عنوان الفتوى : نوى عدم فعل واجب ثم منعه منه مانع شرعي
هل تعد نية عدم فعل أمر واجب إثما في حال تعذر فعل ذلك الأمر لسبب معين هو قدر من الله ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالذي يظهر أنك تسألين عمن نوى عدم فعل واجب ثم منعه منه مانع شرعي، ولولا هذا المانع لتمكن من فعله لو أراد هل يأثم أم لا ؟
والجواب أن هذا يختلف باختلاف العبادة.. فلو نوى شخص ترك صلاة الظهر قبل دخول وقتها -مثلاً- ثم مات قبل دخول الوقت، أو كانت الناوية امرأة فحاضت فلا إثم عليهم بمجرد نية ترك الواجب قبل دخول وقته .
أما إذا نوى ترك الواجب الموسع بعد دخول وقته كمن نوى ترك الصلاة بعد دخول وقتها ثم مات أو حاضت المرأة فهما آثمان لأن من شروط جواز تأخير فعل الواجب الموسع العزم على فعله، فمن لم يعزم على فعله ومات قبل فعله فهو آثم، ومن باب أولى إذا نوى تركه فهو آثم بلا شك ولو كان المانع له من فعله بعد ذلك عذر شرعي .
كما يشترط أيضاً لجواز تأخير الواجب الموسع غلبة سلامة العاقبة حتى يؤدى المؤخر، فلو أخر الحج أو الصلاة إلى وقت يغلب على ظنه عدم تمكنه من فعلهما أثم.
وللإمام النووي -رحمه الله- في المجموع كلام طويل يتعلق بتقرير هذه المسألة ننقله كله لما فيه من الفائدة قال : إذا دخل وقت الصلاة وأراد تأخيرها إلى أثناء الوقت أو آخره هل يلزمه العزم على فعلها ؟ وجهان مشهوران لأصحابنا في كتب الأصول ، وممن ذكرهما المصنف في اللمع ، وممن ذكرهما في كتب المذهب صاحب الحاوي (أحدهما ) : لا يلزمه العزم ، (والثاني ) : يلزمه.
فإن أخرها بلا عزم وصلاها في الوقت أثم وكانت أداء ، والوجهان جاريان في كل واجب موسع ، وجزم الغزالي في المستصفى بوجوب العزم وهو الأصح ، قال : فإن قيل : قوله : صل في هذا الوقت ليس فيه تعرض للعزم فإيجابه زيادة على مقتضى الصيغة ، ولأنه لو غفل عن العزم ومات في وسط الوقت لم يكن عاصيا ، قلنا : قولكم : لو غفل عن العزم لا يكون عاصيا صحيح ، وسببه أن الغافل لا يكلف ، أما إذا لم يغفل عن الأمر فلا يترك العزم إلا بضده ، وهو العزم على الترك مطلقاً ، وهذا حرام وما لا خلاص من الحرام إلا به فهو واجب ، فهذا دليل على وجوبه وإن لم يدل بمجرد الصيغة من حيث وضع اللسان ، لكن دليل العقل أقوى من دلالة الصيغة .
وقا ل أيضاً (إذا أخر الصلاة وقلنا : لا يجب العزم أو أوجبناه وعزم ثم مات في وسط الوقت فجأة فهل يموت عاصيا ؟ فيه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين الصيحح لا يموت عاصياً ، لأنه مأذون له في التأخير . قال الغزالي في المستصفى : ومن قال : يموت عاصياً فقد خالف إجماع السلف ، فإنا نعلم أنهم كانوا لا يؤثمون من مات فجأة بعد مضي قدر أربع ركعات من الزوال ولا ينسبونه إلى تقصير لا سيما إذا اشتغل بالوضوء ونهض إلى المسجد فمات في الطريق ، بل محال أن يعصي وقد جاز له التأخير ، ومتى فعل ما يجوز له كيف يمكن تعصيته ؟ . فإن قيل : جاز التأخير بشرط سلامة العاقبة ، قلنا : محال ، لأن العاقبة مستورة عنه ، فإذا سألنا وقال : العاقبة مستورة عني وعلي صوم يوم ، وأريد تأخيره إلى الغد ، فهل لي تأخيره مع جهل العاقبة ؟ أم أعصي بالتأخير ؟ فإن قلنا : لا تعصي قال : فلم آثم بالموت الذي ليس إلي ؟ وإن قلنا : يعصي ، خالفنا الإجماع في الواجب الموسع . وإن قلنا : إن كان في علم الله أنك تموت قبل الغد عصيت ، وإن كان في علمه أنك تحيا فلك التأخير، قال : فما يدريني ما في علم الله تعالى فما قولكم في حق الجاهل فلا بد من الجزم بتحليل أو تحريم فإن قيل إذا جوزتم تأخيره أبدا ولا يعصي إذا مات فلا معنى لوجوبه ، قلنا : تحقق الوجوب بأنه لم يجز التأخير إلا بشرط العزم ، ولا يجوز العزم على التأخير إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء إليها ، كتأخير الصلاة من ساعة إلى ساعة ، وتأخير الحج من سنة إلى سنة، فلو عزم المريض المشرف على الهلاك على التأخير شهراً ، أو الشيخ الضعيف على التأخير سنين وغالب ظنه أنه لا يبقى إلى تلك المدة عصى بهذا التأخير ، وإن لم يمت ووفق للعمل ، لأنه مؤاخذ بظنه كالمعزر إذا ضرب ضرباً يهلك ، أو قطع سلعته ، وغالب ظنه الهلاك بها يأثم وإن سلم ، ولهذا قال أبو حنيفة : لا يجوز تأخير الحج من سنة إلى سنة ، لأن البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن . ورآه الشافعي غالبا على الظن في الشاب الصحيح دون الشيخ المريض ، ثم المعزر إذا فعل ما يغلب على الظن السلامة فهلك منه ضمن ، لأنه أخطأ في ظنه ، والمخطئ ضامن غير آثم ، هذا آخر كلام الغزالي رحمه الله ، ولنا فيمن أخر الحج حتى مات ثلاثة أوجه . أصحها : يموت عاصياً الشيخ والشاب الصحيح( والثاني ) لا يموت عاصياً (والثالث ) يعصي الشيخ دون الشاب ، وهو الذي اختاره الغزالي هنا كما ذكرناه عنه ، ولكن الأصح عند الأصحاب العصيان مطلقاً ) اهـ
والله أعلم .