عنوان الفتوى : بيان براءة عائشة رضي الله عنها، والإجماع على غسل الرجلين
أنا طالبة في السنة الثانية قسم اللغة العربية (كلية الآداب- الجامعة المستنصرية) أرسل لكم مشكلتي المحرجة وهي إن لي زميلة مقربة جداً، وقبل ثلاثة أسابيع فاجأتني بستة أسئلة وقفت أمامها مندهشة لا أعرف ما أقول فلم أستطع الجواب حتى على سؤال واحد منها، حاولت جاهدة لكني لم أستطع، استعنت بمن أستطيع الوثوق بهم ولم أوفق في ذلك، قرأت القرآن مراراً دون فائدة وكان هذا تحديا عظيما بالنسبة لي، فبسبب الوضع الأمني عندنا قد منعني من الذهاب لمن يستطيع مساعدتي في مدينتي ولأني لا أريد أن أكون ضعيفة أمامها أطلب مساعدتكم لي وأود أن أطلعكم على حالي فإن هذه المسألة جعلتني أفكر كثيراً حتى بدأت أفقد ثقتي بنفسي وبمذهبي و
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنا نسأل الله لك الثبات على الحق والتمسك به والحرص على العمل بما ينفعك، ومهما يكن عند صديقتك من عدم قبو ل غير القرآن فإن عليك أنت أولاً أن تتبيني الحق في المسائل المذكورة وغيرها، وأن تحرصي على أن تتخيري من الصديقات من تقوي إيمانك، وأن توقني أن التطبيق النبوي للأحكام والبيان النبوي للقرآن أصل لا يسوغ لمسلم عدم الانقياد له، وننصحك بسؤال الله الهداية للحق في المختلف فيه، وأكثري قيام الليل، والدعاء في استفتاح القيام بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح به دائما، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: أنه كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. أخرجه مسلم.
واسألي الله بذل وإلحاح أن يرزقك الاستقامة والثبات على الصراط المستقيم، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. رواه الترمذي وحسنه.
ويتعين عليك البعد عن الجدل بغير تحقيق ومعرفة تامة لموضوع النزاع، فإن الجدل بغير علم من علامات الضلال، وربما أوقع في التقول على الله، وفي الحديث الذي رواه أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: ما ضربوه لك إلا جدلا ( الزخرف ). ورواه الترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقد ثبت في الكتاب والسنة النهي عن القول على الله بغير علم، والجدل بغير علم، وأن يقال على الله غير الحق، كما في قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {الأعراف:33}، وقوله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ {الإسراء: 36}، وقوله: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ {الأعراف: 169}، وقوله: لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ {النساء: 171}، وقوله تعالى: هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ {آل عمران: 66}.
ولا يحملنك عدم العثور على جواب لما استشكل عليك أن تتركي المواصلة في الدراسة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان. رواه مسلم.
ثم ان الغلط الأكبر عند زميلتك -وهو الغلط الذي ضل بسببه أكثر المبتدعة- هو الإعراض عن النظر فيما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وفي هذا مخالفة لأمر القرآن بطاعة واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ضل من تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا، وقد فرض الله طاعة رسوله في غير آية من كتابه، فقال سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا{الحشر:7}، وقال تعالى: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ {النساء: 80}، وقال سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ {الأحزاب:36}، وقال سبحانه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ {النحل:44}، وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {النور:63}، وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {الشورى:52}، وقال الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{النجم: 3-4}، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى. وروى أحمد وأبو داود وصححه الألباني عن المقداد بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. وفي لفظ الترمذي وابن ماجه: ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله. وصححه الألباني.
وفي هذا التحذير أعظم رد لما ذهبت إليه المبتدعة من دعوى الاكتفاء بالقرآن وترك الاستفادة من بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، فلا بد للمسلم من الإيمان والعمل بما أوجبه الله، أو أوجبه رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن زعم الاكتفاء بالقرآن الكريم والاستغناء به عن السنة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وكان في زعمه للإسلام واكتفائه بالقرآن كاذبا، وبيان ذلك أن السنة شارحة للقرآن مبينة له، وقد تأتي منشئة للأحكام، لأنها وحي من الله تعالى إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن زعم الاكتفاء بالقرآن لم يمكنه أداء الصلاة ولا إخراج الزكاة ولا الحج ولا كثير من العبادات التي ورد تفصيلها في السنة، فأين يجد المسلم في القرآن أن صلاة الصبح ركعتان؟ وأن الظهر والعصر والعشاء أربع، والمغرب ثلاث؟ وأن الركوع قبل السجود، وهل يجد في القرآن كيفية أداء هذه الصلوات، وبيان مواقيتها؟ وهل يجد في القرآن أنصبة الذهب والفضة وبهيمة الأنعام والخارج من الأرض؟ وهل يجد بيان القدر الواجب إخراجه في ذلك؟ وهل يجد المسلم في القرآن كفارة الجماع في نهار رمضان، أو حكم صدقة الفطر والقدر الواجب فيها؟ وهل يجد المسلم تفاصيل أحكام الحج من الطواف سبعا وصفته وصفة السعي، ورمي الجمار والمبيت بمنى؟ إلى غير ذلك من أحكام الحج.
وبهذا يعلم قطعا أنه لا يمكن لأحد أن يكتفي بالقرآن ثم يظل يزعم أنه من المسلمين.
وكذلك فالسنة تستقل بإيجاب بعض العبادات كزكاة الفطر، أو الوضوء من النوم، أو إيجاب الغسل من التقاء الختانين ولو بلا إنزال، وكوجوب غسل نجاسة الكلب سبعا عند من أوجبه، إلى غير ذلك مما أوجبته السنة استقلالا، وإن السنة تستقل بتحريم بعض الأمور أيضا، ومن ذلك تحريم لبس الرجل للذهب والحرير، وتحريم نكاح المتعة، وتحريم أكل الحمر الأهلية، وتحريم أكل كل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير، وتحريم بيع المسلم على بيع أخيه وخطبته على خطبة أخيه، وتحريم التفاضل في الأصناف الستة، والأمثلة على ذلك كثيرة لمن تتبع أبواب الفقه، فقد بين رسول الله ما ذكرناه مما أجمل في كتاب الله عز وجل أحسن وأكمل بيان؛ كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها، وبيانه لأنصبة الزكاة ووقتها، وكذلك صفة الحج، ودعانا لاتباعه بقوله: خذوا عني مناسككم. أخرجه مسلم، وقوله: صلوا كما رأيتموني أصلي. رواه البخاري. وقال جابر بن عبد الله في حديثه الطويل عند مسلم في صفة الحج: ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، فما عمل به عملنا. ففيه غاية البيان لأهمية السنة، وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: أنت رجل أحمق: أتجد الظهر في كتاب الله أربعا لا يجهر فيه بالقراءة؟ ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحو ذلك، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسرا؟ إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنة تفسر هذا. وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك. وروى سعيد بن منصور عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. وقال يحيى بن كثير: السنة قاضية (يعني مفسرة) على القرآن، وليس القرآن بقاض على السنة. قال أحمد: السنة تفسر القرآن وتبينه...
ثم إنا نجيب عن أسئلة زميلتك فنقول في جواب قولها: لماذا هذا الاختلاف بين الوضوء والتيمم : إن الله هو رب العباد، وهو صاحب الحق المطلق في التشريع، ولا يعترض على حكمه بقول القائل لماذا هذا الاختلاف بين الوضوء والتيمم؟ فقد فرق الشارع بين الغسل والوضوء فجعل الوضوء أخف من الغسل، وفرق بين الوضوء والتيمم فجعل الوضوء بالماء والتيمم بالتراب، وفرق بين الصلاة والصوم، فالأصل فيما ثبت عن الله ورسوله أنه يجب على المسلم الإذعان له والانقياد إليه، وأن يقول سمعنا وأطعنا، لقوله تعالى في محكم كتابه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ {الأحزاب: 36}، وقال: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا {النساء: 65}، وقال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {النور: 51}، فآية الوضوء قد طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقل عنه المسح على الرجلين، وإنما ثبت عنه غسلهما، وقد ذهب كثير من فقهاء الأمصار من بينهم أئمة المذاهب الأربعة إلى فرضية غسل الرجلين في الوضوء مستندين في ذلك على صريح الآية على قراءة(وأرجلكم) بفتح اللام لأن أرجلكم هنا عطف على وأيديكم إلى المرافق المنصوبة مفعولا به لفعل فاغسلوا، ولعل هذا واضح جدا لمن يدعي معرفة الإعراب والمعاني، واعتمدوا كذلك على سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصريحة الصحيحة قولا وعملا، فقد احتجوا بالأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه غسل رجليه، منها حديث علي وحديث ابن عباس وأبي هريرة وعبدالله بن زيد والربيع بنت معوذ وعمرو بن عبسة وغيرها من الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما... فقد روى أبوداود في السنن عن عبد خير قال: أتانا علي رضي الله عنه وقد صلى فدعا بطهور، فقلنا: ما يصنع بالطهور؟ وقد صلى ما يريد إلا أن يعلمنا، فأتي بإناء فيه ماء وطست فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثا، ثم تمضمض واستنثر ثلاثا فمضمض ونثر من الكف الذي يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده الشمال ثلاثا، ثم جعل يده في الإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا، ورجله الشمال ثلاثا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جماعة توضؤوا وبقيت أعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال: ويل للأعقاب من النار. رواه البخاري ومسلم. وراجعي للتفصيل في هذا الموضوع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1223، 9837، 66589.
وأما قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(النور:11)، فما حصل سماه الله إفكا، وندب المسلمين لأن يقولوا فيه: هذا إفك مبين، ويقولوا: سبحانك هذا بهتان عظيم، والآية نزلت في براءة عائشة رضي الله عنها، وقد قال صلى الله عليه وسلم حينما نزلت براءتها: أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك. والآيات العشر الواردة في الموضوع تبين بوضوح براءة عائشة وهذا جلي لمن تأمل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ* لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ* لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ* وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ* إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ* وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ* يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (النــور).
فهذه الآيات ليس فيها ما يفيد اشتراك سيدتنا عائشة في الموضوع ولا يدعي ذلك إلا من يفسر القرآن بفهمه السقيم. وأما المفسرون العارفون بمعناها فقد فسروا الآية بحملها على القاذفين الآفكين، قال البغوي في التفسير : لكل امرئ منهم، يعني من العصبة الكاذبة ما اكتسب من الإثم، أي: جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه، والذي تولى كبره، أي: تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه...
وإنما نوهت الآيات ببراءة عائشة وكررت بيان كذب المفترين عليها، فقد حكم الله فيها بكذبهم في قوله: لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُون، وتوعد من تولى كبره فقال: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، ووصم الخبر بأنه إفك، وبين ما كان يجب على المسلمين فعله من الظن الحسن به، والجزم بأن الخبر إفك مبين وبهتان عظيم، فقال تعالى: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ. وقال تعالى: وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. وبين خطر تناقل الخبر وأنه لولا رحمة الله لنزل بسببه العذاب العظيم، فقال تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ* إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ.
وأما وجه كون هذا الإفك خيراً لهم فهو أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أم المؤمنين وصيرورة قصتها هذه شرعاً عاماً، كذا قال الشوكاني: وقال البيضاوي: بل هو خير لكم لاكتسابكم به الثواب العظيم، وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم، وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيراً. انتهى.
وأما السؤال عن موضوع الحديبية فالجواب عليه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج سنة ست؛ وإنما جاء للعمرة ثم حصر، وقد اعتمر فيما بعد عمرة القضاء عام سبع، وعمرة الجعرانة عام ثمان. ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة؛ إلا التي كانت مع حجته: عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.
وأما العام التاسع فقد انشغل رسول الله صلى الله عليه وسلم باستقبال الوفود، وأرسل الصحابة للحج وكان فيهم أبو بكر وعلي وأبو هريرة رضي الله عنهم، وكان أبو بكر أميرهم، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وأما أمر المهدي فهو من أعجب تناقضات زميلتك! فهي تريد أن تجاب بالقرآن ثم تذكر أمراً لم يرد في القرآن الموجود في مصاحفنا أي إشارة له، وإنما جاءت الأحاديث مبينة أمر المهدي المنتظر الذي يوافق اسمه واسم أبيه اسم رسول الله واسم أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فراجعيها في الفتوى رقم: 6573.
ولا يهولنك قول الزميلة: هات الدليل من القرآن والجواب على رد الدعاوى، فالقرآن ليس كتاب تاريخ حتى يؤخذ منه سنوات الحج، أو الكلام على الجرح والتعديل.
وواصلي دراستك للعلم النافع، وصاحبي من يعينك على الخير، وحاولي الاطلاع على الحق في مناهج الفرق في كتب أهل العلم، كمنهاج السنة للشيخ تقي الدين، والموسوعة الميسرة، ومختصر التحفة لمحب الدين الخطيب وربما تجدينها على الإنترنت.
والله أعلم.