروايات في الأصول الأخرى وفي البخاري بالرفع، وهو الموافق للقواعد النحوية، وفي الرواية الثانية لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله، وتصديق بكلمته وكذا في البخاري لا يخرجه إلا إيمان بي، وتصديق برسلي وفي رواية له لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته فالاستثناء مفرغ، والكلام ناقص منفي، والمستثنى هنا فاعل يخرج مرفوع. وفي الرواية الأولى التفات، وانتقال من الغيبة إلى التكلم، والمراد من تصديق كلمته في الرواية الثانية كلمة الشهادتين، فالتصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم تصديق بما جاء به، ومنه الوعد بأجر المجاهد، وقيل: المراد به تصديق الأخبار التي جاءت بثواب المجاهد. (فهو علي ضامن أن أدخله الجنة) قال النووي: ذكروا في ضامن هنا وجهين: أحدهما: أنه بمعنى مضمون كما في ماء دافق ومدفوق، والثاني أنه بمعنى ذو ضمان. اهـ. (أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة) ونحو هذا في الرواية الثانية، وعند البخاري وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة أي بأن يدخله الجنة إن توفاه، وفي رواية الطبراني إن توفاه بإن الشرطية، وهو أوضح، وقد استشكل على هذا أن ظاهره أنه إذا غنم لا يحصل له أجر، ولا يصح ذلك. وفي توجيه: قولان: الأول: أن العبارة فيها حذف يفرضه المقام، والأصل أو غنيمة معها أجر، والمعنى أن يرجعه إلى مسكنه سالما مع أجر فقط؛ إن لم يغنم شيئا، أو مع غنيمة وأجر؛ إن رجع بغنيمة، وإنما سكت عن الأجر مع الغنيمة، لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بدون غنيمة، لأن القواعد تقتضي أن الأجر عند عدم الغنيمة أفضل وأتم منه عند الغنيمة. فالحديث صريح في نفي الحرمان، وليس صريحا في نفي الجمع، ومع هذا القول الكرماني، إذ يقول: معنى الحديث أن المجاهد إما أن يستشهد، أو لا، والثاني لا ينفك من أجر أو غنيمة، مع إمكان اجتماعهما، فهي قضية مانعة الخلو، لا الجمع. الثاني: أن أو بمعنى الواو، وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي، والتقدير: بأجر وغنيمة، وهي بالواو في رواية للنسائي ولأبي داود، ويعترض على هذا الرأي بأنه يلزمه أن يكون الضمان وقع بمجموع الأمرين لكل من رجع، وليس الواقع كذلك، فإن كثيرا من الغازين يرجع بدون غنيمة. وقد انتصر الحافظ ابن حجر للقول الأول، وأطنب في الترجيح، بما سنذكره في فقه الحديث. (والذي نفس محمد بيده) صيغة من الحلف الذي استعمله صلى الله عليه وسلم كثيرا، قال القاضي: واليد هنا بمعنى القدرة والملك. (ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه مسك) ما من كلم بفتح الكاف وسكون اللام، وهو الجرح، ويكلم بضم الياء وفتح اللام بينهما كاف ساكنة، مبني للمجهول، وحين كلم بضم الكاف وكسر اللام، مبني للمجهول أيضا، وإلا جاء يوم القيامة كهيئته في الصورة، كشهادة على فضل صاحبه، وإعلان لكرامته، وأنه بذل نفسه في طاعة الله تعالى، قال العلماء: والظاهر أن المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه، قبل اندماله، لا ما يندمل في الدنيا، فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول، ولا يمنع أن يكون للجرح المندمل في سبيل الله أجر وفضل في الجملة، لكن الذي يجيء يوم القيامة يتفجر دما من فارق الدنيا وجرحه كذلك، ويؤيده ما جاء عند ابن حبان بلفظ عليه طابع الشهداء ومعنى كهيئته أي في كمية الدم وسيلانه، فلا ينقص منه شيء بطول العهد، وفي قوله وريحه مسك على التشبيه، وفي الرواية الثالثة إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب بفتح الياء والعين وإسكان الثاء، ومعناه يجري متفجرا، أي كثيرا، وفي الرواية الرابعة كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله في سبيل الله خبر المبتدأ، أي كل جرح يجرحه المسلم له به أجر، كقوله ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب -حتى الشوكة يشاكها إلا كان له به أجر فيشمل جروح القتال في معارك الكفار، وغيرها من جروح الدنيا، أو خبر المبتدأ محذوف، تقديره: مأجور، وعند الترمذي وصححه وابن حبان والحاكم من جرح جرحا في سبيل الله، أو نكب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة، كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك قال الحافظ ابن حجر فعرف بهذه الزيادة أو نكب نكبة أن مجيئها يوم القيامة على الهيئة المذكورة لا يختص بالشهيد، بل هي حاصلة لكل من جرح. اهـ. ثم تكون يوم القيامة كهيئتها أي ثم تجيء هذه الجروح الدنيوية كهيئتها إذا طعنت أي كهيئتها وقت طعنها، قال النووي إذا بالألف بعد الذال -كذا في جميع النسخ. اهـ. أي واستعملت إذا التي هي ظرف للمستقبل، بدل إذ التي للماضي تفجر دما جملة حالية، وتفجر أصله تتفجر بتاءين، حذفت إحداهما تخفيفا. اللون لون دم، والعرف عرف المسك والعرف بفتح العين وسكون الراء بعدها فاء، الرائحة. (لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا) السرية قطعة صغيرة من الجيش، وقد بعث صلى الله عليه وسلم كثيرا من السرايا، تعرضنا لها في عدد السرايا والبعوث والغزوات، وفي الرواية الرابعة لولا أن أشق على المؤمنين ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله. (ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني) هذا تعليل وبيان لسبب أن يصيبه صلى الله عليه وسلم مشقة إذا خرج مع السرايا، وحاصل العذر أن المسلمين يحرصون على مصاحبته صلى الله عليه وسلم في حربه مع الكفار، لأمرين: الأول أنهم من داخل نفوسهم يحبونه حبا أعلى من حبهم لأنفسهم، ويفدونه بأرواحهم، فخوفهم عليه يجعلهم لا يتخلفون عنه، الأمر الثاني قوله تعالى {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة: 120]. مع هذا الحرص على الخروج معه صلى الله عليه وسلم كان الكثيرون منهم فقراء، لا يملكون ما ينفقون على أنفسهم في السفر، ولا يجدون دابة تحملهم إلى المسافات البعيدة، ولا يملك الرسول صلى الله عليه وسلم وأغنياء الصحابة ما يقوم بنفقاتهم ووسائل نقلهم، فيشق عليهم عدم الخروج معه صلى الله عليه وسلم، ويشق عليه صلى الله عليه وسلم مشقتهم، يقول جل شأنه {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 91، 92] هذه هي الحالة المانعة من خروجه صلى الله عليه وسلم مع كل سرية أرسلها، وفي الرواية الرابعة لولا أن أشق على المؤمنين، ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله وفي ملحق الرواية الرابعة لولا أن أشق على أمتي لأحببت ألا أتخلف خلف سرية..... وفي رواية البخاري تغدو في سبيل الله بالدال من الغدو، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي. وفي رواية للبخاري ولا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني وفي الرواية الأولى ويشق عليهم أن يتخلفوا عني وفي رواية الطبراني ولو خرجت ما بقي أحد فيه خير، إلا انطلق معي، وذلك يشق علي وعليهم وفي رواية ويشق علي أن يتخلفوا عني فإن قيل: لقد خرج صلى الله عليه وسلم في الغزوات، وتخلف عنه هؤلاء الذين لا يجدون، ولم يمتنع من أجلهم؟ قلنا: إن ذلك من باب تقديم المصلحة الأهم، على المصلحة المهمة. (والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل) وفي ملحق الرواية الرابعة والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا فقوله لوددت جواب القسم، وقوله في رواية البخاري ولوددت أني أقتل بحذف القسم، هو على قسم مقدر. وفائدة ذكر هذه الجملة بعد ما قبلها إرادة تسلية الخارجين في السرايا بدونه، فراعى خواطر الجميع، قال القاضي: واليد هنا بمعنى القدرة والملك. (ما من نفس تموت، لها عند الله خير، يسرها أنها ترجع إلى الدنيا، ولا أن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد) معنى لها عند الله خير أي ثقلت موازينها، وزاد خيرها على شرها، وكانت من أهل الجنة، وذلك احتراز عن قول الكافر {رب ارجعون* لعلي أعمل صالحا} [المؤمنون: 9
    9- 100]
    ومعنى ولا أن لها الدنيا وما فيها أي لا يسرها أن لها الدنيا وما فيها، وفي الرواية السابعة ما من أحد يدخل الجنة، يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيء غير الشهيد. قال النووي: أما سبب تسمية الشهيد شهيدا فقال النضر بن شميل: لأنه حي، فإن أرواحهم شهدت وحضرت دار السلام، وأرواح غيرهم نشهدها يوم القيامة. اهـ. فهو شاهد مشاهد، فعيل بمعنى فاعل. وقال ابن الأنباري: إن الله تعالى وملائكته ونبيه عليه الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة، ففعيل بمعنى مفعول، وقيل: لأنه عند خروج روحه يشهد ما أعده الله تعالى له، ففعيل بمعنى اسم الفاعل، وقيل: لأن ملائكة الرحمة يشهدونه، فيأخذون روحه، فهو مشهود، وقيل: لأنه يشهد له بالإيمان وخاتمة الخير، بظاهر حاله، فهو مشهود له، وقيل: لأن عليه شاهدا بكونه شهيدا، وهو الدم، وقيل: لأنه ممن يشهد على الأمم يوم القيامة بإبلاغ الرسل الرسالة إليهم، وعلى هذا القول الأخير يشارك الشهداء غيرهم في هذا الوصف. اهـ. (ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟) أي ماذا من الأعمال الفاضلة يساوي الجهاد في سبيل الله في الأجر والثواب؟ (لا تستطيعونه) أي هو موجود، لكنه غير مستطاع لكم، وفي بعض النسخ لا تستطيعوه بحذف النون، قال النووي: وهو صحيح أيضا على لغة فصيحة، تحذف النون من غير ناصب ولا جازم. اهـ. وفي رواية البخاري جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد. قال: لا أجده أي لا أجده مستطاعا قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر؟ وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟. (كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله) يقال: قنت بفتح النون، يقنت بضمها، قنوتا، أطاع الله، وخضع له، وأقر بالعبودية، وأطال الدعاء، زاد النسائي الخاضع الراكع الساجد وعند ابن حبان كمثل الصائم القائم الدائم، الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع وعند أحمد والبزار كمثل الصائم نهاره، القائم ليله وشبه حال المجاهد في سبيل الله بحال الصائم القائم في نيل الثواب في كل حركة وسكون، لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة، فأجره مستمر، وكذلك المجاهد، لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب. (وهو يوم الجمعة) أي وهذا النقاش كان يوم الجمعة، وفي بعض النسخ وذلك يوم الجمعة. {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الآخر} {وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله} وظاهر الآية تشبيه الفعل بالفاعل، السقاية والعمارة بمن آمن وجاهد، وذلك لا يحسن، فيقدر محذوف إما في جانب الصفة، أي أجعلتم أهل سقاية الحاج، وإما في جانب الذات، أي أجعلتم السقاية والعمارة كإيمان وجهاد من آمن وجاهد؟ والاستفهام للإنكار التوبيخي، أي لا ينبغي أن تجعلوهما كذلك، ثم صرح بعد الاستواء لا يستوون عند الله ولما كان الادعاء أن السقاية والعمارة أفضل، ونفيت المساواة نفيت الأفضلية المدعاة من باب أولى، ثم أثبت تعالى أفضلية الجهاد بقوله {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} [التوبة: 20]. (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) اللام في جواب قسم محذوف، والغدوة بفتح الغين المرة الواحدة من الغدو، وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه، والروحة بفتح الراء المرة الواحدة من الرواح، وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها. والمراد من سبيل الله الجهاد، وأو هنا للتقسيم، لا للشك، قال ابن دقيق العيد في خير من الدنيا وما فيها يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المغيب منزلة المحسوس، تحقيقا له في النفس، لكون الدنيا محسوسة في النفس، مستعظمة في الطباع، فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة، والثاني: أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله. اهـ. وعند البخاري كما في الرواية الرابعة عشرة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت وهي بمعنى خير من الدنيا وما فيها. (ففعل، ثم قال: وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) ففعل أي فأعاد من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وجبت له الجنة ثم قال: وفضيلة أخرى لعمل آخر، صفتها كيت وكيت. قال القاضي عياض عن قوله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض: يحتمل أن هذا على ظاهره، وأن الدرجات هنا المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر، وهذه صفة منازل الجنة، كما جاء في أهل الغرف، أنهم يتراءون كالكواكب الدرية، قال: ويحتمل أن المراد الرفعة في المعنى، من كثرة النعيم، وعظيم الإحسان، مما لم يخطر على قلب بشر، وأن أنواع ما ينعم الله عليه به، من البر والكرامة يتفاضل تفاضلا كثيرا، ويكون تباعده في الفضل كما بين السماء والأرض في البعد. قال: والاحتمال الأول أظهر. (وأنت صابر محتسب) المحتسب هو المخلص لله تعالى، يقال: احتسب الأجر على الله، أي حسبه وادخره عنده، قال النووي: فإن قاتل لعصبية أو لغنيمة أو لصيت أو نحو ذلك فليس له هذا الثواب ولا غيره. (مقبل غير مدبر) غير مدبر تأكيد لمقبل، وقال النووي: لعله احتراز ممن يقبل في وقت، ويدبر في وقت. (كيف قلت؟) طلب لإعادة السؤال بذاته وبهيئته وكيفيته إعجابا بالسؤال، وليعيد الجواب المهم. (سألنا عبد الله) قال النووي: قال المازري: كذا جاء عبد الله غير منسوب، قال أبو علي الغساني: ومن الناس من ينسبه، فيقول: عبد الله بن عمرو. وذكره أبو مسعود الدمشقي في مسند ابن مسعود، قال القاضي عياض: ووقع في بعض النسخ من صحيح مسلم عبد الله بن مسعود قال النووي: وكذا وقع في بعض نسخ بلادنا المعتمدة، ولكن لم يقع منسوبا في معظمها، وذكره خلف الواسطي والحميدي وغيرهما في مسند ابن مسعود. وهو الصواب. (أما إنا سألنا عن ذلك) رسول الله صلى الله عليه وسلم. (أرواحهم في جوف طير خضر) طير جمع، مثل طيور، كأنه قال: في أجواف طيور، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، أي روح كل واحد منهم في جوف طائر أخضر. قال القاضي عياض: وقد اختلف الناس في الروح. ما هي؟ اختلافا لا يكاد يحصر، فقال كثير من أرباب المعاني وعلم الباطن المتكلمين: لا تعرف حقيقته، ولا يصح وصفه، وهو مما جهل العباد علمه، واستدلوا بقوله تعالى {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] وغالت الفلاسفة، فقالت بعدم الروح -أي فنائها- وقال جمهور الأطباء: هو البخار اللطيف الساري في البدن، وقال كثيرون من شيوخنا: هو الحياة، وقال آخرون: هي أجسام لطيفة مشابكة للجسم، يحيى لحياته، أجرى الله تعالى العادة بموت الجسم عند فراقه، وقيل: هو بعض الجسم، ولهذا وصف بالخروج والقبض وبلوغ الحلقوم، وهذه صفات الأجسام لا المعاني، وقال بعض متقدمي أئمتنا: هو جسم لطيف متصور على صورة الإنسان داخل الجسم، وقال بعض مشايخنا وغيرهم: إنه النفس الداخل والخارج، وقال آخرون: هو الدم. قال النووي: هذا ما نقله القاضي، والأصح عند أصحابنا أن الروح أجسام لطيفة متخللة في البدن، فإذا فارقته مات، قال القاضي: واختلفوا في النفس والروح، فقيل: هما بمعنى، وهما لفظان لمسمى واحد، وقيل: إن النفس هي النفس الداخل والخارج، وقيل: هي الدم، وقيل: هي الحياة. قال القاضي: وقال هنا أرواح الشهداء وقال في حديث مالك إنما نسمة المؤمن والنسمة تطلق على ذات الإنسان، جسما وروحا، وتطلق على الروح مفردة، وهو المراد بها في هذا التفسير في الحديث الآخر بالروح، ولعلمنا بأن الجسم يفنى، ويأكله التراب، ولقوله في الحديث حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم القيامة. قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث في جوف طير خضر وفي غير مسلم بطير خضري وفي حديث آخر بحواصل طير وفي الموطأ إنما نسمة المؤمن طير وفي حديث آخر في صورة طير أبيض ثم قال: ولا فرق بين الأمرين، بل رواية طير أو جوف طير أصح معنى، وليس للأقبسة والعقول في هذا حكم، وكله من المجوزات، فإذا أراد الله أن يجعل هذه الروح إذا خرجت من المؤمن أو الشهيد في قناديل، أو في أجواف طير، أو حيث يشاء كان ذلك، ووقع، ولم يبعد، لا سيما مع القول بأن الأرواح أجسام. قال القاضي: وقيل: إن هذا المنعم أو المعذب من الأرواح جزء من الجسد، تبقى فيه الروح، وهو الذي يتألم ويعذب، ويلتذ وينعم، وهو الذي يقول رب ارجعون وهو الذي يسرح في شجر الجنة، فغير مستحيل أن يصور هذا الجزء طائرا، أو يجعل في جوف طائر، وفي قناديل تحت العرش، وغير ذلك مما يريد الله عز وجل. (لها قناديل معلقة بالعرش) اللام في لها لام الاختصاص، أو الملكية. والقناديل جمع قنديل بكسر القاف، وهو مصباح كالكوب، في وسطه فتيل، يملأ بالماء والزيت ويشعل. (ثم تأوي إلى تلك القناديل) كأنها المنازل التي تقيم فيها. (فاطلع إليهم ربهم اطلاعة) أي نظرة رحمة وعطف. (ففعل ذلك بهم ثلاث مرات) أي فقال لهم ذلك القول هل تشتهون شيئا ثلاث مرات، كل مرة يقول، ويجيبون بالجواب نفسه. (فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا) يتركوا مبني للمجهول، أي لن يتركهم الله من غير أن يطلبوا طلبا، طلبوا طلبا. (فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا) أن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة بعدها خبرها، وتركوا بالبناء للمجهول، أي تركهم الله تعالى، دون تحقيق مطلبهم لأنه مستحيل، إذ سبق القول عنده أن لا رجعة. (أي الناس أفضل) قال: رجل يجاهد...إلخ. قال القاضي: هذا عام مخصوص، وتقديره هذا من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل، وكذلك الصديقون. (مؤمن في شعب من الشعاب) الشعب بكسر الشين انفراج بين جبلين، واختيار الشعب لأنه في الأغلب يكون خاليا من الناس، فالمقصود البعد عن الناس. (يعبد ربه، ويدع الناس من شره) في رواية البخاري مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره وفي رواية معتزل في شعب، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور الناس، وفي الرواية الثانية والعشرين يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه، حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير. (من خير معاش الناس لهم) المعاش هو العيش، وهو الحياة، والمعنى من خير أحوال عيشة الناس رجل... (رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه) أي يسارع على ظهره. (كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه) أي كلما سمع صوتا ينذر بالعدو، والهيعة بفتح الهاء وإسكان الياء كل صوت يفزع، والفزعة بإسكان الزاي النهوض إلى العدو. (يبتغي القتل والموت مظانه) أي في مظانه ومواطنه التي يرجى فيها، لشدة رغبته في الشهادة. (أو رجل في غنيمة) بضم الغين وفتح النون، تصغير غنم، أي في مجموعة قليلة من الغنم. (على رأس شعفة من هذه الشعف) الشعفة بفتح الشين والعين والفاء أعلى الجبل، وجمعها شعف، بفتحات، وشعاف بكسر الشين، وشعوف بضم الشين. فقه الحديث يمكن حصر نقاط الباب في ثلاث نقاط: الأولى: فضل الجهاد [الخروج للغزو، والرباط في سبيل الله] وحكم الجهاد، وأجر المجاهد، والجمع بين أحاديث فضله، وأحاديث فضل غيره. الثانية: الشهادة، فضلها -وفضل الإصابة في القتال. الثالثة: ما يؤخذ من الأحاديث. أولا: فضل الجهاد: أما عن فضل الجهاد ففي الرواية الأولى تضمن الله لمن خرج في سبيله -لا يخرجه إلا جهادا في سبيله، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة....والذي نفس محمد بيده. لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني ونحوها في الرواية الثانية والرابعة والخامسة. وفي الرواية الثامنة قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله وفي الرواية التاسعة أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟ وفي الرواية العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها خير مما طلعت عليه الشمس وغربت. وفي الرواية الخامسة عشرة وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله. وفي الرواية السادسة عشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله، أفضل الأعمال. وفي الرواية المتممة للعشرين أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أفضل؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه وفي الرواية الواحدة والعشرين أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله. أما فضل الرباط في سبيل الله فعنه تقول الرواية الثانية والعشرين من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانه. قال النووي: في الحديث عظم فضل الجهاد، لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات الله أفضل الأعمال، وقد جعل المجاهد مثل من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات، ومعلوم أن هذا لا يتأتى لأحد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: لا تستطيعونه. وقال النووي: والجهاد فرض كفاية، لا فرض عين. وقال الحافظ ابن حجر: للناس في الجهاد حالان. إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والأخرى بعده، فأما الأولى فأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقا، ثم بعد أن شرع. هل كان فرض عين؟ أو فرض كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء، وهما في مذهب الشافعي، وقال الماوردي: كان فرض عين على المهاجرين، دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح، في حق كل من أسلم، إلى المدينة، لنصر الإسلام، وقال السهيلي: كان فرض عين على الأنصار، دون غيرهم، ويؤيده مبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، على أن يؤيدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصروه، فيخرج من قولهما أنه كان فرض عين على الطائفتين، فرض كفاية في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء، ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر، وقيل: كان فرض عين في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها، والتحقيق أنه كان فرض عين على من عينه النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم الحال الثاني بعده صلى الله عليه وسلم، فهو فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه، كأن يدهم العدو، ويتعين على من عينه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم أن الجزية تجب بدلا عنه، ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا، فليكن بدلها كذلك، وقيل: يجب كلما أمكن، وهو قوي. والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد، وانتشر الإسلام في أقطار الأرض، ثم صار إلى ما تقدم ذكره، والتحقيق أيضا أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم، إما بيده، وإما بلسانه، وإما بماله، وإما بقلبه. اهـ. فظاهر هذه الأحاديث أن الجهاد أفضل الطاعات، لكن يشكل عليه ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله. فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني مما يدل على أن الصلاة على مواقيتها وبر الوالدين أفضل من الجهاد؛ وما رواه البخاري من حديث ابن عباس مرفوعا ما العمل في أيام، أفضل منه في هذه -يعني الأيام العشر- قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء مما يدل على أن العمل في عشر ذي الحجة مقدم على الجهاد بالنفس فقط، أو المال فقط، أو بهما مع العودة، وما أخرجه الترمذي وأحمد وصححه والحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا ألا أنبئكم بخير أعمالكم؟ وأزكاها عند مليككم؟ وأرفعها في درجاتكم؟ وخير لكم من إنفاق الذهب والورق؟ وخير لكم من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله مما يدل على أن الذكر بمجرده أفضل من أبلغ ما يقع للمجاهد، وأفضل من الإنفاق، مع ما في الجهاد والنفقة من النفع المتعدي. وأفضل جواب عن هذا الإشكال أن هذه الأعمال الفاضلة تختلف درجات كل منها باختلاف الظروف والأحوال، ففي زمن يحتاج المسلمون فيه إلى الجهاد يكون الجهاد أفضل، وفي وقت يكون للشخص والدان محتاجان للبر مع ضعف الحاجة إلى المجاهدين يكون البر أفضل، وفي وقت لا يحتاج إلى الجهاد ولا إلى البر تكون الصلاة في مواقيتها، وفي وقت المحافظة على الصلاة في مواقيتها يكون الذكر أفضل، ثم إن كل واحد من هذه الأعمال لا يكون أفضل بإطلاق، بل سيتأثر فضله بدرجة الإخلاص ودرجة الأداء ودرجة التضحية والمشقة، ونحو ذلك، فقد يسبق درهم ألف درهم، كما في الحديث، فدرهم من لا يملك سوى درهمين أفضل من ألف درهم ممن يملك الملايين، فإن تساوت جهات الفضل فيها فأفضلها الجهاد لا ريب، ففيه تضحية بالنفس، وفيه النفع المتعدي إلى المسلمين جميعا وإلى الإسلام، وبخاصة إذا كان خالصا لله تعالى، وكان بالنفس والمال فلم يرجع بشيء. وقد اختلفوا في أجر المجاهد يرجع بغنيمة، أو يرجع بدون غنيمة، هل أجره واحد؟ أو مختلف؟ والقواعد الشرعية تقتضي أن أجره عند عدم الغنيمة أفضل وأتم منه مع الغنيمة، وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا ما من غازية تغزو في سبيل الله، فيصيبون الغنيمة، إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم وسيأتي هذا الحديث في باب خاص بعنوان: باب ثواب من غزا فغنم ومن غزا فلم يغنم. قال الحافظ ابن حجر: وهذا يؤيد أن الذي يغنم يرجع بأجر، لكنه أنقص من أجر من لم يغنم، فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجر الغزو، وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح فمنا من مات، ولم يأكل من أجره شيئا قال الحافظ: وقد استشكل بعضهم نقص ثواب المجاهد بأخذه الغنيمة، وهو مخالف لما يدل عليه أكثر الأحاديث، وقد اشتهر تمدح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنيمة، وجعلها من فضائل أمته، فلو كانت تنقص الأجر ما وقع التمدح بها، وأيضا فإن ذلك يستلزم أن يكون أجر أهل بدر -لأنهم غنموا الأسرى الذين أخذ منهم الفداء- أنقص من أجر أهل أحد مثلا، مع أن أهل بدر أفضل بالاتفاق، قال: ومن الناس من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها، وفساد هذا الوجه ظاهر، إذ لو كان الأمر كذلك لم يبق لهم ثلث الأجر، ولا أقل منه، ومنهم من حمل نقص الأجر على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده، وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضا، وفيه نظر، لأن صدر الحديث مصرح بأن المقسم راجع إلى من أخلص، لقوله في أوله لا يخرجه إلا إيمان بي، وتصديق برسلي واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره، لحزنه على ما فاته من الغنيمة، كما يؤجر من أصيب في ماله، فكان الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عند ذلك كالنقص من أجل الأجر. وذكر بعض المتأخرين حكمة لطيفة بالغة للتعبير بثلثي الأجر في حديث عبد الله بن عمرو، وذلك أن الله أعد للمجاهدين ثلاث كرامات، دنيويتان وأخروية، فالدنيويتان السلامة والغنيمة، والأخروية دخول الجنة، فإذا رجع سالما غانما فقد حصل له ثلثا ما أعد الله له، وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع بغير غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابا، في مقابلة ما فاته، وكأن معنى الحديث أنه يقال للمجاهد: إذا فات عليك شيء من أمر الدنيا عوضتك عنه ثوابا، وأما الثواب المختص بالجهاد فهو حاصل للفريقين معا. قال: وغاية ما فيه عد ما يتعلق بالنعمتين الدنيويتين أجرا، بطريق المجاز. وأجاب ابن دقيق العيد عن إشكال أهل بدر بأن التقابل ينبغي أن يكون بين كمال الأجر ونقصانه لمن يغزو بنفسه، إذا لم يغنم، أو يغزو فيغنم، فغايته أن حال أهل بدر مثلا عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها، ولا ينفي ذلك أن يكون حالهم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة. ولا يلزم من كونهم مغفورا لهم، وأنهم أفضل المجاهدين ألا يكون وراءهم مرتبة أخرى، ودرجة أعلى من درجتهم. وأكد الحافظ ابن حجر هذا المعنى ووضحه، فقال: لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرا مما لو لم يحصل لهم الغنيمة أن يكونوا في حال أخذ الغنيمة مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم كما شهد أحدا، لكونهم لم يغنموا شيئا، بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده، وإنما امتاز أهل بدر بذلك لكونها أول غزوة شهدها النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار، وكانت مبدأ اشتهار الإسلام، وقوة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعا، فصارت لا يوازيها شيء في الفضل، ولهذه النقطة مزيد إيضاح في باب يأتي، بعنوان: باب ثواب من غزا فغنم، ومن غزا فلم يغنم. والله أعلم. النقطة الثانية: الشهادة وفضلها وعن ذلك تقول الرواية السادسة ما من نفس تموت، لها عند الله خير، يسرها أن ترجع إلى الدنيا، ولا أن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع، فيقتل في الدنيا، لما يرى من فضل الشهادة. وتقول الرواية السابعة ما من أحد يدخل الجنة، يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيء، غير الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة. ويقول ملحق الرواية الرابعة والذي نفسي بيده. لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا. وتقول الرواية السادسة عشرة أرأيت إن قتلت في سبيل الله، تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم...وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك وتقول الرواية السابعة عشرة يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين ونحوها في الرواية الثامنة عشرة. وتقول الرواية التاسعة عشرة سألنا عبد الله عن هذه الآية {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا، حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا وعند النسائي والحاكم يؤتى بالرجل من أهل الجنة، فيقول الله تعالى: يا ابن آدم، كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب، خير منزل، فيقول: سل وتمنه، فيقول: ما أسألك وأتمنى؟ أن تردني إلى الدنيا، فأقتل في سبيلك عشر مرات، لما رأى من فضل الشهادة وعند الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه من حديث جابر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: يا عبد الله، تمن علي أعطك. قال: يا رب، تحييني، فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال النووي: في هذه الأحاديث صرائح الأدلة في عظيم فضل الشهادة، وضمان الجنة للشهيد، قال القاضي: يحتمل أن يدخل عند موته الجنة، كما قال تعالى في الشهداء {أحياء عند ربهم يرزقون} وفي الحديث أرواح الشهداء في الجنة ويحتمل أن يكون المراد دخوله الجنة عند دخول السابقين والمقربين بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب، وتكون الشهادة مكفرة لذنبه، كما في رواياتنا السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة. وقال ابن بطال عن حديث تمني الشهداء العودة إلى الدنيا والشهادة مرات: هذا أجل ما في فضل الشهادة، قال: وليس في أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد، فلذلك عظم فيه الثواب. وقال النووي عن أحاديث جرح الشهيد ودمه: فيه دليل على أن الشهيد لا يزول عنه الدم بغسل ولا غيره. والحكمة في مجيئه يوم القيامة على هيئته أن يكون معه شاهد فضيلته، وبذله نفسه في طاعة الله تعالى. قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا المأخذ وهذه الحكمة نظر، لأنه لا يلزم من غسل الدم في الدنيا أن لا يبعث كذلك، ويغني عن الاستدلال لترك غسل الشهيد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: زملوهم بدمائهم. وأما عن فضل الإصابة في القتال فتقول روايتنا الأولى والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه مسك وفي الرواية الثالثة لا يكلم أحد في سبيل الله -والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة، وجرحه يثعب، اللون لون دم، والريح ريح المسك وفي الرواية الرابعة كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله، ثم تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت، تفجر دما، اللون لون دم، والعرف عرف المسك وقد مضى في المباحث العربية قول الحافظ ابن حجر في ذلك. ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم

    1- من قوله في الرواية الأولى لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي وتصديقا برسلي ومن قوله في الرواية الثانية لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته ومن قوله في الرواية الثالثة والله أعلم بمن يكلم في سبيله وجوب الإخلاص في الخروج للجهاد، وأن الثواب المذكور فيه إنما هو لمن أخلص فيه، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

    2- وأن الأعمال بالنيات.

    3- ومن قوله في الرواية الأولى والذي نفس محمد بيده. لولا أن يشق على المسلمين، ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ومثله في الرواية الرابعة وملحقها. يؤخذ منه شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على المسلمين والرأفة بهم، والسعي في زوال المكروه عنهم.
    4- وأنه صلى الله عليه وسلم كان يترك الأفضل، مراعاة للرفق بأمته.
    5- وأنه إذا تعارضت المصالح بدأ بأهمها.
    6- وفيه دليل على جواز اليمين، وانعقادها بقوله والذي نفسي بيده ونحو هذه الصيغة من الحلف بما يدل على الذات، ولا خلاف في هذا. قال النووي: قال أصحابنا: اليمين تكون بأسماء الله تعالى وصفاته، أو ما دل على ذاته.
    7- أن الجهاد على الكفاية، إذ لو كان على الأعيان ما تخلف، وما تخلف أحد.
    8- ومن قوله لوددت أني أغزو في سبيل الله، فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل استحباب طلب القتل في سبيل الله.
    9- وجواز تمني ما يمتنع في العادة. 10- ومن الرواية الثامنة فضيلة الصلاة والصيام والقنوت. 1

    1- أن الفضائل لا تدرك دائما بالقياس، بل هي بفضل الله تعالى. 1

    2- واستعمال التمثيل في الأحكام. 1

    3- وأن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها. 1
    4- ومن الرواية التاسعة كراهة رفع الصوت في المساجد يوم الجمعة وغيره، قال النووي: ولا يرفع الصوت في المسجد بعلم ولا غيره عند اجتماع الناس للصلاة، لما فيه من التشويش عليهم. 1
    5- ومن الرواية السادسة عشرة أن الشهادة تكفر الخطايا. 1
    6- من استثناء الدين تنبيه على أن حقوق الآدميين لا يكفرها الجهاد ولا الشهادة ولا غيرهما من أعمال البر، وإنما تكفر حقوق الله تعالى. 1
    7- ومن الرواية التاسعة عشرة أن الجنة مخلوقة موجودة. قال النووي: وهو مذهب أهل السنة، وهي التي أهبط منها آدم، وهي التي ينعم فيها المؤمنون في الآخرة. هذا إجماع السنة وقالت المعتزلة وطائفة من المبتدعة أيضا وغيرهم: إنها ليست موجودة، وإنما توجد بعد البعث في القيامة. وقالوا: والجنة التي أخرج منها آدم غيرها، وظواهر القرآن والسنة تدل لمذهب أهل الحق. 1
    8- وإثبات مجازاة الأموات بالثواب والعقاب قبل القيامة، لقوله {أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169]. 1
    9- قال القاضي: وفيها أن الأرواح باقية، لا تفنى، فينعم المحسن، ويعذب المسيء، وقد جاء به القرآن والآثار، وهو مذهب أهل السنة، خلافا لطائفة من المبتدعة، قالت: تفنى. قال القاضي: وأما غير الشهداء فإنما يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، وكما قال في آل فرعون {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} [غافر: 46] وقيل: بل المراد جميع المؤمنين الذين يدخلون الجنة بغير عذاب، فيدخلونها الآن، بدليل عموم الحديث، وقيل: بل أرواح المؤمنين على أفنية قبورهم، وقيل المنعم والمعذب قبل البعث جزء من الجسد تبقى فيه الروح، وهو الذي يسرح في شجر الجنة، فغير مستحيل أن يصور هذا الجزء طائرا. 20- قال القاضي: وقد تعلق بحديثنا هذا وشبهه بعض الملاحدة القائلين بالتناسخ، وانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة، وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب، وهذا ضلال بين، وإبطال لما جاءت به الشرائع من الحشر والنشر والجنة والنار. 2

    1- من الرواية المتممة للعشرين والواحدة والعشرين والثانية والعشرين قال النووي: فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط، وفي ذلك خلاف مشهور، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل، بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف أخرى أن الاعتزال أفضل، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص، وقد كانت الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين، فيحصلون منافع الاختلاط -كشهود الجمعة والجماعة والجنازة وعيادة المرضى وحلقات الذكر وغير ذلك. والله أعلم.

    حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ، بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ‏ "‏ لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ‏"‏ ‏.‏

    It has been narrated on the authority of Anas b. Malik that the Messenger of Allah (ﷺ) said:Leaving (for Jihad) in the way of Allah in the morning or in the evening (will merit a reward) better than the world and all that is in it

    D'après Anas Ibn Mâlik (que Dieu l'agrée), le Prophète (paix et bénédiction de Dieu sur lui) a dit : "Une seule matinée ou une seule soirée de marche dans la voie de Dieu vaut mieux que ce bas monde et tout ce qu'il contient

    Telah menceritakan kepada kami [Abdullah bin Maslamah bin Qa'nab] telah menceritakan kepada kami [Hammad bin Salamah] dari [Tsabit] dari [Anas bin Malik] dia berkata, "Rasulullah shallallahu 'alaihi wasallam bersabda: "Keluar di jalan Allah (jihad) di pagi hari atau di sore hari lebih baik dari pada dunia dan seisinya

    Bize Abdullah b. Mesleme b. Ka'neb rivayet etti. (Dediki): Bize Hammâd b. Seleme, Sâbit'den, o da Enes b. Mâlik'den naklen rivayet etti. Şöyle demiş: Resûlullah (Sallallahu Aleyhi ve Sellem): «Allah yolunda bir sabah veya akşam seferi dünyâdan ve bütün dünya varlıklarından daha hayırlıdır.» buyurdular. İzah 1883 te

    حضرت انس بن مالک رضی اللہ عنہ سے روایت ہے کہ رسول اللہ صلی اللہ علیہ وسلم نے فرمایا : " صبح کو یا شام کو ایک بار اللہ کی راہ میں نکلنا دنیا اور جو کچھ اس میں ہے ، اس سے بہتر ہے ۔

    আবদুল্লাহ ইবনু মাসলামাহ্ ইবনু কা'নাব (রহঃ) ..... আনাস (রাযিঃ) হতে বর্ণিত। তিনি বলেন, রসূলুল্লাহ সাল্লাল্লাহু আলাইহি ওয়াসাল্লাম বলেছেনঃ আল্লাহর পথে একটি সকাল অথবা একটি বিকাল অতিবাহিত করা দুনিয়া এবং তার মধ্যে যা কিছু আছে, সে সব কিছুর চেয়ে উত্তম। (ইসলামিক ফাউন্ডেশন ৪৭২০, ইসলামিক সেন্টার)

    அல்லாஹ்வின் தூதர் (ஸல்) அவர்கள் கூறினார்கள்: அல்லாஹ்வின் பாதையில் காலையில் அல்லது மாலையில் (போர் புரியச்) செல்வதானது, இந்த உலகத்தையும் அதிலுள்ளவற்றையும்விடச் சிறந்ததாகும். இதை அனஸ் பின் மாலிக் (ரலி) அவர்கள் அறிவிக்கிறார்கள். அத்தியாயம் :