عنوان الفتوى : القياس في العبادات.. رؤية فقهية
هل القياس في العبادات جائز؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن المسألة مختلف فيها، والصواب عدم جواز القياس في العبادات التوقيفية التي لم تعلم علتها وجوازه فيما علم علته، وذلك أن من الشرع ما ليس معللاً، وهو من العبادات المحضة التي علينا أن نسلم بها دون السؤال عن العلة، قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء:23}.
وهذا النوع لا قياس فيه لأن القياس من أركانه العلة، فما لم تعرف علته لا يقاس عليه، ولا يتعدى حكمه موضعه؛ كما هو مبسوط في الموسوعة الفقهية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في القواعد النورانية: كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. انتهى.
وفي الموسوعة الفقهية عند الكلام على التعليل ما نصه: الأصل في أحكام العبادات عدم التعليل، لأنها قائمة على حكمة عامة، وهي التعبد دون إدراك معنى مناسب لترتيب الحكم عليه، وأما أحكام المعاملات والعادات والجنايات ونحوها، فالأصل فيها: أن تكون معللة، لأن مدارها على مراعاة مصالح العباد، فرتبت الأحكام فيها على معان مناسبة لحقيق تلك المصالح، والأحكام التعبدية لا يقاس عليها لعدم إمكانية تعدية حكمها إلى غيرها.
وفي كتاب البيان المأمول في علم الأصول لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق يقول المؤلف: الأمور التي لا يجوز القياس فيها قولاً واحداً هي الأمور التعبدية التي لا دخل للعقل في معرفة عللها؛ إلا أن تكون لاختبار طاعة العباد لربهم سبحانه وتعالى، ولذلك كان شؤون القربات جميعاً، وهي ما اصطلح عليه باسم العبادات من الأمور التي لا يجوز القياس عليها كالصلاة، والصيام، ومقادير الزكوات، والحج، والشعائر المخصصة كتعظيم أيام بعينها وأماكن بذاتها، وتخصيصها بشيء من العبادات أو الأذكار، ولاشك أن ذك كله من أمور العبادات المحضة التي لا يجوز أن يقاس عليها قط، والقياس فيها مردود لأنه إحداث في الدين ما ليس منه، قال صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. رواه البخاري 2697 ومسلم 1718 من حديث عائشة، وقال سبحانه وتعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ.
وقد نزل هذا في شأن المشركين الذين بحروا البحائر، وسيبوا السوائب، وجعلوا الحامي والوصيلة، وغير ذلك مما شرعوه هديا للكعبة، وقربى إلى الله بزعمهم مما لم يأذن به الله، ولم يشرعه لهم، ويدخل فيها كل ما ابتدعه جهال المسلمين من عمل الموالد، والمزارات، والأذكار المبتدعة، والمواسم المبتدعة، والمشاعر الخاصة كالخلوة والصيام عن أنواع من الطعام والشراب مخصوصة في أيام مخصوصة، والشاهد أن كل ما يدخل في هذا الباب فإنه باطل محض وإن قيس على أشباهه مما هو موجود بالشريعة شكلاً، ولا شك أنه يخالفه موضوعاً. ثم إنه لا يجوز بتاتاً قياس ما نشرعه بعقولنا في هذا الصدد على ما شرعه الله سبحانه وتعالى، لأن هذا يعد عدواناً على حق الله سبحانه وتعالى، وكأنه لم يبين لنا ما يكفي لنتقرب به إليه، ونحظى بالقرب والمودة منه، والوصول إلى مرضاته وموالاته... ولاشك أن كل هذا يدخل أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: فمن رغب عن سنتي فليس مني. رواه البخاري 5063 ومسلم 1401. انتهى.
وأما ما عرفت علته فيجوز القياس فيه، لأن ما أمكن تعليله يجوز القياس عليه، ولهذا نصوا على جواز التعبد بالقياس عقلاً، كما في شرح الكوكب المنير، ولكن ما عرفت علته قليل إذ الأصل في العبادات عدم التعليل كما قدمنا...
فقد ذكر الفقهاء أن التعليل يكثر في باب العادات والمعاملات، ويقل في باب العبادات، يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: إن الشارع غلَّب في باب العبادات جهة التعبد، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني، والعكس في البابين قليل.
وهذا هو رأي جمهور الفقهاء أيضاً، وهو أن الأصل في العبادات عدم التعليل، وخالفهم في ذلك الأحناف الذين يرون أن الأصل التعليل حتى يتعذر.
وبناء على ذلك قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - عن نصوص الزكاة التي تبين الواجب إنها معللة بالمالية الصالحة لإقامة حق الفقير، ولذلك أباح إخراج قيمة الزكاة بدلا عن عينها.
وهناك شواهد تثبت أن أهل العلم أجروا القياس فيما عقلت علته أو ظنت من العبادات والتقديرات والحدود وما إليها، فالقياس وإن كان فعلاً يدور على الحوادث التي لا نص فيها، إلا أن مرجعه فهم النص، وبالتالي فقد ترد في العبادات وغيرها ما يمكن أن يناط به في تحديد الحكم على الحوادث الجديدة، وذلك عندما تكون هذه العبادات مفهومة المعنى لينشأ منها القياس، وعلى حد الشاطبي أن كثيراً من العبادات هي كالعوائد: لها معنى مفهوم وهو ضبط وجوه المصالح.
فمن هذه الناحية أجروا القياس في العبادات وما إليها، ومن ذلك ما قدرت به عقوبة شارب الخمر، حيث جاء في أحد الآراء أنه لم يرد هناك حد لتلك العقوبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما جاء عمر أراد تحديدها فاستشار الصحابة، فأشار عليه الإمام علي -رضي الله عنه- بثمانين جلدة مستدلاً بدليل هو أنه: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. وقد نقل العلماء هذا الحد وقبلوه، وعلى رأسهم مالك في الموطأ.
والله أعلم.