عنوان الفتوى : حكم بموته ثم عاد بعد قسمة التركة وزواج الزوجة
طال غياب رجل عن أهله وانقطعت أخباره منذ مدة طويلة. فقضي بموته حكما وقسمت تركته. لكن هذا الرجل عاد بعد ذلك بفترة. فما العمل؟ سؤال آخر: لو أنه وجد زوجته تزوجت بشخص آخر. فهل ترجع إليه أم تستمر مع زوجها الحالي؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمن غاب وانقطع خبره فإن أمواله لا تقسم إلا بعد تحقق موته ببينة أو مضي مدة لا يتصور حياته بعدها. جاء في الموسوعة الفقهية: المفقود لغة هو المعدوم، وفي الاصطلاح هو الغائب الذي انقطع خبره، ولا يدرى حياته من موته... والحكم في ميراثه أنه حي في حق ماله، فلا يرث منه أحد، وميت في مال غيره فلا يرث من أحد. وذلك لأن الأصل ثبوت حياته ما لم يظهر خلافه، فاعتبر حيا استصحابا لحاله، واستصحاب الحال حجة تدفع الاستحقاق. ولذلك فلا يستحق أحد في ميراثه لاعتباره حيا، ولا يستحق هو في ميراث غيره. ويوقف ماله حتى يصح موته، أو يمضي عليه مدة لا يحيا إلى مثلها مثله. وهذا مذهب مالك والشافعي وأحد رأيين للحنفية. اهـ
وفي تحديد المدة التي لا يحيا إلى مثلها عادة اختلاف بين أهل العلم. فقد جاء في نصب الراية للزيلعي من الحنفية: وإذا تم له مائة وعشرون سنة من يوم ولد حكمنا بموته قال رضي الله عنه: وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة, وفي ظاهر المذهب يقدر بموت الأقران, وفي المروي عن أبي يوسف بمائة سنة, وقدره بعضهم بتسعين, والأقيس أن لا يقدر بشيء, والأرفق أن يقدر بتسعين. وإذا حكم بموته اعتدت امرأته عدة الوفاة من ذلك الوقت ويقسم ماله بين ورثته الموجودين في ذلك الوقت كأنه مات في ذلك الوقت معاينة إذ الحكمي معتبر بالحقيقي.
وقال الشيخ خليل بن إسحاق –رحمه الله تعالى- وهو مالكي: وبقيت أم ولده وماله وزوجة الأسير ومفقود أرض الشرك للتعمير، وهو سبعون واختار الشيخان ثمانين، وحكم بخمس وسبعين. وإن اختلف الشهود في سنه فالأقل، وتجوز شهادتهم على التقدير، وحلف الوارث حينئذ.
وفي نهاية المحتاج للرملي وهو شافعي: ومن أسر أو فقد وانقطع خبره ترك ماله حتى تقوم بينة بموته أو تمضي مدة التعمير من ولادته يغلب على الظن أو ما نزل منزلته أنه لا يعيش فوقها ولا تتقدر بشيء على الصحيح فيجتهد القاضي ويحكم بموته.
وفي كشاف القناع، وهو من كتب الحنابلة: من انقطع خبره ولو كان عبدا لغيبة ظاهرها السلامة، كأسر فإن الأسير معلوم من حاله أنه غير متمكن من المجيء إلى أهله، وتجارة فإن التاجر قد يشتغل بتجارته عن العودة إلى أهله، وسياحة فإن السائح قد يختار المقام ببعض البلاد النائية عن بلده. و الذي يغلب على الظن في هذه الأحوال ونحوها كطلب علم السلامة انتظر به تتمة تسعين سنة منذ ولد؛ لأن الغالب أنه لا يعيش أكثر من هذا. وهذا المذهب نص عليه وصححه في المذهب وغيره وعنه ينتظر به حتى يتيقن موته أو تمضي عليه مدة لا يعيش في مثلها وذلك مردود إلى اجتهاد الحاكم وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن وهو المشهور عن أبي حنيفة ومالك وأبي يوسف، لأن الأصل حياته فإن فقد ابن تسعين اجتهد الحاكم في تقدير مدة انتظاره.
هذا هو الحكم في الوقت الذي تقسم فيه أموال المفقود. وإذا ظهرت حياته بعد قسمة تركته فما وجده قائما من أمواله أخذه بعينه، وما تلف ففيه قولان لأهل العلم، والذي نميل إلى رجحانه هو تضمين من أتلف شيئا من أمواله. جاء في الفروع لابن مفلح: ومتى قدم بعد قسم ماله أخذ ما وجده بعينه، والتالف مضمون في رواية صححها ابن عقيل وغيره، وجزم به الشيخ. ونقل ابن منصور: لا، إنما قسم بحق لهم. اختاره جماعة. انتهى.
وإذا كان الحكم بموته مستندا إلى بينة فإن له تضمين تلك البينة ما تلف من أمواله، قال في كشاف القناع: وله أي للزوج القادم أي تضمين البينة التي شهدت بموته ما تلف من ماله لتسببها في إتلافه.
وأما زوجته، فإذا عاد قبل أن تتزوج فإنها ترد له، وإذا وجدها قد تزوجت وتلذذ بها الزوج الجديد فإنها تفوت عليه. قال الشيخ خليل بن إسحاق –رحمه الله تعالى-: فإن جاء أو تبين أنه حي أو مات فكالوليين. قال الخرشي شارحا: يعني أن المفقود إذا جاء أو تبين حياته أو تبين أنه مات فلا يخلو من أربعة أوجه إما أن تكون إلى الآن في العدة أو بعد العدة وقبل العقد أو بعد العقد عليها وقبل الدخول أو بعد العقد والدخول فحكمها في هذه الوجوه كحكم ذات الوليين يزوجها كل من رجل. وتقدم أنها تفوت بتلذذ الثاني بها غير عالم إن لم تكن في عدة وفاة من الأول، فكذلك هي هنا للمفقود في ثلاثة أوجه وهي أن يجيء أو يتبين أنه حي أو مات وهي في العدة اتفاقا أو بعدها وقبل العقد على... وتفوت على المفقود في الوجه الرابع وهو أن يكون الثاني دخل بها أي أو تلذذ بها بلا علم... اهـ
وقال ابن قدامة في المغني: فإن قدم زوجها الأول قبل أن تتزوج فهي امرأته. وقال بعض أصحاب الشافعي: إذا ضربت لها المدة فانقضت بطل نكاح الأول. والذي ذكرنا أولى؛ لأننا إنما أبحنا لها التزويج لأن الظاهر موته, فإذا بان حيا انخرم ذلك الظاهر وكان النكاح بحاله، كما لو شهدت البينة بموته ثم بان حيا، ولأنه أحد الملكين فأشبه ملك المال. فأما إن قدم بعد أن تزوجت نظرنا، فإن كان قبل دخول الثاني بها، فهي زوجة الأول ترد إليه، ولا شيء. قال أحمد: أما قبل الدخول فهي امرأته، وإنما التخيير بعد الدخول... اهـ.
وأما إن كان الحكم غير مستند إلى دليل شرعي، فإنه ينقض، ويسترجع زوجته ولو تزوجت من غيره، ويأخذ ما أدركه من أمواله، وما فات يتبع به من فوَّته. قال الشيخ خليل بن إسحاق –رحمه الله تعالى-:... كمشهود بموته إن عذرت بينته، وإلا فكالغاصب... قال الشيح عليش شارحا: (ك) شخص (مشهود بموته) في غيبته بيعت تركته من رقيق وغيره وتزوجت زوجته ثم قدم حيا فينفذ بيع ما فات (إن عذرت بينته) الشاهدة بموته بأن رأته صريعا في معركة القتلى, وترد له زوجته ويأخذ ما وجده من متاعه لم يبع, وما بيع ولم يفت له أخذه بالثمن, وما فات عند مبتاعه بتغير بدنه أو عتقه أو كتابته أو تدبيره أو إيلاده مضى بيعه ويرجع بثمنه على من قبضه. (وإلا) أي وإن لم تعذر بينته بأن تعمدت الزور (فـ) المشتري متاعه كالغاصب في تخيير المالك بين أخذ شيئه وإجازة بيعه وأخذ ثمنه.
والله أعلم.