عنوان الفتوى : الحكمة من ابتلاء الصغار
قال تعالى:"وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر مـمّن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير. تفسير: قل فلم يعذبكم بذنوبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وفي الآخرة بالنار أياما معدودة بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهم كفر والمعنى أنه يعاملكم معاملة سائر الناس لا مزية لكم عليهم ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما كلها سواء في كونه خلقا وملكا وإليه المصير فيجازيكم كلا بما كسب قال فلم يعذبكم بذنوبكم في الدنيا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنه لا شك في خطورة الذنوب وآثارها السلبية على الأفراد والمجتمعات، فكم أهلك الله بسببها المجتمعات، وكم ينتظر المشركين ومن لم يغفر الله لهم من العصاة في الآخرة من أنواع النكال والعذاب، فقد أخبر الله عن قوم ثمود وعاد وقوم نوح وفرعون وغيرهم أنهم هلكوا بسبب الذنوب.
قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ {الأنعام:6} وقال تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ {الأنفال:54} وقال: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) {غافر:21} وقال تعالى: وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ {العنكبوت:38} وقال تعالى في شأن ثمود وقوم شعيب: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ {الأعراف:78}
فهذه الآيات وغيرها تدل على أن الذنوب من أسباب العذاب، ولكن ليس فيها ما يدل على أن الابتلاء لا يكون إلا بالذنوب، فقد يبتلى بعض الناس لحكم أخرى منها: رفعة درجاتهم وزيادة حسناتهم، ويدل لهذا ما في الحديث: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. رواه الترمذي وصححه الألباني. وفي الحديث: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم.. رواه الترمذي وحسنه الألباني.
فما ناله الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البلاء والحصار في الشعب قبل الهجرة ليس بسبب الذنوب، وولادة الولد أعمى أو معاقا ليس بسبب الذنوب لأنه لم يقع منه ذنب وليس مكلفا، وإنما هو ابتلاء قد يرفعه الله تعالى به ويكرم والديه وذويه إذا صبروا على البلاء، فكم من شخص ولد أعمى وأكرمه الله بكثير من الميزات في الدنيا مع ما أعده له في الآخرة، فهذا قتادة بن دعامة السدوسي الشافعي إمام المفسرين والمحدثين ولد أعمى وأكرمه الله بوافر النعم، فقد ذكر العيني في شرح البخاري أنه أجمع على جلالته وحفظه وتوثيقه وإتقانه وفضله، وذكر الذهبي في التذكرة أن المغيرة بن مقسم وعلي بن زيد بن جدعان وحفص بن عمر وأبو العباس الرازي ولدوا عميانا وأكرمهم الله بالذكاء والحفظ والعلم، وقد ذكر أهل الأدب والتاريخ أن بشار بن برد الشاعر ولد أعمى. قال ابن كثير في البداية: ولد أعمى، وقال الشعر وهو دون عشر سنين، وله التشبيهات التي لم يهتد إليها البصراء، وقد أثنى عليه الأصمعي والجاحظ وأبو تمام وأبو عبيدة.
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية والخطيب في تاريخ بغداد أن الحسن بن علي بن ثابت المقري ولد أعمى، وكان يحضر مجلس ابن الأنباري فيحفظ ما يقول وما يمليه كله. وذكر أنه نظم قصيدة في القراءات السبع، وكانت تعجب بعض العلماء.
وبناء على ما تقدم يُعلم أن ابتلاء الصغار ليس بسبب الذنوب، ويشرع لهم الصبر على البلاء، ولكنه ليس واجبا عليهم. وقد بسطنا الكلام على الموضوع في عدة فتاوى سابقة، فراجع منها الفتاوى التالية أرقامها: 68299، 25874، 27048، 73815، 75670، 76048، 52762، 75084، 70392، 31887.
والله أعلم.