عنوان الفتوى : حكم مسح قبر النبي والتبرك بمنبره صلى الله عليه وسلم
أفتى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في كتابه العلل ومعرفة الرجال الجزء 2 الرقم 3243 بهذه الفتوى: [ 3243 ] سألته عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز فقال: لا بأس بذلك. انتهى. فهل يجوز عنده التبرك بالقبور؟ وبارك الله بكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنه روي عن أحمد ما يفيد كراهة مسح القبر، وجواز التبرك بالمنبر، كما نقلت كراهة استلام القبر عن كثير من العلماء، ويؤيد هذا أنه لم ينقل عن الصحب استلام القبر والتبرك به والتقرب بذلك إلى الله.
فقد قال شيخ الإسلام في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: كره الأئمة استلام القبر وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه، وكانت حجرة عائشة التي دفنوه فيها ملاصقة لمسجده، وكان ما بين منبره وبيته هو الروضة، ومضى الأمر على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، وزيد في المسجد زيادات وغيروا الحجرة عن حالها هي وغيرها من الحجر المطيفة بالمسجد من شرقيه وقبليه.....
قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل: قبر النبي صلى الله عليه وسلم يمس ويتمسح به؟ فقال: ما أعرف هذا. قلت له: فالمنبر؟ فقال: أما المنبر فنعم قد جاء فيه. قال أبوعبد الله: شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه مسح على المنبر. قال: ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة. قلت: ويروون عن يحيى بن سعيد أنه حين أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا، فرأيته استحسنه، ثم قال: لعله عند الضرورة والشيء. قيل لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر، وقلت له: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحية فيسلمون. فقال أبو عبد الله: نعم وهكذا كان ابن عمر يفعل. ثم قال أبو عبد الله: بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
فقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة التي هي موضع مقعد النبي صلى الله عليه وسلم ويده، ولم يرخصوا في التمسح بقبره. وقد حكى بعض أصحابنا رواية في مسح قبره لأن أحمد شيع بعض الموتى فوضع يده على قبره يدعو له، والفرق بين الموضعين ظاهر.
وكره مالك التمسح بالمنبر، كما كرهوا التمسح بالقبر.
فأما اليوم فقد احترق المنبر وما بقيت الرمانة وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة فقد زال ما رخص فيه لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسح بمقعده.اهـ
هذا، وليعلم أنه لا يمكن قياس عامة القبور على قبر النبي صلى الله عليه وسلم لوجود الفارق الكبير بينه وبين الناس، كما أنه لا يقاس شعر غيره على شعر النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبتت مشروعية التبرك به، فقد قال الشاطبي في الاعتصام بعد ذكر ما يفيد مشروعية التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم: إن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه؛ إذ لم يترك صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو كان خليفته ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنهما وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها؛ بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء، وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يعتقدوا في الاختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير لأنه عليه السلام كان نورا كله في ظاهره وباطنه، فمن التمس منه نورا وجده على أي جهة التمسه؛ بخلاف غيره من الأمة - وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله - لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبه ولا تقاربه، فصار هذا النوع مختصا به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بضع الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القسم على الزوجات وشبه ذلك، فعلى هذا المأخذ لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة.
الثاني: أن لا يعتقدوا الاختصاص؛ ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع خوفا من أن يجعل ذلك سنة - كما تقدم ذكره في اتباع الآثار - والنهي عن ذلك، أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد؛ بل تتجاوز فيه الحدود وتبالغ بجهلها في التماس البركة حتى يداخلها المتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد، فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس فيه، وهذا التبرك هو أصل العبادة، ولأجله قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية - حسبما ذكره أهل السير – فخاف عمر رضي الله عنه أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تعبد من دون الله، فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم.
ولقد حكى الفرغاني -مذيل تاريخ الطبري- عن الحلاج أن أصحابه بالغوا في التبرك به حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته حتى ادعوا فيه الإلهية، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. اهـ
والله أعلم.