• 2493
  • عَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ ، ثُمَّ لَا يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ ، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً ، يَلُذْنَ بِهِ ، مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ "

    وحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيُّ ، وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَا : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، عَنْ بُرَيْدٍ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، قَالَ : لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ ، ثُمَّ لَا يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ ، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً ، يَلُذْنَ بِهِ ، مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ بَرَّادٍ وَتَرَى الرَّجُلَ

    يلذن: لاذ بالشيء : لجأ إليه واستتر به وتحصن
    لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ

    [1012] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَطُوفُ الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ مِنَ الذَّهَبِ) إِنَّمَا هَذَا يَتَضَمَّنُ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الذَّهَبُ لَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِغَيْرِهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا فَتَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ الصَّدَقَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ كَوْنُهُ يَعْرِضُهَا وَيَطُوفُ بِهَا وَهِيَ ذَهَبٌ قَوْلُهُ وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ ثُمَّ قال وفي رواية بن بَرَّادٍ وَتَرَى هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْأَوَّلُ يُرَى بِضَمِّ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتَ وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ تَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ) مَعْنَى يَلُذْنَ بِهِ أَيْ يَنْتَمِينَ إِلَيْهِ لِيَقُومَ بِحَوَائِجِهِنَّ وَيَذُبَّ عَنْهُنَّ كَقَبِيلَةٍ بَقِيَ مِنْ رِجَالِهَا وَاحِدٌ فَقَطْ وَبَقِيَتْ نِسَاؤُهَا فَيَلُذْنَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ لِيَذُبَّ عَنْهُنَّ وَيَقُومَ بِحَوَائِجِهِنَّ وَلَا يَطْمَعَ فِيهِنَّ أَحَدٌ بِسَبَبِهِ وَأَمَّا سَبَبُ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ فَهُوَ الْحُرُوبُ وَالْقِتَالُالَّذِي يَقَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَتَرَاكُمُ الْمَلَاحِمِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ أَيِ الْقَتْلُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ وَهُوَ بن عبد الرحمن القارىء) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَارَةِ الْقَبِيلَةِ المَعْرُوفَةِ وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا) مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَهَا وَيُعْرِضُونَ عَنْهَا فَتَبْقَى مُهْمَلَةً لَا تُزْرَعُ وَلَا تُسْقَى مِنْ مِيَاهِهَا وَذَلِكَ لِقِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ الْحُرُوبِ وتراكم الفتن وَقُرْبِ السَّاعَةِ وَقِلَّةِ الْآمَالِ وَعَدَمِ الْفَرَاغِ لِذَلِكَ والِاهْتِمَامِ بِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ) ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَجْوَدُهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا يُهِمَّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَيَكُونُ رَبُّ الْمَالِ مَنْصُوبًا مَفْعُولًا وَالْفَاعِلُ مَنْ وَتَقْدِيرُهُ يُحْزِنُهُ وَيَهْتَمُّ لَهُ وَالثَّانِي يَهُمَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ وَيَكُونُ رَبُّ الْمَالِ مَرْفُوعًا فَاعِلًا وَتَقْدِيرُهُ يَهُمُّ رَبُّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ أَيْ بِقَصْدِهِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ أَهَمَّهُ إِذَا أَحْزَنَهُ وَهَمَّهُ إِذَا أَذَابَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ هَمَّكَ مَا أَهَمَّكَ أَيْ أَذَابَكَ الشَّيْءُ الَّذِي أَحْزَنَكَ فَأَذْهَبَ شَحْمَكَ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي هُوَ مِنْ هَمَّ بِهِ إِذَا قَصَدَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا أَرَبَ لِي فِيهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ أَيْ لَا حَاجَةَ

    [1012] وَيرى الرجل بِضَم الْمُثَنَّاة تَحت يلذن بِهِ قَالَ الْقُرْطُبِيّ أَي يستترن ويحترزن من الملاذ الَّذِي هُوَ الستْرَة قَالَ النَّوَوِيّ أَي ينتمين إِلَيْهِ ليقوم بحوائجهن ويذب عَنْهُن وَفِي رِوَايَة بن براد وَترى الرجل بِفَتْح الْمُثَنَّاة فَوق

    عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحداً يأخذها منه. ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء وفي رواية ابن براد وترى الرجل.
    المعنى العام:
    اكتفينا بما سيذكر في فقه الحديث عن المعنى العام:
    خوفاً من التكرار، وقد لاحظنا ذلك في فقه الحديث فأضفنا ما كان حقه أن يذكر هنا والله ولي التوفيق. المباحث العربية الرواية (1) و(2) (يبلغ به النبي) عبارة تفيد رفع الحديث، كأنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل عن أبي هريرة قول أو حديث يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أو ينقله عنه، وضمير الفاعل في قوله بعد ذلك قال للنبي صلى الله عليه وسلم. (أنفق أنفق عليك) الخطاب في الرواية الأولى لابن آدم منذ ولد لآدم إلى يوم أن ينتهي أولاده من الدنيا، وفي الرواية الثانية ظاهره أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه لابن آدم أيضاً، وفي الرواية حذف عبارة يا ابن آدم. والمعنى: أنفق في وجوه الخير ما أعطيك أعوضك عما أنفقت وأخلف عليك وأزيد، فإن إنفاقك إنفاق من ملكه محدود ويخشى النفاد وفي طبعه شح وقبض، أما إنفاق الله فهو إنفاق المالك المطلق الذي لا تنفد خزائنه الكريم المعطى. (وقال يمين الله ملأى) في ملحق الرواية الأولى ملآن قال النووي: هكذا وقعت رواية ابن نمير، قالوا: وهو غلط منه، وصوابه ملأى كما في سائر الروايات، ثم ضبطوا رواية ابن نمير من وجهين: أحدهما: إسكان اللام وبعدها همزة. والثاني: ملان بفتح اللام بلا همزة. وفاعل قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت للإشارة إلى أن مقولها حديث نبوي بخلاف ما قبلها، فهو حديث قدسي، وهذا واضح في الرواية الثانية. (سحاء) السح الصب الدائم، وقد ضبط سحاء بالتنوين على المصدر وبدون تنوين على الوصف بوزن فعلاء، صفة لليد، قال النووي: والأول هو الأصح الأشهر. (لا يغيضها شيء) أي لا ينقصها شيء، أي لا ينقص ما فيها إنفاق مهما بلغ، يقال: غاض الماء: نقص، وغاض الله الماء: نقصه، فهو لازم ومتعد. (الليل والنهار) قال النووي عن الرواية الثانية: ضبطناه بوجهين. نصب الليل والنهار ورفعهما، النصب على الظرف، والرفع على أنه فاعل. اهـ. ويمكن الرفع على الرواية الأولى على أنه بدل من شيء أي لا يغيضها الليل والنهار، والنصب على الظرفية، وفاعل يغيضها على الرواية الثانية ضمير يعود على المفهوم من المقام، أي لا يغيضها الإنفاق في الليل والنهار، والمراد من ذكر الليل والنهار الدوام وشمول جميع الأزمنة، وتقديم الليل على النهار للإشارة إلى أنهما عنده سواء فهو جل شأنه لا تأخذه سنة ولا نوم. (أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض؟) أرأيتم معناها أخبروني، عن طريق المجاز المرسل في الهمزة، إذ المراد منها مطلق الطلب من أصل معناها وهو طلب الفهم، والمجاز المرسل في الرؤية بإرادة ما يتسبب عنها غالباً من الإخبار عما رأى، فالعلاقة في الأول الإطلاق بعد التقييد وفي الثاني ذكر السبب، فآل الأمر إلى طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ أخبروني وما استفهامية، والمعنى أخبروني عن جواب هذا الاستفهام ماذا أنفق على عباده؟ وكم أعطاهم منذ خلق السموات والأرض حتى اليوم؟ والجواب: كثير لا يحصى، فرتب عليه هذا الكثير لم ينقص ما كان وما هو في يمينه. (فإنه لم يغض ما في يمينه) ضمير اسم إن للإنفاق الكثير المفهوم من إنفاقه مذ خلق السماء والأرض، وفاعل يغض ضميره أيضاً على أنه متعد، أو لفظ ما الموصول في ما في يمينه على أنه لازم، والفاء فصيحة في جواب شرط مقدر، أي إذا كان قد أنفق الكثير والكثير مذ خلق السموات والأرض ويمينه دائماً ملأى فإن هذا الإنفاق لم ينقص ما في يمينه. (قال: وعرشه على الماء) الظاهر أن موقع هذه الجملة بعد قوله مذ خلق السماء والأرض أي مذ لم يكن سماء ولا أرض ومذ خلقتا. (وبيده الأخرى القبض) لا يطلق على الأخرى شمال كما في المخلوقات، فكلتا يديه -جل شأنه- يمين، قال النووي: القبض ضبطوه بوجهين، أحدهما: بالفاء بعدها ياء. والثاني بالقاف والباء. قال القاضي: وهو الموجود لأكثر الرواة، وهو الأشهر والمعروف، قال: ومعنى القبض الموت، وأما الفيض بالفاء فالإحسان والعطاء والرزق الواسع، قال: وقد يكون بمعنى القبض بالقاف، أي الموت، يقولون: فاضت نفسه إذا مات. اهـ والمناسب في الحديث تفسير القبض بإهلاك ما أعطى وسلبه، لتتم المقابلة. كما في قوله تعالى: {والله يقبض ويبسط} [البقرة: 245]. (يرفع ويخفض) قال النووي: جاء في رواية أخرى وبيده الميزان يخفض ويرفع فقد يكون عبارة عن الرزق ومقاديره، وقد يكون عبارة عن جملة المقادير، فتقدير الرزق يقتره على من يشاء، ويوسعه على من يشاء، وجملة المقادير عبارة عن التصرف بالخلق، يعز ويذل. اهـ والأولى جملة المقادير، وعموم الرفع والخفض، ويدخل الرفع والخفض بالرزق دخولاً أولياً. وهذا الحديث مما يقال فيه: متشابه الصفات، ونحن نذكر بعض ما قيل فيه، ثم نعقب: قال الإمام المازري: هذا مما يتأول، لأن اليمين إذا كانت بمعنى المناسبة للشمال لا يوصف بها الباري سبحانه وتعالى، لأنها تتضمن إثبات الشمال، وهذا يتضمن التحديد، ويتقدس الله سبحانه عن التجسيم والحد. وإنما خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يفهمونه، وأراد الإخبار بأن الله تعالى لا ينقصه الإنفاق، ولا يمسك خشية الإملاق، جل الله عن ذلك، وعبر صلى الله عليه وسلم عن توالي النعم بسح اليمين، لأن الباذل منا يفعل ذلك بيمينه. قال: ويحتمل أن يريد بذلك أن قدرة الله سبحانه وتعالى على الأشياء على وجه واحد، لا يختلف ضعفاً وقوة، وأن المقدرات تقع بها على جهة واحدة، ولا تختلف قوة وضعفاً كما يختلف فعلنا باليمين والشمال، تعالى الله عن صفات المخلوقين، ومشابهة المحدثين. وأما قوله: وبيده الأخرى القبض فمعناه أنه وإن كانت قدرته سبحانه وتعالى واحدة فإنه يفعل بها المختلفات، ولما كان ذلك فينا لا يمكن إلا بيدين عبر عن قدرته على التصرف في ذلك باليدين ليفهم المعنى المراد بما اعتادوه من الخطاب على سبيل المجاز. هذا آخر كلام المازري، نقله النووي واقتصر عليه. وقال القاضي عياض ما حاصله: لما كان الشيء الطيب المحبوب يوضع في اليمين، ولما كان العطاء يتم باليمين عبر بها، وليس المراد الجارحة. وقال الزين بن المنير: ما مؤداه أنه كناية لتثبيت المعاني المعقولة من الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات، أي لا يتشكك في الكثرة كما لا يتشكك فيمن يمينه ممتلئة لا تنقص، لا أن الامتلاء كالامتلاء المعهود، ولا أن الممتلئ جارحة. وقال الترمذي في جامعه: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيهاً، ولا نقول: كيف؟ هكذا روى عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم. اهـ. وما قاله الترمذي أسلم وأدخل في الإيمان بالله وصفاته، والمشاركة بين الخالق والمخلوق في الاسم لا تستلزم المشاركة في كنه المسمى ومستلزماته، فنحن لنا علم وإرادة وقدرة ووجود وحياة، ولكنها تختلف اختلافاً كلياً عنها في الباري سبحانه وتعالى، فهي لا تكاد تشترك معها في غير الاسم، ولا تقاس صفات الباري على صفاتنا، فيقال مثلاً: اليمين تقتضي جهة وحدوداً وحيزاً إلخ، فهذا كله في المخلوق ولا يقاس عليه الغائب. تعالى الله عن ذلك، والدخول في ذلك دخول في تصور الخالق ومحاولة لتصور ما لا يدخل في تصورنا، فالإمساك واجب، والسؤال عنه بدعة مردودة، وعلينا الإيمان به كما ورد. والله أعلم. الرواية (3، 4، 5، 6، 7) (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار....ودينار....ودينار) مشاركة الثلاثة في الأفضلية لا تمنع أن يكون بعضها أفضل من بعض، والمفاضلة بينها واضحة في الرواية الرابعة، وقد فهم أبو قلابة أفضلية الأول على أخويه في الرواية الثالثة -ربما من التقديم- فقال ما قال. (وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم) عن الحاجة وعن السؤال وعن الانحراف، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا رجل أعظم، والوصف بالصغار لتأكيد معنى العالة. (ودينار أنفقته في رقبة) أي في عتق رقبة. (إذ جاءه قهرمان له) القهرمان بفتح القاف وإسكان الهاء وفتح الراء، وهو الخازن القائم بحوائج الإنسان، وهو بمعنى الوكيل، وهو بلسان الفرس. قاله النووي. (أعتق عبداً له عن دبر) المدبر هو الذي علق عتقه على موت سيده. (يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك) القول هنا مراد به الفعل والإشارة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم عبر عن هذه الجهات بالإشارة بيده. (وكان أحب أمواله إليه بيرحى) بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء وفتح الحاء، مقصور، في محل رفع أو نصب، وضبط كذلك ممدوداً بيرحاء وضبط الممدود أيضاً بكسر الباء مع فتح الراء وضمها، وفي بعض روايات مسلم بريحاء بفتح الباء وكسر الراء، وفي كتاب أبي داود باريحاء وهو اسم لبستان به بئر. وليس اسماً للبئر كما قيل، بدليل قوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. الرواية (8 ، 9) (وكانت مستقبلة المسجد) أي مقابلته. قال النووي. وهذا الموضع يعرف بقصر بني جديلة، بفتح الجيم وكسر الدال. (قام أبو طلحة إلى رسول الله) أي ذهب إليه. (أرجو برها وذخرها) أي أرجو فضلها وثوابها وادخارها عند الله، والبر اسم جامع لأنواع الخيرات. (بخ) قال النووي: قال أهل اللغة: يقال: بخ بإسكان الخاء، وتنوينها مكسورة، وحكى القاضي الكسر بلا تنوين، وحكى الأحمر التشديد فيه. قال القاضي: وروي بالرفع، فإذا كررت فالاختيار تحريك الأول منوناً وإسكان الثاني. قال ابن دريد: معناه تعظيم الأمر وتفخيمه، وسكنت الخاء فيه كسكون اللام في هل وبل. ومن قال: بخ بكسره منوناً شبهه بالأصوات كصه ومه. قال ابن السكيت: بخ بخ وبه به بمعنى واحد. وقال الداودي: بخ كلمة تقال إذا حمد الفعل. وقال غيره: تقال عند الإعجاب والرضا والمدح، وتكرر للمبالغة. (ذلك مال رابح) قال النووي: ضبطناه هنا بوجهين، بالياء المثناة، وبالباء الموحدة، فمن رواه بالموحدة فمعناه طاهر، [أي ذو ربح] ومن رواه رايح بالمثناة فمعناه رايح عليك أجره ونفعه في الآخرة. اهـ [أي يروح عليك أجره ويغدو] والتنوين في رابح للتعظيم، وتكرير الجملة تأكيد لأهمية الخبر. (قد سمعت ما قلت فيها) أي قد علمت تفويضك لي بصرفها في سبيل الله حيث أشاء. (أن تجعلها في الأقربين) لك، وفي الرواية التاسعة اجعلها في قرابتك أي أقاربك الأقرب منهم فالأقرب. (فجعلها في حسان وأبي بن كعب) قال النووي: وهما يجتمعان معه في الجد السابع. اهـ والظاهر أنه لم يكن له قرابة أقرب مسلمة فقيرة. الرواية (10، 11، 12، 13، 14، 15، 16، 17) (أعتقت وليدة) أي جارية بغض النظر عن صغرها أو عدم صغرها، فكل مولود ولد. (لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) قال النووي: هكذا وقعت اللفظة في صحيح مسلم أخوالك باللام. ووقعت في رواية البخاري أخواتك بالتاء. قال القاضي: لعله أصح بدليل رواية مالك في الموطأ أختك. قال النووي: الجميع صحيح ولا تعارض، وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك كله. اهـ. (عن زينب امرأة عبد الله) بن مسعود، واسمها رائطة على الصحيح، وكانت امرأة صناع اليد، فكانت تنفق على زوجها وعلى ولده من صنعتها. (قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقن ولو من حليكن) بضم الحاء وكسر اللام على الجمع، وبفتح اللام وسكون اللام مفرداً، وفي الرواية الثانية عشرة كنت في المسجد فرآني النبي صلى الله عليه وسلم فقال تصدقن.... وصورة القصة كما توضحها رواية البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في يوم العيد إلى المصلى، فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة، ثم مر على النساء، فقال ما قال. فليست رؤيته صلى الله عليه وسلم لها سبباً في قوله، كما توهمه روايتنا. (يا معشر النساء) المعشر الجماعة الذين صفتهم واحدة. (قالت: فرجعت إلى عبد الله) أي رجعت من المسجد إلى البيت. إلى زوجي عبد الله بن مسعود. (فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد) أي فقير، فخفة اليد خفة ما فيها من أموال، وفي بعض الروايات وليس لعبد الله بن مسعود مال. (فإن كان ذلك يجزي عني) جواب الشرط محذوف للعلم به، والإشارة لإنفاقها عليه وعلى ابنه، والمعنى فإن كان إنفاقي عليكم يجزي عني في الوقاية من النار، ويعتبر صدقة أنفقت عليكم ما يمكن أن أتصدق به. قال النووي يجزي عني هو بفتح الياء، أي يكفي، وكذا قولها بعد أتجزئ الصدقة عنها بفتح التاء. (وإلا صرفتها إلى غيركم) الجمع له ولابنه، كما هو في صريح بعض الروايات. (فإذا امرأة من الأنصار) في بعض الروايات فإذا امرأة من الأنصار يقال لها: زينب، وهي امرأة أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري. (حاجتي حاجتها) في رواية البخاري حاجتها مثل حاجتي أي تسأل عما أريد أن أسأل عنه. (قد ألقيت عليه المهابة) اعتذار عن عدم دخولهما واكتفائهما برسالة بلال. (على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما) ما أضيف إلى ضمير المثنى إذا كان واحداً لكل منهما زوج وحجر جاز إفراده [زوجهما وحجرهما] وتثنيته [زوجيهما وحجريهما] وجمعه [أزواجهما وحجورهما] قال النووي عن الحالة الأخيرة: وهي أفصحهن، وبها جاء القرآن في قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] قيل: إن الأيتام كانوا في حجر امرأة أبي مسعود كما هو ظاهر رواية النسائي. ولفظها: لإحداهما فضل مال وفي حجرها بنو أخ لها أيتام، وللأخرى فضل مال وزوج خفيف اليد. وظاهر رواية البخاري: أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود كان في حجرها أيضاً أيتام. ولفظها: عن زينب امرأة عبد الله قالت لزوجها عبد الله: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتجزئ عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟. (ولا تخبره من نحن؟) ظاهره أن بلالاً عرفهما، وأن هذا الطلب ستر على أزواجهما وإخفاء لصدقتهما. (فقال: امرأة من الأنصار وزينب) ظاهره أنه لم يكن يعرف اسم المرأة الثانية وإن عرف أنها من الأنصار، لكن البدر العيني يقول: اكتفى بذكر اسم من هي أكبر وأعظم. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهما أجران) ظاهره أن الجواب قيل لبلال، لكن رواية البخاري تصرح بأن الكلام وجه إلى زينب، ولفظها: فقال: أي الزيانب؟ قيل: امرأة ابن مسعود؛ قال: نعم. ائذنوا لها، فأذن لها، قالت: يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم. ويجمع بين الروايتين باحتمال أن الجواب تحمله بلال أولاً، ثم ذهب إليهما به، فطلبت الإذن، فأذن لها وسألت وأجيبت. (إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها) قال النووي: فيه بيان أن المراد بالصدقة والنفقة المطلقة في باقي الأحاديث إذا احتسبها، ومعناه أراد بها وجه الله تعالى، فلا يدخل فيه من أنفقها ذاهلاً، ولكن يدخل المحتسب، وطريقه في الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة والأطفال وغيرهم ممن تجب نفقتهم على حسب أحوالهم، فينفق بنية أداء ما أمر به، وقد أمر بالإحسان إليهم. (إن أمي قدمت علي وهي راغبة أو راهبة) في الرواية السادسة عشرة وهي راغبة بدون شك. قال القاضي: الصحيح راغبة بلا شك. قال: قيل: معناه راغبة عن الإسلام وكارهة له. وقيل معناه طامعة فيما أعطيها حريصة عليه. اهـ. واسم أمها قيلة، وقيل: قتيلة بنت عبد العزى القرشية العامرية. قال النووي: واختلف العلماء في أنها أسلمت أم ماتت على كفرها، والأكثرون على موتها مشركة. (في عهد قريش إذ عاهدهم) رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقصودها الهدنة التي نص عليها في صلح الحديبية. (إن أمي افتلتت نفسها) قال النووي: ضبطناه نفسها بالنصب والرفع، فالرفع على أنه نائب فاعل، والنصب على أنه مفعول ثان، وقوله افتلتت بالفاء، هذا هو الصواب الذي رواه أهل الحديث وغيرهم، ورواه ابن قتيبة اقتتلت نفسها بالقاف قال: وهي كلمة تقال لمن مات فجأة. والصواب الفاء قالوا: ومعناه ماتت فجأة. وكل شيء فعل بلا تمكث فقد افتلت. (الرواية (18، 19، 20، 21، 22) (كل معروف صدقة) أي كالصدقة من حيث الثواب والحكم. ففي الكلام تشبيه بليغ. (ذهب أهل الدثور بالأجور) الدثور بضم الدال جمع دثر بفتحها وهو المال الكثير، أي ذهب الأغنياء بالأجور وسبقوا بها الفقراء. (ويتصدقون بفضول أموالهم) من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي بأموالهم الفاضلة الزائدة عن حاجاتهم، وفي الكلام حذف للعلم به، أي ولا نتصدق نحن الفقراء، لأننا لا نجد ما ننفق. (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون) قال النووي: الرواية فيه بتشديد الصاد والدال جميعاً، ويجوز في اللغة تخفيف الصاد. اهـ أي ما تتصدقون به، والواو عاطفة على محذوف، هو مدخول همزة الاستفهام، والمعطوف على الاستفهام استفهام، والتقدير أيسبقونكم؟ وأليس جعل الله لكم ما تتصدقون به بدلاً من فضول أموالهم؟ والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لم يسبقوكم والاستفهام في الجملة الثانية دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، أي قد جعل الله لكم بديلاً، ثم ذكر البديل. (إن بكل تسبيحة صدقة) قال القاضي: يحتمل تسميتها صدقة على أن لها أجراً كما أن للصدقة أجراً -أي فليست صدقة على الحقيقة- وأن هذه الطاعات تماثل الصدقات في الأجور وسماها صدقة على طريق المقابلة وتجنيس الكلام. وقيل: معناه أنها صدقة تصدق بها على نفسه. اهـ فهي صدقة حقيقية. (وكل تكبيرة صدقة) قال النووي: رويناه بوجهين، رفع صدقة ونصبه، فالرفع على الاستئناف، والنصب عطف على إن بكل تسبيحة صدقة. اهـ. توضيحه أن رفع صدقة على أنها خبر وكل مبتدأ مرفوع، والواو عطفت جملة على جملة، أو للاستئناف ولا عطف، ونصب صدقة يقتضي جر كل عطفاً على كل الأولى، وصدقة معطوفة على صدقة الأولى، فيكون من قبيل عطف المفردات، من قبيل العطف على معمولي عاملين مختلفين. وما قيل في وكل تكبيرة صدقة، يقال فيما بعدها من جملتي التحميد والتهليل. (وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) بالرفع فيهما قولاً واحداً. قال النووي: نكرهما -أي أمر ونهي للإشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. اهـ. وقد يقال: وعرف الأول بالمعروف دون الثاني منكر للإشارة إلى المراد بالمعروف ما عرف حسنه شرعاً، وليس ما يتعارف عليه الناس، فأل فيه للعهد. (وفي بضع أحدكم صدقة) قال النووي: هو بضم الباء، ويطلق على الفرج نفسه، وكلاهما تصح إرادته هنا. (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) قال النووي: ضبطناه أجراً بالنصب والرفع، وهما ظاهران. اهـ فالنصب على اعتبار كان ناقصة واسمها ضمير يعود على وضعها في الحلال، والرفع على أنه اسم كان، والجار والمجرور له خبر مقدم. (إنه خلق كل إنسان....على ستين وثلاثمائة مفصل) اسم إنه ضمير الحال والشأن، والجملة بعده خبر، ومفصل بفتح الميم وكسر الصاد. (عدد تلك الستين والثلثمائة السلامى) السلامى بضم السين وتخفيف اللام هو المفصل، وجمعه سلاميات بضم السين وتخفيف اللام وفتح الميم وتخفيف الياء. قاله النووي، وقال: قد يقال: وقع هنا إضافة ثلاث إلى مائة مع تعريف الأول [الثلاث] وتنكير الثاني [مائة] والمعروف لأهل العربية عكسه، وهو تنكير الأول وتعريف الثاني. اهـ. وتوضيح المسألة أن الثلاث والأربع وما بعدها إلى التسع إذا أضيفت إلى مائة لزم حذف الألف واللام من المضاف، فكان حقه أن يقول [عدد الستين وثلاثمائة] وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن لفظ [مائة] ليس مضافاً وإنما هو منصوب على التمييز على رأي بعض النحاة، وقيل: إن [مائة] مجرورة بالإضافة والألف واللام في [الثلاث] زائدتان، ولا اعتداد بدخولهما. (فإنه يمشي يومئذ) أي يوم القيامة. (وقد زحزح نفسه عن النار) أي باعد نفسه عن النار، وليس المعنى أنه دخلها فزحزح نفسه عنها. (على كل مسلم صدقة) أي صدقات ليحمي مفاصله من النار. [يشير إلى روايتنا الثانية والعشرين]. قال القرطبي: أطلق الصدقة هنا وبينها في حديث آخر بكل يوم، فعند مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس. (أرأيت إن لم يجد) أي أخبرني يا رسول الله إن لم يجد ما يتصدق به؟ وكأنهم فهموا أن الصدقة مقصورة على العطية، فبين لهم أن المراد بالصدقة ما هو أعم من ذلك ولو إغاثة الملهوف. (يعتمل بيديه) في رواية البخاري [يعمل بيديه] والاعتمال افتعال فيه معنى التكليف والمشقة. (أرأيت إن لم يستطع) أن يعمل بيديه؟ (يعين ذا الحاجة الملهوف) [الملهوف] بالنصب، لأنه صفة [ذا الحاجة] والملهوف يطلق على المتحسر والمضطر وعلى المظلوم. وقولهم: يا لهف نفسي على كذا. كلمة تحسر على ما فات، يقال: لهف بكسر الهاء يلهف بفتحها لهفاً بإسكانها أي حزن وتحسر. (يمسك عن الشر فإنها صدقة) [فإنها] أي الفعلة التي هي الإمساك. وقيل: تأنيث الضمير باعتبار الخبر، وإنما كان الإمساك عن الشر صدقة مع أنه كف ومنع لأنه إذا أمسك شره عن غيره فكأنما تصدق عليه بتأمينه منه، وإذا أمسك شره عن نفسه فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم. (تعدل بين الاثنين صدقة) أي تصلح بينهما بالعدل. (وتعين الرجل في دابته) أي في نفع دابته وانتفاعه بها. الرواية (23، 24، 25، 26، 27، 28) (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان) من زائدة لتأكيد النفي، ويوم اسم ما وجملة يصبح العباد فيه صفة ليوم، وخبر ما والمستثنى منه محذوف للعلم به، والمعنى ليس يوم موصوف بهذا الوصف ينزل فيه أحد إلا ملكان يقولان كذا. (اللهم أعط منفقاً خلفاً) بفتح اللام، أي عوضاً، يقال: أخلف الله عليك خلفاً، أي أبدلك عما ذهب منك عوضاً. والمراد الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والأهل ونحو ذلك في الحدود المشروعة بحيث لا يذم فاعله شرعاً. (اللهم أعط ممسكاً تلفاً) المراد بالإمساك عدم الإنفاق المشروع، والتعبير بالإعطاء هنا من قبيل المشاكلة، لأن التلف ليس إعطاء. (تصدقوا) أي عجلوا بالصدقة وبادروا بها، واغتنموا إمكان قبولها قبل أن يتعذر قبولها. (فيوشك الرجل يمشي بصدقته...فلا يجد من يقبلها) قال النووي: سبب عدم قبول الصدقات في آخر الزمان كثرة الأموال، وظهور كنوز الأرض، ووضع البركات فيها، وقرب الساعة، وعدم الرغبة في ادخار المال وكثرة الصدقات والمتصدقين. (فيقول الذي أعطيها: لو جئتنا بالأمس قبلتها) المراد من الذي أعطيها الذي قصد إعطاؤه أي الذي عرضت عليه، والمراد بالأمس اليوم الذي مضى قبل وقوع الأحداث السابقة، وليس المراد اليوم الذي قبل يومك مباشرة. (زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب لا يجد أحداً يأخذها منه) التعبير بالذهب للتنبيه على ما سواه، لأنه إذا كان الذهب لا يقبله أحد فكيف غيره؟ والتعبير بالطواف للإشارة للتردد على الناس. قال النووي: فتحصل من التعبير المبالغة في عدم قبول الصدقة بثلاثة أشياء: كونه يعرضها ويطوف بها وهي من ذهب. (ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به) أي ينتمين إليه ليقوم بحوائجهن، ويدفع الشرور عنهن، كقبيلة بقي من رجالها واحد فقط وبقيت نساؤها، فيلذن بذلك الرجل ليذب عنهن؛ ويقوم بحوائجهن، ولا يطمع فيهن أحد بسببه. قاله النووي. ويرى بضم الياء والرجل نائب فاعل، أي يراه الناس، والرؤية علمية أو بصرية. كما في ملحق الرواية وترى الرجل بفتح التاء، والفاعل ضمير المخاطب وهو لمن يتأتى خطابه في ذلك الزمان. (من قلة الرجال وكثرة النساء) سبب ذلك الحروب التي تقع في آخر الزمان، كما جاء في الحديث بقوله: ويكثر الهرج أي القتل. (وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً) المراد من أرض العرب الجزيرة العربية، وليس المراد أرض الجامعة العربية الحالية؟ وظاهر العبارة أن الجزيرة العربية كانت في يوم من الأيام مروجاً وأنهاراً، ثم أقفرت وستعود. أما أنها كانت مروجاً وأنهاراً فيقول عن ذلك الدكتور أحمد فخري في كتابه دراسات في تاريخ الشرق القديم: كانت الجزيرة العربية منطقة خضراء خصبة فيها المراعي والغابات، فأخذت تجف شيئاً فشيئاً، وأخذت الرياح الجنوبية الشديدة تغطي مراعيها. على أن بلاد اليمن من الجزيرة العربية وكانت مروجاً وأنهاراً كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال} [سبأ: 15]. وأما أنها أقفرت فقد شاهدناها مقفرة كما كانت وقت ذكر هذا الحديث وأما أنها ستعود، فقد شاهدنا مقدمة ذلك في أوائل القرن الخامس عشر الهجري حيث أن المملكة العربية السعودية أصبحت مكتفية بإنتاجها من القمح وتصدر الكثير منه إلى البلاد الأخرى. (حتى يهم رب المال من يقبله منه صدقة) قال النووي: ضبطوه بوجهين، أجودهما وأشهرهما يهم بضم الياء وكسر الهاء، ويكون رب المال منصوباً مفعولاً. والفاعل من وتقديره يحزنه ويهتم له -والمعنى حتى يكون هم صاحب المال وشغله الشاغل أن يجد من يقبل الزكاة. والثاني يهم بفتح التاء وضم الهاء ويكون رب المال مرفوعاً فاعلاً، من هم به إذا قصده. اهـ والمعنى حتى يقصد رب المال من يقبل الصدقة ويطوف بالناس ويبحث عنه فلا يجده. (لا أرب لي فيه) بفتح الهمزة والراء، أي لا حاجة إليه ولا رغبة لي فيه. (تقيء الأرض أفلاذ كبدها) قال ابن السكيت: الفلذ القطعة من كبد البعير. وفي تقيء الأرض استعارة تصريحية تبعية، بتشبيه إخراج الأرض ما في جوفها بالقيء، واستعارة القيء للإخراج واشتقاق تقيء بمعنى تخرج، وفي هذا من تحقير ما يخرج والاستهانة به ما فيه. وفي أفلاذ كبدها استعارة أيضاً بتشبيه ما في باطنها بالكبد للحيوان. (أمثال الأسطوان من الذهب والفضة) الأسطوان بضم الهمزة والطاء جمع أسطوانة وهي السارية والعمود، ووجه الشبه العظم والكثرة. (فيجيء القائل فيقول: في هذا قتلت) أي من أجل مثل هذا قتلت. (ويجيء القاطع) أي القاطع رحمه. (فيقول: في هذا قطعت) أي من أجل مثل هذا قطعت رحمي. (ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً) لكثرته وصيرورته كالتراب، ولعدم حاجتهم إليه. الرواية (29، 30، 31) (ولا يقبل الله إلا الطيب) قال النووي: المراد بالطيب هنا الحلال. اهـ ويحترز بذلك عن الخبيث الحرام. قال القرطبي: أصل الطيب المستلذ بالطبع، ثم أطلق على الطيب بالشرع، وهو الحلال. (إلا أخذها الرحمن بيمينه....فتربو في كف الرحمن) قال المازري: هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم، ليفهموا عنه، فكنى عن قبول الصدقة بالأخذ باليمين. وقال عياض: لما كان الشيء الذي يرتضى يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا، وليس المراد بها الجارحة، أي العضو المعروف في الجسم. وقيل: عبر باليمين عن جهة القبول، إذ الشمال بضده. وقال الزين بن المنير: كناية عن الرضا والقبول بالتلقي باليمين لتثبيت المعاني المعقولة من الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات، أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه، لا أن التناول كالتناول المعهود، ولا أن المتناول به جارحة. اهـ وقيل: المراد سرعة القبول. وقيل: حسنه. وقيل: المراد بكف الرحمن هنا ويمينه كف الذي تدفع له الصدقة، وإضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص، لوضع هذه الصدقة في كف الآخذ لله تعالى. اهـ. وهذه الأقوال كلها تؤول اليمين والكف وتحترز عن إرادة العضو المعروف، لاستحالة ذلك على الله تعالى، لأنها تستلزم الجسمية والمكانية والتحيز المستلزم بسبق المكان والحيز على المتمكن والمتحيز فيتنافى ذلك مع القدم المطلق لله تعالى. وهذا ما يعرف بمذهب الخلف عند علماء الكلام. أما مذهب السلف -وهو أسلم- فهو الإيمان بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة من أمثال ذلك من غير تأويل، ومن غير تشبيه، وإجراء القرآن والحديث على ظاهره، وإثبات ذلك لله تعالى على وجه الكمال، مع تنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقات. يمثل هذا المذهب قول الترمذي في جامعه: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيهاً، ولا نقول: كيف؟ هكذا روي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم. اهـ والله أعلم. (وإن كانت تمرة) جواب الشرط محذوف للعلم به مما قبله، والتقدير: وإن كانت تمرة في قلتها وضعف قيمتها أخذها الرحمن بيمينه. (فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل) الضمير للتمرة، وفي رواية البخاري حتى تكون مثل الجبل وفي رواية: حتى يوافى بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد. قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن المراد بعظمها أن عينها تعظم لتثقل في الميزان، ويحتمل أن يكون ذلك تعبيراً عن ثوابها. اهـ. وقال الداودي: أي حتى تصير في الأجر كمن تصدق بمثل الجبل. وقال بعضهم: أي لا يزال نظر الله إلى الصدقة ينميها، حتى تنتهي بالتضعيف إلى قدر تقع المناسبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة والجبل. (كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله) في الرواية الثلاثين كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه والفلو بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، وبكسر الفاء وسكون اللام وتخفيف الواو؛ والأولى أفصح، وهو المهر، يقال: فلا مهره إذا فصله من أمه، ويقال: فلوت المهر نحيته، والفصيل ولد الناقة إذا فصل من إرضاغ أمه، فعيل بمعنى مفعول، مثل جريح بمعنى مجروح. والقلوص بفتح القاف وضم اللام الناقة الفتية. ووجه الشبه النماء البين وسرعة الزيادة، وليس الحجم. (لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب) معنى الكسب المكسوب والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب وبذل الجهد في تحصيله أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث. (إن الله طيب) قال القاضي: الطيب في صفة الله تعالى بمعنى المنزه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث. (ثم ذكر الرجل يطيل السفر) قال النووي: معناه -والله أعلم- أنه يطيل السفر في وجوه الطاعات كحج وزيارة مستحبة وصلة رحم وغير ذلك. (أشعث أغبر) أي منفوش الشعر غير منسق المظهر يعلوه الغبرة والتراب. (يمد يديه إلى السماء ...يا رب...يا رب) أي يدعو متضرعاً، رافعاً يديه في دعائه، يقول يا رب. يا رب. وهذه الصفات مرشحة لقبول الدعاء، فالمسافر في طاعة من أهل الدعاء المجاب، والشعث والغبرة من مظاهر الحاجة والتضرع المؤهلة لقبول الدعاء، ومد اليدين عند الدعاء، والنداء المكرر، كل ذلك من محققات الإجابة لكنها إذا لوثت بما بعدها بطل مفعولها. (وغذي بالحرام) غذي بضم الغين وكسر الذال المخففة، مبني للمجهول، من غذاه يغذوه، بمعنى أطعمه، أي غذي باللبن طفلاً بالحرام، كأنه قال: نماؤه كبيراً في مطعمه ومشربه من حرام، ومنبته صغيراً من حرام. وفي لسان العرب: الغذاء ما يكون به نماء الجسم وقوامه من الطعام والشراب واللبن. وقيل: اللبن غذاء الصغير وتحفة الكبير. اهـ. (فأنى يستجاب لذلك) الدعاء؟ أي من أين يستجاب لمن هذه حالته وكيف يستجاب له؟ الرواية (32، 33، 34، 35، 36، 37، 38، 39) (من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل) شق التمرة بكسر الشين نصفها وجانبها. وفي الرواية الثالثة والثلاثين فاتقوا النار ولو بشق تمرة وزاد في رواية ولو بكلمة طيبة وفي الرواية الرابعة والثلاثين اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة أي فمن لم يجد شيئاً يتصدق به ولو قليلاً فليتق النار بكلمة طيبة. وفي رواية الطبراني اجعلوا بينكم وبين النار حجاباً ولو بشق تمرة. وعند أحمد ليتق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة. وعنده أيضاً: يا عائشة. استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان. وفي رواية تقع من الجائع موقعها من الشبعان. (ما منكم من أحد) الخطاب للمسلمين في كل زمان ومكان، أي ما منكم من أحد يا معشر المسلمين. (ليس بينه وبينه ترجمان) بفتح التاء وضمها، وهو المعبر عن لسان بلسان. ذكره النووي. والمراد هنا الوسيط في نقل المراد. (ذكر النار) أي ذكر الصحابة وخوفهم من عذاب النار. (وأشاح بوجهه ثلاث مرار) بالشين والحاء، أي عدل بوجهه وابتعد عن المواجهة. وقال الأكثرون من أهل اللغة: المشيح: الحذر والجاد في الأمر، وقيل: المقبل. وقيل: الهارب. وقيل: المقبل إليك المانع لما وراء ظهره. قال النووي: فأشاح هنا يحتمل هذه المعاني، أي حذر النار كأنه ينظر إليها، أوجد في الإيضاح بإبقائها، أو أقبل إليك خطاباً، أو أعرض كالهارب. اهـ. (مجتابي النمار أو العباء) قال النووي: النمار بكسر النون جمع نمرة بفتحها، وهي ثياب من صوف فيها تنمير، والعباء بالمد وبفتح العين جمع عباءة وعباية لغتان. وقوله: مجتابي النمار أي خرقوها وقورواً وسطها. اهـ وفي لسان العرب: اجتبت القميص إذا لبسته، واجتاب فلان ثوباً لبسه، وفي الحديث أتاه قوم مجتابي النمار أي لابسيها. والنمرة بردة من صوف يلبسها الأعراب. اهـ فالمعنى -والله أعلم- أن هؤلاء القوم لم تكن عليهم ثياب، وكانوا يلتحفون ويلتفون وتغطى أجسادهم النمار الصوف. ومجتابي منصوب على الحال من قوم بعد وصفه بحفاة عراة. (فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي تغير، غضباً وشفقة وحسرة. (لما رأى بهم من الفاقة) أي للذي رآه بهم من مظاهر الفقر التي عبر عنها الراوي بحفاة عراة مجتابي النمار، وكما جاء في ملحق الرواية عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم، قد أصابتهم حاجة. (فدخل ثم خرج) أي دخل بيته من المسجد ثم خرج إليه، ولعله دخل يسأل عما يمكن أن يجده من عطاء. {(اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء: 1] وهذه الآية واضحة في الحث على الصدقة عليهم، وفيها تأكيد لحقهم لكونهم إخوة. (تصدق رجل من ديناره) خبر في معنى الأمر. أي ليتصدق رجل من ديناره...إلخ. (فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها) الظاهر أن الصرة كان بها طعام أو ثياب، لظاهر قوله بعد: كومين من طعام وثياب، ولو كانت من دراهم ودنانير لأغنت عن الكومين، ولذكرت. وقوله: كومين بفتح الكاف وضمها، وقيل: بالضم اسم للشيء المجموع، وبالفتح المرة الواحدة. قال ابن سراج: والكومة بالضم الصبرة والكوم العظيم من كل شيء، والكوم المكان المرتفع كالرابية. قال القاضي: فالفتح هنا أولى، لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية. (حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة) قال النووي: ضبطوه بوجهين، أحدهما وهو المشهور، وبه جزم القاضي والجمهور: مذهبة بذال معجمة وفتح الهاء وبعدها باء موحدة،-أي مع ضم الميم. والثاني: مدهنة بفتح الميم وبدال مهملة، وضم الهاء وبعدها نون، وفسرت -إن صحت- بالإناء الذي يدهن فيه، أو بالنقرة في الجبل يستجمع فيها ماء المطر، فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء، أو بصفاء الدهن والمدهن. قال القاضي عياض وغيره من الأئمة: هذا تصحيف، وهو بالذال المعجمة والباء الموحدة، وهو المعروف في الروايات، وتفسيره على وجهين: الأول: معناه فضة مذهبة، فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه. والثاني: شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود، وجمعها مذاهب، وهي جلود كانت العرب تجعل فيها خطوطاً مذهبة يرى بعضها إثر بعض. اهـ. وعلى أي حال مراد الراوي المبالغة في تهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم سروراً، وسبب هذا السرور ما رآه من مبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى وبذل أموالهم، وامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين وشفقة المسلمين بعضهم على بعض، وتعاونهم على البر والتقوى. (أمرنا بالصدقة) في رواية البخاري لما نزلت آية الصدقة. قال الحافظ ابن حجر: كأنه يشير إلى قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] الآية. (كنا نحامل) وفي ملحق الرواية كنا نحامل على ظهورنا أي نحمل على ظهورنا أمتعة الغير بالأجرة، فالمفاعلة ليست من الجانبين، بل بمعنى نفعل كنسافر. وقال الخطابي: يريد نتكلف الحمل بالأجرة لنتكسب ونتصدق به. اهـ ويؤيده رواية البخاري، وفيها انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل أي يطلب الحمل بالأجرة، ليتصدق من تلك الأجرة أو يتصدق بها كلها. والمتحدث أبو مسعود يحكي عن نفسه وعن بعض الفقراء من أصحابه، وفي رواية له عند البخاري كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرنا بالصدقة انطلق أحدنا إلى السوق فتحامل فيصيب المد، وإن لبعضهم اليوم -أي بعد ما وسع الله عليهم لكثرة الفتوح- لمائة ألف، كأنه يعرض بنفسه. (فتصدق أبو عقيل بنصف صاع) في رواية البخاري فجاء رجل فتصدق بشيء كثير. فقالوا: مراء. وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا. قال الحافظ ابن حجر: وأبو عقيل بفتح العين، وحصل الصاع أجرة على نزح من البئر بالحبل. (وجاء إنسان بشيء أكثر منه، فقال المنافقون: إن الله غني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء) فسر الذي تصدق بالشيء الكثير بعبد الرحمن بن عوف، وقد تصدق بثمانية آلاف، وقيل: بأربعة آلاف. (فنزلت {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} ) [التوبة: 79]. أي يلمزون المطوعين بالكثير، ويلمزون الفقراء الذين لا يجدون إلا القليل. واللمز الغمز وإشارة السخرية. (عن أبي هريرة يبلغ به) أي يبلغ بالحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يرفعه إليه. (ألا رجل) حض وحث على الفعل، أي أحث رجلاً عنده إبل ونوق. (يمنح أهل بيت ناقة) المنيحة العطية، سواء كانت للرقبة بمنافعها مؤبدة مثل الهبة، أم كانت للمنافع فقط ولمدة، كناقة أو عنزة تعطى للفقير مدة يشرب منها لبنها ثم يردها لصاحبها، وهي المقصودة هنا. (تغدو بعس وتروح بعس) العس بضم العين وتشديد السين القدح الكبير، وضبط بكسر العين وفتحها. قال النووي: وهذا هو الصواب المعروف وروى بعشاء. قال القاضي: وهذه رواية أكثر رواة مسلم. وروى بعساء بالسين المهملة، وفسر بالعس الكبير. والغدو أول النهار، والرواح آخره، والمقصود حث الأغنياء بمنح الفقراء ناقة لمدة تعطيهم في الصباح قدحاً كبيراً من اللبن، وفي المساء مثله. (إن أجرها لعظيم) أي إن أجر هذه المنيحة لعظيم لمن منح. (عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى) أي نهى عن كذا وكذا. فذكر خصالاً منهياً عنها، وقد عرف عن أبي هريرة أنه كان يجمع أحاديث في حديث واحد. (من منح منيحة غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها) المنيحة والمنحة العطية، وتكون في الحيوان وفي الثمار وغيرهما. قال النووي: وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم منح أم أيمن عذاقاً، أي نخلاً، قد تكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها، وهي الهبة، وقد تكون عطية اللبن أو الثمرة مدة، وتكون الرقبة باقية على ملك صاحبها، ويردها إليه إذا انقضى اللبن أو الثمر المأذون فيه. والصبوح بفتح الصاد الشرب أول النهار، والغبوق بفتح الغين الشرب أول الليل. والصبوح والغبوق منصوبان على الظرفية. وقال القاضي عياض: هما مجروران على البدل من قوله: صدقة. قال: ويصح نصبهما على الظرف. الرواية (40، 41، 42) (مثل المنفق والمتصدق) قال النووي: هكذا وقع هذا الحديث في جميع النسخ مثل المنفق والمتصدق قال القاضي وغيره: هذا وهم، وصوابه مثل ما وقع في باقي الروايات مثل البخيل والمتصدق وتفسيرهما آخر الحديث يبين هذا. قال: وقد يحتمل أن تكون على وجهها وفيها محذوف، تقديره مثل المنفق والمتصدق وقسيمهما وهو البخيل، وحذف البخيل لدلالة المنفق والمتصدق عليه، كقول الله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] أي والبرد، فحذف ذكر البرد لدلالة الكلام عليه. والمتصدق وقع في بعض الأصول والمصدق بقلب التاء صاداً وتشديد الصاد. وهما صحيحان. (كمثل رجل عليه جبتان أو جنتان) قال النووي: كمثل رجل بالإفراد، والظاهر أنه تغيير من بعض الرواة، وصوابه كمثل رجلين، وأما قوله: جبتان أو جنتان فالأول بالباء والثاني بالنون، ووقع في بعض الأصول عكسه. اهـ وأو للشك، والجبة بضم الجيم وتشديد الباء ثوب معروف، والجنة بضم الجيم وتشديد النون هي الدرع، وقد جاءت بعض الروايات بدون شك جبتان بالباء كما عند البخاري، وجنتان بالنون بدون شك، كما في الروايتين 41، 42 وهي الأصوب إذ المراد منها الدروع، وسميت بذلك لأنها تجن صاحبها أي تحصنه، والجبة بالباء لا تحصن مثل الجنة، ويؤكد تصويب رواية جنتان بالنون قوله في الروايتين المشار إليهما: من حديد. وقوله: وأخذت كل حلقة موضعها والكلام في مثل رجلين عليهما جنتان من حديد على التوزيع أي على كل رجل جنة. (من لدن ثديهما إلى تراقيهما) ثديهما بضم الثاء وكسر الدال، جمع ثدي نحو فلوس وفلس، وأصله ثدوي، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء، وأبدلت الضمة كسرة لمناسبة الياء، وصح فتح الثاء ثديهما على إفراد الثدي، وفي رواية ثدييهما بالتثنية. والثدي يذكر ويؤنث، وهو للرجل والمرأة على المشهور. والتراقي جمع ترقوة ولكل إنسان ترقوتان. وهما العظمان المشرفان في أعلى الصدر من رأس المنكبين إلى طرف ثغرة النحر. (فإذا أراد المنفق أن يتصدق سبغت عليه أو مرت) سبغت أي امتدت وغطت، وقيل: كملت وتمت، ومعنى مرت بتشديد الراء أي مرت على الجلد بيسر وسهولة لتمتد. وقال النووي: كذا هو في النسخ مرت بالراء. قيل: إن صوابه مدت بالدال، بمعنى سبغت وكما قال في الحديث الآخر: انبسطت لكنه قد يصح مرت على نحو هذا المعنى، وقد رواه البخاري مادت من ماد إذا مال، ورواه بعضهم مارت ومعناه سالت عليه وامتدت. وقيل: معناه ترددت، ذهبت وجاءت، يعني لكمالها. اهـ. وفي الرواية التالية فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره. وفي التي بعدها اتسعت عليه حتى تعفي أثره. وفي رواية البخاري فلا ينفق إلا سبغت -أو وفرت- على جلده، حتى تخفي بنانه وتعفو أثره والبنان والأنامل أطراف أصابع اليدين، وتعفو أثره، أي وتمحو أثر مشيه لطولها، فمرور ذيل الثوب وجره على الأرض يمحو أثر الأقدام عليها. وقيل: معنى يمحو أثره يذهب بخطاياه ويمحوها، والصواب الأول. (وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت عليه وأخذت كل حلقة موضعها، حتى تجن بنانه، وتعفو أثره) تجن بنانه بضم التاء وكسر الجيم ثم النون المشددة، أي حتى تستر بنانه. قال النووي: في هذا الكلام اختلال كثير، لأن قوله تجن بنانه وتعفو أثره إنما جاء في المتصدق، لا في البخيل، وهو ضد وصف البخيل بقوله: قلصت كل حلقة موضعها فإدخاله في وصف البخيل أخل بالكلام وتناقض. اهـ وفي الرواية التالية كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة مكانها، وفي التي بعدها وإذا هم البخيل بصدقة تقلصت عليه وانضمت يداه إلى تراقيه، وانقبضت كل حلقة إلى صاحبتها. (يوسعها فلا تتسع) في الرواية التالية قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه -أي يضع أصبعه في فتحة صدر قميصه ويشد القميص، ويقول -فلو رأيته -وهو يحاول أن يوسعها ولا توسع أي لا تتوسع، وفي الرواية التي بعدها فيجهد أن يوسعها فلا يستطع. ولتوضيح المشبه به وتصويره نقول: رجلان كل منهما يلبس درعاً من حديد متشابك الحلقات، يغطي أعلى الصدر، ابتداء من حول العنق إلى أسفل الثديين دون أن يغطي اليدين، فهو يحمي جزءاً من الجسد، لكن أحدهما بسبب فعله تتسع الحلقات، وتمتد إلى اليدين حتى الأنامل، وإلى أسفل الجسم حتى أصابع القدمين، بل تزيد وتجر على الأرض، كل ذلك بسهولة ويسر، أما الآخر بسبب فعله تضيق الحلقات وتتداخل وتلتصق بالصدر في أماكنها، بل تجمع اليدين وتربطهما بالرقبة، ومهما حاول البسط والتوسعة لا تنبسط ولا تتسع. أما المشبه فهو السخي المتصدق والبخيل الممسك، وأما وجه الشبه فقد ذكروا عنه أقوالاً: الأول: السهولة واليسر في جانب، والصعوبة والمشقة في جانب آخر، وتوضيح التمثيل كما قال الخطابي: هذا مثل ضربه صلى الله عليه وسلم للجواد والبخيل، وشبههما برجلين، أراد كل واحد منهما أن يلبس درعاً يستجن بها، والدرع أول ما يلبس إنما يقع على موضع الصدر والثديين إلى أن يسلك لابسها يديه في كميه ويرسل ذيلها على أسفل بدنه، فيستمر سفلاً، فجعل صلى الله عليه وسلم مثل المنفق مثل من يلبس درعاً سابغة، فاسترسلت عليه، حتى سترت جميع بدنه وحصنته، وجعل البخيل كرجل يداه مغلولتان بين صدره، فإذا أراد لبس الدرع حالت يداه بينها وبين أن تمر سفلاً على بدنه واجتمعت الدرع في عنقه، فلزقت ترقوته، فكانت ثقلاً ووبالاً عليه، من غير وقاية له، وتحصين لبدنه. وحاصله أن الجواد إذا هم بالنفقة اتسع لذلك صدره وطاوعت يداه، فامتدتا بالعطاء، وأن البخيل يضيق صدره وتنقبض يده عن الإنفاق. اهـ. وقريب منه ما قيل من أنه تمثيل لكثرة الجود والبخل، وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء وتعود ذلك، فإذا أمسك صار ذلك عادة له. وقريب من هذا قول الطيبي: شبه السخي إذا قصد التصدق يسهل عليه بمن عليه الجبة، ويده تحتها، فإذا أراد أن يخرجها منها يسهل عليه، والبخيل على عكسه والأسلوب من التشبيه المفرق. الثاني: الستر في الدنيا والآخرة في جانب، وكشف العورة في الدارين في الجانب الآخر، وتوضيحه أن المنفق يستره الله بنفقته ويستر عوراته في الدنيا والآخرة كستر الجنة لابسها، والبخيل كمن لبس جبة إلى ثدييه، فيبقى مكشوفاً ظاهر العورة مفتضحاً في الدارين. وقريب من هذا قول ابن بطال: يريد أن المنفق إذا أنفق كفرت الصدقة ذنوبه ومحتها كما أن الجنة إذا أسبغت عليه سترته ووقته، والبخيل لا تطاوعه نفسه على البذل، فيبقى غير مكفر عنه الآثام، كما أن الجنة تبقي من بدنه ما لا تستره، فيكون معرضاً للآفات. الثالث: النماء في جانب والانكماش في الجانب الآخر، فهو تمثيل لنماء المال بالصدقة، والبخل بضده. (ملحوظة) قال القاضي عياض: وقع في هذا الحديث أوهام كثيرة من الرواة، وتصحيف وتحريف، وتقديم وتأخير، ويعرف صوابه من الأحاديث والروايات الأخرى، فمن الأوهام مثل المنفق والمتصدق وصوابه المتصدق والبخيل، ومنها كمثل رجل، وصوابه رجلين عليهما جنتان. ومنها قوله: جبتان أو جنتان بالشك، وصوابه جنتان بالنون بلا شك. اهـ. وقال النووي: في هذا الكلام اختلال كثير، لأن قوله: تجن بنانه وتعفو أثره إنما جاء في المتصدق، وفيه رواية بعضهم تحز ثيابه بالحاء والزاي، وهو وهم، والصواب رواية الجمهور تجن بالجيم والنون، أي تستر، وفيه رواية بعضهم ثيابه بالثاء، وهو وهم، والصواب بنانه بالنون، وهو رواية الجمهور، كما قال في الحديث الآخر أنامله. اهـ. (أما بعد) فإن هذه الأوهام -بحمد الله- ظاهرة لا تؤثر في بيان المراد من الحديث، وربما كان سببها جزالة التمثيل وعمق ألفاظه ومعانيه. والله أعلم. الرواية (43) (قال رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، وعند أحمد أنه كان من بني إسرائيل. (لأتصدقن الليلة بصدقة) في الكلام قسم مقدر، كأنه قال: والله لأتصدقن، فاللام في جواب القسم، والظاهر أنه من قبيل إنشاء الالتزام كالنذر. (فوضعها في يد زانية) وهو لا يعلم أنها زانية. (فأصبحوا يتحدثون) جملة يتحدثون خبر أصح والمراد بهم القوم الذين يعيش هذا المتصدق بينهم، ولعلهم كانوا يعلمون بقسمه، وعلموا عن طريق المرأة أنه تصدق عليها، ولعلهم تابعوا خطواته حتى أعطي، فأصبحوا يتحدثون، وبلغه الحديث. (تصدق الليلة على زانية) تصدق بالبناء للمجهول، والجملة تجري مجرى التعجب من هذا الفعل. (قال: اللهم لك الحمد على زانية) أي قال بعد أن علم حديثهم، واللهم منادى على وجه الدعاء، ولك الحمد يفيد القصر، طريقه تقديم ما حقه التأخير، أي لك الحمد، لا لغيرك، أي وليس لي، حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي، وقد ظن بعض العلماء أن الحمد لا يكون إلا على أمر جميل، فجعل الجملة تعجباً بإجراء الحمد مجرى التعجب من قبيل تعظيم الله عند رؤية شيء عجيب، كما يقال: سبحان الله عند مشاهدة ما تعجب منه. قال الطيبي: لما قالوا: تصدق الليلة على زانية متعجبين، تعجب هو أيضاً من وقوع ذلك منه. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أنه سلم ورضي بقضاء الله تعالى، فحمد الله على تلك الحال غير الجميل، والله محمود على كل حال، لا يحمد على مكروه سواه، وقد ثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما لا يعجبه قال: اللهم لك الحمد على كل حال. (لأتصدقن بصدقة) التزام بإعادة التصدق، حيث رأى أن الأولى لم تقع موقعها. (فوضعها في يد غني) وهو لا يعلم أنه غني. (اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق) جمعهم بعد أن أفرد كلا منهم ليكرر الحمد ويؤكده، أو زيادة في التعجب من هذه المصادفات العجيبة. (فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت) قال الكرماني: أتي أي رأي في المنام، أو سمع هاتفاً، ملكاً أو غيره، أو أخبره نبي، أو أفتاه عالم. وقال غيره: أو أتاه ملك فكلمه، فقد كانت الملائكة تكلم الناس في بعض الأمور. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون أخبره بذلك نبي زمانه، أو أخبر في نومه. وقال صاحب التلويح: لو رأى ما في مستخرج أبي نعيم والطبراني لما احتاج إلى هذا التخرص. ففي روايتهما: فساءه ذلك فأتي في منامه، فقيل له: إن الله عز وجل قد قبل صدقتك. (أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها) السين والتاء للصيرورة، أي فلعلها تصير عفيفة بهذه الصدقة، فتستغني بها عن أجر زناها. الرواية (44، 45، 46، 47، 48، 49) (إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ....ما أمر به) ينفذ بضم الياء وسكون النون وكسر الفاء مخففة من أنفذ، أو بضم الياء وفتح النون وكسر الفاء المشددة من نفذ بتشديد الفاء. (فيعطيه كاملاً موفراً) بضم الميم وفتح الواو وتشديد الفاء المفتوحة تأكيد للكمال. (طيبة به نفسه) طيبة بالنصب على الحالية، ونفسه فاعل طيبة. (أحد المتصدقين) خبر إن الخازن والمتصدقين ضبطه النووي بفتح القاف على التثنية، وقال: معناه له أجر متصدق. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: ضبط في جميع روايات الصحيحين بفتح القاف على التثنية. قال القرطبي: ويجوز الكسر على الجمع، أي هو متصدق من المتصدقين. (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها) في الرواية التالية من بيت زوجها. وفي رواية للبخاري إذا أطعمت المرأة من بيت زوجها. وفي رواية أخرى إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها. (غير مفسدة) أي غير متجاوزة القدر المأذون فيه عادة. (وللخازن مثل ذلك) أي إذا أنفق من مال سيده غير مفسد فله أجر بما أنفق ولسيده أجر بما كسب. (وله مثله بما اكتسب) المماثلة في مسمى الأجر، لا في مقداره، فقد يزيد أجر المعطي، وقد يزيد أجر المكتسب كما سيأتي في فقه الحديث. (عن عمير مولى آبي اللحم) آبي اسم فاعل من أبى يأبى أي امتنع يقال: إنه كان لا يأكل اللحم، لكن يبعده ما جاء في الرواية التالية أمرني مولاي أن أقدد لحما. وقد يقال: كان يقدد لغيره، والأولى ما قيل من أنه كان في الجاهلية لا يأكل مما ذبح للأصنام. قال النووي: واسمه عبد الله. وقيل: خلف. وقيل: الحويرث الغفاري، وهو صحابي استشهد يوم حنين. (كنت مملوكاً) هذا قول عمير، أي كنت عبداً لآبي اللحم. (أأتصدق من مال موالي بشيء)؟ أي من مال أسيادي؟ والمقصود بالإذن العام كما سيأتي. (قال: نعم. والأجر بينكما نصفان) في المناصفة وعدمها تفصيل يأتي في فقه الحديث. (أمرني مولاي أن أقدد لحما) أي أجففه، أشبه بما يسمى بالمشوي. (فقال: الأجر بينكما) قال النووي: معناه: لكل منكما أجر، وليس المراد أن أجر نفس المال يتقاسمانه. هذا هو التأويل المعتمد. (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) أي زوجها مقيم في البلد، لأن في صومها اعتداء على حقه في الاستمتاع بها، ومنعاً منه. الرواية (50، 51، 52) (من أنفق زوجين في سبيل الله) كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج يقال زوجت بين الإبل إذا قرنت بعيراً ببعير، والزوج يطلق على الاثنين، وعلى أحد المتزاوجين، ويطلق الزوج أيضاً على الصنف، وفسر به في قوله تعالى: {وكنتم أزواجاً ثلاثة} [الواقعة: 7]. فمعنى الحديث: من أنفق شيئين، وقرن بين صدقتين من جنسين في وقت واحد كدرهم وثوب، أو من جنس في وقتين متقاربين. والمقصود الحث على الإكثار من الصدقة. وقوله: في سبيل الله قيل: هو على العموم في جميع وجوه الخير. وقيل: هو مخصوص بالجهاد. قال القاضي: والأول أصح وأظهر. (نودي في الجنة: يا عبد الله. هذا خير) في الرواية الواحدة بعد الخمسين صرح بالمنادي وأنهم خزنة باب الطاعة التي فعلها، وصرح بالنداء وأنه الدعوة إلى الدخول من الباب الخاص بهذه الطاعة، فينادي هؤلاء الخزنة: يا عبد الله. يا فلان. هلم وتعال فادخل من هذا الباب فهو خير. (فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة) قال العلماء: معناه من كان الغالب على طاعاته الصلاة دعي من باب الصلاة. (ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان) قال العلماء: سمي باب الريان تنبيهاً على أن العطشان بالصوم في الهواجر سيروى، وعاقبته الري أبداً وعدم الظمأ. وقد ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أربعة أبواب. قال القاضي: وقد جاء ذكر بقية أبوب الجنة الثمانية في حديث آخر، باب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وباب الراضين. فهذه سبعة أبواب، يضاف إليها الباب الأيمن الوارد في حديث السبعين ألفاً، فلعله الباب الثامن. اهـ. (ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟) أي هل هناك ضرر أو اضطرار حين يدعى أحد من تلك الأبواب؟ والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي أظن أنه ليس على أحد ضرورة. (أي فل، هلم) أي حرف نداء، وفل منادى حذف منه آخره على الترخيم، وأصله فلان، وهلم اسم فعل أمر بمعنى أقبل. والمعنى: يا فلان أقبل من هذا الباب فهو خير لك. (ذلك الذي لا توى عليه) بفتح التاء والواو، أي لا هلاك عليه. الرواية (53، 54، 55، 56) (أنفقي أو انضحي أو انفحي) النفح والنضح: العطاء، ويطلق النضح أيضاً على الصب، فيكون أبلغ من النفح، ولعله المراد هنا، وانضحي بكسر الضاد وفتحها، وانفحي بفتح الفاء. (ولا تحصي فيحصي الله عليك) فيحصي الفعل منصوب، لأنه جواب النهي بالفاء، والإحصاء معرفة قدر الشيء أو عدده أو وزنه. والنهي عن إحصاء المال هنا إما نهي عن إحصائه وعد ما يعطى من النفقة، فيستكثرها، فهو كقوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} [المدثر: 6] فتكون العاقبة أن يستكثر الله عليه ما يعطيه إياه فيكون سبباً في التضييق عليه، وإما نهي عن إحصاء ما تملك فتستقله، فتخاف النفقة منه، فتكون العاقبة زوال البركة مما عندك، ولما كان الله يثيب على العطاء بغير حساب، فحساب الله وإحصاؤه يقطع البركة منه، أو يحبس الرزق عن صاحبه، أو يحاسب عليه في الآخرة. (ولا توعي فيوعي الله عليك) يقال: أوعيت المتاع في الوعاء إذا جعلته فيه، ووعيت الشيء حفظته، والمعنى: لا تحرصي على الادخار والجمع في الوعاء دون إنفاق فيمسك الله عنك ولا يمدك بالعطاء. (ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير) زوجي، أي لا أملك لنفسي مالاً، وكل ما أتصرف فيه هو مال الزبير وما اكتسبه. (فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي)؟ الرضخ العطاء اليسير. والمعنى: فهل علي إثم إذا أعطيت من مال الزبير في سبيل الله؟. (ارضخي ما استطعت) أي انفقي بغير إجحاف ما دمت قادرة مستطيعة فـما ظرفية دوامية. وقال الكرماني: معناه ارضخي الذي استطعته، أو شيئاً استطعته، فـما موصولة، أو نكرة موصوفة. قال النووي: معناه مما يرضى به الزبير، وتقديره: أن لك في الرضخ مراتب مباحة، بعضها فوق بعض؛ وكلها يرضاها الزبير. فافعلي أعلاها، أو يكون معناه: ما استطعت مما هو لك. (يا نساء المسلمات) قال النووي: ذكر القاضي عياض في إعرابه ثلاثة أوجه أصحها وأشهرها نصب نساء وجر المسلمات على الإضافة. قال الباجي: وبهذا رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه والموصوف إلى صفته والأعم إلى الأخص، كمسجد الجامع وجانب الغربي، وهو عند الكوفيين جائز على ظاهره، وعند البصريين يقدرون فيه محذوفاً، أي مسجد المكان الجامع، وجانب المكان الغربي، ويقدر هنا: يا نساء الأنفس المسلمات، أو الجماعات المسلمات. وقيل: تقديره يا فاضلات المسلمات، كما يقال: هؤلاء رجال القوم، أي ساداتهم وأفضلهم. الوجه الثاني: رفع نساء ورفع المسلمات أيضاً على معنى النداء والصفة، أي يا أيها النساء المسلمات. قال الباجي: وهكذا يرويه أهل بلدنا. الوجه الثالث: رفع نساء وكسر التاء من المسلمات على أنه منصوب على أنه الصفة على الموضع، -أي موضع المنادى النصب- كما يقال: يا زيد العاقل، برفع زيد، ونصب العاقل. (لا تحقرن جارة لجارتها) وفي رواية جارة لجارة بحذف الضمير، وفي الكلام مضاف محذوف، تقديره لا تحقرن جارة صدقة أو هدية لجارتها، والحقر والاحتقار بمعنى. (ولو فرسن شاة) قال النووي: قال أهل اللغة: هو بكسر الفاء والسين وهو الظلف. وقال غيره: بكسر الفاء والسين بينهما راء ساكنة. وحكى فتح السين -وأصله في الإبل، وهو فيها مثل القدم في الإنسان. قالوا: ولا يقال إلا في الإبل، ومرادهم أصله مختص بالإبل، ويطلق على الغنم استعارة. اهـ. وفرسن خبر لكان المحذوفة مع اسمها، والتقدير: ولو كان المتصدق به أو المهدى فرسن شاة الذي هو عظم قليل اللحم جداً حقير في ذاته غالباً. وظاهر الحديث نهي عن أن تحتقر الصدقة المقدمة إليها مهما قلت. لكن العلماء يوردونه على أنه نهي للمتصدقة عن أن تحتقر صدقتها، على معنى لا تمنع جارة من الصدقة على جارتها خوفاً من حقارة الموجود عندها، بل تجود بما تيسر، وإن كان قليلاً، كفرسن شاة، فهو خير من العدم، فهو قريب من حديث: اتقوا النار ولو بشق تمرة. الرواية (57) (سبعة) تمييز العدد محذوف، أي سبعة أشخاص من الناس، وهو مبتدأ سوغ الابتداء به وهو نكرة ملاحظة الإضافة والوصف. (يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) قال النووي: قال القاضي: إضافة الظل إلى الله تعالى إضافة ملك، وكل ظل فهو لله، وملكه، وخلقه وسلطانه. قال: والمراد هنا ظل العرش، كما جاء مبيناً في حديث آخر، والمراد باليوم يوم القيامة، إذا قام الناس لرب العالمين، ودنت منهم الشمس واشتد عليهم حرها، وأخذهم العرق، ولا ظل هناك لشيء إلا للعرش، وقد يراد به هنا ظل الجنة، وهو نعيمها والكون فيها، كما قال تعالى: {وندخلهم ظلاً ظليلاً} [النساء: 57] قال القاضي: وقال ابن دينار: المراد بالظل هنا الكرامة والكنف، والكف من المكاره في ذلك الموقف، قال: وليس المراد ظل الشمس. قال القاضي: وما قاله معلوم في اللسان، يقال: فلان في ظل فلان، أي في كنفه وحمايته. قال: وهذا أولى الأقوال، وتكون الإضافة إلى العرش لأنه مكان التقريب والكرامة، وإلا فالشمس وسائر العالم تحت العرش وفي ظله. (الإمام العادل) خبر لمبتدأ محذوف، تقديره أحدهم الإمام العادل. قال القاضي: هو كل من وكل إليه نظر في شيء من مصالح المسلمين من الولاة والحكام وبدأ به لكثرة مصالحه وعموم نفعه، وفي بعض النسخ الإمام العدل وهما صحيحان. (وشاب نشأ بعبادة الله عز وجل) والمشهور في روايات هذا الحديث نشأ في عبادة الله قال النووي: وكلاهما صحيح، ومعنى رواية الباء نشأ متلبساً للعبادة فالباء للملابسة، أو مصاحباً لها، فالباء للمصاحبة. اهـ والظاهر أن المراد بالشاب هنا من لم يجاوز الأربعين، وبالعبادة مطلق الطاعة، وبنشأته فيها أن تغلب طاعته على معصيته في أول أمره. (ورجل قلبه معلق في المساجد) قال النووي: هكذا هو في النسخ كلها في المساجد وفي بعض الروايات بالمساجد وفي بعضها متعلق والكل صحيح، ومعناه شديد الحب للمساجد والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد، فتعلق قلبه بالمسجد حبه له، حتى إذا خرج منه، يؤكد هذا المعنى حديث ورجل معلق بالمسجد، إذا خرج منه يعود إليه. (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) وفي رواية اجتمعا على ذلك، وتفرقا عليه فالإشارة والضمير في عليه يعود على الحب في الله. والمعنى: اجتمعا على حب الله. وافترقا على حب الله، أي كان سبب اجتماعهما حب الله، واستمرا على ذلك حتى تفرقا -من مجلسهما، أو من شركتهما، أو علاقاتهما، أو من حياتهما- أي انتهى اجتماعهما، وحب الله مصاحب افتراقهما. فكلمة في للسببية، مثلها في حديث دخلت امرأة النار في هرة حبستها. أي بسبب هرة إلخ. وتحابا أصله تحاببا، أدغم أول المثلين في ثانيهما، والتفاعل حب من الجانبين. (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) ذات المنصب هي صاحبة الحسب والنسب الشريف والمال الوفير، وخصت هنا ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها من الرجال، وعسر وصولهم إليها، فكيف إذا كانت هي الداعية إلى نفسها، موفرة مشاق ومحاولة السعي إليها، فالصبر عنها لخوف الله تعالى مع هذه المغريات والدوافع من أكمل المراتب وأعظم الطاعات. أما قوله: إني أخاف الله فيحتمل أنه يقولها بلسانه، ويحتمل أن يقولها بقلبه ليزجر نفسه. والمدعو إليه من المرأة مبهم في الحديث، ذكر العلماء فيه احتمالين. الأول: أنه يحتمل أنها دعته إلى نكاحها والزواج بها، فخاف العجز عن القيام بحقها، أو خاف مسئولية حمايتها من انحرافها، أو خاف الانشغال بالتمتع بها وشهوتها عن حقوق الله تعالى وطاعته. الاحتمال الثاني -وهو المشهور والأصح- أنها دعته إلى الزنا بها. (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) قال النووي: هكذا وقع في جميع نسخ مسلم في بلادنا وغيرها، وكذا نقله القاضي عياض عن جميع روايات نسخ مسلم حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، والصحيح المعروف حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. هكذا رواه مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه -وترجم له بباب الصدقة باليمين- وغيرهما من الأئمة، وهو وجه الكلام، لأن المعروف في النفقة فعلها باليمين. قال القاضي: ويشبه أن يكون الوهم فيها من الناقلين عن مسلم، لا من مسلم، بدليل إدخاله بعده حديث مالك رحمه الله -وقال: بمثل حديث عبيد الله، وبين الخلاف بين الروايتين بقوله: وقال: ورجل معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه. فلو كان ما رواه مخالفاً لرواية مالك لنبه عليه على هذا الاختلاف. (راجع لفظ وسند الرواية رقم (57) وملحقها فيما سبق عند ذكرنا للنصوص). وقال بعض العلماء: ذكر اليمين والشمال مبالغة في الإخفاء والاستتار بالصدقة، وضرب المثل بهما لقرب اليمين من الشمال، وملازمتها لها، من غير قصد أيهما تعطي وأيهما تعلم، بل ربما كان في رواية حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله. لو صحت أبلغ في هذا المراد، على معنى أن اليمين المتخصصة في العطاء العليمة بمداخله ومخارجه لا تعلم عطاء الشمال لمبالغتها في الإخفاء. ونقل القاضي عن بعضهم أن المراد من عن يمينه وشماله من الناس. قال: والصواب الأول. (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ذكر من الذكر بكسر الذال فهو باللسان، أو من الذكر بضم الذال فهو بالقلب، والمراد خالياً أي بعيداً منفرداً، أو خالياً من الالتفات إلى غير الذكر، ولو كان في ملإ وهو منصوب على الحال. ومعنى فاضت عيناه امتلأتا بالدمع حتى فاض عنها، فالفائض هو الدمع لا العين. ففيه مجاز الحذف، ففاض دمع عينيه، وأسند الفيض إلى العين مبالغة، حيث جعلت العين من فرط البكاء كأنها نفسها تفيض. الرواية (58، 59) (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسميته ويحتمل أن يكون أبا ذر، ففي مسند أحمد أنه سأل: أي الصدقة أفضل؟. (أي الصدقة أعظم) في الرواية التالية: أي الصدقة أعظم أجراً، وفي رواية للبخاري وملحق روايتنا الثانية أي الصدقة أفضل أي عند الله. (أن تصدق وأنت صحيح شحيح) أن تصدق بتشديد الصاد، وأصله تتصدق فأبدلت إحدى التاءين صاداً، وأدغمت الصاد في الصاد، ويجوز تخفيف الصاد بحذف إحدى التاءين، والمصدر المنسبك من أن تصدق خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أعظم الصدقة أجراً تصدقك في حالة الصحة والشح، فجملة وأنت صحيح شحيح في محل النصب على الحال، وشحيح خبر بعد خبر وهو صفة مشبهة من الشح مثلث الشين، وضمه أشهر. وقيل: الفتح مصدر والضم اسم. قيل: هو البخل. وقيل: الشح بخل مع حرص. وقيل: الشح ما هو من قبل الطبع. كأنه وصف لازم في طبيعة الإنسان، أمر بعلاجه ومجاهدته إلى السخاء، والبخل بروز الشح في أفراد الأمور وخواص الأشياء. (تخشى الفقر وتأمل الغنى) في الرواية التالية تخشى الفقر وتأمل البقاء أي تطمع في زيادة المال وطول العمر، والصدقة في هذه الحالات فيها شدة مراغمة للنفس. (ولا تمهل) روي بسكون اللام على صورة النهي، وروي بفتح اللام وتقديره وأن لا تمهل، معطوف على قوله أن تصدق. (حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا) حتى للغاية، وضمير بلغت يرجع إلى الروح بدلالة سياق الكلام عليها، والحلقوم هو الحلق، والمراد من بلوغ الروح الحلقوم مقاربته، إذ لو بلغته حقيقة لم تصح وصيته ولا شيء من تصرفاته، وقوله: لفلان كذا كناية عن الموصى له والموصى به. (ألا وقد كان لفلان) كناية عن الوارث، أي وقد صار المال ملكاً للوارث، أو صار التصرف وإجازة الوصية أو عدم إجازتها حقاً للوارث، وخرج عن تصرفك وكمال ملكك، فالجملة على هذا حالية ليست من مقول المحتضر. وقيل: هي من مقول المحتضر، أي وقد كان لفلان عندي دين هو كذا. (أما وأبيك لتنبأنه) قال النووي: قد يقال: حلف بأبيه، وقد نهي عن الحلف بغير الله، وعن الحلف بالآباء؟ والجواب أن النهي عن اليمين بغير الله لمن تعمده، وهذه اللفظة الواقعة في الحديث تجري على اللسان من غير تعمد، فلا تكون يميناً، ولا منهياً عنها. اهـ. فقه الحديث كان من الصعب تقسيم هذه المجموعة من الأحاديث إلى أبواب صغيرة مع المحافظة على ترتيبها كما هو في صحيح الإمام مسلم، ذلك أن أحاديث الباب الواحد قد تذكر متناثرة في أماكن متباعدة، كما أن هذه الأحاديث متداخلة في موضوعها، ومن الصعب التبويب لكل منها دون تكرير أو تشابه العناوين كما حدث للإمام النووي رحمه الله تعالى، فقد وضع التراجم أخذاً من الأحاديث فتشابهت كما هو واضح من تبويبه. ولما كان عملنا في هذا الكتاب أقرب إلى شرح الحديث موضوعياً قسمنا هذه المجموعة الكبرى إلى مجموعات صغيرة مراعين ترتيب الإمام مسلم عند الكلام على المباحث العربية. ولم نلتزم هذا الترتيب في فقه الحديث فقسمناها إلى تسعة موضوعات، بعد دخولها كلها تحت عنوان [الترغيب في الإنفاق]. الموضوع الأول: الترغيب في الإنفاق بصفة عامة. الموضوع الثاني: فضل النفقة من الكسب الطيب. الموضوع الثالث: فضل النفقة من أحب الأموال. الموضوع الرابع: فضل النفقة بالقليل وعدم احتقاره. الموضوع الخامس: فضل نفقة السر. الموضوع السادس: فضل نفقة الخازن من مال السيد. والزوجة من مال زوجها. الموضوع السابع فضل الإنفاق على العيال والأهل والأقربين ومن تعول. الموضوع الثامن: قبول الصدقة إذا وضعت في غير موضعها من غير علم. الموضوع التاسع: الحث على التعجيل بالإنفاق. وهذا هو التفصيل. فضل الإنفاق بصفة عامة وفضيلة الشيء تظهر من مكسبه في الدنيا ومن جزائه في الآخرة، كما تظهر في خسارة نقيضه دنيا، وعاقبة نقيضه في الآخرة، وقد اتخذت الشريعة لذلك أسلوب الحث على الإنفاق والترغيب فيه والوعد الجميل عليه كما اتخذت لذلك أسلوب التحذير من الشح والتنفير منه والوعيد الشديد عليه. نقرأ ذلك في الحديث القدسي رقم (1) و(2) من أحاديثنا حيث يقول الله تعالى: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك -أي لا تخش نفاد ما لديك، فالله هو الرزاق ابتداء، والله رزاق حالاً واستقبالاً. خزائنه لا تنفد -يمين الله ملأى- على الدوام، معطاءة سحاء على الدوام، لا ينقصها العطاء مهما أعطت لا يغيضها شيء دوام الليل والنهار. لو تدبرنا كم أنفقت البشرية؟ وكم استهلكت من أرزاق منذ خلق السموات والأرض؟ لو تصورنا ذلك تخيلنا كماً هائلاً، ومع ذلك لم تنفد خزائنه، بل لم تنقص، فهو القائل جل شأنه لو أن أهل السموات والأرض قاموا في صعيد واحد فطلب كل منهم ما طلب فأعطيت كلاً منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر. أرأيتم ماذا أنفق مذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ولم ينقص ما في يمينه يعطي ويمنع، كل يوم هو في شأن، يرفع أقواماً ويخفض آخرين {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب} [آل عمران: 26، 27]. هل من يقرأ ذلك يخشى الفقر من الإنفاق. إن الإمساك خشية الفقر وسوسة من إبليس {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً} [البقرة: 268]. إن الوعد من الذي لا يخلف وعده، القادر الذي يملك كل شيء يجعل المنفق واثقاً من أن الله سيخلف عليه ما أنفق أضعافاً مضاعفة في الدنيا، مصداقاً لقوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} [البقرة: 245] ومصداقاً لقوله: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: 39]. وإن الأحاديث التي تدعو إلى الإنفاق وتعد بأن الله يخلف على المنفق كثيرة، فالحديث الثالث والعشرون يقول: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم اعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم اعط ممسكاً تلفاً. قال النووي: قال العلماء هذا في الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك، بحيث لا يذم ولا يسمى سرفاً، والإمساك المذموم هو الإمساك عن هذا. اهـ. وقال القرطبي: هو يعم الواجبات والمندوبات، لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق هذا الدعاء، إلا أن يغلب عليه البخل المذموم، بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه لو أخرجه. اهـ. ومن المعلوم أن دعاء الملائكة مجاب، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، لكن الإجابة للدعاء بالخلف للمنفق تحتمل ثلاثة أمور: إما العوض المالي مع المضاعفة في الدنيا، وإما أن يدفع عنه من السوء في الدنيا بما يقابل نفقته، وإما أن يحتفظ له بالعوض كثواب أخروي، وسنتحدث عن الأخير فيما بعد. والإجابة للدعاء بالتلف للممسك تحتمل خمسة أمور: إما تلف في المال الموجود بالضياع أو عدم الانتفاع بصرفه فيما لا ينفع أو فيما يضر، وإما تضييق في الرزق، فيكون الممنوع في حكم ما أعطي وتلف، وإما تلف في غير المال من النعم الأخرى كتلف الأنفس والصحة، وإما انشغال بأموال عن الطاعات، فتكون الطاعات غير الحاصلة في حكم التي وصلت وأحبطت، وإما ضياع الأجر والثواب وضياع الحسنات التي كان من الممكن تحصيلها بالإنفاق، فتكون الحسنات الضائعة في حكم الحاصلة التالفة. وظاهر الحديث في إخلاف المال للمنفق وإتلافه عليه في الدنيا. وكثير من الناس بحكم الطبيعة البشرية يحرص على الإخلاف المالي في الدنيا ويدفعه ذلك إلى الإنفاق، وقد كانت الأحاديث (53)، (54)، (55) صريحة في ذلك، ففي ألفاظها أنفقي أو انضحي أو انفحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك. ولا توعي فيوعي الله عليك. ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعي الله عليك. ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 276] فأموال الربا نهايتها المحق لا محالة، وأموال الصدقات نامية في الدنيا بإذن الله، كما يزيده تأكيداً قوله جل شأنه: {وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 39]. هذه شعبة من شعب فوائد الإنفاق التي تعود على صاحبها في الدنيا. الشعبة الثانية أن المنفق تسخو نفسه، وتصفو روحه، وتنمو قناعته، وتتسع عليه الحياة، ويحس بالراحة والسعادة، ويصبح من حوله من الناس أحباباً له، يحرصون على مصالحه، ويدفعون عنه ما عساه أن يضره، ويتمنون له الخير، ويقل أعداؤه ويزداد أمنه، يقول المنفلوطي في هذا المعنى: أحسن إلى الفقراء والمساكين، وأعدك وعداً صادقاً أنك ستمر في بعض لياليك على بعض الأحياء الخاملة فتسمع من يحدث جاره من حيث لا يعلم بمكانك أنك أكرم مخلوق وأشرف إنسان، ثم يعقب الثناء عليك بالدعاء لك أن يجزيك الله خيراً بما صنعت فيدعو صاحبه بدعائه. وهنالك تجد من سرور النفس وحبورها بهذا الذكر الجميل في هذا الحي الخامل ما يجده الصالحون إذا ذكروا في الملإ الأعلى. اهـ. يصور هذه الشعبة أقوى تصوير الحديث (40)، (41)، (42) إذ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً للبخيل والمنفق، وشبههما برجلين يلبس كل منهما درعاً من حديد نسج في حلقات، يغطى من أعلى الكتفين إلى أسفل الثديين، مقيداً اليدين، فإذا ما تصدق المتصدق، وأنفق المنفق اتسع الدرع، وتمددت الحلقات حتى يصبح ثوباً واسعاً، يغطي اليدين حتى أطراف الأنامل دون أن يقيد حركتها، ويغطي جميع البدن، وينسدل حتى يغطي القدمين، بل يزيد شبراً يجر بالأرض، فيصبح هذا الرجل مستوراً، آمناً، موسعاً عليه، مرتاح النفس، حر الحركة، راضياً مرضياً، وإذا ما فكر البخيل في الإنفاق تراجع وأمسك، فيضيق الدرع وتنكمش الحلقات وتضيق، وتلتصق كل حلقة على مكانها من الجسد فتضايقه، حتى تغل يديه إلى عنقه، فيضيق تنفسه، يبيت في هم ماله، وعده وكيفية زيادته، وفي طريقة حفظه أو إخفائه عمن حوله، يبيت يعمل فيه كما يعمل السارق. هم وخوف بالليل، وانشغال بالنهار، إحساس بالفقر وهو غني، وشعور بالحاجة وعنده الكثير، الحياة ضيقة عليه مع سعة العيش، ونفسه يختنق وحوله الهواء، يبحث عن السعادة فلا يجدها، يتعب نفسه في توسيع الدرع فلا يتسع. الشعبة الثالثة: أن المنفق يكتسب الرفعة والمكانة، ويعلو بنفسه بين أفراد المجتمع، فاليد المعطية فوق اليد الآخذة، واليد العليا خير من اليد السفلى، كما هو صريح الحديث (60) وقد قيل: أطعم الفم تستح العين، والإنسان عبد الإحسان، والآخذ كثيراً ما يذل ويخضع للمعطي، قال الشاعر: خلقت عيوفاً لا أرى لابن حرة على يدا أغضي لها حين يغضب ويقول آخر: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان الشعبة الرابعة: أن المنفق يسهم بشكل كبير في إصلاح بيئته؛ مما يعود عليه بالنفع لا محالة، فالتكافل الاجتماعي ليس في مصلحة الآخذ وحده في الدنيا بل في مصلحة المنفق أيضاً؛ بل قد يكون المستفيد بصفة أكثر، فقضاء مصالحه موقوف على عطائه، يصور هذه الشعبة أصدق تمثيل الحديث رقم (36) والحديث رقم (43) ففقراء مضر، ومظهر الشدة والحاجة التي جاءوا عليها أزعجت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجسدت أمامه صورة أمته لو لم يتكافل أعضاؤها فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم غضباً وحزناً وأسفاً، كيف يوجد أمثال هؤلاء بين قوم قيل لهم: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} [الحجرات: 13]؟ كيف يقبل من آتاه الله مالاً أن يرى أخاه بهذه الصورة ثم لا يفيض عليه. إن الأب واحد، وإن الأم واحدة؛ وما رفع الله بعض الإخوة على بعض إلا ليحتاج كل إلى الآخر فتترابط المصالح، ويفيد كل طرف من الآخر. إن الصورة التي بدا عليها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقلوب صحابته رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يشق عليهم رسول الله حين دعاهم للتصدق ولو بشق تمرة لأجابوا، ولكنه دعاهم للتصدق ببعض ما عندهم، صاحب الدنانير ببعض دنانيره، وصاحب الدراهم ببعض دراهمه، وصاحب الثياب ببعض ثيابه، وصاحب صاع البر من صاع بره ولو قبضة، وصاحب صاع التمر من صاع تمره ولو تمرة. بل ولو شق تمرة. نعم كان الصحابة عند حسن الظن، تتابعوا بالعطاء، حتى تجمع كومان كبيران من طعام ونقود وثياب فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النووي عن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها..إلخ: فيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وتخصيص حديث: كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة. قال: وقد سبق بيان هذا في كتاب صلاة الجمعة، وذكرنا هناك أن البدع خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة. اهـ. إن الإصلاح للمجتمع واجب كل قادر عليه، ولقد قبل الله صدقة المتصدق على الغني، والمتصدق على زانية، والمتصدق على سارق، لأن في ذلك إصلاحاً لهم، فربما انكسف الغني واستحيا من نفسه، واعتبر بالمنفق عليه فأصلح من نفسه واقتدى، وربما كانت الزانية محتاجة إلى أجر زناها فتعف بالنفقة التي منحتها، وربما كان السارق يسرق ما يحتاجه، فبسد حاجته قد يقلع عن سرقته فيأمن الأغنياء على أموالهم. قال النووي: في الحديث ثبوت الثواب في الصدقة وإن كان الآخذ فاسقاً وغنياً، ففي كل كبد رطبة أجر. قال: وهذا في صدقة التطوع، وأما الزكاة فلا يجزي دفعها إلى غني. اهـ. فإن دفعها إلى غني وهو لا يعلم، ثم علم وجبت عليه الإعادة. لأنه لم يضع الزكاة موضعها، وأخطأ في اجتهاده، كما لو نسي الماء في رحله وتيمم لصلاة لم يجزه. وقال أبو حنيفة: تسقط عنه تلك الزكاة، ولا تجب عليه الإعادة. وفي الحديث أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، وفيه دليل على أن الله يجزي العبد على حسب نيته في الخير، وفيه اعتبار لمن تصدق عليه، ورجاء بأن يتحول عن الحال المذمومة إلى الحال الممدوحة، وفيه فضل صدقة السر، وفضل الإخلاص، وفيه استحباب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع، وفيه أن الحكم للظاهر حتى يتبين خلافه، وفيه التسليم والرضا، وحمد الله على كل حال. تلك الشعب الأربع تعود بالنفع الدنيوي على المنفق، أما عن النفع الأخروي فيتمثل في ثلاث شعب: الوقاية من النار، ونمو النفقة المدخرة عند الله حتى تعظم، وأن للنفقة الصغيرة الأجر العظيم. فالأحاديث (32)، (33)، (34)، (36) تتحدث عن الشعبة الأولى من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل. ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه. فاتقوا النار ولو بشق تمرة. ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار، فأعرض وأشاح، ثم قال: اتقوا النار. ثم أعرض وأشاح حتى ظننا أنه كأنما ينظر إليها، ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة. ذكر النار، فتعوذ منها، وأشاح بوجهه ثلاث مرار، ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة. والحديثان (29)، (30) يتناولان نمو الصدقة الصغيرة عند الله، ولفظهما: ما تصدق أحد بصدقة من طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه- وإن كانت تمرة- فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله. لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه، فيربيها، كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم. والأحاديث (38)، (39)، (50)، (51)، (52) تكشف عن الأجر العظيم للمنفق عند الله، فألفاظها: ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو بعس وتروح بعس؟ إن أجرها لعظيم. من منح منيحة غدت بصدقة، وراحت بصدقة، صبوحها وغبوقها. من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله. هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان. قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. وأرجو أن تكون منهم. من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة. كل خزنة باب. أي فلان، هلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاًً؟ قال أبو بكر: أنا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة. هذا. ويلحق بإنفاق المال كل معروف، فإنفاق الجهد كإنفاق المال، له مكافأته الدنيوية، وأجره العظيم في الآخرة، يعبر عن ذلك أصدق تعبير الأحاديث (18)، (19)، (20)، (21)، (22)، (35) وألفاظها: كل معروف صدقة. إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام؟ كان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر. قال النووي: في هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات. فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة. قال: وفي الحديث جواز القياس وهو مذهب العلماء كافة، ولم يخالف فيه إلا أهل الظاهر، ولا يعتد بهم، وأما المنقول عن التابعين ونحوهم من ذم القياس فليس المراد به القياس الذي يعتمده الفقهاء المجتهدون، وهذا القياس المذكور في الحديث هو من قياس العكس، واختلف الأصوليون في العمل به، وهذا الحديث دليل لمن عمل به، وهو الأصح. قال: وفي هذا الحديث فضيلة التسبيح، وسائر الأذكار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النية في المباحات، وذكر العالم دليلاً لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيه المفتي على مختصر الأدلة، وجواز سؤال المستفتي عن بعض ما يخفي من الدليل إذا علم من حال المسئول أنه لا يكره ذلك، ولم يكن فيه سوء أدب. اهـ. أما الحديث (19) فلفظه: من كبر وحمد الله وهلل وسبح الله واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس، أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، وأمر بمعروف ونهى عن منكر، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح عن النار. على كل مسلم صدقة، قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق، قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف. قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير. قيل أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر، فإنها صدقة. كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة. اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة. وحتى الخازن يدفع ما يأمره به سيده أحد المتصدقين، والمرأة تنفق من مال زوجها من طعام بيتها غير مفسدة يكون لها أجرها بما ناولت، كما سيأتي ذلك في الأحاديث من (44) إلى (49) تحت عنوان: فضل نفقة الخازن. هذه هي الأحاديث التي أخرجها الإمام مسلم، والتي تخص فضل الإنفاق بصفة عامة، نضيف إليها بعض النصوص الأخرى لنزيد الموضوع ثراء وعلماً، وبالله التوفيق. يقول الله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً* إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً* فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً* وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً} [الإنسان: 8 وما بعدها]. وروى الطبراني: ما أنعم الله على عبد نعمة إلا كثرت مؤنة الناس عليه، فإن لم يحتمل مؤنتهم عرض تلك النعمة لزوالها. وروى عبد الرزاق في المصنف بإسناد حسن وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، والمنذري في الترغيب والترهيب عن أبي المنهال قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل له عكر [بكسر العين وسكون الكاف، وهو الكثير المزدحم من الإبل، من 50-100] من إبل وغنم، فلم يضفه، ومر بامرأة لها شويهات. فذبحت له وأضافته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انظروا. مررنا بهذا الرجل وله عكر من إبل وغنم وبقر فلم يذبح لنا، ولم يضفنا، وهذه إنما لها شويهات، فذبحت لنا وضيفتنا، ثم قال: إنما هذه الأخلاق بيد الله، فمن شاء أن يمنحه الله خلقاً حسناً فعل. وأخرج الترمذي في صفة الجنة، وأبو داود في الزكاة: أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمناً على عري كساه الله من خضر الجنة. وروى الطبراني: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء -أي استقلوه- وكان لرجل من غفار عين، يقال لها: رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعنيها بعين في الجنة. فقال: يا رسول الله. ليس لي ولا لعيالي غيرها، ولا أستطيع أن أتكسب. فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه، من يشتري لنا بئر رومة، فيجعلها صدقة للمسلمين سقاه الله يوم القيامة من العطش. فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم فجعلها صدقة للمسلمين. وروى مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم شيع جنازة أبي الدحداح، فقال بعد دفنه: كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لأبي الدحداح. قالوا: وسببه أن يتيماً خاصم أبا لبابة في نخلة، فبكى الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أعطه النخلة ولك بها عذق في الجنة -أي نخلة في الجنة- فقال: لا. فسمع بذلك أبو الدحداح، فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألي عذق في الجنة إن أعطيتها اليتيم؟ قال: نعم. فأعطاه إياها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لأبي الدحداح. وروى الترمذي عن عائشة: أنهم ذبحوا شاة، فتصدقوا منها، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة: ماذا بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: بقي كلها غير كتفها. كيف يعالج المؤمن شح نفسه؟ وكيف يعلم نفسه السخاء؟ ويتعود البذل والعطاء والإنفاق؟. إن المال أهم ما في الوجود، شهوته أهم من شهوة النساء، لأن شهوة النساء محدودة، وفي أوقات وشهوة المال غير محدودة، وفي جميع الأوقات لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى ثانياً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. رواه البخاري ومسلم: يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان. حب المال وطول العمر. رواه البخاري ومسلم. المال أخطر ما في الوجود، لأن صاحبه لا يدرك خطره إلا بعد فوات الأوان، بهجته تعمي الأبصار عن إدراك حقيقته، وجمعه يزيد الرغبة في جمعه، فهو كالمخدر الذي يشل حركة التفكير والتعقل والتدبر، إلا من عصمه الله. يضحي الإنسان في سبيله بكل غال، يضحي بالهدوء والراحة والسعادة والأهل والأوطان، ويشقى طول عمره من أجل المال، الجار يعادي الجار من أجل المال، الأخ يخاصم أخاه ويقاضيه من أجل المال، بل وصل الأمر إلى أن يقتل الولد أباه وأمه من أجل المال، وما الحروب بين الدول وقتل الآلاف ومئات الآلاف من البشر إلا من أجل الحاجة إليه، فحسب ابن آدم لقيمات تقمن صلبه، وما أكثر الذين يلهثون وراء المال وهم لا يحتاجونه، إنما حب المال وحب جمعه غرس في طبيعة الإنسان منذ خلق، يقول جل شأنه: {وتأكلون التراث أكلاً لماً وتحبون المال حباً جماً} [الفجر: 19، 20]. {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} [آل عمران: 14]. وحديثنا رقم (28) يرسم صورة ندم الإنسان، وأسفه على ما أضاعه في سبيل المال يوم يفيض المال ويفقد قيمته وتنتهي الحياة أو تقرب، وتقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القائل فيقول: في هذا قتلت. ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي. ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه، فلا يأخذون منه شيئاً. هذه حقيقة لا تحتاج إلى برهان، فحب المال في طبع الإنسان، لكن المؤمن مأمور بمحاربة معوجات الطبع لتوافق الشرع، وقد نبه الله إلى ذلك، وأرشد إلى العلاج من هذا الداء بأساليب كثيرة منها:

    1- آيات وأحاديث الترغيب في الإنفاق، التي سبق الكثير منها، وآيات وأحاديث الترهيب من البخل التي سبق الكثير منها، وجماعها قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن: 16]. وجماعها قوله صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. رواه البخاري. وقد مر بنا قريباً حديث أبي ذر، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة. إلا من أعطاه الله خيراً، فنفخ فيه يمينه وشماله، وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً، رواه مسلم. فعلى المؤمن أن يستخلص كل ذلك كجرعة أولى لعلاج هذا الداء. الجرعة الثانية: أن يستحضر في كل حالاته أن الله تعالى هو المعطي، وهو قادر على المنع؛ وأن المال في يد الإنسان أمانة ووديعة، أذن مالكها جل شأنه في الانتفاع بها في حدود وبشروط وبواجبات، وعلى العاقل أن يعمل في الوديعة بما رسم له، ولا يتعدى حدوده، لقد أكثر جل شأنه التنبيه على هذه الحقيقة كلما طلب الإنفاق، يقول: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33]. {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض} [آل عمران: 180]. {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7]. {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق: 7]. {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية} [إبراهيم: 31]. الجرعة الثالثة: أن يستحضر أن ما عنده من مال ليس نتيجة جهده وكفاحه وليس بقاؤه عنده نتيجة لذكائه ومهارته، فكم من الفقراء أصبح بين يوم وليلة من أغنى الأغنياء وكم من الأغنياء بات فأصبح يقلب كفيه على لا شيء، فقارون حينما قال: إنما أوتيته على علم عندي خسف به وبداره الأرض، {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} [القصص: 81]. وصاحب الجنتين، آتاه الله جنتين من أعناب، محفوفتين بنخل كثير، بينهما زرع وفير، وفجر جل شأنه خلالهما نهراً. وحين دخل جنته وهو ظالم لنفسه وقال: ما أظن أن تبيد هذه أبداً أرسل الله عليها حسباناً من السماء فأصبحت صعيداً زلقا، وأصبح ماؤها غوراً لا يستطيع له طلباً، وأحيط بثمره، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها. وأصحاب الجنة {إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم} [القلم: 1
    7-20]
    . الجرعة الرابعة: أن يستحضر الذي يجمع المال تأميناً لأولاده من بعده، أن يستحضر أن الله ربهم، وأنه إن شاء أغناهم من غير أن يترك أبوهم لهم، وإن شاء أفقرهم على الرغم من الكثير الذي تركه أبوهم لهم، وقد روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نشر الله عبدين من عباده -أي بعثهما وأوقفهما للسؤال- وكان قد أكثر لهما في دنياهما المال والولد، فقال لأحدهما: أي فلان ابن فلان. قال: لبيك رب وسعديك. قال: ألم أكثر لك من المال والولد؟ قال: بلى. قال: وكيف صنعت فيما آتيتك؟ قال: تركته لولدي مخافة العيلة -أي الفقر- قال: أما إنك لو تعلم العلم -أي لو تعلم ما حصل لهم بعدك- لضحكت قليلاً، ولبكيت كثيراً، أما إن الذي تخوفت منه على أولادك قد أنزلته بهم. ويقول للآخر: أي فلان ابن فلان. فيقول: لبيك رب وسعديك. قال: ألم أكثر لك من المال والولد؟ قال: بلى، أي رب. قال: فكيف صنعت فيما آتيتك؟ قال: أنفقت في طاعتك، ووثقت لولدي من بعدي بحسن عطائك. قال: أما إنك لو تعلم العلم -أي لو تعلم ما حصل لهم بعدك- لبكيت قليلاً، ولضحكت كثيراً، أما إن الذي قد وثقت به قد أنزلته بهم. الجرعة الخامسة: أن يضع بين عينيه أنه ليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه، ولن يأخذ معه مما يجمع سوى ثوب من قماش وقطعة من قطن، يقول الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تطوى فيهما وحنوط ولمن يترك ما جمع؟ لورثته الأحباب منهم والأعداء، نعم والأعداء، فليس له رأي في ماله بعد أن يرحل عنه، وصدق الشاعر حين يقول: وما الناس إلا جامع أو مضيع وذو نصب يسعى لآخر نائم نعم: هو ذاهب وتارك كل ما يجمع، حقيقة مشاهدة، يصورها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: يتبع الميت ثلاثة. فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله. فيرجع أهله وماله، ويبقى معه عمله. رواه البخاري. وروى الحاكم: الأخلاء ثلاثة. فأما خليل فيقول: أنا معك حتى تأتي قبرك، وهو الأهل والأصدقاء، وأما خليل فيقول: كنت لك، واليوم لست لك، فذلك المال، وأما خليل فيقول: أنا معك حيث دخلت، وحيث خرجت، فذلك العمل. فضل النفقة من الكسب الطيب في الحديث (29)، (30)، (31) تقييد قبول الصدقة بكونها من الكسب الطيب، وألفاظها: ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كان تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} [المؤمنون: 51]. وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء.. يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام. فأنى يستجاب لذلك؟ والمحقق المدقق في الآيات والأحاديث يجد الكلام في نقطتين: الأولى زيادة الثواب وتكثيره للنفقة من الكسب الطيب الحلال، ولا خلاف في هذا، فالصدقة من الكسب الطيب سبب لتكثير الأجر. النقطة الثانية: قبول الصدقة من الكسب غير الطيب وعدم قبولها، وعبارة: ولا يقبل الله إلا الطيب صريحة في عدم القبول. وفي توجيهها يقول القرطبي: إنما لم يقبل الصدقة بالحرام لأنه غير مملوك للمتصدق، والمتصدق ممنوع من التصرف فيه، والتصدق به تصرف فيه، فلو قبل لزم كون الشيء الواحد مأذوناً فيه منهياً عنه من وجه واحد. انتهى بتصرف. وهكذا يطلق العلماء الأوائل القول بعدم قبول الصدقة من كسب حرام، وهم بذلك يهدفون إلى إغلاق باب الكسب الحرام وسد الذرائع، وهو هدف حسن محمود، ولا نقاش فيه، فمن أراد أن يرابي ليتصدق بالزيادة قلنا له: لا. وحين قالوا: زنت وتصدقت؟ قلنا: ليتها لم تزن ولم تتصدق. لكن البحث الذي ألجأتنا إليه ظروف الحياة المعاصرة، والتي نعيش فيها صحوة إسلامية بعد سبات عميق، ونعيش وعياً دينيا وحرصاً على الالتزام، بعد جهل مظلم واستهتار مقيت هو أننا وجدنا أموال المسلمين تكدست في البنوك ثمرة لمعاملات ربوية مع اليهود والنصارى وأعداء الإسلام، ووجدنا ثروة جمعتها راقصات يتجهن إلى التوبة، ويرغبن في تصفية ما يمكن من حقوق، ويحرصن على أن ينخلعن من ثياب الفسق والفجور، وينسلخن من جلود الفساد. ما هو التصرف المشروع في هذه الأموال؟. هل نقول للأولين: دعوا الزيادات المالية لأعداء الإسلام، يتسلحون بها ليحاربوكم، ولكم رءوس أموالكم؟ ولا تأخذوها فتعطوها لفقراء المسلمين، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً؟ وهل نقول للأخريات ابحثن عمن راقصتن، وعمن استأجركن، وارددن إليه ماله؟ لو قلنا لهن ذلك؛ لرفضن واستمررن وازددن في الفساد والإفساد؟ كالقاتل الذي قتل الراهب، ليكمل به المائة، وحتى ولو أردن ذلك هل من الممكن تحقيقه؟ اللهم. لا. لم لا تفسر الحديث إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً أي لا يقبله قبولاً يضاعف عليه الثواب؟ ويبقى أصل القبول قائماً؟ وبذلك نجمع بين قبول يأخذه الرحمن بيمينه، ويربيه ويضاعفه، وبين قبول لا يتصف بذلك، فنجمع بين صدر الحديث وعجزه. ولنقرب المسألة مسترشدين بأقوال الفقهاء، لقد قال الجمهور: إن الحج من مال حرام صحيح، مسقط للفرض، مسقط للمطالبة به يوم القيامة. وأداء الزكاة الواجبة من عين مال محرم محقق للأداء، مسقط للمطالبة بها يوم القيامة. ثم كل الفقهاء يجمعون على أن الدين للآدمي إن أدي من مال حرام سقط، ولم يطالب به مرة أخرى ديناً وقانوناً، دنيوياً وأخروياً. وينحصر الإثم وتنحصر العقوبة في تحصيل هذا المال دون إنفاقه. لماذا لا نفرق في مسألتنا بين إثم الاكتساب وبين حكم الإنفاق؟ لما لا نسمح بإنفاق هذا المال الحرام في وجوه الخير، ولو من قبيل احتمال أخف الضررين؟ أو تقديم أكبر المنفعتين؟ وحتى لو فرضنا أن ثواب هذه الصدقات سيذهب إلى المالك الأصلي الأول فإن المناول للصدقة أحد المتصدقين. ولماذا لا نجعل لنية الخير والمعروف نصيباً في الثواب؟ ولماذا نحجر على فضل الله؟ ونقول: لا قبول ولا ثواب. إن الحديث حين ذكر الرجل الذي يدعو ربه ومطعمه من حرام ومشربه من حرام، وملبسه من حرام، ومنبته من حرام، لم يجزم بعدم إجابة دعائه، بل استبعدها فأنى يستجاب لذلك والمستبعد منا قد يكون قريباً واقعاً من الله، بل أخبرنا الله بوقوعه للكافر الذي يأكل خيره، ويعبد غيره، ويأكل ويعيش في الحرام، حيث يقول: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً} [الإسراء: 67]. {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين* قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون} [الأنعام: 63، 64]. فالحديث إنما يحث على الكسب الحلال، ولا يمنع قبول الدعاء ممن كسبه من حرام. والله أعلم. فضل النفقة من أحب الأموال لا شك أن الحب يقتضي أن يقدم الحبيب أحب الأشياء إلى المحبوب. والواجب على المؤمن أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والصدقة إنما تقدم لله وتقرض لله وتقع في يد الله قبل أن تقع في يد المستحق، ومن هنا كان على المؤمن أن تكون صدقته من أحب أمواله إليه. وإلى هذا المعنى مال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] فروي عن ابن عباس أن المعنى: لن تنالوا ما عند الله من ثوابه في الجنة حتى تنفقوا مما تحبون من الصدقة، أي بعض ما تحبون من الأموال. كما روي عن ابن عمر: أنه كان يشتري أعدالاً من السكر، ويتصدق بها، فقيل له: هلا تصدقت بثمنها؟ فقال: ألم تسمع هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} والسكر أحب إلي، فأردت أن أنفق مما أحب. نعم روي عن الضحاك أن معناها: لن تدخلوا الجنة حتى تخرجوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم، فجعل الحب للإنفاق نفسه، لا لنوع النفقة، والتفسير الأول أقرب للصواب، وهو الذي فهمه الصحابة في الآية -رضي الله عنهم- وهو الذي أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فهم أبو طلحة هذا الفهم في الآية، وتصدق بأحب أمواله إليه، كان بستاناً عظيماً، به بئر، ماؤها من أحلى المياه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من مائها. لكننا لا نوافق على أن دخول الجنة، أو ثواب الصدقة بوجه عام موقوف على إخراج الأحب، بل يكفي أن تكون الصدقة من عامة المال ليثاب عليها، وإن كان التصدق من الأحب أكثر ثواباً بلا نزاع، ولا يتعارض هذا مع نهيه صلى الله عليه وسلم لمعاذ أن يأخذ كرائم الأموال في الصدقة، بقوله: وإياك وكرائم الأموال. لأن هناك فرقاً كبيراً بين أن يخرج المؤمن طواعية ورغبة أحب أمواله وكرائمها، وبين أن تؤخذ منه أخذاً كواجب عليه، فالأول مندوب إليه، والثاني منهي عنه. وفي ظني أن الآية الكريمة لم تحث على إنفاق الأحب، وإن حملها الصحابة على ذلك، وإنما تحث على إنفاق المحبوب، بل بعض المحبوب؛ فهي بمفهومها تحذر من إنفاق المكروه المبغض، وتلتقي مع قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد} [البقرة: 267]. وقد استنبط العلماء من حديث تبرع أبي الدحداح ببستانه في روايته التاسعة من أحاديثنا عدة أحكام منها:

    1- أن الرجل الصالح قد يضاف إليه حب المال، وقد يضيفه هو إلى نفسه، وليس في ذلك نقيصة عليه.

    2- وفيه رد لما روي عن ابن مسعود أنه قال: لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا. وقد اتخذ الصحابة الضيعات والبساتين.

    3- ومن قوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها. أخذ إباحة دخول العلماء البساتين.
    4- ودخول بساتين الأصحاب في غيبتهم.
    5- والشرب من ماء الصديق، وكذا الأكل من ثماره وطعامه من غير إذنه، إذا علم أن نفس صاحبه تطيب بذلك.
    6- ومن قوله: فضعها يا رسول الله حيث شئت...... ومن قوله صلى الله عليه وسلم: قد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقسمها أبو طلحة في أقاربه. أخذ منه بعضهم أن الوكالة لا تتم إلا بالقبول، إذ الذي قام بتقسيمها أبو طلحة: وقال المهلب: دل الحديث على قبوله صلى الله عليه وسلم ما جعل إليه أبو طلحة، ثم رد الوضع فيها إلى أبي طلحة بعد مشورته عليه فيمن يضعها.
    7- وفيه مشاورة أهل العلم والفضل في كيفية وجوه الطاعات وغيرها، والإنفاق من المحبوب.
    8- وفيه أن الوقف صحيح، وإن لم يذكر سبيله.
    9- ومن قوله: فضعها يا رسول الله حيث شئت. جواز أمر الرجل لغيره أن يتصدق عنه، وكذلك إذا قال الآخر: خذ هذا المال فاجعله حيث أراك الله من وجوه الخير. قال مالك: وفي هذه الحالة لا يأخذ منه شيئاً وإن كان فقيراً. وقال غيره: جاز له أن يأخذه كله إذا كان فقيراً. 10- وفيه صحة الصدقة المطلقة، وهو الذي لم يعين مصرفه، ثم بعد ذلك يعين. 1

    1- وفيه جواز أن يعطي الواحد من الصدقة فوق مائتي درهم. لأن هذا الحائط مشهور أن ربحه يحصل للواحد منه أكثر من ذلك. قاله القرطبي. ولا فرق بين فرض الصدقة ونفلها في مقدار ما يجوز إعطاؤه للمتصدق عليه فيما ذكره الخطابي. 1

    2- وفيه أن الصدقة العظيمة يمدح صاحبها لقوله صلى الله عليه وسلم: بخ. ذلك مال رابح. 1

    3- وفي الحديث دلالة للمذهب الصحيح أنه يجوز أن يقال: إن الله تعالى يقول كذا، كما يقال: قال الله تعالى كذا، خلافاً لما قاله مطرف بن عبد الله، إذ قال: لا يقال: الله تعالى يقول كذا، إنما يقال: قال الله تعالى كذا. خشية أن ينجر إلى استئناف القول، وقول الله قديم، ورد هذا القول بما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4]. 1
    4- وفيه استعمال ظاهر الخطاب وعمومه، لأن أبا طلحة حين سمع {لن تنالوا البر...} [آل عمران: 92] لم يحتج أن يقف حتى يرد عليه البيان عن الشيء الذي يريد الله عز وجل أن ينفق عباده منه. ولم ينتظر آية أو حديثاً يبين ذلك. 1
    5- قال النووي: وفيه أن القرابة يرعى حقها في صلة الأرحام وإن لم يجتمعوا إلا في أب بعيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن يجعل صدقته في الأقربين، فجعلها في أبي بن كعب وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان معه في الجد السابع. والله أعلم. فضل النفقة بالقليل وعدم احتقاره والأحاديث (32)، (33)، (34)، (35) تحث على الصدقة مهما قلت، وتمثل للقلة بشق التمرة، وتعد بأن هذا الشق يستر صاحبه من النار، ويقيه من حرها حينما لا يبعده عمله الصالح عنها، وحينما لا ينقذه من لهيبها عمله الذي يكون عن يمينه، وعمله الذي يكون عن شماله، يتلفت يميناً فلا يجد ما يحميه، ويتلفت شمالاً فلا يجد ما يحميه، لقد صور رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنظر عملياً كأنه أمامه، ذكر أصحابه بالنار في الآخرة، وخوفهم من عذابها، وتمثل أنها أمامه فبدت عليه علامات الفزع والرعب، فأعرض وأشاح بوجهه جهة اليمين، كأنه يتقيها، واستعاذ بالله منها ومن حرها، ثم رجع بوجهه إلى الوضع الأول، وكأنها مازالت أمامه، فعبس وفزع، وأعرض وأشاح بوجهه جهة الشمال كأنه يتقيها، واستعاذ بالله منها ومن حرها، ثم عاد بوجهه صلى الله عليه وسلم إلى الوضع الأول، وكأنه لم يجد بإعراضه عن مواجهتها منقذاً منها، وقد أوحى الله إليه أن الصدقة تطفئ غضب الرب، وأنها مهما قلت وصغرت -إذا قبلت- سترت صاحبها من النار، وحالت بينه وبين لهبها، بل بينه وبين حرارته، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اتقوا النار بالصدقة ولو كانت الصدقة نصف تمرة. نعم تمرة أو نصف تمرة ممن لا يجد إلا ذلك تخرج عن طيب نفس، يحتسبها صاحبها عند ربه، يتلقاها الرحمن بيمينه، ويربيها وينميها لصاحبها، فيجدها يوم القيامة في ميزان حسناته كالجبل، وأعظم من الجبل. لم يتردد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وجد تمرة بالطريق أن يرفعها من الأرض وينفخها من التراب، ثم يناولها صحابياً كان معه، ويخبره أنها رزق ساقه الله إليه، وأنها لو لم يأت هو إليها وإلى مكانها لأتت هي إليه في مكانه مادامت من الرزق الذي كتبه الله له. ولم تتردد عائشة حين جاءتها امرأة فقيرة ومعها بنتان صبيتان جائعتان، لم تتردد عائشة حين لم تجد في بيتها ما تعطيه للمرأة سوى تمرة واحدة أن تقدم هذه التمرة الوحيدة للمرأة، التي شقت التمرة نصفين، وأعطت كل بنت من بنتيها نصفاً. وكان الصحابة كذلك لا يتحرجون أن يقدموا تمرة واحدة، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثنا في السرية، ما لنا زاد إلا السلف -أي الجراب من التمر- فيقسمه صحابه بيننا قبضة قبضة، حتى يصير إلى تمرة تمرة. لا يقال: وماذا يفعل النصف بالجائع؟ بل ماذا تفيد التمرة الكاملة عند جائع؟ إن الحديث الذي أخرجه الطبراني يجيب عن ذلك فيقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإنها تقيم العوج، وتدفع ميتة السوء، وتقع من الجائع موقعها من الشبعان. وأوضح منه في ذلك ما أخرجه البيهقي عن جابر رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر علينا أبا عبيدة، نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل. وفي بعض الروايات: فقلت: وما تغني تمرة؟ قال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت. إن العطاء مهما قل يقع من نفس الآخذ موقعاً أكبر بكثير جداً من قيمته وإن أسمى ما جاء به الإسلام للبشرية عوامل الترابط والتآلف والتحاب، والعطاء أهم وسيلة تحقق هذا الهدف، ومن هنا نجد الروايات المذكورة تشير إلى ذلك فتقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة. إن الشريعة الإسلامية السمحة عالجت هذه القضية من أطرافها الثلاثة، طرف المعطي، وطرف الآخذ، وطرف المجتمع المشاهد، فطرف المعطي قد عالجته الأحاديث التي ذكرناها، وكانت حافزاً للمؤمن أن يقدم ما عنده من غير حرج ومن غير احتقار لعطيته، والحديث رقم (56) يعالج طرف الآخذ، فيقول: يا نساء المسلمات. لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة. أي لا تحتقر آخذة عطية معطية، ولو كانت هذه العطية ظلف شاة لا لحم فيه. وقد استجاب الطرفان للنصيحة، فرأينا جابر بن عبد الله ينزل به ضيف -جماعة من الرجال- فيقدم إليهم ما عنده، خبز وخل، ويقول: كلوا. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم الإدام الخل، هلاك بالقوم أن يحقروا ما قدم إليهم، وهلاك بالرجل أن يحتقر ما في بيته يقدمه إلى أصحابه. أخرجه البيهقي في الشعب. وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة قال: كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إنه كان ليخرج إلينا العكة -إناء من جلد يحفظ فيه العسل ونحوه- ليس فيها شيء، فيشقها فنلعق ما فيها. إن القرآن الكريم يثبت هذه النظرية حيث يقول: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً} [الطلاق: 7]. إن إنفاق الكثير من أهل السعة والغنى لا يعدل في ثوابه أجر القليل ممن قدر عليه رزقه، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: سبق درهم مائة ألف درهم. فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما، فتصدق به. رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. ومن هذا المبدأ انطلق الفقراء ينافسون الأغنياء في التصدق والعطاء، من يملك ديناراً يتصدق من ديناره، ومن يملك درهمين ينفق منهما، ومن يملك ثوبين يتصدق بأحدهما، ومن يملك صاعاً من بر يتصدق بنصفه، كما يحدثنا بذلك الحديث رقم (36). بل الذي لا يملك شيئاً من ذلك يذهب فيؤجر نفسه بصاع ليتصدق به أو بنصفه، كما يحدثنا بذلك الحديث رقم (37). بل من كانت عنده شاة أو عنز أو ناقة كان يعيرها للفقير ليلة ليمنحه لبنها في مسائها وصباحها، كما يحدث بذلك الحديث رقم (38)، (39). وهكذا لم تعد هناك غضاضة على المعطي أن يعطي ما عنده مهما قل، ولم تعد غضاضة على الآخذ أن يأخذ القليل راضياً شاكراً، لكن بعض ضعاف الإيمان أو المنافقين لم يعجبهم هذه الروح الإسلامية السمحة، لأنهم لم يتعودوها في جاهليتهم، فلم يكن الفقير معطاء، وكان عطاء الغني للرياء والسمعة، ولم يألفوا هذا النوع الجديد من البذل والعطاء، لم يذوقوا طعم الإيمان وطعم احتساب الأجر، فكانوا يسخرون ممن يعطي الكثير، ويقولون: ما فعل ذلك إلا رياء وفخراً، ويسخرون من الفقير الذي يتصدق بنصف ما يملك، بنصف صاع ويقولون: ما فائدة هذا القليل؟ إن الله غني عن صدقته، فكان علاج هذه الفئة أن نزل فيهم قرآن يتلى، نزل فيهم قوله تعالى: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} [التوبة: 79]. فضل نفقة السر يقول الله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير} [البقرة: 271]. فهذه الآية تمدح صدقة العلن، وإن فضلت عليها صدقة السر، ووجه التفضيل أمران: الأول: أن صدقة السر لا تحرج الآخذ، ولا تخدش من حيائه وكرامته وبخاصة إذا كان من أهل المروءات المتعففين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. الثاني: أنها أقرب إلى الإخلاص والتوجه إلى الله، وأبعد من الرياء والسمعة. والحديث رقم (57) ينوه بشأن صدقة السر، ويجعل المتصدق الذي يبالغ في السرية والإخفاء أحد سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. قال الإمام النووي: قال العلماء: وهذا في صدقة التطوع، السر فيها أفضل لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها أفضل، وهكذا حكم الصلاة، فإعلان فرائضها أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. اهـ. ولست مع الإمام النووي في قياس الزكاة في السرية والجهرية على الصلاة، فالصلاة بين العبد وربه، أما الزكاة فبين العباد، أخذ وعطاء. ثم إن الصلاة قبدت بنصوص، فلزم العمل بها، أما الزكاة، فالنصوص على أن الإخفاء عامة مطلوب، حتى النصوص التي لم تصرح بأفضلية السر أشارت إلى أفضليته، فقوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 274] قدم فيه الليل على النهار، والسر على العلن لأهمية المقدم، ولولا أن فريضة الصلاة طلب لها الجماعة فربما كانت في السر أفضل، ولا كذلك الزكاة، ثم إن الصدقات في عمومها حيث لا مخصص تشمل الواجبة والنافلة، والتعبير الشرعي عن الزكاة بالصدقة هو الشائع والمشهور. نعم نقل الطبري وغيره الإجماع على أن الإعلان في صدقة الفرض أفضل من الإخفاء، وصدقة التطوع على العكس من ذلك. ونقل الزجاج أن إخفاء الزكاة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل، فأما بعده فإن الظن يساء بمن أخفاها، فلهذا كان إظهار الزكاة المفروضة أفضل. وقال أبو عطية: ويشبه في زماننا أن يكون الإخفاء بصدقة الفرض أفضل، فقد كثر المانع لها، وصار إخراجها عرضة للرياء. اهـ. ولعل الأولى أن يقال: إن الحكم يختلف باختلاف الظروف والملابسات فإن بعد الإعلان عن الرياء وتحققت من ورائه مصالح دينية كالتأسي والالتزام كان أفضل، وإن شابه رياء، ولم يحقق من ورائه فائدة كان الإسرار أفضل، والله أعلم. فضل نفقة الخازن من مال سيده والزوجة من مال زوجها المشاركة في الخير مشاركة في الأجر، كل حسب جهده وإسهامه فيه، لكن لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً، فالمكافأة من الغني الكريم، الذي لا تنقص خزائنه بالعطاء. فالرجل الذي اكتسب، والمرأة التي أعدت الطعام، والآمر بالإنفاق والمناول للصدقة، كل له أجر وثواب، فقد روى الحاكم والطبراني في الأوسط قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل ليدخل بلقمة الخبز وقبضة التمر ثلاثة الجنة، رب البيت الآمر بها، والزوجة تصلحها، والخادم يناولها المسكين. وأخرج الطبراني أن حارثة بن النعمان رضي الله عنه كان قد ذهب بصره، فربط خيطاً بين مصلاه وبين باب البيت، فكان إذا جاء المسكين أخذ من مكتله شيئاً لا يحس به أحد من البيت، ثم أخذ بطرف الخيط، يسرع فيناول المسكين، فكان أهله يقولون له: نحن نكفيك. فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مناولة المسكين تقي مصارع السوء. وحديثنا رقم (44) يؤكد هذا المعنى، فهو يقول: إن الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به، فيعطيه كاملاً موفراً طيبة به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين أي هو شريك لصاحب المال في الصدقة. وقد وضع الحديث لهذا الأجر خمسة قيود: الأول: أن يكون خازناً، لأنه إذا لم يكن خازناً أو عاملاً لا يجوز له أن يتصدق من مال الغير. الثاني: أن يكون مسلماً فإن كان كافراً فليس له أجر أخروي لأن أساس الأجر الأخروي الإيمان.الثالث أن يكون أميناً فلا يخصم شيئاً من العطاء، فإن خان كان مأزوراً غير مأجور. الرابع أن يكون منفذاً لأمر المالك. الخامس أن تكون نفسه طيبة غير حاقدة وغير طامعة وغير متطلعة لما يناوله. لكن الأحاديث (45)، (46)، (47)، (48)، (49) تضم إلى المناولة عنصراً آخر، هو عنصر الدافع وإنشاء الصدقة، وليس تنفيذ أمر المالك، فهي تقول: إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً وفي رقم (49) وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له. ويحكي الحديث (47)، (48) قصة عمير مولى آبى اللحم مع سيده، وفيها أقر الرسول صلى الله عليه وسلم عطاء المولى من غير أن يأمره سيده، وقال للسيد: الأجر بينكما. قال الإمام النووي: معنى هذه الأحاديث أن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر، ومعنى المشاركة أن له أجراً، كما لصاحبه أجر، وليس معناه أن يزاحمه في أجره. والمراد المشاركة في أصل الثواب، فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء، بل قد يكون ثواب هذا أكثر، وقد يكون العكس، فإذا أعطى المالك لخازنه أو امرأته أو غيرهما مائة درهم أو نحوها ليوصلها إلى مستحق الصدقة على باب داره أو نحوه فأجر المالك أكثر وإن أعطاه رمانة أو رغيفاً ونحوهما مما ليس له كثير قيمة ليذهب به إلى محتاج في مسافة بعيدة، بحيث يقابل مشي الذاهب إليه بأجرة تزيد على الرمانة والرغيف فأجر الوكيل أكثر، وقد يكون عمله قدر الرغيف مثلاً فيكون مقدار الأجر سواء. فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: الأجر بينكما نصفان معناه قسمان وإن كان أحدهما أكثر، كما قال الشاعر: إذا مت كان الناس نصفين بيننا قال النووي: وأشار القاضي إلى أنه يحتمل أيضاً أن يكون الطرفان سواء لأن الأجر فضل من الله تعالى، يؤتيه من يشاء، ولا يدرك بقياس ولا هو بحسب الأعمال. اهـ قال النووي: والمختار الأول. اهـ. والحق أن مقدار الثواب يخضع -بالإضافة إلى أنها فضل- لعوامل أخرى كثيرة كالإخلاص والاحتساب وطيب النفس وغيرها، وذلك على كل حال يبعد المناصفة والمساواة. قال النووي: وقوله: الأجر بينكما ليس معناه أن الأجر الذي لأحدهما يزدحمان فيه، بل معناه أن هذه النفقة والصدقة التي أخرجها الخازن أو المرأة أو المملوك أو نحوهم بإذن المالك يترتب على جملتها ثواب على قدر المال والعمل فيكون ذلك مقسوماً بينهما، لهذا نصيب بماله، ولهذا نصيب بعمله، فلا يزاحم صاحب المال العامل في نصيب عمله، ولا يزاحم العامل صاحب المال في نصيب ماله. اهـ. وفي هذا الكلام نظر، لأن أجر الصدقة غير أجر الكسب، وإذا كان للصدقة أجر مرتبط بكسب المال والعمل كان العامل في أخذه نصيبه من هذا الأجر مزاحماً للمالك ثم إنه بهذا التقسيم لا يكون هناك فضل. ويستبعد معه قوله: من غير أن ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً ويصبح لاغياً لا فائدة منه إذ لا يتصور أن يشارك المناول في أجر الكسب. والذي أستريح إليه أن أجر الصدقة كاملاً يمنح للمالك، وذلك للفرق بين مال تصدق به، ومال لم يتصدق به، ويتفضل الله بأجر جديد من عنده للزوجة أو الخازن، تماماً كما قيل في حديث: من فطر صائماً كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء وكأن الله ضاعف الأجر من عنده فضلاً وكرماً، ثم جعل هذا الأجر المضاعف بينهما، فلا مزاحمة في أجر كل منهما. وبهذا الفهم تسخو نفس المالك بإنفاق الزوجة والخازن ويرضى ويسعد، وإن كان بغير علمه، كما إذا زرع الزارع زرعاً فأكل منه دون علمه إنسان أو طير أو بهيمة، فإن له في ذلك أجراً، وبهذا الفهم تحرص الزوجة والخازن على الإنفاق ما داما ينتفعان وينفعان ولا يضران. والله أعلم. ثم قال النووي: واعلم أنه لا بد للعامل، وهو الخازن، وللزوجة والمملوك من إذن المالك في ذلك، فإن لم يكن إذن أصلاً فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة، بل عليهم وزر، بتصرفهم في مال غيرهم بغير إذنه، والإذن ضربان: أحدهما: الإذن الصريح في النفقة والصدقة، والثاني: الإذن المفهوم من إطراد العرف والعادة كإعطاء السائل كسرة ونحوها مما جرت به العادة، وإطرد العرف فيه، وعلم بالعرف رضا الزوج والمالك به، فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلم، وهذا إذا علم رضاه لإطراد العرف، وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك والرضا به، فإن اضطرب العرف، وشك في رضاه، أو كان شخصا يشح بذلك، وعلم من حاله ذلك، أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله إلا بصريح إذنه. قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له، فمعناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين، ويكون معها إذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره، وذلك الإذن الذي قد أولناه سابقاً إما بالتصريح وإما بالعرف -ولا بد من هذا التأويل- لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفة، ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها، بل عليها وزر، فتعين تأويله. ثم قال: واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير، يعلم رضا المالك به في العادة، فإن زاد على المتعارف لم يجز، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه قد يعلم رضا الزوج به في العادة، ونبه بالطعام أيضاً على ذلك لأنه يسمح به في العادة، بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس، وفي كثير من الأحوال. ثم قال: واعلم أن المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال وغلمانه ومصالحه وقاصديه من ضيف وابن سبيل ونحوهما، وكذلك صدقتهم المأذون فيها بالصريح أو العرف. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: قال ابن العربي: اختلف السلف فيما إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها، فمنهم من أجازه، لكن في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له، ولا يظهر به النقصان، ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج، ولو بطريق الإجمال، ويحتمل أن يكون ذلك محمولاً على العادة، وأما التقييد بغير الإفساد فمتفق عليه، ومنهم من قال: المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه، وليس ذلك بأن يفتئتوا على رب المال بالإنفاق على الفقراء بغير إذن، ومنهم من فرق بين المرأة والخادم، فقال: المرأة لها حق في مال الزوج، ولها حق في النظر في مصالح بيتها، فجاز لها أن تتصدق، بخلاف الخادم فليس له تصرف في متاع مولاه، فيشترط الإذن فيه. وهو متعقب بأن المرأة إذا استوفت حقها فتصدقت منه فقد تخصصت به، وإن تصدقت من غير حقها رجعت المسألة كما كانت. اهـ. والذي تستريح إليه النفس أن مدار الجواز وعدم الجواز الإفساد وعدم الإفساد، ولست أرى أن السعي لتحقيق نفع دائم أخروي بديلاً عن نفع زائل دنيوي، لست أرى في هذا إفساداً، مادام في الحدود المسموح بها عرفا، ولا يشترط الإذن ولا الرضا، فقد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوج أبي سفيان أن تأخذ لها ولبنيها من مال أبي سفيان بالمعروف بدون إذنه وبدون علمه وبدون رضاه. وهل إذا أجرينا عملية جراحية لإنسان بدون علمه أو بدون رضاه، وفيها صحته وصالحه يكون هذا من الإفساد؟ أعتقد أن لا. كل ما في الأمر ألا يترتب على هذا الإحسان ضرر، وظواهر الأحاديث تؤيد ذلك، فالتقييد بغير مفسدة لا معنى له سوى هذا، ولو أننا اشترطنا الإذن المسبق لم يكن فرق بين أجنبي يقوم بذلك وبين زوجة وخادم، والحديث رقم (49) صريح في ثبوت الأجر مع عدم الأمر. وأصرح منه الحديث رقم (47)، (48) إذ من الواضح من الحديث الأول أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن للعبد أن يتصدق من مال سيده بشيء تجري العادة به من غير إذن سيده، ومن الواضح من الحديث الثاني أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر السيد على ضرب عبده على تصدقه، بل عاتب السيد وآخذه بقوله: لم ضربته؟ أي ما كان ينبغي أن تضربه، ومن الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوقف الأجر على الأمر والإذن، بل أثبت الأجر للحالة التي لم تسبق الأمر، بل للحالة التي ثبت فيها اعتراض للسيد. وقول الإمام النووي: هذا محمول على أنه استأذن في الصدقة بقدر يعلم رضا سيده به، أو محمول على أن عميراً تصدق بشيء يظن أن مولاه يرضى به، ولم يرض به مولاه. هذا الحمل الذي ذهب إليه النووي بعيد عن الظواهر، وفيه شيء من التعسف كما أوضحنا. والله أعلم. ويؤخذ من هذه الأحاديث فوق ما تقدم:

    1- من الحديث (44) يؤخذ فضل الأمانة.

    2- وسخاوة النفس.

    3- وطيب من فعل الخير.
    4- والإعانة على فعل الخير.
    5- ومن مجموع الروايات فضل كسب العيش.
    6- ومن الحديث (49) من النهي عن صيام المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، حق الزوج على الزوجة. قال النووي: هذا محمول على صوم التطوع والمندوب الذي ليس له زمن معين، وهذا النهي للتحريم، وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وحقه فيه واجب على الفور، فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي، فإن قيل: ينبغي أن يجوز لها صيام بغير إذنه، فإن أراد الاستمتاع بها كان له ذلك، ويفسد صومها؟ فالجواب أن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة، لأنه يهاب انتهاك الصوم بالإفساد، وقوله صلى الله عليه وسلم: وزوجها شاهد أي مقيم في البلد، أما إذا كان مسافراً فلها الصوم، لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه.
    7- وفي قوله: ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج وغيره من مالكي البيوت وغيرها بالدخول في أملاكهم إلا بإذنهم، وهذا محمول على ما لا يعلم رضا الزوج ونحوه به فإن علمت المرأة ونحوها رضاه به جاز. والله أعلم. فضل النفقة على العيال والأهل والأقربين ومن يعول في الحديث الشريف: الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي القربى ثنتان صدقة وصلة وكل من استحق النفقة والعطاء بوجه من الوجوه كانت الصدقة عليه لفقره وحاجته لها أجران، أجر الاستحقاق الأول، وأجر الاستحقاق الثاني. والأحاديث من رقم (3) إلى رقم (17) تتحدث عن هذه المسألة: أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله. كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته. وحين أراد أبو طلحة أن يتصدق ببستانه أحب أمواله إليه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعله في قرابتك. وحين أعتقت ميمونة وليدة لها قال لها صلى الله عليه وسلم: لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك. وحين سألت زينب امرأة عبد الله بن مسعود هي وصاحبة لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجزئ صدقتهما إذا دفعت إلى الزوج والأيتام في الحجر؟ قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهما أجران. وحين سألت أم سلمة: هل لها أجر في إنفاقها على بني أبي سلمة قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم لك فيهم أجر ما أنفقت عليهم. ويروي أبو مسعود قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة. وحين سألت أسماء بنت أبي بكر: هل تصل أمها المشركة؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. صلي أمك. وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق عن الأم بعد موتها، هل له أجر؟ قال: نعم. ولا خلاف في أن الصدقة النافلة جائزة ومثاب عليها إذا أعطيت لأقرب الناس إلى المتصدق، سواء كان أباً أو أماً أو ابناً أو بنتاً أو أخاً أو أختاً أو زوجة إلى عامة الأقارب، حتى النفقة على النفس لها أجر، والشرط الوحيد أن يحتسب المنفق نفقته، أي أن يريد بها وجه الله. قال النووي: فلا يدخل فيه من أنفقها ذاهلاً، ولكن الذي يحتسب، وطريقه في الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة وعلى أطفاله ومملوكه وغيرهم ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم، فينفق بنية أداء ما أمر به. اهـ. ولكن الخلاف بين العلماء فيمن يجوز إعطاؤه من الزكاة المفروضة. هل يصح أن تعطي الزوجة زوجها الفقير من زكاتها؟ وهل يصح أن يعطي الزوج زوجته الفقيرة من زكاته؟ وهل يجوز للأم أن تعطي ولدها الفقير من زكاتها؟. ولتحرير موطن النزاع نقول: إن من يلزمه نفقته لا يجوز له أن يعطيه زكاته واختلف في علة المنع، فقيل: لأن أخذهم لها يصيرهم أغنياء، فتسقط بذلك نفقتهم عن المعطي. وقيل: لأنهم أغنياء بإنفاقه عليهم، والزكاة لا تصرف لغني. ونتيجة لهذا لا يجوز للزوج أن يعطي من زكاته لزوجته مهما كانت فقيرة. قال ابن المنذر: اجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة، لأن نفقتها واجبة عليه، فتستغني بها عن الزكاة. اهـ ولا يجوز للأب والجد وإن علا أن يعطي زكاته للابن الفقير مهما نزل، ولا يجوز للفروع أن تعطي من زكاتها للأصول الفقراء، لأنه يجب عليهم نفقاتهم. فالخلاف إذن في الزوجة تعطي زوجها الفقير من زكاتها، وفي الأم تعطي ابنها الفقير من زكاتها مع وجود أبيه. وظاهر الحديث الحادي عشر الجواز إن حملنا لفظ الصدقة على العموم بما يشمل الزكاة، قال الحافظ ابن حجر: واستدل بهذا الحديث [أي حديث الزيانب المشار إليه] على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد. وأدخلوا الزكاة الواجبة في لفظ الصدقة، بل حملوا الصدقة في الحديث على الواجبة لقولها: أتجزئ عني؟ وبه جزم الماوردي، ويؤيده أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم، فلما ذكرت الصدقة، ولم يستفصلها عن تطوع ولا واجب فكأنه قال: تجزئ عنك فرضاً كان أو تطوعاً. ومنع الآخرون أن تدفع المرأة زكاتها إلى زوجها، لأنها لو أعطتها لزوجها عادت إليها في نفقتها الواجبة لها، فكأنها ما خرجت عنها، ووجهوا الحديث بأن المراد من الصدقة صدقة التطوع، بدليل أنها كانت استجابة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: يا معشر النساء. تصدقن ولو من حليكن. وهذا التعبير يتجه إلى صدقة التطوع، لا إلى الزكاة الواجبة، وبدليل ما روي من أن امرأة عبد الله بن مسعود هذه كانت امرأة صناع، فكانت تنفق عليه وعلى ولده من صناعتها، فهذا يدل على أن مرادها صدقة التطوع. وبدليل ما جاء في بعض الروايات: زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم. فذكر الولد دال على أنها صدقة التطوع لأن الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة بالإجماع، كما نقله ابن المنذر وغيره، نعم قال العلماء: إن الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة من يلزم المعطي نفقته، والأم لا يلزمها نفقة ولدها مع وجود أبيه، وحمل ابن التيمي قوله: وولدك على أن الإضافة للتربية، لا للولادة، فكأنه ولده من غيرها. ومع هذه التأويلات ظواهر الأحاديث تشير إلى أن هذه الحادثة في صدقة التطوع، وليست في الزكاة، وقد جزم بذلك الإمام النووي، أما استدلالهم بقولها: أتجزئ عني فقد أولوه على معنى: أتجزئ عني في الوقاية من النار، كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا تحصل لها المقصود، وليس المراد أتجزئ عني في فرض الزكاة. والله أعلم. ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم:

    1- من الحديث الرابع فضل الإنفاق على الأهل، لقوله صلى الله عليه وسلم: أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك وذلك في مقابلة الإنفاق في سبيل الله، أو في رقبة، أو على مسكين.

    2- ومن حديث أبي قلابة فضل الإنفاق على عياله، يعفهم، أو ينفعهم الله به ويغنيهم.

    3- ومن الحديث الخامس الحث على رعاية الرقيق والخدم، والحفاظ على حقوقهم، وإثم الذي يقصر في ذلك، ويحبس عمن يملك قوته.
    4- ومن الحديث السادس الابتداء في النفقة بالنفس، ثم الأهل، والمراد بهم الزوجة والأولاد، ثم القرابة الأقرب فالأقرب، ثم الأجنبي.
    5- وأن الحقوق إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد.
    6- وأن الأفضل في صدقة التطوع تنوعها في جهات الخير، ووجوه البر بحسب المصلحة، ولا تنحصر في جهة بعينها. قاله النووي.
    7- وفيه دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي وموافقيه في جواز بيع المدبر. وقال مالك وأصحابه: لا يجوز بيعه إلا إذا كان على السيد دين فيباع فيه. قال النووي: وهذا الحديث صريح أو ظاهر في الرد عليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما باعه لينفقه سيده على نفسه، والحديث صريح أو ظاهر في هذا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ابدأ بنفسك فتصدق عليها.... إلخ.
    8- ومن الحديث الثامن بالإضافة إلى ما ذكرناه في فضل النفقة من أحب الأموال، أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين.
    9- ومن الحديث العاشر، من قوله صلى الله عليه وسلم لميمونة: لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك، فضيلة صلة الأرحام، وأنها فوق العتق. 10- وفيه الاعتناء بأقارب الأم إكراماً لحقها، وزيادة في برها. 1

    1- ومن عتق ميمونة لوليدتها جواز تبرع المرأة بمالها من غير إذن زوجها. قاله النووي. وهو يحتاج إلى إثبات أنها لم تستأذن، ولم يأذن. 1

    2- وفي الحديث الحادي عشر أمر ولي الأمر رعيته بالصدقة وفعل الخير، ووعظه النساء إذا أمن الفتنة. 1

    3- وأنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها، فإن بلالاً أخبر بما وعد أنه لا يخبر به، وأفشى السر، حيث عارض ذلك ضرورة إجابته رسول الله صلى الله عليه وسلم على سؤاله: من هما؟ وجوابه صلى الله عليه وسلم واجب محتم، لا يجوز تأخيره، ولا يقدم عليه غيره. 1
    4- وفيه الحث على الصدقة على الأقارب، وأن فيها أجرين. 1
    5- وفيه استفتاء غير الأعلم مع وجود الأعلم، فقد ذهبت زينب للاستفتاء مع وجود زوجها عبد الله بن مسعود. وهذا على أساس أنها خرجت للاستفتاء ممن يقابلها. 1
    6- وفيه جواز طلب كتمان بعض الأمور إذا دعت الحاجة إلى كتمان. 1
    7- وفيه حرص الزوجة على كرامة زوجها ومروءته، والبعد عما يمسه أو يجرحه، فإن زينب طلبت كتمان أمرها وقاية لزوجها. 1
    8- وفي الحديث الثالث عشر أجر الإنفاق على الأولاد. 1
    9- وفي الحديث الرابع عشر بيان بأن المراد بالصدقة والنفقة -الواردة في الأحاديث المطلقة- النفقة والصدقة المحتسبة المبتغى بها وجه الله. 20- وفي الحديث الخامس عشر والسادس عشر جواز صلة القريب المشرك. 2

    1- وفي الحديث السابع عشر وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه. قال النووي: في الحديث أن الصدقة عن الميت تنفع الميت، ويصله ثوابها، وهو كذلك بإجماع العلماء، وكذا أجمعوا على وصول الدعاء، وقضاء الدين، بالنصوص الواردة في الجميع، ويصح الحج عن الميت إذا كان حج الإسلام، وكذا إذا وصى بحج لتطوع على الأصح عندنا، واختلف العلماء في الصوم إذا مات وعليه صوم، فالراجح جوازه عنه، للأحاديث الصحيحة فيه، والمشهور في مذهبنا أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها. وقال جماعة من أصحابنا: يصله ثوابها. وبه قال الإمام أحمد بن حنبل، وأما الصلاة وسائر الطاعات فلا تصله عندنا ولا عند الجمهور. وقال أحمد: يصله ثواب الجميع كالحج. والله أعلم. قبول الصدقة إذا وضعت في غير موضعها خطأ أوضح القرآن الكريم مصارف الزكاة في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة: 60]، فحيث وجدت صفة من الصفات الثمان استحق صاحبها الصدقة، وصح إعطاؤه زكاة الفريضة، وقد يجمع الشخص الواحد أكثر من صفة، فيعطى بهذه أو بتلك أو بها جميعاً، فيمكن أن يستحق الغني الزكاة من سهم المؤلفة قلوبهم، أو من سهم العاملين على الزكاة، أو من سهم الغارمين. لكن الغني الذي لم يتصف بوصف آخر من الأوصاف المذكورة لا يستحق الزكاة المفروضة، ولا تقبل ولا تسقط الفريضة عن صاحبها إن أعطاه وهو يعلم أنه غني، لا خلاف في هذا بين العلماء، ولا خلاف في رجاء القبول والثواب إن أعطي الغني من الصدقة المندوبة حيث لا يعلم المعطي أنه غني، أما إعطاؤه مع العلم بغناه فيرجى قبوله بصفة الهبة والهدية لا بصفة الصدقة، كما يرجى قبوله بصفة الصلة إن كان من ذوي الأرحام. والخلاف بين العلماء في قبول الزكاة، وسقوطها عن صاحبها إذا دفعها لغني وهو لا يعلم أنه غني، ثم تبين له أنه غني، والحديث رقم (34) يتعرض لهذه المسألة، حيث جاء فيه قول الرجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، قال: اللهم لك الحمد على غنى فأتى فأخبر أن الله قبل صدقته على غني، فقد يعتبر هذا الغني فينفق مما أعطاه الله. فأبو حنيفة ومحمد وأتباعهما يقولون: إذا أعطى زكاته لشخص وظنه فقيراً فبان أنه غني سقطت عنه تلك الزكاة، ولا تجب عليه الإعادة. وقال الشافعي وأبو يوسف: لا يجزيه، وعليه الإعادة، لأنه لم يضع الصدقة موضعها، وأخطأ في اجتهاده. قاله العيني. ربما يحمل أبو حنيفة لفظ الصدقة في الحديث على ما يعم النفل والفريضة وربما يخصصها الشافعي بالنافلة المندوبة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، لهذا يقول الحافظ ابن حجر: ولا دلالة في الحديث على الإجزاء ولا على منعه، من ثم أورد البخاري الترجمة بلفظ الاستفهام، ولم يجزم بالحكم فقال: باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم. فالذي يحمل الصدقة على المندوبة يقدر جواب إذا بقوله: فصدقته مقبولة. والذي تستريح إليه النفس أن من بذل الجهد، واستفرغ الوسع، ولم يقصر في دراسة الآخذ، فاعتقد بعد الاجتهاد والأخذ بالوسائل والأدلة أنه فقير فأعطاه الزكاة سقطت عنه، ويرجى قبولها، وإن تبين فيما بعد أنه كان غنياً، لا تجب الإعادة وإن استحبت خروجاً من الخلاف. لكن لا يستدل على هذا بالحديث، لأن الرجل -كما يبدو- لم يجتهد أصلاً، ولم يتحر عند العطاء من يعطي، والأغنياء والفقراء معروفون في البلاد عادة، والأول لا يحتاج إلى عناء في تمييزهم وبخاصة ممن يقيم معهم، لكن الرجل كان حريصاً على نفقة السر ولم يكن حريصاً على اختيار المستحق. والله أعلم. والواضح من آيات مصارف الزكاة عدم التعرض لصلاح المذكورين أو فسقهم، لكن المعلوم من قواعد الشريعة ونصوصها أن الآخذ يدعو للمتصدق فالله تعالى يقول: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] ودعاء الصالح غير دعاء الطالح، وحتى لو لم يدع الآخذ، فإن العطاء يخلق رضا الآخذ على المعطي، ورضا الطائع غير رضا الفاسق، لذا جاء في الحديث: يا معشر المسلمين. أطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين. فكان الأولى بالمتصدق أن يقصد الصالحين المتقين، لكن إعطاء المسلم الفاسق من الزكاة جائز من حيث المبدأ، ولا خلاف في ذلك، والحديث علل القبول برجاء الاستعفاف. قال الحافظ ابن حجر: فإن قيل: إن الخبر إنما تضمن قصة خاصة، وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية، فمن أين يقع تعميم الحكم؟ فالجواب أن التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب. اهـ. ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم

    1- أن الصدقة كانت عندهم في أيامهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة.

    2- وفيه دليل على أن الله يجزي العبد على حسب نيته في الخير، لأن هذا المتصدق لما قصد بصدقته وجه الله قبلت منه، ولم يضر وضعها عند من لا يستحقها.

    3- وفيه اعتبار لمن تصدق عليه بأن يتحول عن الحال المذمومة إلى الحال الممدوحة، ويستعف السارق من السرقة، والزانية من الزنا، والغني من إمساكه وشحه.
    4- وفيه فضل صدقة السر.
    5- وفضل الإخلاص في الصدقة.
    6- وفيه استحباب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع.
    7- وفيه أن الحكم للظاهر حتى يتبين خلافه.
    8- وفيه بركة التسليم والرضا، وعدم الضجر والأسف.
    9- وفيه متابعة الخير، حتى لو ظهر خطأ، وفي ذلك يقول بعض السلف: لا تقطع الخدمة ولو ظهر لك عدم القبول. والله أعلم. الحث على التعجيل بالإنفاق يحرص الإنسان على جمع المال وادخاره طالما يحس بحاجته إليه عاجلاً أو آجلاً، ويحرص على جمع المال وادخاره للتفاخر والتكاثر، وهو ما خشيه صلى الله عليه وسلم على أمته، حيث يقول: ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوا فيها. فإذا ما فقد الإنسان هذين الدافعين فقد المال قيمته، ولم يحرص عليه جامعه ولم يسع إليه ساعية. لنتصور غنياً ملئت خزائنه بالذهب والفضة والدر والياقوت، لنتصوره في غمرات الموت، وقد وصل إلى النهاية وعاين الحقيقة. بعد أن أخرس لسانه وسكنت حركته وبطل تصرفه، ما نظرته إلى ماله الذي أضاع عمره يجري وراءه؟ إنه سيخلفه وراء ظهره، إنه سينفض يديه ويفتحها ويبسطها، فلم يعد من الدنيا شيء يقبض عليه بيديه. وصدق الله العظيم حيث يقول: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} [الأنعام: 94]. ليتصور المؤمن العاقل الكيس هذا الموقف، ويتصور معه قوله صلى الله عليه وسلم: ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت. ويتصور معه قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟. قالوا: ما منا أحد مال وارثه أحب إليه من ماله، قال، فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر. ماذا يفعل العاقل الكيس إذا استحضر اليوم في نفسه هذا الموقف وهو صحيح شحيح، يخشى الفقر، ويأمل الغنى؟ أيأخذ من دنياه لآخرته، أم يبني دنيا هو زائل عنها ومخلفها لغيره؟ أينفق ويتصدق ويقدم لنفسه من الخير ليجده عند الله عملاً بقوله تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير} [البقرة: 110] أم يهمل ويمهل ويرجئ الخير ويسوف، حتى إذا بلغت الحلقوم تنبه وندم حيث لا ينفع الندم؟ حتى إذا بلغت الحلقوم قال: أخرجوا من مالي لفلان كذا، ولفلان كذا، يسمعه ورثته ولا يستجيبون، فقد بطل تصرفه ولم يعد المال ماله، فقد صار للوارث فلان وفلان؟. هكذا يقول الحديث (58، 59): جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ فقال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان ومن قبل تحذير الحديث الشريف حذر القرآن الكريم، فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} [المنافقون:
    9-11]
    . نعم. في هذه الحالة يفقد المال قيمته عند صاحبه، ويتحسر على ضياع وقته في جمعه، وعلى أنه لم يؤد فيه حق ربه. الحالة الثانية التي يفقد المال فيها قيمته يوم يكثر المال ويفيض، يوم تخرج الأرض أثقالها وكنوزها، يوم تتحول الصحاري الجرداء إلى حدائق خضراء تجري من خلالها الأنهار، يوم تعود الجزيرة العربية القاحلة، وأمثالها من القفار والجبال إلى مروج وبساتين وأنهار، يوم تخرج الأرض كنوزها من الذهب والفضة أمثال الأعمدة التي تحمل القصور، يوم تخرج الأرض كنوزها من البترول واليورانيوم واللآلئ والجواهر والمعادن النفيسة، فيفيض المال ويكثر، حتى يصبح في أيدي الناس وتحت أقدامهم مثل التراب. نعم. وإن ذلك لكائن وأكثر منه سيكون، وقد ظهرت بوادره في بعض البقاع. يومها يحتقر القاتل نفسه ويقول: في مثل هذا التافه قتلت نفساً بغير حق، ويحتقر السارق نفسه ويقول: في مثل هذا الحقير الوفير قطعت يدي، ويجيء المغتصب لمال إخوته والمقاطع لأبيه وأمه وأقاربه من أجل المال فيحتقر نفسه ويقول: في مثل هذا الهين قطعت رحمي، يمرون على الذهب والفضة فيضمون شفاههم احتقاراً له، ويشيحون عنه بوجوههم، وينصرفون لا يأخذون منه شيئاً. تخيل معي رجلاً يخرج بزكاته في هذه الحالة. من ينظر إليها؟ من يتقبلها منه؟ سيقول له الناس: لو جئتنا بها قبل هذه الحالة قبلناها، أما اليوم فلا حاجة لنا بها. وحينئذ يندم الممسك الشحيح على ما قصر، ولات ساعة مندم. تحدثنا عن هذه الحالة الأحاديث (24)، (25)، (26)، (27)، (28) وفيها يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تصدقوا. فيوشك الرجل يمشي بصدقته فيقول الذي أعطيها: لو جئتنا بها بالأمس قبلتها، فأما الآن فلا حاجة لي بها، فلا يجد من يقبلها. ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب لا يجد أحداً يأخذها منه، ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة؛ يلذن به، من قلة الرجال؛ وكثرة النساء. لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله، فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً. لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال، يفيض حتى يهم رب المال من يقبله منه صدقة، ويدعى إليه الرجل، فيقول: لا أرب لي فيه. تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل؛ فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع، فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق، فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه، فلا يأخذون منه شيئاً. والله أعلم

    وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ ‏"‏ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ ثُمَّ لاَ يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ ‏"‏ ‏.‏ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ بَرَّادٍ ‏"‏ وَتَرَى الرَّجُلَ ‏"‏ ‏.‏

    Abu Musa reported Allah's Messenger (ﷺ) as saying:There would come a time for the people when a person would roam about with Sadaqa of gold, but he would find no one to accept it from him. And a man would be seen followed by forty women seeking refuge with him on account of the scarcity of males and abundance of females

    D'après Abou Moûsa (que Dieu l'agrée), le Prophète (paix et bénédiction de Dieu sur lui) a dit : "Il sera un temps où l'homme, voulant faire une aumône en or, ne trouvera personne qui veuille l'accepter. On verra alors l'homme suivi de quarante femmes qui se réfugieront auprès de lui; ce que les hommes seront très peu nombreux par rapport aux femmes

    Dan Telah menceritakan kepada kami [Abdullah bin Barrad Al Asy'ari] dan [Abu Kuraib Muhammad bin Al Ala`] keduanya berkata, Telah menceritakan kepada kami [Abu Usamah] dari [Buraid] dari [Abu Burdah] dari [Abu Musa] dari Nabi shallallahu 'alaihi wasallam, beliau bersabda: "Sungguh akan datang suatu zaman dimana ada seorang lelaki yang berkeliling menawarkan sedekah berupa emas namun ia tidak mendapatkan seorangpun yang sudi mengambilnya, dan akan ada seorang lelaki yang diikuti oleh empat puluh wanita yang ingin merasakan kenikmatan bersamanya karena saking sedikitnya jumlah kaum lelaki saat itu dan banyaknya jumlah kaum wanita." Dalam riwayat Ibnu Barrad disebutkan: "Dan kamu akan menyaksikan seorang lelaki

    Bize Abdullah b. Berrâd El-Eş'ari ile Ebû Kureyb Muhammed b. Ala' rivayet ettiler. Dediler ki: Bize Ebû Usâme, Büreyd'den, o da Ebû Bürde'den, o da Ebû Musa'dan, o da Nebi (Sallallahu Aleyhi ve Sellem)'den naklen rivayet etti. Şöyle buyurmuşlar: «İnsanlara mutlaka bir zaman gelecek ki, bir kimse altından olan zekâtını (diyar diyar) dolaştıracak, onu alacak hiç bir kimse bulamıyacak. Erkeklerin azlığından, kadınların çokluğundan dolayı bir erkeğin peşinden ona sığınmak isteyen 40 kadının gittiği görülecek.» İbni Berrâd'ın rivayetinde: «Bir adamı göreceksin.» denilmiştir

    عبد اللہ بن براداشعری اور ابو کریب محمد بن علاء دو نوں نے کہا : ہمیں ابو اسامہ نے برید سے حدیث بیا ن کی ، انھوں نے ابو بردہ سے انھوں نے حضرت موسیٰ رضی اللہ تعالیٰ عنہ سے اور انھوں نے نبی کریم صلی اللہ علیہ وسلم سے روایت کی ، آپ نے فر ما یا : " لو گوں پر یقیناً ایسا وقت آئے گا جس میں آدمی سونے کا صدقہ لے کر گھومے گا پھر اسے کو ئی ایسا آدمی نہیں ملے گا جو اسے اس سے لے لے اور مردوں کی قلت اور عورتوں کی کثرت کی وجہ سے ایسا اکیلا آدمی دیکھا جا ئے گا جس کے پیچھے چا لیس عورتیں ہو ں گی جو اس کی پناہ لے رہی ہو ں گی ۔ ابن براد کی روا یت میں ( ایسا اکیلا آدمی دیکھا جا ئے گا ۔ کی جگہ وتري رجل ( اور تم ایسےآدمی کو دیکھو گے ) ہے ۔

    আবদুল্লাহ ইবনু বাররাদ আল আশ'আরী ও আবূ কুরায়ব মুহাম্মাদ ইবনুল আলা (রহঃ) ..... আবূ মূসা (রাযিঃ) থেকে বর্ণিত। নবী সাল্লাল্লাহু আলাইহি ওয়াসাল্লাম বলেনঃ মানুষের উপর এমন এক যুগ আসবে যখন কোন লোক তার স্বর্ণের সদাকাহ নিয়ে ঘুরতে থাকবে কিন্তু নেয়ার মতো কোন লোক পাবে না। আর একজন পুরুষের পিছনে চল্লিশ জন করে নারীকে অনুসরণ করতে দেখা যাবে। পুরুষের সংখ্যা কম এবং স্ত্রী লোকের সংখ্যা বেশি হওয়ার কারণে তারা এদের কাছে আশ্রয় নিবে। (ইসলামিক ফাউন্ডেশন ২২০৭, ইসলামীক সেন্টার)

    நபி (ஸல்) அவர்கள் கூறினார்கள்: மக்களுக்கு ஒரு காலம் வரும். அப்போது ஒருவர் தங்கத்தை எடுத்துக்கொண்டு தர்மம் செய்வதற்காக அலைவார். ஆனால், அதைப் பெற்றுக்கொள்ளக்கூடிய எவரையும் அவர் காணமாட்டார். மேலும், (அப்போது போர்கள் மிகுந்து) ஆண்கள் குறைந்து, பெண்கள் அதிகரித்துவிடுவதால் ஓர் ஆணை நாற்பது பெண்கள் பின்தொடர்ந்துவந்து, அவனைச் சார்ந்திருக்கும் நிலை காணப்படும். இதை அபூமூசா அல்அஷ்அரீ (ரலி) அவர்கள் அறிவிக்கிறார்கள். இந்த ஹதீஸ் இரு அறிவிப்பாளர்தொடர்களில் வந்துள்ளது. அவற்றில் அப்துல்லாஹ் பின் பர்ராத் (ரஹ்) அவர்களது அறிவிப்பில் "ஓர் ஆணை (இந்த நிலையில்) நீங்கள் காண்பீர்கள்" என்று இடம்பெற்றுள்ளது. அத்தியாயம் :