بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ " وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {{ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ }} {{ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }} {{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى }} {{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ }} وَقَوْلُهُ : {{ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا }} وَقَوْلُهُ : {{ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا }} وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ : {{ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا }} وَقَوْلُهُ تَعَالَى : {{ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا }} وَالحُبُّ فِي اللَّهِ وَالبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الإِيمَانِ " وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ : " إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ ، وَشَرَائِعَ ، وَحُدُودًا ، وَسُنَنًا ، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا ، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ " وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : " اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " اليَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ " وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : " لاَ يَبْلُغُ العَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ " وَقَالَ مُجَاهِدٌ : " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا " سَبِيلًا وَسُنَّةً باب دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : {{ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ }} وَمَعْنَى الدُّعَاءِ فِي اللُّغَةِ الإِيمَانُ
بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ وَقَوْلُهُ : وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَقَوْلُهُ : أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ : فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا وَالحُبُّ فِي اللَّهِ وَالبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الإِيمَانِ وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ : إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ ، وَشَرَائِعَ ، وَحُدُودًا ، وَسُنَنًا ، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا ، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : اليَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لاَ يَبْلُغُ العَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا سَبِيلًا وَسُنَّةً باب دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ وَمَعْنَى الدُّعَاءِ فِي اللُّغَةِ الإِيمَانُ
كتاب الإيمان
بكسر الهمزة وهو لغة التصديق، وهو كما قاله التفتازاني إذعان لحكم المخبر وقبوله وجعله صادقًا، إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به أمنه التكذيب والمخالفة، يعدّى باللام كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف: {{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}} [يوسف: 17]، أي مصدق لنا، وبالباء كما في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الإيمان أن تؤمن بالله". الحديث. فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو الخبر من غير إذعان وقبول، بل هو إذعان وقبول لذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم على ما صرَّح به الإمام الغزالي. والكتاب من الكتب وهو الجمع والضم، ومن ثم استعمل جامعًا للأبواب والفصول الجامعة للمسائل، والضم فيه بالنسبة إلى الحروف المكتوبة حقيقة، وبالنسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز. ولم يقل في الأول كتاب بدء الوحي لأنه كالمقدمة، ومن ثم بدأ به لأن من شأن المقدمة كونها أمام المراد، وأيضًا فإن من الوحي عرف الإيمان وغيره.
باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ»
وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}} - {{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}} - {{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}} - {{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}} - {{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}} وَقَوْلُهُ: {{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}}. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {{فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {{وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}}. وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الإِيمَانِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ إِنَّ لِلإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ.
فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
{{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}}. وَقَالَ مُعَاذٌ اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْيَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {{شَرَعَ لَكُمْ ... أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {{شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}}: سَبِيلاً وَسُنَّةً.
هذا (باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الحديث الموصول الآتي تامًّا إن شاء الله تعالى.
(بُنيّ الإسلام على خمس). وفي فرع اليونينية كهي، كتاب الإيمان، وقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي أخرى باب الإيمان وقول النبي، والأول أصح لأن ذكر الإيمان بعد ذكر كتاب الإيمان لا طائل تحته كما لا يخفى، وسقط لفظ باب عند الأصيلي. والإسلام لغة الانقياد والخضوع، ولا يتحقق ذلك إلا بقبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التصديق كما سبق، قال الله تعالى: {{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين}} [الذاريات: 35، 36] فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا فهما متحدان في الصدق وإن تغايرا بحسب المفهوم، إذ مفهوم الإيمان تصديق القلب، ومفهوم الإسلام أعمال الجوارح، وبالجملة لا يصح في الشرع أن يحكم على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا. ومن أثبت التغاير فقد يقال له ما حكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن، فإن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابت للآخر فقد ظهر بطلان قوله، فإن قيل قوله تعالى: {{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}} [الحجرات: 14]. صريح في تحقيق الإسلام بدون الإيمان. أجيب بأن المراد أنهم انقادوا في الظاهر اهـ.
(وهو) أي الإيمان المبوَّب عليه عند المصنف كابن عيينة والثوري وابن جريح ومجاهد ومالك بن أنس وغيرهم من سلف الأمة وخنفها من المتكلمين والمحدثين: (قول) باللسان وهو النطق بالشهادتين. (وفعل)، ولأبي ذر عن الكشميهني وعمل بدل فعل، وهو أعمّ من عمل القلب والجوارح، لتدخل الاعتقادات والعبادات. وهو موافق لقول السلف اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط كماله. وقال المتأخرون ومنهم الأشعرية وأكثر الأئمة كالقاضي ووافقهم ابن الراوندي من المعتزلة هو تصديق الرسول عليه السلام بما علم مجيئه ضرورة، وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، وإجمالاً فيما علم إجمالاً تصديقًا جازمًا مطلقًا، سواء كان لدليل أم لا، قال الله تعالى: {{أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون}} [المجادلة: 22]. وقال عليه الصلاة والسلام: "اللهمّ ثبّث قلبي على دينك". وإذا ثبت أنه فعل القلب وجب أن يكون عبارة عن مجرد التصديق، وقد خرج بقيد الضرورة ما لم يعلم بالضرورة أنه جاء به كالاجتهادات، وبالجازم التصديق الظني، فإنه غير كافِ. وقيل هو المعرفة، فقوم بالله وهو مذهب جهم بن صفوان، وقوم بالله وبما جاء به الرسول إجمالاً وهو منقول عن بعض الفقهاء. وقال الحنفية التصديق بالجنان والإقرار
باللسان، قال العلاّمة التفتازاني: إلا أن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلاً، والإقرار قد يحتمله كما في حالة الإكراه.
فإن قلت: التصديق قد يذهل عنه كما في حالة النوم والغفلة، أجيب: بأن التصديق باقٍ في القلب والذهول إنما هو عن حصوله. وذهب جمهور المحققين إلى أنه هو التصديق بالقلب وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، كما أن تصديق القلب أمر باطني لا بدّ له من علامة اهـ.
وقال النووي: اتفق أهل السُّنَّة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادًا جازمًا خاليًا عن الشكوك ونطق مع ذلك بالشهادتين، فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً بل يخلد في النار، إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكّن منه لمعالجة المنية أو لغير ذلك، فإنه حينئذ يكون مؤمنًا بالاعتقاد من غير لفظ اهـ.
وقال الكرامية: انطق بكلمتي الشهادة فقط، وقال قوم العمل. وذهب الخوارج والعلاف وعبد الجبار إلى أنه الطاعة بأسرها فرضًا كانت أو نفلاً. وذهب الجبائي وابنه وأكثر المعتزلة البصرية إلى أنه الطاعات المفترضه من الأفعال والتروك دون النوافل. وقال الباقون منهم العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينه وبين قول السلف السالف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في الكمال، والمعتزلة جعلوها شرطًا في الصحة فهذه ثمانية أقوال، خمسة منها بسيطة والأول والثامن مركب ثلاثي والرابع مركب ثنائي، ووجه الحصر أن الإيمان لا يخرج بإجماع المسلمين عن فعل القلب وفعل الجوارح، فهو حينئذ إما فعل القلب فقط وهو المعرفة على الوجهين أو التصديق المذكور، وإما فعل الجوارح فقط وهو فعل اللسان وهو الكلمتان، أو غير فعل اللسان وهو العمل بالطاعة المطلقة أو المفترضة. وإما فعل القلب والجوارح معًا، والجارحة إما اللسان وحده أو جميع الجوارح، وهذا كله بالنظر إلى ما عند الله تعالى. أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فإذا أقرّ حكمنا بإيمانه اتفاقًا، نعم النزاع واقع في نفس الإيمان والكمال فإنه لا بدّ فيه من الثلاثة إجماعًا فمن أقرّ بالكلمة جرت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره، إلا إن اقترن به فعل كالسجود لصنم، فإن كان غير دال عليه كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته. وأثبت المعتزلة الواسطة فقالوا الفاسق لا مؤمن ولا كافر.
(و) إذا تقرر هذا فاعلم أن الإيمان (يزيد) بالطاعة (وينقص) بالمعصية كما عند المؤلف وغيره، وأخرجه أبو نعيم كذا بهذا اللفظ في ترجمة الشافعي من الحلية، وهو عند الحاكم بلفظ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وكذا نقله اللالكائي في كتاب السُّنة عن الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه، بل قال به من الصحابة عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن
مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وعمارة، وأبو هريرة، وحذيفة، وعائشة وغيرهم، ومن التابعين كعب الأحبار، وعروة، وطاوس، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم.
وروى اللالكائي أيضًا بسند صحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. وأما توقف مالك رحمه الله عن القول بنقصانه فخشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج، ثم استدل المؤلف على زيادة الإيمان بثمان آيات من القرآن العظيم مصرّحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة فقال:
(قال) وفي رواية الأصيلي وقال (الله تعالى) بالواو في سورة الفتح، ولأبي ذر: عز وجل (ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم) وقال تعالى في الكهف: (وزدناهم هدى) أي بالتوفيق والتثبيت وهذه الآية ساقطة في رواية ابن عساكر كما في فرع اليونينية كهي، والآية الثالثة في مريم: (ويزيد الله) بالواو، وفي رواية ابن عساكر يزيد الله، وفي أخرى للأصيلي، وقال: ويزيد الله (الذين اهتدوا هدى) أي بتوفيقه. وقال في القتال وفي رواية ابن عساكر والأصيلي، وقوله وفي رواية بإسقاطهما والابتداء بقوله: (والذين اهتدوا زادهم هدى) بالتوفيق، (وآتاهم تقواهم). أي بيَّن لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزاءها، وقال تعالى في المدثر: (ويزداد) ولابن عساكر والأصيلي، وقوله: ويزداد (الذين آمنوا إيمانًا) بتصديقهم بأصحاب النار المذكورين في قوله: {{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً}} الآية [المدّثر: 31]. (وقوله) تعالى في براءة (أيّكم زادته هذه) أي السورة (إيمانًا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا) بزيادة العلم الحاصل من تدبرها وبانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم. (وقوله جل ذكره) في آل عمران (فاخشوهم فزادهم إيمانًا) لعدم التفاتهم إلى من ثبطهم عن قتال المشركين بل ثبت يقينهم بالله وازداد إيمانهم، قال البيضاوي وهو دليل على أن الإيمان يزيد وينقص. (وقوله تعالى) في الأحزاب (وما زادهم) أي لما رأوا الخطب أو البلاء في قصة الأحزاب، وسقطت واو وما للأصيلي فقال: ما زادهم (إلا إيمانًا) بالله ومواعيده، (وتسليمًا) لأوامره ومقاديره.
فإن قلت: الإيمان هو التصديق بالله وبرسوله والتصديق شيء واحد لا يتجزأ فلا يتصور كماله تارة ونقصه أخرى، أجيب بأن قبوله الزيادة والنقص ظاهر على تقدير دخول القول والفعل فيه. وفي الشاهد شاهد بذلك، فإن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، ومن ثم كان إيمان الصدّيقين أقوى من إيمان غيرهم، وهذا مبني على ما ذهب إليه المحققون من الأشاعرة من أن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، وأن الإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته التي هي الأعمال ونقصانها، وبهذا يحصل التوفيق بين ظواهر النصوص الدالّة على الزيادة وأقاويل السلف بذلك، وبين أصل وضعه اللغوي وما عليه أكثر المتكلمين.
نعم يزيد وينقص قوة وضعفًا إجمالاً وتفصيلاً أو تعدّدًا بحسب تعدد المؤمن به. وارتضاه النووي. وعزاه التفتازاني في شرح عقائد النسفيّ لبعض المحققين، وقال في المواقف: إنه الحق وأنكر ذلك أكثر المتكلمين والحنفية، لأنه متى قبل ذلك كان شكًّا وكفرًا، وأجابوا عن الآيات السابقة ونحوها بما نقلوه عن إمامهم أنها محمولة على أنهم كانوا آمنوا في الجملة، ثم يأتي فرض بعد فرض فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص. وحاصله أنه كان يزيد بزيادة ما يجب الإيمان به، وهذا لا يتصور في غير عصره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه نظر، لأن الاطلاع على تفاصيل الفرائض يمكن في غير عصره عليه السلام، والإيمان واجب إجمالاً فيما علم إجمالاً، وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، ولا خفاء في أن التفصيلي أزيد اهـ.
ثم استدل المؤلف على قبول الزيادة أيضًا بقوله: (والحب في الله) وهو بالرفع مبتدأ (والبغض في الله) عطف عليه. وقوله: (من الأيمان) خبر المبتدأ وهذا لفظ حديث رواه أبو داود من حديث أبي أمامة لأن الحب والبغض يتفاوتان.
(وكتب عمر بن عبد العزيز) بن مروان الأموي القرشي أحد الخلفاء الراشدين المتوفى بدير سمعان بحمص يوم الجمعة لخمس ليالٍ بقين من رجب سنة إحدى ومائة، (إلى عديّ بن عديّ) بفتح العين وكسر الدال المهملتين فيهما ابن عمرة بفتح العين الكندي التابعي المتوفى سنة عشرين ومائة، (ان للإيمان) بكسر همزة ان في اليونينية (فرائض) بالنصب اسم ان مؤخر أي أعمالاً مفروضة (وشرائع) أي عقائد دينية (وحدودًا) أي منهيّات ممنوعة (وسُننًا) أي مندوبات، وفي رواية ابن عساكر أن الإيمان فرائض بالرفع خبر ان وما بعده معطوف عليه، ووقع للجرجاني فرائع وليس بشيء.
(فمن استكملها) أي الفرائض وما معها فقد (استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان) فيه إشارة إلى قبول الإيمان الزيادة والنقصان. ومن ثم ذكره المؤلف هنا استشهادًا لا يقال إنه لا يدل على ذلك بل على خلافه، إذ قال للإيمان كذا وكذا، فجعل الإيمان غير الفرائض وما ذكر معها، وقال من استكملها أي الفرائض وما معها فجعل الكمال لما للإيمان لا للإيمان، لأنا نقول آخر كلامه يُشعِر بذلك حيث قال: فمن استكملها أي الفرائض وما معها استكمل الإيمان. (فإن أعش فسأبينها) أي فسأوضحها (لكم) إيضاحًا يفهمه كل أحد منكم. والمراد تفاريعها لا أصولها إذ كانت معلومة لهم على سبيل الإجمال. وأراد سأبينها لكم على سبيل التفصيل. (حتى تعملوا بها، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص) وليس في هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة إذ الحاجة لم تتحقّق، أو أنه علم أنهم يعلمون مقاصدها ولكنه استظهر وبالغ في نصحهم وتنبيههم على المقصود وعرَّفهم أقسام الإيمان مجملاً، وأنه سيذكرها مفصلاً إذا تفرع لها فقد كان مشغولاً بالأهم، وهو من تعاليق المؤلف المجزومة وهي محكوم بصحتها. ووصله أحمد وابن أبي شيبة في كتاب الإيمان لهما من طريق عيسى بن عاصم، قال: حدّثني عديّ بن عديّ فذكره.
(وقال إبراهيم) الخليل زاد الأصيلي في روايته كما في فرع اليونينية كهي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد عاش فيما روي مائة سنة وخمسًا وسبعين سنة أو مائتي سنة ودفن بحبرون بالحاء المهملة: (ولكن ليطمئن قلبي) أي ليزداد بصيرة وسكونًا بمضامة العيان إلى الوحي والاستدلال، فإن عين اليقين فيه طمأنينة ليست في علم اليقين ففيه دلالة على قبول التصديق اليقيني للزيادة، وعند ابن جرير بسند صحيح إلى سعيد بن جبير أي يزداد يقيني. وعن مجاهد لأزداد إيمانًا إلى إيماني. لا يقال كان المناسب أن ذكر المؤلف هذه الآية عند الآيات السابقة، لأنّا نقول إن هاتيك دلالتها على الزيادة صريحة بخلاف هذه فلذا أخّرها إشعارًا بالتفاوت.
(وقال معاذ) بضم الميم والذال المعجمة وللأصيلي في روايته، وقال معاذ بن جبل كما في فرع اليونينية كهي ابن عمرو الخزرجي الأنصاري المتوفى سنة ثمانية عشر، وله في البخاري ستة أحاديث للأسود بن هلال. (اجلس بنا) بهمزة وصل (نؤمن) بالجزم (ساعة) أي نزداد إيمانًا لأن معاذًا كان مؤمنًا أي مؤمن، وقال النووي معناه نتذاكر الخير وأحكام الآخرة وأمور الدين، فإن ذلك إيمان.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي لا تتعلق فيه للزيادة لأن معاذًا إنما أراد تجديد الإيمان لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضًا، ثم يكون أبدًا مجددًا لما نظر أو فكر، وقال في الفتح متعقبًا له وما نفاه أولاً أثبته آخرًا لأن تجديد الإيمان إيمان، وهذا التعليق وصله أحمد وابن أبي شيبة كالأول بسند صحيح إلى الأسود بن هلال، قال: قال لي معاذ: اجلس فذكره، وعرف من هذا أن الأسود أبهم نفسه.
(وقال ابن مسعود) عبد الله وجده غافل بالمعجمة والفاء الهذلي نسبة إلى جده هذيل بن مدركة المتوفّى بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وله في البخاري خمسة وثمانون حديثًا، (اليقين الإيمان كله) أكده بكل لدلالتها كأجمع على التبعيض للإيمان إذ لا يؤكد بهما إلا ذو أجزاء يصح افتراقها حسًّا أو حكمًا، وهذا التعليق طرف من أثر. رواه الطبراني بسند صحيح وتتمته والصبر نصف الإيمان. ولفظ النصف صريح في التجزئة.
(وقال ابن عمر) عبد الله وجدّه الخطاب أحد العبادلة السابق للإسلام مع أبيه أحد الستة المكثرين للرواية المتوفى سنة ثلاث أو أربع وسبعين. (لا يبلغ العبد) بالتعريف وفي رواية ابن عساكر عبد بالتنكير (حقيقة التقوى)، التي هي وقاية النفس عن الشرك والأعمال السيئة والمواظبة على الأعمال الصالحة. (حتى يدع ما حاك) بالمهملة، والكاف الخفيفة أي اضطرب (في الصدر) ولم ينشرح له وخاف الإثم فيه. وفي بعض نسخ المغاربة ما حك بتشديد الكاف، وفي بعض نسخ العراق ما حاك بالألف والتشديد من المحاكة، حكاهما صاحب عمدة القاري والبرماوي. وقد روى مسلم معناه من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا: البرّ حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطّلع الناس عليه. وفي أثر ابن عمر هذا إشارة إلى أن بعض المؤمنين بلغ كنه الإيمان وبعضهم لم يبلغه، فتجوز الزيادة والنقصان.
(وقال مجاهد) أي ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة غير مصغر على الأشهر المخزومي مولى عبد الله بن السائب المخزومي المتوفى وهو ساجد سنة مائة في تفسير قوله تعالى: {{شَرَعَ لَكُمْ}} [الشورى: 13] زاد الهروي وابن عساكر من الدين أي (أوصيناك يا محمد وإياه) أي نوحًا (دينًا واحدًا) خصّ نوحًا عليه السلام لما قيل أنه الذي جاء بتحريم الحرام وتحليل الحلال، وأوّل من جاء بتحريم الأمهات والبنات والأخوات. لا يقال إن إياه تصحيف وقع في أصل البخاري في هذا الأثر، وإن الصواب وأنبياءه كما عند عبد بن حميد وابن المنذر وغيرهما. وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة، لأنه أجيب بأن نوحًا عليه السلام أفرد في الآية، وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عطف عليه وهم داخلون فيما وصى به نوحًا في تفسير مجاهد، وكلهم مشتركون في ذلك، فذكر واحد منهم يغني عن الكل على أن نوحًا أقرب مذكور في الآية، وهو أولى بعود الضمير إليه في تفسير مجاهد، فليس بتصحيف بل هو صحيح، وهذا التعليق أخرجه عبد بن حميد في تفسيره بسند صحيح عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح.
(وقال ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما في تفسيره قوله تعالى: {{شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}} [المائدة: 48] سبيلاً أي طريقًا واضحًا وهو تفسير لمنهاجًا (وسُنّة). يقال شرع يشرع شرعًا أي سنّ، فهو تفسير لشرعة فيكون من باب اللف والنشر الغير المرتب، وسقطت الواو من وقال لابن عساكر، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح وقد وقع هنا في رواية أبي ذر وغيره باب بالتنوين، وهو ثابت في أصل عليه خط الحافظ قطب الدين الحلبي كما قال العيني أنه رآه ورأيته أنا كذلك في فرع اليونينية كهي، لكنه فيها ساقط في رواية الأصيلي وابن عساكر، وأيّده قول الكرماني أنه وقف على أصل مسموع على الفربري بحذفه، بل قال النووي: ويقع في كثير من النسخ هنا باب وهو غلط فاحش وصوابه بحذفه، ولا يصح إدخاله هنا لأنه لا يتعلق له بما نحن فيه، ولأنه ترجم لقوله عليه الصلاة والسلام: بُنِيَ الإسلام ولم يذكره قبل هذا، وإنما ذكره بعده وليس مطابقًا للترجمة.
وعلى هذا فقوله: [الفرقان: 77] (دعاؤكم إيمانكم) من قول ابن عباس يشير به إلى قوله تعالى: {{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}} فسمي الدعاء إيمانًا والدعاء عمل، فاحتجّ به على أن الإيمان عمل وعطفه على ما قبله كعادته في حذف أداة العطف، حيث ينقل التفسير. وهذا التعليق وصله ابن جرير من قوله ابن عباس، وفي رواية أبي ذر لقوله تعالى {{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}} ومعنى الدعاء في اللغة الإيمان.
(كتاب الْإِيمَان)
أَي هَذَا كتاب الْإِيمَان فَيكون ارْتِفَاع الْكتاب على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَيجوز الْعَكْس وَيجوز نَصبه على هاك كتاب الْإِيمَان أَو خُذْهُ وَلما كَانَ بَاب كَيفَ كَانَ بَدْء الْوَحْي كالمقدمة فِي أول الْجَامِع لم يذكرهُ بِالْكتاب بل ذكره بِالْبَابِ ثمَّ شرع يذكر الْكتب على طَريقَة أَبْوَاب الْفِقْه وَقدم كتاب الْإِيمَان لِأَنَّهُ ملاك الْأَمر كُله إِذْ الْبَاقِي مَبْنِيّ عَلَيْهِ مَشْرُوط بِهِ وَبِه النجَاة فِي الدَّاريْنِ ثمَّ أعقبه بِكِتَاب الْعلم لِأَن مدَار الْكتب الَّتِي تَأتي بعده كلهَا عَلَيْهِ وَبِه تعلم وتميز وتفصل وَإِنَّمَا أَخّرهُ عَن الْإِيمَان لِأَن الْإِيمَان أول وَاجِب على الْمُكَلف أَو لِأَنَّهُ أفضل الْأُمُور على الْإِطْلَاق وَأَشْرَفهَا وَكَيف لَا وَهُوَ مبدأ كل خير علما وَعَملا ومنشأ كل كَمَال دقا وجلا فَإِن قلت فَلم قدم بَاب الْوَحْي قلت قد ذكرت لَك أَن بَاب الْوَحْي كالمقدمة فِي أول الْجَامِع وَمن شَأْنهَا أَن تكون أَمَام الْمَقْصُود وَأَيْضًا فالإيمان وَجَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ يتَوَقَّف عَلَيْهِ وشأن الْمَوْقُوف عَلَيْهِ التَّقْدِيم أَو لِأَن الْوَحْي أول خبر نزل من السَّمَاء إِلَى هَذِه الْأمة ثمَّ ذكر بعد ذَلِك كتاب الصَّلَاة لِأَنَّهَا تالية الْإِيمَان وثانيته فِي الْكتاب وَالسّنة أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {{الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة}} وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني الْإِسْلَام على خمس الحَدِيث وَلِأَنَّهَا عماد الدّين وَالْحَاجة إِلَيْهَا ماسة لتكررها كل يَوْم خمس مَرَّات ثمَّ أعقبها بِالزَّكَاةِ لِأَنَّهَا ثَالِثَة الْإِيمَان وثانية الصَّلَاة فيهمَا ولاعتناء الشَّارِع بهَا لذكرها أَكثر من الصَّوْم وَالْحج فِي الْكتاب وَالسّنة ثمَّ أعقبها بِالْحَجِّ لِأَن الْعِبَادَة إِمَّا بدنية مَحْضَة أَو مَالِيَّة مَحْضَة أَو مركبة مِنْهُمَا فرتبها على هَذَا التَّرْتِيب والمفرد مقدم على الْمركب طبعا فقدمه أَيْضا وضعا ليُوَافق الْوَضع الطَّبْع وَأما تَقْدِيم الصَّلَاة على الزَّكَاة فَلَمَّا ذكرنَا وَلِأَن الْحَج ورد فِيهِ تغليظات عَظِيمَة بِخِلَاف الصَّوْم وَلعدم سُقُوطه بِالْبَدَلِ لوُجُوب الْإِتْيَان بِهِ إِمَّا مُبَاشرَة أَو استنابة بِخِلَاف الصَّوْم ثمَّ أعقب الْحَج بِالصَّوْمِ لكَونه مَذْكُورا فِي الحَدِيث الْمَشْهُور مَعَ الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة وَفِي وضع الْفُقَهَاء الصَّوْم مقدم على الْحَج نظرا إِلَى كَثْرَة دورانه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَج وَفِي بعض النّسخ يُوجد كتاب الصَّوْم مقدما على كتاب الْحَج كأوضاع الْفُقَهَاء ثمَّ أَنه توج كل وَاحِد مِنْهَا بِالْكتاب ثمَّ قسم الْكتاب إِلَى الْأَبْوَاب لِأَن كل كتاب مِنْهَا تَحْتَهُ أَنْوَاع فالعادة أَن يذكر كل نوع بِبَاب وَرُبمَا يفصل كل بَاب بفصول كَمَا فِي بعض الْكتب الْفِقْهِيَّة وَالْكتاب يجمع الْأَبْوَاب لِأَنَّهُ من الْكتب وَهُوَ الْجمع وَالْبَاب هُوَ النَّوْع وأصل مَوْضُوعه الْمدْخل ثمَّ اسْتعْمل فِي الْمعَانِي مجَازًا ثمَّ لَفْظَة الْكتاب هَهُنَا يجوز أَن تكون بِمَعْنى الْمَكْتُوب كالحساب بِمَعْنى المحسوب وَهُوَ فِي الأَصْل مصدر تَقول كتب يكْتب كتبا وَكِتَابَة وكتابا وَلَفظ (ك ت ب) فِي جَمِيع تَصَرُّفَاته رَاجع إِلَى معنى الْجمع والصم وَمِنْه الكتيبة وَهِي الْجَيْش لِاجْتِمَاع الفرسان فِيهَا وكتبت الْقرْبَة إِذْ خرزتها وكتبت البغلة إِذا جمعت بَين شفرتيها بِحَلقَة أَو سير وكتبت النَّاقة تكتيبا إِذا صررتها ثمَّ أَنه يُوجد فِي كثير من النّسخ على أول كل كتاب من الْكتب بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَذَلِكَ عملا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أَجْذم أَو أقطع فَهَذَا وَإِن كَانَت الْبَسْمَلَة مغنية عَنهُ لكنه كررها لزِيَادَة الاعتناء على التَّمَسُّك بِالسنةِ وللتبرك بابتداء اسْم الله تَعَالَى فِي أول كل أَمر.
(بَاب الْإِيمَان وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني الْإِسْلَام على خمس)
أَي هَذَا بَاب فِي ذكر قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني الْإِسْلَام على خمس فَيكون ارْتِفَاع بَاب على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَيجوز النصب على خُذ بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي بعض النّسخ بَاب الْإِيمَان وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني الْإِسْلَام على خمس وَالْأولَى أصح لِأَنَّهُ ذكر أَولا كتاب الْإِيمَان وَلَا يُنَاسب بعده إِلَّا الْأَبْوَاب الَّتِي تدل على الْأَنْوَاع وَذكر بَاب الْإِيمَان بعد ذكر كتاب الْإِيمَان لَا طائل تَحْتَهُ على مَا لَا يخفى وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ ذكر لفظ بَاب وَقد أخرج قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني الْإِسْلَام على خمس الحَدِيث هُنَا مُسْندًا وَفِي غَيره أَيْضا على مَا نبينه عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَالَ بَعضهم واقتصاره على طرفه من تَسْمِيَة الشَّيْء باسم بعضه قلت لَا تَسْمِيَة هُنَا وَلَا إِطْلَاق اسْم بعض الشَّيْء على الشَّيْء وَإِنَّمَا البُخَارِيّ لما أَرَادَ أَن يبوب على هَذَا الحَدِيث بَابا ذكر أَولا بعضه لأجل التَّبْوِيب وَاكْتفى عَن ذكر كُله عِنْد الْبَاب بِذكرِهِ إِيَّاه مُسْندًا فِيمَا بعد فَافْهَم وَالْكَلَام فِي الْإِيمَان على أَنْوَاع الأول فِي مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ رَحمَه الله الْإِيمَان أَفعَال من الْأَمْن يُقَال آمنته وآمنته غَيْرِي ثمَّ يُقَال آمنهُ إِذا صدقه وَحَقِيقَته آمنهُ التَّكْذِيب والمخالفة وَأما تعديته بِالْبَاء فلتضمينه معنى أقرّ واعترف وَأما مَا حكى أَبُو زيد عَن الْعَرَب مَا آمَنت أَن أجد صحابة أَي مَا وثقت فحقيقته صرت ذَا أَمن بِهِ أَي ذَا سُكُون وطمأنينة وَقَالَ بعض شرَّاح كَلَامه وَحَقِيقَة قَوْلهم آمَنت صرت ذَا أَمن وَسُكُون ثمَّ ينْقل إِلَى الوثوق ثمَّ إِلَى التَّصْدِيق وَلَا خَفَاء أَن اللَّفْظ مجَاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى هذَيْن الْمَعْنيين لِأَن من آمنهُ التَّكْذِيب فقد صدقه وَمن كَانَ ذَا أَمن فَهُوَ فِي وثوق وطمأنينة فَهُوَ انْتِقَال من الْمَلْزُوم إِلَى اللَّازِم الثَّانِي فِي مَعْنَاهُ بِاعْتِبَار عرف الشَّرْع فقد اخْتلف أهل الْقبْلَة فِي مُسَمّى الْإِيمَان فِي عرف الشَّرْع على أَربع فرق فرقة قَالُوا الْإِيمَان فعل الْقلب فَقَط وَهَؤُلَاء قد اخْتلفُوا على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا هُوَ مَذْهَب الْمُحَقِّقين وَإِلَيْهِ ذهب الْأَشْعَرِيّ وَأكْثر الْأَئِمَّة كَالْقَاضِي عبد الْجَبَّار والأستاذ أبي إِسْحَق الإسفرايني وَالْحُسَيْن بن الْفضل وَغَيرهم أَنه مُجَرّد التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ أَي تَصْدِيق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل مَا علم مَجِيئه بِهِ بِالضَّرُورَةِ تَصْدِيقًا جَازِمًا مُطلقًا أَي سَوَاء كَانَ لدَلِيل أَو لَا فَقَوْلهم مُجَرّد التَّصْدِيق إِشَارَة إِلَى أَنه لَا يعْتَبر فِيهِ كَونه مَقْرُونا بِعَمَل الْجَوَارِح وَالتَّقْيِيد بِالضَّرُورَةِ لإِخْرَاج مَا لَا يعلم بِالضَّرُورَةِ أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ بِهِ كالاجتهاديات كالتصديق بِأَن الله تَعَالَى عَالم بِالْعلمِ أَو عَالم بِذَاتِهِ والتصديق بِكَوْنِهِ مرئيا أَو غير مرئي فَإِن هذَيْن التصديقين وأمثالهما غير دَاخِلَة فِي مُسَمّى الْإِيمَان فَلهَذَا لَا يكفر مُنكر الاجتهاديات بِالْإِجْمَاع وَالتَّقْيِيد بالجازم لإِخْرَاج التَّصْدِيق الظني فَإِنَّهُ غير كَاف فِي حُصُول الْإِيمَان وَالتَّقْيِيد بِالْإِطْلَاقِ لدفع وهم خُرُوج اعْتِقَاد الْمُقَلّد فَإِن إيمَانه صَحِيح عِنْد الْأَكْثَرين وَهُوَ الصَّحِيح: فَإِن قيل اقْتصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد سُؤال جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن الْإِيمَان فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ بِذكر الْإِيمَان بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر فَلم زيد عَلَيْهِ الْإِيمَان بِكُل مَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت لاشتمال الْإِيمَان بالكتب عَلَيْهِ لِأَن من جملَة الْكتب الْقُرْآن وَهُوَ يدل على وجوب أَخذ كل مَا جَاءَ بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم باعتقاد حَقِيقَته وَالْعَمَل بِهِ لقَوْله تَعَالَى {{وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ}} وَالْقَوْل الثَّانِي أَن الْإِيمَان معرفَة الله تَعَالَى وَحده بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ لَيْسَ بِرُكْن فِيهِ وَلَا شَرط حَتَّى أَن من عرف الله بِقَلْبِه ثمَّ جحد بِلِسَانِهِ وَمَات قبل أَن يقربهُ فَهُوَ مُؤمن كَامِل الْإِيمَان وَهُوَ قَول جهم بن صَفْوَان وَأما معرفَة الْكتب وَالرسل وَالْيَوْم الآخر فقد زعم أَنَّهَا غير دَاخِلَة فِي حد الْإِيمَان وَهَذَا بعيد من الصَّوَاب لمُخَالفَة ظَاهر الحَدِيث وَالصَّوَاب مَا حَكَاهُ الكعبي عَن جهم أَن الْإِيمَان معرفَة الله تَعَالَى مَعَ معرفَة كل مَا علم بِالضَّرُورَةِ كَونه من دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والفرقة الثَّانِيَة قَالُوا أَن الْإِيمَان عمل بِاللِّسَانِ فقد وهم أَيْضا فريقان الأول أَن الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ هُوَ الْإِيمَان فَقَط وَلَكِن شَرط كَونه إِيمَانًا حُصُول الْمعرفَة فِي الْقلب فالمعرفة شَرط لكَون الْإِقْرَار اللساني إِيمَانًا لِأَنَّهَا دَاخِلَة فِي مُسَمّى الْإِيمَان وَهُوَ قَول غيلَان بن مُسلم الدِّمَشْقِي وَالْفضل الرقاشِي الثَّانِي أَن الْإِيمَان مُجَرّد الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ وَهُوَ قَول الكرامية وَزَعَمُوا أَن الْمُنَافِق مُؤمن الظَّاهِر كَافِر السريرة فَيثبت لَهُ حكم الْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا وَحكم الْكَافرين فِي الْآخِرَة والفرقة الثَّالِثَة قَالُوا أَن الْإِيمَان عمل الْقلب وَاللِّسَان مَعًا أَي فِي الْإِيمَان الاستدلالي دون الَّذِي بَين العَبْد وَبَين ربه وَقد اخْتلف هَؤُلَاءِ على أَقْوَال الأول أَن الْإِيمَان إِقْرَار بِاللِّسَانِ وَمَعْرِفَة بِالْقَلْبِ وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَعَامة الْفُقَهَاء وَبَعض الْمُتَكَلِّمين الثَّانِي أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان مَعًا وَهُوَ قَول بشر المريسي وَأبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ الثَّالِث أَن الْإِيمَان إِقْرَار بِاللِّسَانِ وإخلاص بِالْقَلْبِ فَإِن قلت مَا حَقِيقَة الْمعرفَة بِالْقَلْبِ على قَول أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ قلت فسروها بشيئين الأول بالاعتقاد الْجَازِم سَوَاء كَانَ اعتقادا تقليديا أَو كَانَ علما صادرا عَن الدَّلِيل وَهُوَ الْأَكْثَر وَالأَصَح وَلِهَذَا حكمُوا بِصِحَّة إِيمَان الْمُقَلّد الثَّانِي بِالْعلمِ الصَّادِر عَن الدَّلِيل وَهُوَ الْأَقَل فَلذَلِك زَعَمُوا أَن إِيمَان الْمُقَلّد غير صَحِيح ثمَّ اعْلَم أَن لهَؤُلَاء الْفرْقَة اخْتِلَافا فِي مَوضِع آخر أَيْضا وَهُوَ أَن الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ هَل هُوَ ركن الْإِيمَان أم شَرط لَهُ فِي حق إِجْرَاء الْأَحْكَام قَالَ بَعضهم هُوَ شَرط لذَلِك حَتَّى أَن من صدق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَمِيع مَا جَاءَ بِهِ من عِنْد الله تَعَالَى فَهُوَ مُؤمن فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَإِن لم يقر بِلِسَانِهِ وَقَالَ حَافظ الدّين النَّسَفِيّ هُوَ الْمَرْوِيّ عَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ وَإِلَيْهِ ذهب الْأَشْعَرِيّ فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ قَول أبي مَنْصُور الماتريدي وَقَالَ بَعضهم هُوَ ركن لكنه لَيْسَ بأصلي لَهُ كالتصديق بل هُوَ ركن زَائِد وَلِهَذَا يسْقط حَالَة الْإِكْرَاه وَالْعجز وَقَالَ فَخر الْإِسْلَام أَن كَونه ركنا زَائِدا مَذْهَب الْفُقَهَاء وَكَونه شرطا لإجراء الْأَحْكَام مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين والفرقة الرَّابِعَة قَالُوا أَن الْإِيمَان فعل الْقلب وَاللِّسَان مَعَ سَائِر الْجَوَارِح وهم أَصْحَاب الحَدِيث وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالْأَوْزَاعِيّ وَقَالَ الإِمَام وَهُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة والخوارج والزيدية أما أَصْحَاب الحَدِيث فَلهم أَقْوَال ثَلَاثَة الأول أَن الْمعرفَة إِيمَان كَامِل وَهُوَ الأَصْل ثمَّ بعد ذَلِك كل طَاعَة إِيمَان على حِدة وَزَعَمُوا أَن الْجُحُود وإنكار الْقلب كفر ثمَّ كل مَعْصِيّة بعده كفر على حِدة وَلم يجْعَلُوا شَيْئا من الطَّاعَات إِيمَانًا مَا لم تُوجد الْمعرفَة وَالْإِقْرَار وَلَا شَيْئا من الْمعاصِي كفرا مَا لم يُوجد الْجُحُود وَالْإِنْكَار لِأَن أصل الطَّاعَات الْإِيمَان وأصل الْمعاصِي الْكفْر وَالْفرع لَا يحصل دون مَا هُوَ أَصله وَهُوَ قَول عبد الله بن سعيد القَوْل الثَّانِي أَن الْإِيمَان اسْم للطاعات كلهَا فرائضها ونوافلها وَهِي بجملتها إِيمَان وَاحِد وَأَن من ترك شَيْئا من الْفَرَائِض فقد انْتقصَ إيمَانه وَمن ترك النَّوَافِل لَا ينقص إيمَانه القَوْل الثَّالِث أَن الْإِيمَان اسْم للفرائض دون النَّوَافِل وَأما الْمُعْتَزلَة فقد اتَّفقُوا على أَن الْإِيمَان إِذا عدى بِالْبَاء فَالْمُرَاد بِهِ فِي الشَّرْع التَّصْدِيق يُقَال آمن بِاللَّه أَي صدق فَإِن الْإِيمَان بِمَعْنى أَدَاء الْوَاجِبَات لَا يُمكن فِيهِ هَذِه التَّعْدِيَة لَا يُقَال فلَان آمن بِكَذَا إِذا صلى أَو صَامَ بل يُقَال آمن لله كَمَا يُقَال صلى لله فالإيمان المعدى بِالْبَاء يجْرِي على طَرِيق اللُّغَة وَأما إِذا ذكر مُطلقًا غير معدى فقد اتَّفقُوا على أَنه مَنْقُول نقلا ثَانِيًا من معنى التَّصْدِيق إِلَى معنى آخر ثمَّ اخْتلفُوا فِيهِ على وُجُوه أَحدهَا أَن الْإِيمَان عبارَة عَن فعل كل الطَّاعَات سَوَاء كَانَت وَاجِبَة أَو مَنْدُوبَة أَو من بَاب الاعتقادات أَو الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال وَهُوَ قَول وَاصل بن عَطاء وَأبي الْهُذيْل وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّار وَالثَّانِي أَنه عبارَة عَن فعل الْوَاجِبَات فَقَط دون النَّوَافِل وَهُوَ قَول أبي عَليّ الجبائي وَأبي هَاشم وَالثَّالِث أَن الْإِيمَان عبارَة عَن اجْتِنَاب كل مَا جَاءَ فِيهِ الْوَعيد وَهُوَ قَول النظام وَمن أَصْحَابه من قَالَ شَرط كَونه مُؤمنا عندنَا وَعند الله اجْتِنَاب كل الْكَبَائِر وَأما الْخَوَارِج فقد اتَّفقُوا على أَن الْإِيمَان بِاللَّه يتَنَاوَل معرفَة الله تَعَالَى وَمَعْرِفَة كل مَا نصب الله عَلَيْهِ دَلِيلا عقليا أَو نقليا ويتناول طَاعَة الله تَعَالَى فِي جَمِيع مَا أَمر بِهِ وَنهى صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا قَالُوا مَجْمُوع هَذِه الْأَشْيَاء هُوَ الْإِيمَان وَيقرب من مَذْهَب الْمُعْتَزلَة مَذْهَب الْخَوَارِج وَيقرب من مَذْهَبهمَا مَا ذهب إِلَيْهِ السّلف وَأهل الْأَثر أَن الْإِيمَان عبارَة عَن مَجْمُوع ثَلَاثَة أَشْيَاء التَّصْدِيق بالجنان وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ وَالْعَمَل بالأركان إِلَّا أَن بَين هَذِه الْمذَاهب فرقا وَهُوَ أَن من ترك شَيْئا من الطَّاعَات سَوَاء أَكَانَ من الْأَفْعَال أَو الْأَقْوَال خرج من الْإِيمَان عِنْد الْمُعْتَزلَة وَلم يدْخل فِي الْكفْر بل وَقع فِي مرتبَة بَينهمَا يسمونها منزلَة بَين المنزلتين وَعند الْخَوَارِج دخل فِي الْكفْر لِأَن ترك كل وَاحِدَة من الطَّاعَات كفر عِنْدهم وَعند السّلف لم يخرج من الْإِيمَان وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَق الشِّيرَازِيّ وَهَذِه أول مَسْأَلَة نشأت فِي الاعتزال وَنقل عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار وَالْعَمَل فالمخل بِالْأولِ وَحده مُنَافِق وَبِالثَّانِي وَحده كَافِر وبالثالث وَحده فَاسق ينجو من الخلود فِي النَّار وَيدخل الْجنَّة قَالَ الإِمَام هَذَا فِي غَايَة الصعوبة لِأَن الْعَمَل إِذا كَانَ ركنا لَا يتَحَقَّق الْإِيمَان بِدُونِهِ فَغير الْمُؤمن كَيفَ يخرج من النَّار وَيدخل الْجنَّة قلت قد أُجِيب عَن هَذَا الْإِشْكَال بِأَن الْإِيمَان فِي كَلَام الشَّارِع قد جَاءَ بِمَعْنى أصل الْإِيمَان وَهُوَ الَّذِي لَا يعْتَبر فِيهِ كَونه مَقْرُونا بِالْعَمَلِ كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِيمَان أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وبلقائه وَرُسُله وتؤمن بِالْبَعْثِ وَالْإِسْلَام أَن تعبد الله وَلَا تشرك بِهِ وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة وتصوم رَمَضَان الحَدِيث وَقد جَاءَ بِمَعْنى الْإِيمَان الْكَامِل وَهُوَ المقرون بِالْعَمَلِ كَمَا فِي حَدِيث وَفد عبد الْقَيْس أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَان بِاللَّه وَحده قَالُوا الله وَرَسُوله أعلم قَالَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَصِيَام رَمَضَان وَأَن تعطوا من الْمغنم الْخمس وَالْإِيمَان بِهَذَا الْمَعْنى هُوَ المُرَاد بِالْإِيمَان الْمَنْفِيّ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن الحَدِيث وَهَكَذَا كل مَوضِع جَاءَ بِمثلِهِ فَالْخِلَاف فِي الْمَسْأَلَة لَفْظِي لِأَنَّهُ رَاجع إِلَى تَفْسِير الْإِيمَان وَأَنه فِي أَي الْمَعْنيين مَنْقُول شَرْعِي وَفِي أَيهمَا مجَاز وَلَا خلاف فِي الْمَعْنى فَإِن الْإِيمَان المنجي من دُخُول النَّار هُوَ الثَّانِي بِاتِّفَاق جَمِيع الْمُسلمين وَالْإِيمَان المنجي من الخلود فِي النَّار هُوَ الأول بِاتِّفَاق أهل السّنة خلافًا للمعتزلة والخوارج وَمِمَّا يدل على ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث أبي ذَر مَا من عبد قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله ثمَّ مَاتَ على ذَلِك إِلَّا دخل الْجنَّة قلت وَإِن زنى وَإِن سرق قَالَ وَإِن زنى وَإِن سرق الحَدِيث وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج من النَّار من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من الْإِيمَان فَالْحَاصِل أَن السّلف وَالشَّافِعِيّ إِنَّمَا جعلُوا الْعَمَل ركنا من الْإِيمَان بِالْمَعْنَى الثَّانِي دون الأول وحكموا مَعَ فَوَات الْعَمَل بِبَقَاء الْإِيمَان بِالْمَعْنَى الأول وَبِأَنَّهُ ينجو من النَّار بِاعْتِبَار وجوده وَإِن فَاتَ الثَّانِي فَبِهَذَا ينْدَفع الْإِشْكَال فَإِن قلت مَا مَاهِيَّة التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ قلت قَالَ الإِمَام قولا حَاصله أَن المُرَاد من التَّصْدِيق الحكم الذهْنِي بَيَان ذَلِك أَن من قَالَ أَن الْعَالم مُحدث لَيْسَ مَدْلُول هَذِه الْأَلْفَاظ كَون الْعَالم مَوْصُوفا بالحدوث بل حكم ذَلِك الْقَائِل بِكَوْن الْعَالم حَادِثا فَالْحكم بِثُبُوت الْحُدُوث للْعَالم مُغَاير لثُبُوت الْحُدُوث لَهُ فَهَذَا الحكم الذهْنِي بالثبوت أَو الانتفاء أَمر يعبر عَنهُ فِي كل لُغَة بِلَفْظ خَاص بِهِ وَاخْتِلَاف الصِّيَغ والعبارات مَعَ كَون الحكم الذهْنِي أمرا وَاحِدًا يدل على أَن الحكم الذهْنِي أَمر مُغَاير لهَذِهِ الصِّيَغ والعبارات وَلِأَن هَذِه الصِّيَغ دَالَّة على ذَلِك الحكم وَالدَّال غير الْمَدْلُول ثمَّ نقُول هَذَا الحكم الذهْنِي غير الْعلم لِأَن الْجَاهِل بالشَّيْء قد يحكم بِهِ فَعلمنَا أَن هَذَا الحكم الذهْنِي مُغَاير للْعلم فَيكون المُرَاد من التَّصْدِيق هُوَ هَذَا الحكم الذهْنِي وَيعلم من هَذَا الْكَلَام أَن المُرَاد من التَّصْدِيق هَهُنَا هُوَ التَّصْدِيق الْمُقَابل للتصور وَاعْترض عَلَيْهِ صدر الشَّرِيعَة بِأَن ذَلِك غير كَاف فَإِن بعض الْكفَّار كَانُوا عَالمين برسالة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله تَعَالَى {{الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم}} الْآيَة وَفرْعَوْن كَانَ عَالما برسالة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لقَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن خطاب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَهُ مُشِيرا إِلَى المعجزات الَّتِي أوتيها {{قَالَ لقد علمت مَا أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب السَّمَاوَات}} الْآيَة وَمَعَ ذَلِك كَانُوا كَافِرين وَلَو كَانَ ذَلِك كَافِيا لكانوا مُؤمنين لِأَن من صدق بِقَلْبِه فَهُوَ مُؤمن فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ شَرط إِجْرَاء الْأَحْكَام كَمَا هُوَ مَرْوِيّ عَن أبي حنيفَة وَأَصَح الرِّوَايَتَيْنِ عَن الْأَشْعَرِيّ بل المُرَاد بِهِ مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ وَهُوَ أَن ينْسب الصدْق إِلَى الْمخبر اخْتِيَارا قَالَ وَإِنَّمَا قيدنَا بِهَذَا لِأَنَّهُ إِن وَقع فِي الْقلب صدق الْمخبر ضَرُورَة كَمَا إِذا ادّعى النَّبِي النُّبُوَّة وَأظْهر المعجزة وَوَقع صدقه فِي قلب أحد ضَرُورَة من غير أَن ينْسب الصدْق إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْتِيَارا لَا يُقَال فِي اللُّغَة أَنه صدقه فَعلم أَن المُرَاد من التَّصْدِيق إِيقَاع نِسْبَة الصدْق إِلَى الْمخبر اخْتِيَار الَّذِي هُوَ الْكَلَام النَّفْسِيّ وَيُسمى عقد الْإِيمَان وَالْكفَّار الْعَالمُونَ برسالة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِنَّمَا لم يَكُونُوا مُؤمنين لأَنهم كذبُوا الرُّسُل فهم كافرون لعدم التَّصْدِيق لَهُم وَلقَائِل أَن يَقُول التَّصْدِيق بِالْمَعْنَى اللّغَوِيّ عين التَّصْدِيق الْمُقَابل للتصور لِأَن إِيقَاع نِسْبَة الصدْق إِلَى الْمخبر هُوَ الحكم بِثُبُوت الصدْق لَهُ وَهُوَ عين هَذَا التَّصْدِيق وَإِنَّمَا لم يكن الْكفَّار الْعَالمُونَ برسالة الرُّسُل مُؤمنين مَعَ حُصُول التَّصْدِيق لَهُم لِأَن من أنكر مِنْهُم رسالتهم أبطل تَصْدِيقه القلبي تَكْذِيبه اللساني وَمن لم ينكرها أبْطلهُ بترك الْإِقْرَار اخْتِيَارا لِأَن الْإِقْرَار شَرط إِجْرَاء الْأَحْكَام على رَأْي كَمَا مر وركن الْإِيمَان حَالَة الِاخْتِيَار على رَأْي كَمَا مر فَلَا يدل كفرهم على أَن هَذَا التَّصْدِيق غير كَاف وَلِهَذَا لَو حصل التَّصْدِيق لأحد وَمَات من سَاعَته فَجْأَة قبل الْإِقْرَار يكون مُؤمنا إِجْمَاعًا وَبَقِي هُنَا شَيْء آخر وَهُوَ أَن التَّصْدِيق مَأْمُور بِهِ فَيكون فعلا اختياريا والتصديق الْمُقَابل للتصور لَيْسَ باختياري كَمَا بَين فِي مَوْضِعه فَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل التَّصْدِيق فعلا من أَفعَال النَّفس الاختيارية أَو يُقيد بِأَن يكون حُصُوله اخْتِيَارا بِمُبَاشَرَة سَببه الْمعد لحصوله كَمَا قيد الْمُعْتَرض التَّصْدِيق اللّغَوِيّ بذلك إِلَّا أَنه يلْزم على هَذَا اخْتِصَاص التَّصْدِيق بِأَن يكون علما صادرا عَن الدَّلِيل إِذا عرفت هَذَا فَنَقُول احْتج الْمُحَقِّقُونَ بِوُجُوه مِنْهَا مَا يدل على أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق وَمِنْهَا مَا يدل على أَن الْإِيمَان بالاجتهاديات كاعتقاد كَونه عز وَجل مرئيا أَو غير مرئي وَنَحْوه غير وَاجِب وَمِنْهَا مَا يدل على صِحَة إِيمَان الْمُقَلّد وَعدم اخْتِصَاص التَّصْدِيق بِمَا يكون عَن دَلِيل الْقسم الأول ثَلَاثَة أوجه الأول أَن الْخطاب الَّذِي توجه علينا بِلَفْظ آمنُوا بِاللَّه إِنَّمَا هُوَ بِلِسَان الْعَرَب وَلم تكن الْعَرَب تعرف من لفظ الْإِيمَان فِيهِ إِلَّا التَّصْدِيق وَالنَّقْل عَن التَّصْدِيق لم يثبت فِيهِ إِذْ لَو ثَبت لنقل إِلَيْنَا تواترا واشتهر الْمَعْنى الْمَنْقُول إِلَيْهِ لتوفر الدَّوَاعِي على نَقله وَمَعْرِفَة ذَلِك الْمَعْنى لِأَنَّهُ من أَكثر الْأَلْفَاظ دورا على أَلْسِنَة الْمُسلمين فَلَمَّا لم ينْقل كَذَلِك عرفنَا أَنه بَاقٍ على معنى التَّصْدِيق الثَّانِي الْآيَات الدَّالَّة على أَن مَحل الْإِيمَان هُوَ الْقلب مثل قَوْله تَعَالَى {{أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان}} وَقَوله تَعَالَى {{من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن قُلُوبهم}} وَيُؤَيِّدهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأسامة حِين قتل من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَاعْتذر بِأَنَّهُ لم يقلهُ عَن اعْتِقَاد بل عَن خوف الْقَتْل هلا شققت عَن قلبه فَإِن قلت لَا يلْزم من كَون مَحل الْإِيمَان هُوَ الْقلب كَون الْإِيمَان عبارَة عَن التَّصْدِيق لجَوَاز كَونه عبارَة عَن الْمعرفَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ جهم بن صَفْوَان قلت لَا سَبِيل إِلَى كَونه عبارَة عَن الْمعرفَة لوَجْهَيْنِ الأول أَن لفظ الْإِيمَان فِي خطاب آمنُوا بِاللَّه مُسْتَعْمل فِي لِسَان الْعَرَب فِي التَّصْدِيق وَأَنه غير مَنْقُول عَنهُ إِلَى معنى آخر فَلَو كَانَ عبارَة عَن الْمعرفَة للَزِمَ صرفه عَمَّا يفهم مِنْهُ عِنْد الْعَرَب إِلَى غَيره من غير قرينَة وَذَلِكَ بَاطِل وَإِلَّا لجَاز مثله فِي سَائِر الْأَلْفَاظ وَفِيه إبِْطَال اللُّغَات وَلُزُوم تطرق الْخلَل إِلَى الدَّلَائِل السمعية وارتفاع الوثوق عَلَيْهَا وَهَذَا خلف الثَّانِي أَن أهل الْكتاب وَفرْعَوْن كَانُوا عارفين بنبوة مُحَمَّد ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَلم يَكُونُوا مُؤمنين لعدم التَّصْدِيق فَتعين كَونه عبارَة عَن التَّصْدِيق إِذْ لَا قَائِل بثالث الْوَجْه الثَّالِث أَن الْكفْر ضد الْإِيمَان وَلِهَذَا اسْتعْمل فِي مُقَابلَته قَالَ الله تَعَالَى {{فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه}} وَالْكفْر هُوَ التَّكْذِيب والجحود وهما يكونَانِ بِالْقَلْبِ فَكَذَا مَا يضادهما إِذْ لَا تضَاد عِنْد تغاير المحلين فَثَبت أَن الْإِيمَان فعل الْقلب وَأَنه عبارَة عَن التَّصْدِيق لِأَن ضد التَّكْذِيب التَّصْدِيق فَإِن قلت جَازَ أَن يكون حُصُول التَّكْذِيب والتصديق بِاللِّسَانِ بِدُونِ التَّصْدِيق القلبي لَا وجودا وَلَا عدما أما وجودا فَفِي الْمُنَافِق وَأما عدما فَفِي الْمُكْره بِالْقَتْلِ على إِجْرَاء كلمة الْكفْر على لِسَانه إِذا كَانَ قلبه مطمئنا بِالْإِيمَان قَالَ الله تَعَالَى {{وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه وباليوم الآخر وَمَا هم بمؤمنين}} نفي عَن الْمُنَافِقين الْإِيمَان مَعَ التَّصْدِيق اللساني لعدم التَّصْدِيق القلبي وَقَالَ تَعَالَى {{إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان}} أَبَاحَ للمكره التَّكْذِيب بِاللِّسَانِ عِنْد وجود التَّصْدِيق القلبي الْقسم الثَّانِي ثَمَانِيَة أوجه الأول وَهُوَ مَا يدل على أَن الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ غير دَاخل فِيهِ مَا أَشَرنَا أَنه لَا يدل وجوده على وجود الْإِيمَان وَلَا عَدمه على عَدمه فَجعل شرطا لإجراء الْأَحْكَام لِأَن الأَصْل فِي الْأَحْكَام أَن تكون مَبْنِيَّة على الْأُمُور الظَّاهِرَة إِذا كَانَ أَسبَابهَا الْحَقِيقِيَّة خُفْيَة لَا يُمكن الِاطِّلَاع عَلَيْهَا إِلَّا بعسر وَأَن تُقَام هِيَ مقَامهَا كَمَا فِي السّفر مَعَ الْمَشَقَّة والتقاء الختانين مَعَ الْإِنْزَال فَكَذَلِك هَهُنَا لما كَانَ التَّصْدِيق القلبي الَّذِي هُوَ منَاط الْأَحْكَام الإسلامية أمرا بَاطِنا جعل دَلِيله الظَّاهِر وَهُوَ الْإِقْرَار بِالْقَلْبِ قَائِما مقَامه لِأَن الْمَوْضُوع للدلالة على الْمعَانِي الْحَاصِلَة فِي الْقلب إِذا قصد الْإِعْلَام بهَا على مَا هُوَ الأَصْل إِنَّمَا هِيَ الْعبارَة لَا الْإِشَارَة وَالْكِتَابَة وأمثالهما فَيحكم بِإِيمَان من تلفظ بكلمتي الشَّهَادَة سَوَاء تحقق مَعَه التَّصْدِيق القلبي أَو لَا وَيحكم بِكفْر من لم يتَلَفَّظ بهما مَعَ تمكنه سَوَاء كَانَ مَعَه التَّصْدِيق القلبي أَو لَا وَمن جعله ركنا فَإِنَّمَا جعله ركنا أَيْضا لدلالته على التَّصْدِيق لَا لخُصُوص كَونه إِقْرَارا أَلا ترى أَن الْكَافِر إِذا صلى بِجَمَاعَة يحكم بِإِسْلَامِهِ وتجري عَلَيْهِ أَحْكَام أهل الْإِيمَان عِنْد أبي حنيفَة وَأَصْحَابه خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَن الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة أَيْضا جعلت دَلِيلا على تحقق الْإِيمَان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلى صَلَاتنَا واستقبل قبلتنا فَهُوَ منا أَي الصَّلَاة المختصة بِنَا وَهِي الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة بِخِلَاف الصَّلَاة مُنْفَردا وَسَائِر الْعِبَادَات لعدم اختصاصها بملتنا هَذَا كُله فِي الْإِيمَان الاستدلالي الَّذِي تجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَام وَأما الْإِيمَان الَّذِي يجْرِي بَين العَبْد وَبَين ربه فَإِنَّهُ يتَحَقَّق بِدُونِ الْإِقْرَار فِيمَن عرف الله تَعَالَى وَسَائِر مَا يجب الْإِيمَان بِهِ بِالدَّلِيلِ واعتقد ثُبُوتهَا وَمَات قبل أَن يجد من الْوَقْت قدر مَا يتَلَفَّظ بكلمتي الشَّهَادَة أَو وجده لكنه لم يتَلَفَّظ بهما فَإِنَّهُ يحكم بِأَنَّهُ مُؤمن لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج من النَّار من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من الْإِيمَان وَهَذَا قلبه مَمْلُوء من الْإِيمَان فَكيف لَا يكون مُؤمنا فَإِن قيل يلْزم من هَذَا أَن لَا يكون الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ مُعْتَبرا فِي الْإِيمَان وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع لِأَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَنه مُعْتَبر وَإِنَّمَا الْخلاف فِي كَونه ركنا أَو شرطا قلت منع الْغَزالِيّ هَذَا الْإِجْمَاع وَحكم بِكَوْنِهِ مُؤمنا وَأَن الِامْتِنَاع عَن النُّطْق يجْرِي مجْرى الْمعاصِي الَّتِي يُؤْتى بهَا مَعَ الْإِيمَان وَمن كَلَامه يفهم جَوَاز ترك الْإِقْرَار حَالَة الِاخْتِيَار أَيْضا فِي الْجُمْلَة وَهُوَ بِمَعْنى ثَان لكَونه ركنا زَائِدا الثَّانِي أَنه يدل على أَن أَعمال سَائِر الْجَوَارِح غير دَاخِلَة فِيهِ لِأَنَّهُ عطف الْعَمَل الصَّالح على الْإِيمَان فِي قَوْله تَعَالَى {{إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كَانَت لَهُم جنَّات الفردوس نزلا}} وَقَوله {{الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ}} الْآيَة وَقَوله {{إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله}} الْآيَة فَهَذِهِ كلهَا تدل على خُرُوجه عَنهُ إِذْ لَو دخل فِيهِ يلْزم من عطفه عَلَيْهِ التّكْرَار من غير فَائِدَة الثَّالِث مقارنته بضد الْعَمَل الصَّالح كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {{وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا}} الْآيَة وَوجه دلَالَته على الْمَطْلُوب أَنه لَا يجوز مُقَارنَة الشَّيْء بضد جزئه الرَّابِع قَوْله تَعَالَى {{الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم}} أَي لم يخلطوه بارتكاب الْمُحرمَات وَلَو كَانَت الطَّاعَة دَاخِلَة فِي الْإِيمَان لَكَانَ الظُّلم منفيا عَن الْإِيمَان لِأَن ضد جُزْء الشَّيْء يكون منفيا عَنهُ وَإِلَّا يلْزم اجْتِمَاع الضدين فَيكون عطف الاجتناب مِنْهَا عَلَيْهِ تَكْرَارا بِلَا فَائِدَة الْخَامِس أَنه تَعَالَى جعل الْإِيمَان شرطا لصِحَّة الْعَمَل قَالَ الله تَعَالَى {{وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين}} وَقَالَ الله تَعَالَى {{وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن}} وَشرط الشَّيْء يكون خَارِجا عَن ماهيته السَّادِس أَنه تَعَالَى خَاطب عباده باسم الْإِيمَان ثمَّ كلفهم بِالْأَعْمَالِ كَمَا فِي آيَات الصَّوْم وَالصَّلَاة وَالْوُضُوء وَذَلِكَ يدل على خُرُوج الْعَمَل من مَفْهُوم الْإِيمَان وَإِلَّا يلْزم التَّكْلِيف بتحصيل الْحَاصِل السَّابِع أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْتصر عِنْد سُؤال جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن الْإِيمَان بِذكر التَّصْدِيق حَيْثُ قَالَ الْإِيمَان أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وبلقائه وَرُسُله وتؤمن بِالْبَعْثِ ثمَّ قَالَ فِي آخِره هَذَا جِبْرِيل جَاءَ يعلم النَّاس دينهم وَلَو كَانَ الْإِيمَان اسْما للتصديق مَعَ شَيْء آخر كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقصرا فِي الْجَواب وَكَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام آتِيَا ليلبس عَلَيْهِم أَمر دينهم لَا ليعلمهم إِيَّاه الثَّامِن أَنه تَعَالَى أَمر الْمُؤمنِينَ بِالتَّوْبَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة}} وَقَوله تَعَالَى {{وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ}} وَهَذَا يدل على صِحَة اجْتِمَاع الْإِيمَان مَعَ الْمعْصِيَة لِأَن التَّوْبَة لَا تكون إِلَّا من الْمعْصِيَة وَالشَّيْء لَا يجْتَمع مَعَ ضد جزئه الْقسم الثَّالِث وَجه وَاحِد وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحكم بِإِيمَان من لم يخْطر بِبَالِهِ كَونه تَعَالَى عَالما بِذَاتِهِ أَو بِالْعلمِ أَو كَونه عَالما بالجزئيات على الْوَجْه الْكُلِّي أَو على الْوَجْه الجزئي وَلَو كَانَ التَّصْدِيق بأمثال ذَلِك مُعْتَبرا فِي تحقق الْإِيمَان لما حكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِيمَان مثله الْقسم الرَّابِع وَجْهَان وتقريرهما مَوْقُوف على تَحْرِير الْمَسْأَلَة أَولا وَهِي متفرعة على إِطْلَاق التَّصْدِيق فِي تَعْرِيف الْإِيمَان فَنَقُول قَالَ أهل السّنة من اعْتقد أَرْكَان الدّين من التَّوْحِيد والنبوة وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج تقليدا فَإِن اعْتقد مَعَ ذَلِك جَوَاز وُرُود شُبْهَة عَلَيْهَا وَقَالَ لَا آمن وُرُود شُبْهَة يُفْسِدهَا فَهُوَ كَافِر وَإِن لم يعْتَقد جَوَاز ذَلِك بل جزم على ذَلِك الِاعْتِقَاد فقد اخْتلفُوا فِيهِ فَمنهمْ من قَالَ أَنه مُؤمن وَإِن كَانَ عَاصِيا بترك النّظر وَالِاسْتِدْلَال المؤديين إِلَى معرفَة قَوَاعِد الدّين كَسَائِر فساق الْمُسلمين وَهُوَ فِي مَشِيئَة الله تَعَالَى إِن شَاءَ عَفا عَنهُ وَأدْخلهُ الْجنَّة وَإِن شَاءَ عذبه بِقدر ذَنبه وعاقبة أمره الْجنَّة لَا محَالة وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأهل الظَّاهِر وَعبد الله بن سعيد الْقطَّان والْحَارث بن أَسد وَعبد الْعَزِيز بن يحيى الْمَكِّيّ وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين وَقَالَ عَامَّة الْمُعْتَزلَة أَنه لَيْسَ بِمُؤْمِن وَلَا كَافِر وَقَالَ أَبُو هَاشم أَنه كَافِر فعندهم إِنَّمَا يحكم بإيمانه إِذا عرف مَا يجب الْإِيمَان بِهِ من أصُول الدّين بِالدَّلِيلِ الْعقلِيّ على وَجه يُمكنهُ مجادلة الْخُصُوم وَحل جَمِيع مَا يُورد عَلَيْهِ من الشّبَه حَتَّى إِذا عجز عَن شَيْء من ذَلِك لم يحكم بِإِسْلَامِهِ وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ وَقوم من الْمُتَكَلِّمين لَا يسْتَحق أَن يُطلق عَلَيْهِ اسْم الْإِيمَان إِلَّا بعد أَن يعرف كل مَسْأَلَة من مسَائِل أصُول الدّين بِدَلِيل عَقْلِي غير أَن الشَّرْط أَن يعرف ذَلِك بِقَلْبِه سَوَاء أحسن الْعبارَة عَنهُ أَو لَا يَعْنِي لَا يشْتَرط أَن يقدر على التَّعْبِير عَن الدَّلِيل بِلِسَانِهِ ويبينه مُرَتبا موجها وَقَالُوا هَذَا وَإِن لم يكن مُؤمنا عندنَا على الْإِطْلَاق لكنه لَيْسَ بِكَافِر أَيْضا لوُجُود مَا يضاد الْكفْر فِيهِ وَهُوَ التَّصْدِيق وَقَالُوا وَإِنَّمَا قيدنَا الدَّلِيل بالعقلي لِأَنَّهُ لَا يجوز الِاسْتِدْلَال فِي إِثْبَات أصُول الدّين بِالدَّلِيلِ السمعي لِأَن ثُبُوت الدَّلِيل السمعي مَوْقُوف على ثُبُوت وجود الصَّانِع والنبوة فَلَو أثبت وجود الصَّانِع والنبوة بِهِ لزم الدّور وَالْمرَاد من التَّقْلِيد هُوَ اعْتِقَاد حقية قَول الْغَيْر على وَجه الْجَزْم من غير أَن يعرف دَلِيله وَإِذا عرف هَذَا جِئْنَا إِلَى بَيَان وَجْهي الْمَذْهَب الْأَصَح الأول أَن الْمُقَلّد مَأْمُور بِالْإِيمَان وَقد ثَبت أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق القلبي وَقد أَتَى بِهِ فَيكون مُؤمنا وَإِن لم يعرف الدَّلِيل وَنظر هَذَا الِاحْتِجَاج مَا روى أَن أَبَا حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى لما قيل لَهُ مَا بَال أَقوام يَقُولُونَ يدْخل الْمُؤمن النَّار فَقَالَ لَا يدْخل النَّار إِلَّا الْمُؤمن فَقيل لَهُ وَالْكَافِر فَقَالَ كلهم مُؤمنُونَ يَوْمئِذٍ كَذَا ذكره فِي الْفِقْه الْأَكْبَر فقد جعل الْكفَّار مُؤمنين فِي الْآخِرَة لوُجُود التَّصْدِيق مِنْهُم وَالْكَافِر أَيْضا عِنْد الْمَوْت يصير مُؤمنا لِأَنَّهُ بمعاينة ملك الْمَوْت وأمارات عَذَاب الْآخِرَة يضْطَر إِلَى التَّصْدِيق إِلَّا أَن الْإِيمَان فِي الْآخِرَة وَعند مُعَاينَة الْعَذَاب لَا يُفِيد حُصُول ثَوَاب الْآخِرَة وَلَا ينْدَفع بِهِ عُقُوبَة الْكفْر وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى من قَول الْعلمَاء أَن إِيمَان الْيَأْس لَا يَصح أَي لَا ينفع وَلَا يقبل لَا أَنه لَا يتَحَقَّق إِذْ حَقِيقَة الْإِيمَان التَّصْدِيق وَهُوَ يتَحَقَّق إِذْ الْحَقَائِق لَا تتبدل بالأحوال وَإِنَّمَا يتبدل الِاعْتِبَار وَالْأَحْكَام الثَّانِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعد من صدقه فِي جَمِيع مَا جَاءَ بِهِ من عِنْد الله مُؤمنا وَلَا يشْتَغل بتعليمه من الدَّلَائِل الْعَقْلِيَّة فِي الْمسَائِل الاعتقادية مِقْدَار مَا يسْتَدلّ بِهِ مستدل ويناظر بِهِ الْخُصُوم ويذب عَن حَرِيم الدّين وَيقدر على حل مَا يُورد عَلَيْهِ من الشّبَه وَلَا بتعليم كَيْفيَّة النّظر وَالِاسْتِدْلَال وتأليف القياسات الْعَقْلِيَّة وطرق المناظرة والإلزام وَكَذَا أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ قبل إِيمَان من آمن من أهل الرِّدَّة وَلم يعلمهُمْ الدَّلَائِل الَّتِي يصيرون بهَا مستبصرين من طرق الْعقل وَكَذَا عمر رَضِي الله عَنهُ لما فتح سَواد الْعرَاق قبل هُوَ وعماله إِيمَان من كَانَ بهَا من الزط والأنباط وهما صنفان من النَّاس مَعَ قلَّة أذهانهم وبلادة أفهامهم وصرفهم أعمارهم فِي الفلاحة وَضرب المعاول وَكري الْأَنْهَار والجداول وَلَو لم يكن إِيمَان الْمُقَلّد مُعْتَبرا لفقد شَرطه وَهُوَ الِاسْتِدْلَال الْعقلِيّ لاشتغلوا بِأحد أَمريْن إِمَّا بِالْإِعْرَاضِ عَن قبُول إسْلَامهمْ أَو بِنصب مُتَكَلم حاذق بَصِير بالأدلة عَالم بكيفية المحاجة ليعلمهم صناعَة الْكَلَام حَتَّى يحكموا بإيمَانهمْ وَلما امْتَنعُوا عَن كل وَاحِد من هذَيْن الْأَمريْنِ وَامْتنع أَيْضا كل من قَامَ مقامهم إِلَى يَوْمنَا هَذَا عَن ذَلِك ظهر أَن مَا ذهب إِلَيْهِ الْخصم بَاطِل لِأَنَّهُ خلاف صَنِيع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه الْعِظَام وَغَيرهم من الْأَئِمَّة الْأَعْلَام النَّوْع الثَّالِث فِي أَن الْإِيمَان هَل يزِيد وَينْقص وَهُوَ أَيْضا من فروع اخْتلَافهمْ فِي حَقِيقَة الْإِيمَان فَقَالَ بعض من ذهب إِلَى أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق أَن حَقِيقَة التَّصْدِيق شَيْء وَاحِد لَا يقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَقَالَ آخَرُونَ أَنه لَا يقبل النُّقْصَان لِأَنَّهُ لَو نقص لَا يبْقى إِيمَانًا وَلَكِن يقبل الزِّيَادَة لقَوْله تَعَالَى {{وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا}} وَنَحْوهَا من الْآيَات وَقَالَ الدَّاودِيّ سُئِلَ مَالك عَن نقص الْإِيمَان وَقَالَ قد ذكر الله تَعَالَى زِيَادَته فِي الْقُرْآن وَتوقف عَن نَقصه وَقَالَ لَو نقص لذهب كُله وَقَالَ ابْن بطال مَذْهَب جمَاعَة من أهل السّنة من سلف الْأمة وَخَلفهَا أَن الْإِيمَان قَول وَعمل يزِيد وَينْقص وَالْحجّة على ذَلِك مَا أوردهُ البُخَارِيّ قَالَ فإيمان من لم تحصل لَهُ الزِّيَادَة نَاقص وَذكر الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم هبة الله اللالكائي فِي كتاب شرح أصُول اعْتِقَاد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن الْإِيمَان يزِيد بِالطَّاعَةِ وَينْقص بالمعصية وَبِه قَالَ من الصَّحَابَة عمر بن الْخطاب وَعلي وَابْن مَسْعُود ومعاذ وَأَبُو الدَّرْدَاء وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وعمار وَأَبُو هُرَيْرَة وَحُذَيْفَة وسلمان وَعبد الله بن رَوَاحَة وَأَبُو أُمَامَة وجندب بن عبد الله وَعُمَيْر بن حبيب وَعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَمن التَّابِعين كَعْب الْأَحْبَار وَعُرْوَة وَعَطَاء وَطَاوُس وَمُجاهد وَابْن أبي مليكَة وَمَيْمُون بن مهْرَان وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَسَعِيد بن جُبَير وَالْحسن وَيحيى بن أبي كثير وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَأَيوب وَيُونُس وَابْن عون وَسليمَان التَّيْمِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو البحتري وَعبد الْكَرِيم الْجريرِي وَزيد بن الْحَارِث وَالْأَعْمَش وَمَنْصُور وَالْحكم وَحَمْزَة الزيات وَهِشَام بن حسان وَمَعْقِل بن عبيد الله الْجريرِي ثمَّ مُحَمَّد بن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح وَمَالك بن مغول ومفضل بن مهلهل وَأَبُو سعيد الْفَزارِيّ وزائدة وَجَرِير بن عبد الحميد وَأَبُو هِشَام عبد ربه وعبثر بن الْقَاسِم وَعبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ وَابْن الْمُبَارك وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَأَبُو عبيد بن سَلام وَأَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ والذهلي وَمُحَمّد بن أسلم الطوسي وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو دَاوُد وَزُهَيْر بن مُعَاوِيَة وزائدة وَشُعَيْب بن حَرْب وَإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش والوليد بن مُسلم والوليد بن مُحَمَّد وَالنضْر بن شُمَيْل وَالنضْر بن مُحَمَّد وَقَالَ سهل بن متوكل أدْركْت ألف أستاذ كلهم يَقُول الْإِيمَان قَول وَعمل يزِيد وَينْقص وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان أَن أهل السّنة وَالْجَمَاعَة على ذَلِك بِمَكَّة وَالْمَدينَة وَالْبَصْرَة والكوفة وَالشَّام مِنْهُم عبد الله بن يزِيد الْمقري وَعبد الْملك الْمَاجشون ومطرف وَمُحَمّد بن عبيد الله الْأنْصَارِيّ وَالضَّحَّاك بن مخلد وَأَبُو الْوَلِيد وَأَبُو النُّعْمَان والقعنبي وَأَبُو نعيم وَعبيد الله بن مُوسَى وَقبيصَة وَأحمد بن يُونُس وَعَمْرو بن عون وَعَاصِم بن عَليّ وَعبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث وَسَعِيد بن أبي مَرْيَم وَالنضْر بن عبد الْجَبَّار وَابْن بكير وَأحمد بن صَالح وَأصبغ بن الْفرج وآدَم بن أبي إِيَاس وَعبد الْأَعْلَى بن مسْهر وَهِشَام بن عمار وَسليمَان بن عبد الرَّحْمَن وَعبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وحيوة بن شُرَيْح ومكي بن إِبْرَاهِيم وَصدقَة بن الْفضل ونظراؤهم من أهل بِلَادهمْ وَذكر أَبُو الْحسن عبد الرَّحْمَن بن عمر فِي كتاب الْإِيمَان ذَلِك عَن خلق قَالَ وَأما توقف مَالك عَن القَوْل بِنُقْصَان الْإِيمَان فخشيه أَن يتَنَاوَل عَلَيْهِ مُوَافقَة الْخَوَارِج وَقَالَ رسته مَا ذاكرت أحدا من أَصْحَابنَا من أهل الْعلم مثل عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَسليمَان يَعْنِي ابْن حَرْب والْحميدِي وَغَيرهم إِلَّا يَقُولُونَ الْإِيمَان قَول وَعمل يزِيد وَينْقص وَكَذَا روى عَن عُمَيْر بن حبيب وَكَانَ من أَصْحَاب الشَّجَرَة وَحَكَاهُ اللالكائي فِي كتاب السّنَن عَن وَكِيع وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز وَشريك وَأبي بكر بن أبي عَيَّاش وَعبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة والحمادين وَأبي ثَوْر وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَقَالَ الإِمَام هَذَا الْبَحْث لَفْظِي لِأَن المُرَاد بِالْإِيمَان إِن كَانَ هُوَ التَّصْدِيق فَلَا يقبلهما وَإِن كَانَ الطَّاعَات فيقبلهما ثمَّ قَالَ الطَّاعَات مكملة للتصديق فَكل مَا قَامَ من الدَّلِيل على أَن الْإِيمَان لَا يقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان كَانَ مصروفا إِلَى أصل الْإِيمَان الَّذِي هُوَ التَّصْدِيق وكل مَا دلّ على كَون الْإِيمَان يقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فَهُوَ مَصْرُوف إِلَى الْكَامِل وَهُوَ مقرون بِالْعَمَلِ وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين الْحق أَن الْإِيمَان يقبلهما سَوَاء كَانَ عبارَة عَن التَّصْدِيق مَعَ الْأَعْمَال وَهُوَ ظَاهر أَو بِمَعْنى التَّصْدِيق وَحده لِأَن التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ هُوَ الِاعْتِقَاد الْجَازِم وَهُوَ قَابل للقوة والضعف فَإِن التَّصْدِيق بجسمية الشبح الَّذِي بَين أَيْدِينَا أقوى من التَّصْدِيق بجسميته إِذا كَانَ بَعيدا عَنَّا وَلِأَنَّهُ يبتدىء فِي التنزل من أجلى البديهيات كَقَوْلِنَا النقيضان لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان ثمَّ ينزل إِلَى مَا دونه كَقَوْلِنَا الْأَشْيَاء المتساوية بِشَيْء وَاحِد مُتَسَاوِيَة ثمَّ إِلَى أجلى النظريات كوجود الصَّانِع ثمَّ إِلَى مَا دونه كَكَوْنِهِ مرئيا ثمَّ إِلَى أخفاها كاعتقاد أَن الْعرض لَا يبْقى زمانين وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين الْحق أَن التَّصْدِيق يقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان بِوَجْهَيْنِ الأول الْقُوَّة والضعف لِأَنَّهُ من الكيفيات النفسانية وَهِي تقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان كالفرح والحزن وَالْغَضَب وَلَو لم يكن كَذَلِك يَقْتَضِي أَن يكون إِيمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأفراد الْأمة سَوَاء وَأَنه بَاطِل إِجْمَاعًا وَلقَوْل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام {{وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي}} الثَّانِي التَّصْدِيق التفصيلي فِي إِفْرَاد مَا علم مَجِيئه بِهِ جُزْء من الْإِيمَان يُثَاب عَلَيْهِ ثَوَابه على تَصْدِيقه بِالْآخرِ وَقَالَ بَعضهم فِي هَذَا الْمقَام الَّذِي يُؤَدِّي إِلَيْهِ نَظَرِي أَنه يَنْبَغِي أَن يكون الْحق الْحقيق بِالْقبُولِ أَن الْإِيمَان بِحَسب التَّصْدِيق يزِيد بِزِيَادَة الكمية المعظمة وَهِي الْعدَد قبل تقرر الشَّرَائِع بِأَن يُؤمن الْإِنْسَان بجملة مَا ثَبت من الْفَرَائِض ثمَّ يثبت فرض آخر فَيُؤمن بِهِ أَيْضا ثمَّ وَثمّ فَيَزْدَاد إيمَانه أَو يُؤمن بحقية كل مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِجْمَالا قبل أَن تبلغ إِلَيْهِ الشَّرَائِع تَفْصِيلًا ثمَّ تبلغه فَيُؤمن بهَا تَفْصِيلًا بَعْدَمَا آمن بِهِ إِجْمَالا فَيَزْدَاد إيمَانه فَإِن قلت يلْزم من هَذَا تَفْضِيل من آمن بعد تَقْرِير الشَّرَائِع على من مَاتَ فِي زمن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار لِأَن إِيمَان أُولَئِكَ أَزِيد من إِيمَان هَؤُلَاءِ قلت لَا نسلم أَن هَذِه الزِّيَادَة سَبَب التَّفْضِيل فِي الْآخِرَة وَسَنَد الْمَنْع أَن كل وَاحِد من هذَيْن الْفَرِيقَيْنِ مُؤمن بِجَمِيعِ مَا يجب الْإِيمَان بِهِ بِحَسب زَمَانه وهما متساويان فِي ذَلِك وَأَيْضًا إِنَّمَا يلْزم تَفْضِيلهمْ على الصَّحَابَة بِسَبَب زِيَادَة عدد إِيمَانهم لَو لم يكن لإيمانهم تَرْجِيح بِاعْتِبَار آخر وَهُوَ قُوَّة الْيَقِين وَهُوَ مَمْنُوع لِأَن لإيمانهم تَرْجِيحا أَلا ترى إِلَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو وزن إِيمَان أبي بكر مَعَ إِيمَان جَمِيع الْخلق لرجح إِيمَان أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَلَا ينقص الْإِيمَان بِحَسب الْعدَد قبل تقرر الشَّرَائِع وَلَا يلْزم ترك الْإِيمَان بِنَقص مَا يجب الْإِيمَان بِهِ وَيزِيد وَينْقص بِحَسب الْعدَد بعد تقرر الشَّرَائِع بتكرار التَّصْدِيق والتلفظ بكلمتي الشَّهَادَة مرّة بعد أُخْرَى بعد الذهول عَنهُ تَكْرَارا كثيرا أَو قَلِيلا وَيزِيد وَينْقص مُطلقًا أَي قبل تقرر الشَّرَائِع وَبعده بِحَسب الْكَيْفِيَّة أَي الْقُوَّة والضعف بِحَسب ظُهُور أَدِلَّة حقية الْمُؤمن بِهِ وخفائها وقوتها وضعفها وَقُوَّة اعْتِقَاد الْمُقَلّد فِي الْمُقَلّد وَضَعفه وروى عَن بعض الْمُحَقِّقين أَنه قَالَ الْأَظْهر أَن نفس التَّصْدِيق يزِيد بِكَثْرَة النّظر وتظاهر الْأَدِلَّة وَلِهَذَا يكون إِيمَان الصديقين والراسخين فِي الْعلم أقوى من إِيمَان غَيرهم بِحَيْثُ لَا تعتريهم الشُّبْهَة وَلَا يزلزل إِيمَانهم معَارض وَلَا تزَال قُلُوبهم منشرحة لِلْإِسْلَامِ وَإِن اخْتلفت عَلَيْهِم الْأَحْوَال النَّوْع الرَّابِع فِي أَن الْإِسْلَام مُغَاير للْإيمَان أَو هما متحدان فَنَقُول الْإِسْلَام فِي اللُّغَة الانقياد والإذعان وَفِي الشَّرِيعَة الانقياد لله بِقبُول رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتلفظ بكلمتي الشَّهَادَة والإتيان بالواجبات والانتهاء عَن الْمُنْكَرَات كَمَا دلّ عَلَيْهِ جَوَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين سَأَلَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن الْإِسْلَام فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِسْلَام أَن تعبد الله وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا وتقيم الصَّلَاة وَتُؤَدِّي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة وتصوم رَمَضَان وَيُطلق الْإِسْلَام على دين مُحَمَّد يُقَال دين الْإِسْلَام كَمَا يُقَال دين الْيَهُودِيَّة والنصرانية قَالَ الله تَعَالَى {{إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام}} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذاق طعم الْإِيمَان من رَضِي بِاللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دينا ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فيهمَا فَذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّهُمَا متغايران وَهُوَ الصَّحِيح وَذهب بعض الْمُحدثين والمتكلمين وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْإِيمَان هُوَ الْإِسْلَام والإسمان مُتَرَادِفَانِ شرعا وَقَالَ الْخطابِيّ وَالصَّحِيح من ذَلِك أَن يُقيد الْكَلَام وَلَا يُطلق وَذَلِكَ أَن الْمُسلم قد يكون فِي بعض الْأَحْوَال دون بعض وَالْمُؤمن مُسلم فِي جَمِيع الْأَحْوَال فَكل مُؤمن مُسلم وَلَيْسَ كل مُسلم مُؤمنا وَإِذا حملت الْأَمر على هَذَا استقام لَك تَأْوِيل الْآيَات واعتدل القَوْل فِيهَا وَلم يخْتَلف شَيْء مِنْهَا وأصل الْإِيمَان التَّصْدِيق وأصل الْإِسْلَام الاستسلام والانقياد فقد يكون الْمَرْء مُسلما فِي الظَّاهِر غير منقاد فِي الْبَاطِن وَقد يكون صَادِقا بالباطن غير منقاد فِي الظَّاهِر قلت هَذِه إِشَارَة إِلَى أَن بَينهمَا عُمُوما وخصوصا مُطلقًا كَمَا صرح بِهِ بعض الْفُضَلَاء وَالْحق أَن بَينهمَا عُمُوما وخصوصا من وَجه لِأَن الْإِيمَان أَيْضا قد يُوجد بِدُونِ الْإِسْلَام كَمَا فِي شَاهِق الْجَبَل إِذا عرف الله بعقله وَصدق بِوُجُودِهِ ووحدته وَسَائِر صِفَاته قبل أَن تبلغه دَعْوَة نَبِي وَكَذَا فِي الْكَافِر إِذا اعْتقد جَمِيع مَا يجب الْإِيمَان بِهِ اعتقادا جَازِمًا وَمَات فَجْأَة قبل الْإِقْرَار وَالْعَمَل وَالْحَاصِل أَن بَيَان النِّسْبَة بَين الْإِيمَان وَالْإِسْلَام بالمساواة أَو بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوص مَوْقُوف على تَفْسِير الْإِيمَان فَقَالَ الْمُتَأَخّرُونَ هُوَ تَصْدِيق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا علم مَجِيئه بِهِ ضَرُورَة وَالْحَنَفِيَّة التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار والكرامية الْإِقْرَار وَبَعض الْمُعْتَزلَة الْأَعْمَال وَالسَّلَف التَّصْدِيق بالجنان وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ وَالْعَمَل بالأركان فَهَذِهِ أَقْوَال خَمْسَة الثَّلَاثَة مِنْهَا بسيطة وَوَاحِد مركب ثنائي وَالْخَامِس مركب ثلاثي وَوجه الْحصْر أَنه إِمَّا بسيط أَو لَا والبسيط إِمَّا اعتقادي أَو قولي أَو عَمَلي وَغير الْبَسِيط إِمَّا ثنائي وَإِمَّا ثلاثي وَهَذَا كُله بِالنّظرِ إِلَى مَا عِنْد الله تَعَالَى أما عندنَا فالإيمان هُوَ بِالْكَلِمَةِ فَإِذا قَالَهَا حكمنَا بإيمانه اتِّفَاقًا بِلَا خلاف ثمَّ لَا تغفل أَن النزاع فِي نفس الْإِيمَان وَأما الْكَمَال فَإِنَّهُ لَا بُد فِيهِ من الثَّلَاثَة إِجْمَاعًا ثمَّ أَن الَّذين ذَهَبُوا إِلَى أَن الْإِيمَان هُوَ الْإِسْلَام وَالْإِسْلَام مُتَرَادِفَانِ استدلوا على ذَلِك بِوُجُوه الأول أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بِاللَّه وَالْإِسْلَام إِمَّا أَن يكون مأخوذا من التَّسْلِيم وَهُوَ تَسْلِيم العَبْد نَفسه لله تَعَالَى أَو يكون مأخوذا من الاستسلام وَهُوَ الانقياد وَكَيف مَا كَانَ فَهُوَ رَاجع إِلَى مَا ذكرنَا من تَصْدِيقه بِالْقَلْبِ واعتقاده أَنه تَعَالَى خالقه لَا شريك لَهُ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {{وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ}} وَقَوله تَعَالَى {{إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام}} بَين أَن دين الله هُوَ الْإِسْلَام وَأَن كل دين غير الْإِسْلَام غير مَقْبُول وَالْإِيمَان دين لَا محَالة فَلَو كَانَ غير الْإِسْلَام لما كَانَ مَقْبُولًا وَلَيْسَ كَذَلِك الثَّالِث لَو كَانَا متغايرين لتصور أَحدهمَا بِدُونِ الآخر ولتصور مُسلم لَيْسَ بِمُؤْمِن وَأجِيب عَن الأول بِأَنا لَا نسلم أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بِاللَّه فَقَط وَإِلَّا لَكَانَ كثير من الْكفَّار مُؤمنين لتصديقهم بِاللَّه بل هُوَ تَصْدِيق الرَّسُول بِكُل مَا علم مَجِيئه بِهِ بِالضَّرُورَةِ كَمَا مر وَلَئِن سلمنَا لَكِن لَا نسلم أَن التَّسْلِيم هَهُنَا بِمَعْنى تَسْلِيم العَبْد نَفسه لم لَا يجوز أَن يكون بِمَعْنى الاستسلام وَهُوَ الانقياد وَلِأَن أحد مَعَاني التَّسْلِيم الانقياد وَحِينَئِذٍ يلْزم تغايرهما لجَوَاز الانقياد ظَاهرا بِدُونِ تَصْدِيق الْقلب وَعَن الثَّانِي بِأَنا لَا نسلم أَن الْإِيمَان الَّذِي هُوَ التَّصْدِيق فَقَط دين بل الدّين إِنَّمَا يُقَال لمجموع الْأَركان الْمُعْتَبرَة فِي كل دين كالإسلام بتفسير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِهَذَا يُقَال دين الْإِسْلَام وَلَا يُقَال دين الْإِيمَان وَهَذَا أَيْضا فرق آخر وَمعنى الْآيَة وَمن يبتغ دينا غير دين مُحَمَّد فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَعَن الثَّالِث بِأَن عدم تغايرهما بِمَعْنى عدم الانفكاك لَا يُوجب اتحادهما معنى وَأَيْضًا المُنَافِقُونَ كلهم مُسلمُونَ بالتفسير الْمَذْكُور غير مُؤمنين فقد وجد أَحدهمَا بِدُونِ الآخر ثمَّ أَنهم أولُوا الْآيَة بِأَن المُرَاد بأسلمنا استسلمنا أَي أنقذنا وَالْخَبَر بِأَن سُؤال جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَا كَانَ عَن الْإِسْلَام بل عَن شرائع الْإِسْلَام وأسندوا هَذَا إِلَى بعض الروَاة وَأجِيب بِأَن الاستسلام هَهُنَا يَنْبَغِي أَن يكون بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور فِي تَعْرِيف الْإِسْلَام وَإِلَّا لما تمكن المُنَافِقُونَ من دَعْوَى الْإِيمَان وَحِينَئِذٍ لَا فَائِدَة فِي هَذَا التَّأْوِيل وَالْمَذْكُور فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا مَا ذكرنَا وَلَا تعارضه هَذِه الرِّوَايَة الغريبة الْمُخَالفَة للظَّاهِر قلت فِي إِثْبَات وحدة الْإِيمَان وَالْإِسْلَام صعوبة وعسر لأَنا لَو نَظرنَا إِلَى قَوْله تَعَالَى {{وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ}} لزم اتحدهما إِذْ لَو كَانَ الْإِيمَان غير الْإِسْلَام لم يقبل قطّ فَتعين أَن يكون عينه لِأَن الْإِيمَان هُوَ الدّين وَالدّين هُوَ الْإِسْلَام لقَوْله تَعَالَى {{إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام}} فينتج أَن الْإِيمَان هُوَ الْإِسْلَام وَلَو نَظرنَا إِلَى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين سَأَلَهُ جِبْرِيل عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام الْإِيمَان أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر وتؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره وَالْإِسْلَام أَن تشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة وتصوم رَمَضَان وتحج الْبَيْت إِن اسْتَطَعْت إِلَيْهِ سَبِيلا لزم تغايرهما بتصريح تفسيرهما وَلِأَن قَوْله تَعَالَى {{إِن الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَالْمُسْلِمين وَالْمُسلمَات}} يدل على الْمُغَايرَة بَينهمَا لِأَن الْعَطف يَقْتَضِي تغاير الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ النَّوْع الْخَامِس فِي أَن الْإِيمَان هَل هُوَ مَخْلُوق أم لَا فَذهب جمَاعَة إِلَى أَنه مَخْلُوق فَمنهمْ الْحَارِث المحاسبي وجعفر بن حَرْب وَعبد الله بن كلاب وَعبد الْعَزِيز الْمَكِّيّ وَذكر عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَجَمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث أَنهم قَالُوا الْإِيمَان غير مَخْلُوق وَأحسن مَا قيل فِيهِ مَا رُوِيَ عَن الْفَقِيه أبي اللَّيْث السَّمرقَنْدِي أَنه قَالَ أَن الْإِيمَان إِقْرَار وهداية فالإقرار صنع العَبْد وَهُوَ مَخْلُوق وَالْهِدَايَة صنع الرب وَهُوَ غير مَخْلُوق النَّوْع السَّادِس فِي قرَان الْمَشِيئَة بِالْإِيمَان فَقَالَت طَائِفَة لَا بُد من قرانها وَحكى هَذَا عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَقَالَت طَائِفَة بجوازها وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة هُوَ الْمُخْتَار وَقَول أهل التَّحْقِيق وَقَالَت طَائِفَة بِجَوَاز الْأَمريْنِ قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة هُوَ حسن وَقَالَت الْحَنَفِيَّة لَا يَصح ذَلِك فَمن قَارن إيمَانه بِالْمَشِيئَةِ لم يَصح إيمَانه وَرووا مَا ذكر فِي كتاب أبي سعيد مُحَمَّد بن عَليّ بن مهْدي النقاش عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يرفعهُ من زعم أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص فقد خرج من أَمر الله وَمن قَالَ أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله فَلَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَام نصيب وَفِيه أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة يرفعهُ الْإِيمَان ثَابت لَيْسَ بِهِ زِيَادَة وَلَا نقص نقصانه وزيادته كفر وَمن حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يرفعهُ من زعم أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص فزيادته نقص ونقصه كفر وَفِي كل ذَلِك نظر (النَّوْع السَّابِع) اتّفق أهل السّنة من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء والمتكلمين على مَا قَالَه النَّوَوِيّ أَن الْمُؤمن الَّذِي يحكم بِأَنَّهُ من أهل الْقبْلَة وَلَا يخلد فِي النَّار لَا يكون إِلَّا من اعْتقد بِقَلْبِه دين الْإِسْلَام اعتقادا جَازِمًا خَالِيا من الشكوك ونطق مَعَ ذَلِك بِالشَّهَادَتَيْنِ قَالَ فَإِن اقْتصر على أَحدهمَا لم يكن من أهل الْقبْلَة أصلا بل يخلد فِي النَّار إِلَّا أَن يعجز عَن النُّطْق لخلل فِي لِسَانه أَو لعدم التَّمَكُّن مِنْهُ لمعالجة الْمنية أَو لغير ذَلِك فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكون مُؤمنا بالاعتقاد من غير لفظ وَإِذا نطق بهما لم يشْتَرط مَعَهُمَا أَن يَقُول وَأَنا برىء من كل دين خَالف دين الْإِسْلَام على الْأَصَح إِلَّا أَن يكون من كفار يَعْتَقِدُونَ اخْتِصَاص الرسَالَة بالعرب وَلَا يحكم بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يتبرأ وَمن أَصْحَابنَا من اشْترط التبرىء مُطلقًا وَهُوَ غلط لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَمِنْهُم من استحبه مُطلقًا كالاعتراف بِالْبَعْثِ أما إِذا اقْتصر الْكَافِر على قَوْله لَا إِلَه إِلَّا الله وَلم يَقُول مُحَمَّد رَسُول الله فَالْمَشْهُور من مَذْهَبنَا وَمذهب الْجُمْهُور أَنه لَا يكون مُسلما وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يصير مُسلما وَيُطَالب بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى فَإِن أَبى جعل مُرْتَدا وَحجَّة الْجُمْهُور الرِّوَايَة السالفة وَهِي مُقَدّمَة على هَذِه لِأَنَّهَا زِيَادَة من ثِقَة وَلَيْسَ فِيهَا نفي للشَّهَادَة الثَّانِيَة وَإِنَّمَا أَن فِيهَا تَنْبِيها على الْأُخْرَى وأعرب القَاضِي حُسَيْن فَشرط فِي ارْتِفَاع السَّيْف عَنهُ أَن يقر بأحكامها مَعَ النُّطْق بهَا فَأَما مُجَرّد قَوْلهَا فَلَا وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ وَقَالَ النَّوَوِيّ اشْترط القَاضِي أَبُو الطّيب من أَصْحَابنَا التَّرْتِيب بَين كلمتي الشَّهَادَة فِي صِحَة الْإِسْلَام فَيقدم الْإِقْرَار بِاللَّه على الْإِقْرَار بِرَسُولِهِ وَلم أر من وَافقه وَلَا من خَالفه وَذكر الْحَلِيمِيّ فِي منهاجه ألفاظا تقوم مقَام لَا إِلَه إِلَّا الله فِي بَعْضهَا نظر لانْتِفَاء ترادفها حَقِيقَة فَقَالَ وَيحصل الْإِسْلَام بقوله لَا إِلَه غير الله وَلَا إِلَه سوى الله أَو مَا عدا الله وَلَا إِلَه إِلَّا الرَّحْمَن أَو الباريء أَو لَا رَحْمَن أَو لَا باريء إِلَّا الله أَو لَا ملك أَو لَا رَازِق إِلَّا الله وَكَذَا لَو قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الْعَزِيز أَو الْعَظِيم أَو الْحَكِيم أَو الْكَرِيم وَبِالْعَكْسِ قَالَ وَلَو قَالَ أَحْمد أَبُو الْقَاسِم رَسُول الله فَهُوَ كَقَوْلِه مُحَمَّد (وَهُوَ قَول وَفعل وَيزِيد وَينْقص) أَي أَن الْإِيمَان قَول بِاللِّسَانِ وَفعل بالجوارح فَإِن قلت الْإِيمَان عِنْده قَول وَفعل واعتقاد فَكيف ذكر القَوْل وَالْفِعْل وَلم يذكر الِاعْتِقَاد الَّذِي هُوَ الأَصْل قلت لَا نزاع فِي أَن الِاعْتِقَاد لَا بُد مِنْهُ وَالْكَلَام فِي القَوْل وَالْفِعْل هَل هما مِنْهُ أم لَا فَلَا جلّ ذَلِك ذكر مَا هُوَ الْمُتَنَازع فِيهِ وَأجِيب أَيْضا بِأَن الْفِعْل أَعم من فعل الْجَوَارِح فَيتَنَاوَل فعل الْقلب وَفِيه نظر من وَجْهَيْن أَحدهمَا هُوَ أَن يُقَال لَا حَاجَة إِلَى ذكر القَوْل أَيْضا لِأَنَّهُ فعل اللِّسَان وَالْآخر أَن الِاعْتِقَاد من مقولة الانفعال أَو الْفِعْل وَفِيه تَأمل فَإِن قلت مَا وَجه من أعَاد الضَّمِير أَعنِي هُوَ إِلَى الْإِسْلَام قلت وَجهه أَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَاحِد عِنْد البُخَارِيّ فَإِذا كَانَ كِلَاهُمَا وَاحِدًا يجوز عود الضَّمِير إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا قَوْله يزِيد وَينْقص أَي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام قبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان هَذَا على تَقْدِير دُخُول القَوْل وَالْفِعْل فِيهِ ظَاهر وَأما على تَقْدِير أَن يكون نفس التَّصْدِيق فَإِنَّهُ أَيْضا يزِيد وَينْقص أَي قُوَّة وضعفا أَو إِجْمَالا وتفصيلا أَو تعدادا بِحَسب تعدد الْمُؤمن بِهِ كَمَا حققناه فَمَا مضى وَهَذَا الَّذِي قَالَه البُخَارِيّ مَنْقُول عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة فَإِنَّهُ قَالَ الْإِيمَان قَول وَفعل يزِيد وَينْقص فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيم لَا تقل ينقص فَغَضب وَقَالَ اسْكُتْ يَا صبي بل ينقص حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُ شَيْء قَالَ أَبُو الْحسن عبد الرَّحْمَن بن عمر بن يزِيد رسته حَدثنَا الْحميدِي حَدثنِي يحيى بن سليم الطَّائِفِي قَالَ سَأَلت عشرَة من الْفُقَهَاء فكلهم قَالُوا الْإِيمَان قَول وَعمل الثَّوْريّ وَهِشَام بن حسان وَابْن جريج وَمُحَمّد بن عَمْرو بن عُثْمَان والمثنى بن الصَّباح وَنَافِع بن عمر الجُمَحِي وَمُحَمّد بن مُسلم الطَّائِفِي وَمَالك بن أنس وفضيل بن عِيَاض وسُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ رسته وَحدثنَا بعض أَصْحَابنَا عَن عبد الرَّزَّاق قَالَ سَمِعت معمرا وَالْأَوْزَاعِيّ يَقُولَانِ الْإِيمَان قَول وَعمل يزِيد وَينْقص قَالَ الله تَعَالَى {{ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم وزدناهم هدى وَيزِيد الله الَّذِي اهتدوا هدى وَالَّذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا}} وَقَوله {{أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا}} وَقَوله جلّ ذكره {{فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمَانًا}} وَقَوله تَعَالَى {{وَمَا زادهم إِلَّا إِيمَانًا وتسليما}} هَذِه ثَمَان آيَات ذكرهَا دَلِيلا على زِيَادَة الْإِيمَان وَقد قُلْنَا أَنه كثيرا مَا يسْتَدلّ لترجمة الْبَاب بِالْقُرْآنِ وَبِمَا وَقع لَهُ من سنة مُسندَة وَغَيرهَا أَو أثر من الصَّحَابَة أَو قَول للْعُلَمَاء وَنَحْو ذَلِك وَلَكِن ذكر هَذِه الْآيَات مَا كَانَ يُنَاسب إِلَّا فِي بَاب زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه فَإِن قلت الْآيَات دلّت على الزِّيَادَة فَقَط وَالْمَقْصُود بَيَان الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان كليهمَا قلت قَالَ الْكرْمَانِي كل مَا قبل الزِّيَادَة لَا بُد أَن يكون قَابلا للنقصان ضَرُورَة ثمَّ الْآيَة الأولى فِي سُورَة الْفَتْح وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {{هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم وَللَّه جنود السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَكَانَ الله عليما حكيما}} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ أَي أنزل الله فِي قُلُوبهم السّكُون والطمأنينة بِسَبَب الصُّلْح والأمن ليعرفوا فضل الله تَعَالَى عَلَيْهِم بتيسير الْأَمْن بعد الْخَوْف والهدنة غب الْقِتَال فيزدادوا يَقِينا إِلَى يقينهم أَو أنزل فِيهَا السّكُون إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الشَّرَائِع ليزدادوا يَقِينا إِلَى يقينهم أَو أنزل فِيهَا السّكُون إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام من الشَّرَائِع ليزدادوا إِيمَانًا بالشرائع مَقْرُونا إِلَى إِيمَانهم وَهُوَ التَّوْحِيد وَعَن ابْن عَبَّاس أول مَا أَتَاهُم بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّوْحِيد فَلَمَّا آمنُوا بِاللَّه وَحده أنزل الصَّلَاة وَالزَّكَاة ثمَّ الْحَج ثمَّ الْجِهَاد فازدادوا إِيمَانًا إِلَى إِيمَانهم وَأنزل فِيهَا الْوَقار وَالْعَظَمَة لله وَلِرَسُولِهِ ليزدادوا باعتقاد ذَلِك إِيمَانًا إِلَى إِيمَانهم وَقيل أنزل الله فِيهِ الرَّحْمَة ليتراحموا فَيَزْدَاد إِيمَانهم الْآيَة الثَّانِيَة فِي سُورَة الْكَهْف وَهِي قَوْله تَعَالَى {{نَحن نقص عَلَيْك نبأهم بِالْحَقِّ إِنَّهُم فتية آمنُوا برَبهمْ وزدناهم هدى وربطنا على قُلُوبهم إِذْ قَامُوا}} الْآيَة {{نبأهم}} أَي خبرهم والفتية جمع فَتى وَالْهدى من هداه يهديه أَي دلَالَة موصلة إِلَى البغية وَهُوَ مُتَعَدٍّ والاهتداء لَازم قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ {{وزدناهم هدى}} بالتوفيق والتثبت {{وربطنا على قُلُوبهم}} وقوينا بِالصبرِ على هجر الأوطان وَالنَّعِيم والفرار بِالدّينِ إِلَى بعض الْغَيْر أَن وحشرناهم على الْقيام بِكَلِمَة الْحق والتظاهر بِالْإِسْلَامِ {{إِذْ قَامُوا}} بَين يَدي الْجَبَّار وَهُوَ دقيانوس من غير مبالاة بِهِ حِين عَاتَبَهُمْ على ترك عبَادَة الصَّنَم {{فَقَالُوا رَبنَا رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض}} الْآيَة الثَّالِثَة فِي سُورَة مَرْيَم وَهِي قَوْله تَعَالَى {{وَيزِيد الله الَّذين اهتدوا هدى والباقيات الصَّالِحَات خير عِنْد رَبك ثَوابًا وَخير مردا}} أَي يزِيد الله المهتدين هِدَايَة بتوفيقه وَالْمرَاد من الْبَاقِيَات الصَّالِحَات أَعمال الْآخِرَة كلهَا وَقيل الصَّلَوَات وَقيل سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر أَي هِيَ خير ثَوابًا من مفاخرات الْكفَّار وَخير مرد أَي مرجعا وعاقبة الْآيَة الرَّابِعَة فِي سُورَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي قَوْله تَعَالَى {{وَالَّذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}} أَي زادهم الله هدى بالتوفيق {{وآتاهم تقواهم}} أعانهم عَلَيْهَا وَعَن السّديّ بَين لَهُم مَا يَتَّقُونَ وقريء وَأَعْطَاهُمْ الْآيَة الْخَامِسَة فِي سُورَة المدثر وَهِي قَوْله تَعَالَى {{وَمَا جعلنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا ليستيقين الَّذين أُوتُوا الْكتاب ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا}} أَي عدَّة الْمَلَائِكَة الَّذين يلون أَمر جَهَنَّم لأَنهم خلاف جنس الْمُعَذَّبين من الْجِنّ وَالْإِنْس فَلَا يَأْخُذهُمْ مَا يَأْخُذ المجانس من الرأفة والرقة وَلِأَنَّهُم أقوم خلق الله بِحَق الله وبالغضب لَهُ وَلِأَنَّهُم أَشد الْخلق بَأْسا وَأَقْوَاهُمْ بطشا وَالتَّقْدِير لقد جعلنَا عدتهمْ عدَّة من شَأْنهَا أَن يفتتن بهَا لأجل استيقان الْمُؤمنِينَ وحيرة الْكَافرين واستيقان أهل الْكتاب لِأَن عدتهمْ تِسْعَة عشر فِي الْكِتَابَيْنِ فَإِذا سمعُوا بِمِثْلِهَا فِي الْقُرْآن أيقنوا أَنه منزل من عِنْد الله وازداد الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا لتصديقهم بذلك كَمَا صدقُوا سَائِر مَا أنزل الْآيَة السَّادِسَة فِي سُورَة بَرَاءَة من الله وَرَسُوله وَهِي قَوْله تَعَالَى {{وَإِذا مَا أنزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون}} أَي فَمن الْمُنَافِقين من يَقُول بَعضهم لبَعض أَيّكُم زادته هَذِه السُّورَة إِيمَانًا إِنْكَار واستهزاء بِالْمُؤْمِنِينَ واعتقادهم زِيَادَة الْإِيمَان بِزِيَادَة الْعلم الْحَاصِل بِالْوَحْي وَالْعَمَل بِهِ الْآيَة السَّابِعَة فِي سُورَة آل عمرَان وَهِي قَوْله تَعَالَى {{الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمَانًا وَقَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل}} المُرَاد من النَّاس الأول نعيم بن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ وَمن الثَّانِي أهل مَكَّة وروى أَن أَبَا سُفْيَان نَادَى عِنْد انْصِرَافه من أحد يَا مُحَمَّد موعدنا موسم بدر لقابل إِن شِئْت فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن شَاءَ الله فَلَمَّا كَانَ الْقَابِل خرج أَبُو سُفْيَان فِي أهل مَكَّة حَتَّى نزل من الظهْرَان فَألْقى الله الرعب فِي قلبه فَبَدَا لَهُ أَن يرجع فلقي نعيم بن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ وَقد قدم مُعْتَمِرًا فَقَالَ يَا نعيم إِنِّي وَاعَدت مُحَمَّدًا أَن نَلْتَقِي بِمَوْسِم بدر وَأَن هَذَا عَام جَدب وَلَا يُصْلِحنَا إِلَّا عَام نرعى فِيهِ الشّجر وَنَشْرَب فِيهِ اللبان وَقد بدا لي وَلَكِن إِن خرج مُحَمَّد وَلم أخرج زَاده ذَلِك جَرَاءَة فَالْحق بِالْمَدِينَةِ فَثَبَّطَهُمْ وَلَك عِنْدِي عشر من الْإِبِل فَخرج نعيم فَوجدَ الْمُسلمين يَتَجَهَّزُونَ فَقَالَ لَهُم مَا هَذَا بِالرَّأْيِ أَتَوْكُم فِي دِيَاركُمْ وقراركم فَلم يفلت مِنْكُم أحد إِلَّا شريد أفتريدون أَن تخْرجُوا وَقد جمعُوا لكم عِنْد الْمَوْسِم فوَاللَّه لَا يفلت مِنْكُم أحد وَقيل مر بِأبي سُفْيَان ركب عبد الْقَيْس يُرِيدُونَ الْمَدِينَة لِلْمِيرَةِ فَجعل لَهُم حمل بعير من زبيب أَن ثبطوهم فكره الْمُسلمُونَ الْخُرُوج فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لأخْرجَن وَلَو لم يخرج معي أحد فَخرج فِي سبعين رَاكِبًا وهم يَقُولُونَ حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل وَكَانَ مَعَهم تِجَارَات فباعرها وَأَصَابُوا خيرا ثمَّ انصرفوا إِلَى الْمَدِينَة سَالِمين غَانِمِينَ فَخرج أَبُو سُفْيَان إِلَى مَكَّة فَسمى أهل مَكَّة جَيْشه جَيش السويق وَقَالُوا إِنَّمَا خَرجْتُمْ لِتَشْرَبُوا السويق: الْآيَة الثَّامِنَة فِي سُورَة الْأَحْزَاب وَهِي قَوْله تَعَالَى {{وَلما رأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَاب قَالُوا هَذَا مَا وعدنا الله وَرَسُوله وَصدق الله وَرَسُوله وَمَا زادهم إِلَّا إِيمَانًا وتسليما}} هَذَا إِشَارَة إِلَى الْخطب وَالْبَلَاء قَوْله {{وَمَا زادهم إِلَّا إِيمَانًا}} أَي بِاللَّه وبمواعيده {{وتسليما}} لقضاياه وأقداره (وَالْحب فِي الله والبغض فِي الله من الْإِيمَان) وَالْحب مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ والبغض مَعْطُوف عَلَيْهِ وَقَوله من الْإِيمَان خَبره وَكلمَة فِي أَصْلهَا للظرفية وَلكنهَا هَهُنَا تقال للسَّبَبِيَّة أَي بِسَبَب طَاعَة الله تَعَالَى ومعصيته كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّفس المؤمنة مائَة من الْإِبِل وَقَوله فِي الَّتِي حبست الْهِرَّة فَدخلت النَّار فِيهَا أَي بِسَبَبِهَا وَمِنْه قَوْله {{فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ}} وَقَوله {{لمسكم فِيمَا أَفَضْتُم}} ثمَّ هَذِه الْجُمْلَة يجوز أَن تكون عطفا على مَا أضيف إِلَيْهِ الْبَاب فَتدخل فِي تَرْجَمَة الْبَاب كَأَنَّهُ قَالَ وَالْحب فِي الله من الْإِيمَان والبغض فِي الله من الْإِيمَان وَيجوز أَن يكون ذكرهَا لبَيَان إِمْكَان الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان كَذَلِك الْآيَات وروى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْأَعْمَال الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه حَدثنَا زيد بن الْحباب عَن الصَّعق بن حَرْب قَالَ حَدثنِي عقيل ابْن الْجَعْد عَن أبي إِسْحَق عَن سُوَيْد بن غَفلَة عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوثق عرى الْإِيمَان الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله وروى ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن أبي فُضَيْل عَن اللَّيْث عَن عَمْرو بن مرّة عَن الْبَراء قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوثق عرى الْإِسْلَام الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله وَأخرج التِّرْمِذِيّ من حَدِيث معَاذ بن أنس الْجُهَنِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أعْطى لله وَمنع لله وَأحب لله وَأبْغض لله فقد اسْتكْمل الْإِيمَان وَقَالَ هَذَا حَدِيث مُنكر وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي أُمَامَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أحب لله وَأبْغض لله وَأعْطى لله وَمنع لله فقد اسْتكْمل الْإِيمَان (وَكتب عمر بن الْعَزِيز إِلَى عدي بن عدي إِن للْإيمَان فراض وَشَرَائِع وحدودا وسننا فَمن استكملها اسْتكْمل الْإِيمَان وَمن لم يستكملها لم يستكمل الْإِيمَان فَإِن أعش فسأبينها لكم حَتَّى تعملوا بهَا وَإِن أمت فَمَا أَنا على صحبتكم بحريص) الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول فِي تَرْجَمَة عمر وعدي أما عمر فَهُوَ ابْن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم بن الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس الْأمَوِي الْقرشِي الإِمَام الْعَادِل أحد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين سمع عبد الله بن جَعْفَر وأنسا وَغَيرهمَا وَصلى أنس خَلفه قبل خِلَافَته ثمَّ قَالَ مَا رَأَيْت أحدا أشبه صَلَاة برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذَا الْفَتى تولى الْخلَافَة سنة تسع وَتِسْعين وَمُدَّة خِلَافَته سنتَانِ وَخَمْسَة أشهر نَحْو خلَافَة الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَمَلَأ الأَرْض قسطا وعدلا وَأمه حَفْصَة بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ولد بِمصْر وَتُوفِّي بدير سمْعَان بحمص يَوْم الْجُمُعَة لخمس لَيَال بَقينَ من رَجَب سنة إِحْدَى وَمِائَة وَقَالَ القَاضِي جمال الدّين بن وَاصل وَالظَّاهِر عِنْدِي أَن دير سمْعَان هُوَ الْمَعْرُوف الْآن بدير النقيرة من عمل معرة النُّعْمَان فَإِن قَبره هُوَ هَذَا الْمَشْهُور وَأوصى أَن يدْفن مَعَه شَيْء كَانَ عِنْده من شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأظفاره وَقَالَ إِذا مت فَاجْعَلُوهُ فِي كفني فَفَعَلُوا ذَلِك وَقَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل يرْوى فِي الحَدِيث أَن الله تَعَالَى يبْعَث على رَأس كل مائَة عَام من يصحح لهَذِهِ الْأمة دينهَا فَنَظَرْنَا فِي الْمِائَة الأولى فَإِذا هُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ النَّوَوِيّ فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء حمله الْعلمَاء فِي الْمِائَة الأولى على عمر وَالثَّانيَِة على الشَّافِعِي وَالثَّالِثَة على ابْن شُرَيْح وَقَالَ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر هُوَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَالرَّابِعَة على ابْن أبي سهل الصعلوكي وَقيل القَاضِي الباقلاني وَقيل أَبُو حَامِد الإسفرايني وَفِي الْخَامِسَة على الْغَزالِيّ انْتهى وَقَالَ الْكرْمَانِي لَا مطمح لليقين فِيهِ فللحنفية أَن يَقُولُوا هُوَ الْحسن بن زِيَاد فِي الثَّانِيَة والطَّحَاوِي فِي الثَّالِثَة وأمثالهما وللمالكية أَنه أَشهب فِي الثَّانِيَة وهلم جرا وللحنابلة أَنه الْخلال فِي الثَّالِثَة والراغوني فِي الْخَامِسَة إِلَى غير ذَلِك وللمحدثين أَنه يحيى بن معِين فِي الثَّانِيَة وَالنَّسَائِيّ فِي الثَّالِثَة وَنَحْوهمَا ولأولي الْأَمر أَنه الْمَأْمُون والمقتدر والقادر وللزهاد أَنه مَعْرُوف الْكَرْخِي فِي الثَّانِيَة والشبلي فِي الثَّالِثَة وَنَحْوهمَا وَأَن تَصْحِيح الدّين متناول لجَمِيع أَنْوَاعه مَعَ أَن لَفْظَة من تحْتَمل التَّعَدُّد فِي الْمُصَحح وَقد كَانَ قبيل كل مائَة أَيْضا من يصحح وَيقوم بِأَمْر الدّين وَإِنَّمَا المُرَاد من انْقَضتْ الْمِائَة وَهُوَ حَيّ عَالم مشار إِلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى حَدِيث وَاحِد رَوَاهُ فِي الاستقراض من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي الْفلس وَفِي الروَاة أَيْضا عمر بن عبد الْعَزِيز بن عمرَان بن مِقْلَاص روى لَهُ النَّسَائِيّ فَقَط وَأما عدي فَهُوَ ابْن عدي بِفَتْح الْعين فيهمَا ابْن عميرَة بِفَتْح الْعين ابْن زُرَارَة بن الأرقم بن عمر بن وهب بن ربيعَة بن الْحَارِث بن عدي أَبُو فَرْوَة الْكِنْدِيّ الْجَزرِي التَّابِعِيّ روى عَن أَبِيه وَعَمه الْعرس بن عميرَة وهما صحابيان وَعنهُ الحكم وَغَيره من التَّابِعين وَغَيرهم قَالَ البُخَارِيّ هُوَ سيد أهل الجزيرة وَيُقَال اخْتلفُوا فِي أَنه صَحَابِيّ أم لَا وَالصَّحِيح أَنه تَابِعِيّ وَسبب الِاخْتِلَاف أَنه روى أَحَادِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلَة فَظَنهُ بَعضهم صحابيا وَكَانَ عدي عَامل عمر بن عبد الْعَزِيز على الجزيرة والموصل وَاسْتِعْمَال عمر لَهُ يدل على أَنه لَا صُحْبَة لَهُ لِأَنَّهُ عَاشَ بعد عمر وَلم يبْق أحد من الصَّحَابَة إِلَى خِلَافَته وَتُوفِّي سنة عشْرين وَمِائَة وروى لَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ شَيْء وَلَا فِي التِّرْمِذِيّ الثَّانِي أَن هَذَا من تعاليق البُخَارِيّ ذكره بِصِيغَة الْجَزْم وَهُوَ حكم مِنْهُ بِصِحَّتِهِ وَأخرجه أَبُو الْحسن عبد الرَّحْمَن بن عمر بن يزِيد رسته فِي كتاب الْإِيمَان تأليفه فَقَالَ حَدثنَا ابْن مهْدي حَدثنَا جرير بن حَازِم عَن عِيسَى بن عَاصِم قَالَ كتب عمر رَضِي الله عَنهُ فَذكره وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن جرير بن حَازِم قَالَ حَدثنِي عِيسَى بن عَاصِم قَالَ حَدثنَا عدي بن عدي قَالَ كتب إِلَيّ عمر بن عبد الْعَزِيز أما بعد فَإِن الْإِيمَان فَرَائض وَشَرَائِع وحدود سنَن إِلَى آخِره وَلما فهم البُخَارِيّ من قَول عمر فَمن استكملها إِلَى آخِره أَي أَنه قَائِل بِأَنَّهُ يقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان ذكره فِي هَذَا الْبَاب عقيب الْآيَات الْمَذْكُورَة وَقَالَ الْكرْمَانِي لقَائِل أَن يَقُول لَا يدل ذَلِك عَلَيْهِ بل على خِلَافه إِذْ قَالَ للْإيمَان كَذَا وَكَذَا فَجعل الْإِيمَان غير الْفَرَائِض وَأَخَوَاتهَا وَقَالَ استكملها أَي الْفَرَائِض وَنَحْوهَا لَا الْإِيمَان فَجعل الْكَمَال لما للْإيمَان لَا للْإيمَان قلت لَو وقف الْكرْمَانِي على رِوَايَة ابْن أبي شيبَة لما قَالَ ذَلِك لِأَن فِي رِوَايَته جعل الْفَرَائِض وَأَخَوَاتهَا عين الْإِيمَان على مَا لَا يخفى وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر هَهُنَا فَإِن الْإِيمَان فَرَائض نَحْو رِوَايَة ابْن أبي شيبَة وَقَالَ بَعضهم وبالأول جَاءَ الْمَوْصُول قلت جَاءَ الْمَوْصُول بِالْأولِ وَبِالثَّانِي جَمِيعًا على مَا ذكرنَا الثَّالِث فِي مَعْنَاهُ فَقَوله فَرَائض أَي أعمالا فَرِيضَة وَشَرَائِع أَي عقائد دينية وحدودا أَي منهيات مَمْنُوعَة وسننا أَي مندوبات قَالَ الْكرْمَانِي وَإِنَّمَا فسرناها بذلك ليتناول الاعتقاديات والأعمال والتروك وَاجِبَة ومندوبة وَلِئَلَّا يتَكَرَّر وَقَالَ ابْن المرابط الْفَرَائِض مَا فرض علينا من صَلَاة وَزَكَاة وَنَحْوهمَا والشرائع كالتوجه إِلَى الْقبْلَة وصفات الصَّلَاة وَعدد شهر رَمَضَان وَعدد جلد الْقَاذِف وَعدد الطَّلَاق إِلَى غير ذَلِك وَالسّنَن مَا أَمر بِهِ الشَّارِع من فَضَائِل الْأَعْمَال فَمن أَتَى بالفرائض وَالسّنَن وَعرف الشَّرَائِع فَهُوَ مُؤمن كَامِل قَوْله فسأبينها أَي فسأوضحها لكم إيضاحا يفهمهُ كل وَاحِد مِنْكُم فَإِن قلت كَيفَ أخر بَيَانهَا وَالتَّأْخِير عَن وَقت الْحَاجة غير جَائِز قلت أَنه علم أَنهم يعلمُونَ مقاصدها وَلكنه استظهر وَبَالغ فِي نصحهمْ وتنبيههم على الْمَقْصُود وعرفهم أَقسَام الْإِيمَان مُجملا وَأَنه سيذكرها مفصلا إِذا تفرغ لَهَا فقد يكون مَشْغُولًا بأهم من ذَلِك {{وَقَالَ إِبْرَهِيمُ وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي}} الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع الأول إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن آزر وَهُوَ تارح بِفَتْح الرَّاء الْمُهْملَة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة فآزر اسْم وتارح لقب لَهُ وَقيل عَكسه قَالَ ابْن هِشَام هُوَ إِبْرَاهِيم بن تارح وَهُوَ آزر بن ناحور بن ساروح بن أرعو بن فالخ بن عيبر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن أَخْنُوخ بن يرد بن مهلاييل بن قابن بن فانوش بن شِيث بن آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا خلاف عِنْدهم فِي عدد هَذِه الْأَسْمَاء وسردها على مَا ذكرنَا وَإِن اخْتلفُوا فِي ضَبطهَا وَإِبْرَاهِيم اسْم عبراني قَالَ الْمَاوَرْدِيّ مَعْنَاهُ أَب رَحِيم وَكَانَ آز رمن أهل حران وَولد إِبْرَاهِيم بكوثا من أَرض الْعرَاق وَكَانَ إِبْرَاهِيم يتجر فِي الْبَز وَهَاجَر من أَرض الْعرَاق إِلَى الشَّام وَبلغ عمره مائَة وخمسا وَسبعين سنة وَقيل مِائَتي سنة وَدفن بِالْأَرْضِ المقدسة وقبره مَعْرُوف بقرية حبرون بِالْحَاء الْمُهْملَة وَهِي الَّتِي تسمى الْيَوْم ببلدة الْخَلِيل الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ لِيَزْدَادَ وَهُوَ الْمَعْنى الَّذِي أَرَادَهُ البُخَارِيّ وروى ابْن جرير الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى سعيد بن جُبَير قَالَ قَوْله {{لِيَطمَئِن قلبِي}} أَي يزْدَاد يقيني وَعَن مُجَاهِد قَالَ لِأَزْدَادَ إِيمَانًا إِلَى إيماني وَقيل بِالْمُشَاهَدَةِ كَأَن نَفسه طالبته بِالرُّؤْيَةِ والشخص قد يعلم الشَّيْء من جِهَة ثمَّ يَطْلُبهُ من أُخْرَى وَقيل لِيَطمَئِن قلبِي أَي إِذا سَأَلتك أجبتني وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فَإِن قلت كَيفَ قَالَ لَهُ أَو لم تؤمن وَقد علم أَنه أثبت النَّاس إِيمَانًا قلت ليجيب بِمَا أجَاب فِيهِ لما فِيهِ من الْفَائِدَة الجليلة للسامعين انْتهى قلت أَن فِيهِ فائدتين إِحْدَاهمَا وَهِي التَّفْرِقَة بَين علم الْيَقِين وَعين الْيَقِين فَإِن فِي عين الْيَقِين طمأنينة بِخِلَاف علم الْيَقِين وَالثَّانيَِة أَن لإدراك الشَّيْء مَرَاتِب مُخْتَلفَة قُوَّة وضعفا وأقصاها عين الْيَقِين فليطلبها الطالبون وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ وبلى إِيجَاب لما بعد النَّفْي وَمَعْنَاهُ بلَى آمَنت وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي ليزِيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضَّرُورَة علم الِاسْتِدْلَال وتظاهر الْأَدِلَّة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة وَالْيَقِين وَلِأَن علم الِاسْتِدْلَال يجوز مَعَه التشكيك بِخِلَاف الْعلم الضَّرُورِيّ فَأَرَادَ بطمأنينة الْقلب الْعلم الَّذِي لَا مجَال فِيهِ للتشكيك فَإِن قلت بِمَ تعلّقت اللَّام فِي لِيَطمَئِن قلت بِمَحْذُوف تَقْدِيره وَلَكِن سَأَلت ذَلِك إِرَادَة طمأنينة الْقلب الثَّالِث مَا قيل كَانَ الْمُنَاسب للسياق أَن يذكر هَذِه الْآيَة عِنْد سَائِر الْآيَات وَأجِيب بِأَن تِلْكَ الْآيَات دلّت على الزِّيَادَة صَرِيحًا وَهَذِه تلْزم الزِّيَادَة مِنْهَا ففصل بَينهمَا إشعارا بالتفاوت (وَقَالَ معَاذ اجْلِسْ بِنَا نؤمن سَاعَة) معَاذ بِضَم الْمِيم ابْن جبل بن عَمْرو بن أَوْس بن عايذ بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف والذال الْمُعْجَمَة ابْن عدي بن كَعْب بن عَمْرو بن أدّى بن سعد بن عَليّ بن أَسد بن ساردة بن تزيد بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق بن جشم بن الْخَزْرَج الْأنْصَارِيّ أسم وَهُوَ ابْن ثَمَانِي عشرَة سنة وَشهد الْعقبَة الثَّانِيَة مَعَ السّبْعين من الْأَنْصَار ثمَّ شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَسَبْعَة وَخَمْسُونَ حَدِيثا اتفقَا على حديثين وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِثَلَاثَة وَانْفَرَدَ مُسلم بِحَدِيث وَاحِد روى عَنهُ عبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن عَمْرو وَأَبُو قَتَادَة وَجَابِر وَأنس وَغَيرهم توفّي فِي طاعون عمواس بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْمِيم مَوضِع بَين الرملة وَبَيت الْمُقَدّس سنة ثَمَانِي عشرَة وَقيل سبع عشرَة وعمره ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة وَهَذَا الْأَثر أخرجه رسته عَن ابْن مهْدي حَدثنَا سُفْيَان عَن جَامع بن شَدَّاد عَن الْأسود بن هِلَال عَنهُ وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الصَّمد الْهَاشِمِي عَن عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء حَدثنَا وَكِيع عَن الْأَعْمَش ومسعر عَن جَامع بن شَدَّاد بِهِ قَوْله نؤمن سَاعَة لَا يُمكن حمله على أصل الْإِيمَان لِأَن معَاذًا كَانَ مُؤمنا وَأي مُؤمن فَالْمُرَاد زِيَادَة الْإِيمَان أَي اجْلِسْ حَتَّى نكثر وُجُوه دلالات الْأَدِلَّة الدَّالَّة على مَا يجب الْإِيمَان بِهِ وَقَالَ النَّوَوِيّ مَعْنَاهُ نتذاكر الْخَيْر وَأَحْكَام الْآخِرَة وَأُمُور الدّين فَإِن ذَلِك إِيمَان وَقَالَ ابْن المرابط نتذاكر مَا يصدق الْيَقِين فِي قُلُوبنَا لِأَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بِمَا جَاءَ من عِنْد الله تَعَالَى فَإِن قلت من هُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ معَاذ اجْلِسْ بِنَا قلت قَالُوا هُوَ الْأسود بن هِلَال وروى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه حَدثنَا وَكِيع قَالَ حَدثنَا الْأَعْمَش عَن جَامع بن شَدَّاد عَن الْأسود بن هِلَال الْمحَاربي قَالَ قَالَ لي معَاذ اجْلِسْ بِنَا نؤمن سَاعَة يَعْنِي نذْكر الله فَإِن قلت روى ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن أبي أُسَامَة عَن الْأَعْمَش عَن جَامع بن شَدَّاد عَن الْأسود بن هِلَال قَالَ كَانَ معَاذ يَقُول لرجل من إخوانه اجْلِسْ بِنَا فلنؤمن سَاعَة فيجلسان يتذاكران الله ويحمدانه انْتهى فَهَذَا يدل على أَن الَّذِي قَالَه معَاذ اجْلِسْ بِنَا نؤمن سَاعَة غير الْأسود بن هِلَال قلت يجوز أَن يكون قَالَ لَهُ مرّة وَقَالَ لغيره مرّة أُخْرَى فَافْهَم (وَقَالَ ابْن مَسْعُود الْيَقِين الْإِيمَان كُله) هُوَ عبد الله بن مَسْعُود بن غافل بالغين الْمُعْجَمَة وَالْفَاء ابْن حبيب بن شمخ بن مَخْزُوم وَيُقَال ابْن شمخ بن فار بن مَخْزُوم بن صاهلة بن كَاهِل بن الْحَارِث بن تَمِيم بن سعد بن هزيل بن مدركة بن الياس بن مُضر بن نذار بن معد بن عدنان أَبُو عبد الرَّحْمَن الْهُذلِيّ وَأمه أم عبد بنت عبدود بن سَوَاء من هُذَيْل أَيْضا لَهَا صُحْبَة أسلم بِمَكَّة قَدِيما وَهَاجَر الهجرتين وَشهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ صَاحب نعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يلْبسهُ إِيَّاهَا فَإِذا جلس أدخلها فِي ذراعه روى لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانمِائَة حَدِيث وَثَمَانِية وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا اتفقَا مِنْهَا على أَرْبَعَة وَسِتِّينَ وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِأحد وَعشْرين وَمُسلم بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْن بضع وَسِتِّينَ سنة وَقيل بِالْكُوفَةِ وَالْأول أصح وَصلى عَلَيْهِ عُثْمَان وَقيل الزبير وَقيل عمار بن يَاسر روى لَهُ الْجَمَاعَة وَأخرج هَذَا الْأَثر رسته بِسَنَد صَحِيح عَن أبي زُهَيْر قَالَ حَدثنَا الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن عَلْقَمَة عَنهُ قَالَ الصَّبْر نصف الْإِيمَان وَالْيَقِين الْإِيمَان كُله ثمَّ قَالَ وَحدثنَا عبد الرَّحْمَن قَالَ حَدثنَا سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان بِمثلِهِ وَأخرجه أَبُو نعيم فِي الْحِلْية وَالْبَيْهَقِيّ فِي الزّهْد حَدِيثه مَرْفُوعا وَلَا يثبت رَفعه وروى أَحْمد فِي كتاب الزّهْد عَن وَكِيع عَن شريك عَن هِلَال عَن عبد الله بن حَكِيم قَالَ سَمِعت ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ زِدْنَا إِيمَانًا ويقينا وفقها قَوْله الْيَقِين هُوَ الْعلم وَزَوَال الشَّك يُقَال مِنْهُ يقنت الْأَمر بِالْكَسْرِ يَقِينا وأيقنت واستيقنت وتيقنت كُله بِمَعْنى وَأَنا على يَقِين مِنْهُ وَذَلِكَ عبارَة عَن التَّصْدِيق وَهُوَ أصل الْإِيمَان فَعبر بِالْأَصْلِ عَن الْجَمِيع كَقَوْلِه الْحَج عَرَفَة يَعْنِي أصل الْحَج ومعظمه عَرَفَة وَفِيه دلَالَة على أَن الْإِيمَان يَتَبَعَّض لِأَن كلا وأجمعا لَا يُؤَكد بهما إِلَّا ذَوا جَزَاء يَصح افتراقها حسا أَو حكما فَعلم أَن للْإيمَان كلا وبعضا فَيقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَاعْلَم أَن الْيَقِين من الكيفيات النفسانية وَهُوَ فِي الإدراكات الْبَاطِنَة من قسم التصديقات الَّتِي متعلقها الْخَارِجِي لَا يحْتَمل النقيض بِوَجْه من الْوُجُوه وَهُوَ علم بِمَعْنى الْيَقِين (وَقَالَ ابْن عمر لَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة التَّقْوَى حَتَّى يدع مَا حاك فِي الصَّدْر) عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا الْقرشِي الْعَدو الْمَكِّيّ وَأمه وَأم أُخْته حَفْصَة زَيْنَب بنت مَظْعُون أُخْت عُثْمَان بن مَظْعُون أسلم بِمَكَّة قَدِيما مَعَ أَبِيه وَهُوَ صَغِير وَهَاجَر مَعَه وَلَا يَصح قَول من قَالَ أَنه أسلم قبل أَبِيه وَهَاجَر قبله واستصغر عَن أحد وَشهد الخَنْدَق وَمَا بعْدهَا وَهُوَ أحد السِّتَّة الَّذين هم أَكثر الصَّحَابَة رِوَايَة وَأحد العبادلة الْأَرْبَعَة وثانيهم ابْن عَبَّاس وثالثهم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ ورابعهم عبد الله بن الزبير وَوَقع فِي مبهمات النَّوَوِيّ وَغَيرهَا أَن الْجَوْهَرِي أثبت ابْن مَسْعُود مِنْهُم وَحذف ابْن عَمْرو وَلَيْسَ كَمَا ذكره كَمَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى وَوَقع فِي شرح الرَّافِعِيّ فِي الْجِنَايَات عد ابْن مَسْعُود مِنْهُم وَحذف ابْن الزبير وَابْن عَمْرو بن الْعَاصِ وَهُوَ غَرِيب مِنْهُ روى لَهُ ألفا حَدِيث وسِتمِائَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا اتفقَا مِنْهُمَا على مائَة وَسبعين حَدِيثا وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِأحد وَثَمَانِينَ وَمُسلم بِأحد وَثَلَاثِينَ وَهُوَ أَكثر الصَّحَابَة رِوَايَة بعد أبي هُرَيْرَة مَاتَ بفخ بِالْفَاءِ وَالْخَاء الْمُعْجَمَة مَوضِع بِقرب مَكَّة وَقيل بِذِي طوى سنة ثَلَاث وَقيل أَربع وَسبعين سنة بعد قتل ابْن الزبير بِثَلَاثَة أشهر وَقيل بِسِتَّة عَن أَربع وَقيل سِتّ وَثَمَانِينَ سنة قَالَ يحيى بن بكير توفّي بِمَكَّة بعد الْحَج وَدفن بالمحصب وَبَعض النَّاس يَقُولُونَ بفخ قلت وَقيل بسرف وَكلهَا مَوَاضِع بِقرب مَكَّة بَعْضهَا أقرب إِلَى مَكَّة من بعض قَالَ الصغاني فخ وَادي الزَّاهِر وَصلى عَلَيْهِ الْحجَّاج وَفِي الصَّحَابَة أَيْضا عبد الله بن عمر حرمي يُقَال أَن لَهُ صُحْبَة يرْوى عَنهُ حَدِيث فِي الْوضُوء وَقد روى مُسلم معنى قَول ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا من حَدِيث النواس بن سمْعَان قَالَ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْبر وَالْإِثْم فَقَالَ الْبر حسن الْخلق وَالْإِثْم مَا حاك فِي نَفسك وكرهت أَن يطلع عَلَيْهِ النَّاس قَوْله التَّقْوَى هِيَ الخشية قَالَ الله تَعَالَى {{يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم واخشوا}} وَمثله فِي أول الْحَج وَالشعرَاء {{إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم نوح أَلا تَتَّقُون}} يَعْنِي أَلا تخشون الله وَكَذَلِكَ قَول هود وَصَالح وَلُوط وَشُعَيْب لقومهم وَفِي العنكبوت وَإِبْرَاهِيم {{إِذْ قَالَ لقوم اعبدوا الله واتقوه}} يَعْنِي اخشوه {{وَاتَّقوا الله حق تُقَاته}} {{وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى}} {{وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزي نفس عَن نفس}} وَحَقِيقَة التَّقْوَى أَن يقي نَفسه تعَاطِي مَا تسْتَحقّ بِهِ الْعقُوبَة من فعل أَو ترك وَتَأْتِي فِي الْقُرْآن على معَان الْإِيمَان نَحْو قَوْله تَعَالَى {{وألزمهم كلمة التَّقْوَى}} أَي التَّوْحِيد وَالتَّوْبَة نَحْو قَوْله تَعَالَى {{وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا}} أَي تَابُوا وَالطَّاعَة نَحْو {{أَن أنذروا أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاتقون}} وَترك الْمعْصِيَة نَحْو قَوْله تَعَالَى {{وَأتوا الْبيُوت من أَبْوَابهَا وَاتَّقوا الله}} أَي وَلَا تعصوه وَالْإِخْلَاص نَحْو قَوْله تَعَالَى {{فَإِنَّهَا من تقوى الْقُلُوب}} أَي من إخلاص الْقُلُوب فَإِن قلت مَا أَصله قلت أَصله من الْوِقَايَة وَهُوَ فرط الصيانة وَمِنْه المتقي اسْم فَاعل من وَقَاه الله فاتقى وَالتَّقوى والتقى وَاحِد وَالْوَاو مبدلة من الْيَاء وَالتَّاء مبدلة من الْوَاو إِذْ أَصله وقيا قلت الْيَاء واوا فَصَارَ وقوى ثمَّ أبدلت من الْوَاو تَاء فَصَارَ تقوى وَإِنَّمَا أبدلت من الْيَاء واوا فِي نَحْو تقوى وَلم تبدل فِي نَحْو ريا لِأَن ريا صفة وَإِنَّمَا يبدلون الْيَاء فِي فعلى إِذا كَانَ اسْما وَالْيَاء مَوضِع اللَّام كشروى من شريت وتقوى لِأَنَّهَا من التقية وَإِن كَانَت صفة تركوها على أَصْلهَا قَوْله حَتَّى يدع أَي يتْرك قَالَ الصرفيون وَأما توا ماضي يدع ويذر وَلَكِن جَاءَ {{مَا وَدعك رَبك}} بِالتَّخْفِيفِ قَوْله حاك بِالتَّخْفِيفِ من حاك يحيك وَيُقَال حك يحك وأحاك يحيك يُقَال مَا يحيك فِيهِ الملام أَي مَا يُؤثر وَقَالَ شمر الحائك الراسخ فِي قَلْبك الَّذِي يهمك وَقَالَ الْجَوْهَرِي حاك السَّيْف وأحاك بِمَعْنى يُقَال ضربه فَمَا حاك فِيهِ السَّيْف إِذا لم يعْمل فِيهِ فالحيك أَخذ القَوْل فِي الْقلب وَفِي بعض نسخ المغاربة صَوَابه مَا حك بتَشْديد الْكَاف وَفِي بعض نسخ العراقية مَا حاك بِالتَّشْدِيدِ من المحاكة وَقَالَ النَّوَوِيّ مَا حاك بِالتَّخْفِيفِ هُوَ مَا يَقع فِي الْقلب وَلَا ينشرح لَهُ صَدره وَخَافَ الْإِثْم فِيهِ وَقَالَ التَّيْمِيّ حاك فِي الصَّدْر أَي ثَبت فَالَّذِي يبلغ حَقِيقَة التَّقْوَى تكون نَفسه متيقنة للْإيمَان سَالِمَة من الشكوك وَقَالَ الْكرْمَانِي حَقِيقَة التَّقْوَى أَي الْإِيمَان لِأَن المُرَاد من التَّقْوَى وقاية النَّفس عَن الشّرك وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن بعض الْمُؤمنِينَ بلغُوا إِلَى كنه الْإِيمَان وَبَعْضهمْ لَا فَتجوز الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَفِي بعض الرِّوَايَات قَالَ لَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِيمَان بدل التَّقْوَى (وَقَالَ مُجَاهِد شرع لكم أوصيناك يَا مُحَمَّد وإياه دينا وَاحِدًا) مُجَاهِد هُوَ ابْن جُبَير بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء وَيُقَال جُبَير وَالْأول أصح المَخْزُومِي مولى عبد الله بن السَّائِب المَخْزُومِي وَقيل غَيره سمع ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأَبا هُرَيْرَة وَجَابِر أَو عبد الله بن عَمْرو وَغَيرهم قَالَ مُجَاهِد عرضت الْقُرْآن على ابْن عَبَّاس ثَلَاثِينَ مرّة وَاتَّفَقُوا على توثيقه وجلالته وَهُوَ إِمَام فِي الْفِقْه وَالتَّفْسِير والْحَدِيث مَاتَ سنة مائَة وَقيل إِحْدَى وَقيل اثْنَتَيْنِ وَقيل أَربع وَمِائَة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة بِمَكَّة وَهُوَ ساجد روى لَهُ الْجَمَاعَة وَأخرج أَثَره هَذَا عبد بن حميد فِي تَفْسِيره بِسَنَد صَحِيح عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر بِإِسْنَادِهِ بِلَفْظَة وصاه قَوْله وإياه يَعْنِي نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام أَي هَذَا الَّذِي تظاهرت عَلَيْهِ أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة من زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه هُوَ شرع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام الَّذين قبل نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا هُوَ شرع نَبينَا لِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ {{شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى}} وَيُقَال جَاءَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام بِتَحْرِيم الْحَرَام وَتَحْلِيل الْحَلَال وَهُوَ أول من جَاءَ من الْأَنْبِيَاء بِتَحْرِيم الْأُمَّهَات وَالْبَنَات وَالْأَخَوَات ونوح أول نَبِي جَاءَ بعد إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام وَقد قيل أَن الَّذِي وَقع فِي أثر مُجَاهِد تَصْحِيف وَالصَّوَاب أوصيناك يَا مُحَمَّد وأنبياءه وَكَيف يَقُول مُجَاهِد بإفراد الضَّمِير لنوح وَحده مَعَ أَن فِي السِّيَاق ذكر جمَاعَة قلت لَيْسَ بتصحيف بل هُوَ صَحِيح ونوح أفرد فِي الْآيَة وَبَقِيَّة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام عطفت عَلَيْهِ وهم داخلون فِيمَا وصّى بِهِ نوحًا وَكلهمْ مشتركون فِي هَذِه الْوَصِيَّة فَذكر وَاحِد مِنْهُم يُغني عَن الْكل على أَن نوحًا أقرب الْمَذْكُورين وَهُوَ أولى بِعُود الضَّمِير إِلَيْهِ فَافْهَم (وَقَالَ ابْن عَبَّاس شرعة ومنهاجا سَبِيلا وَسنة) يَعْنِي عبد الله بن عَبَّاس فسر قَوْله تَعَالَى {{شرعة ومنهاجا}} بالسبيل وَالسّنة وَقَالَ الْجَوْهَرِي النهج الطَّرِيق الْوَاضِح وَكَذَا الْمِنْهَاج والشرعة الشَّرِيعَة وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {{لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا}} والشريعة مَا شَرعه الله لِعِبَادِهِ من الدّين وَقد شرع لَهُم يشرع شرعا أَي سنّ فعلى هَذَا هُوَ من بَاب اللف والنشر الْغَيْر الْمُرَتّب وَفِي بعض النّسخ سنة وسبيلا فَهُوَ مُرَتّب وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة شرعة ومنهاجا قَالَ الدّين وَاحِد والشريعة مُخْتَلفَة وَقَالَ ابْن إِسْحَق قَالَ بَعضهم الشرعة الدّين والمنهاج الطَّرِيق وَقيل هما جَمِيعًا الطَّرِيق وَالطَّرِيق هُنَا الدّين وَلَكِن اللَّفْظ إِذا اخْتلف أَتَى بِهِ بِأَلْفَاظ يُؤَكد بهَا الْقِصَّة وَقَالَ مُحَمَّد بن يزِيد شرعة مَعْنَاهَا ابْتِدَاء الطَّرِيق والمنهاج الطَّرِيق المستمر وآثر ابْن عَبَّاس هَذَا أخرجه الْأَزْهَرِي فِي تهذيبه عَن ابْن مَاهك عَن حَمْزَة عَن عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَق عَن التَّمِيمِي يَعْنِي أربدة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا بِهِ فَإِن قلت فِي الْآيَتَيْنِ تعَارض لِأَن الْآيَة الأولى تَقْتَضِي اتِّحَاد شرعة الْأَنْبِيَاء وَالثَّانيَِة تَقْتَضِي أَن لكل نَبِي شرعة قلت لَا تعَارض لِأَن الِاتِّحَاد فِي أصُول الدّين والتعدد فِي فروعه فَعِنْدَ اخْتِلَاف الْمحل لَا يثبت التَّعَارُض.