عنوان الفتوى : خطأ الطبيب وما يترتب عليه.
ما حدود الخطأ المهني في الطب؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الخطأ في مهنة الطب أمر محتمل ووارد، فالأطباء ومساعدوهم بشر يعتريهم ما يعتري غيرهم من خطأ أو نسيان.
فإذا قام طبيب بمعالجة مريض وترتب على ذلك تلف عضو أو عاهة أو نحو ذلك فلا يخلو هذا الطبيب من أن يكون دعياً على مهنة الطب جاهلاً بأصولها، ولم يعرف عنه ممارسة الطب قبل ذلك من قبل أهل الاختصاص، أوأن يكون طبيباً حاذقاً مشهوداً له بالكفاءة في مهنته.
فالأول وهو من أوهم الناس أنه طبيب -وليس هو كذلك- ويدخل فيه من عالج حالة في غير اختصاصه، فهذا يضمن ما يترتب على علاجه من تلف عضو أو عاهة أو أي ضرر يلحقه بالمريض، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن"، رواه أبو داود، وفي رواية: "ولم يكن بالطب معروفاً فأصاب نفساً فما دونها فهو ضامن"
فقوله: "تطبب"، أي: تكلف الطب ولم يكن طبيباً، أو تكلف اختصاصاً ليس له دراية به، أو له به دراية لا تؤهله إلى القيام بمعالجة مثل هذه الحالة، فهؤلاء يضمنون خطأهم وعمدهم.
قال ابن القيم في زاد المعاد عن الطبيب الجاهل : ( فإذا تعاطى الطب وعمله ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس ، وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان لذلك ، وهذا إجماع من أهل العلم).
وأما الطبيب الحاذق المشهود له بالكفاءة فإنه ينقسم إلى عدة أقسام من حيث الضمان وعدمه: الأول الطبيب الحاذق الذي أعطى الصنعة حقها ولم تخطئ يده وقام بالمعالجة على الوجه الأكمل المطلوب ولم يقصر في حق المريض، ولكن تولد من فعله ذلك المأذون له فيه من جهة الشارع ومن جهة من يطببه تلف عضو أو نفس أو ذهاب صفة فهذا لا ضمان عليه باتفاق أهل العلم، ومثال ذلك طبيب قام بجراحة في عين مريض وقام بإعطاء الجراحة حقها، ولم تجن يده فيها بالخطأ ووصف له الدواء المناسب لحالته، ثم بعد ذلك تلفت أو ضعف بصرها فهذا لا ضمان عليه.
الثاني: الطبيب الماهر الذي أعطى الصنعة حقها ولكن أخطأت يده إلى عضو صحيح فأتلفته فهذا يضمن لأنها جناية خطأ.
الثالث: الطبيب الماهر الحاذق الذي اجتهد فوصف للمريض دواء فأخطأ في اجتهاده -وكانت الحالة مما يختص بعلاجها- فتلف بذلك الدواء عضو أو مات بسببه فهو ضامن لذلك أيضاً، وفي الحالات الثلاث لا يأثم الطبيب وإن كان يضمن في بعض منها.
الرابع: الطبيب الحاذق الماهر الذي أعطى الصنعة حقها ولكنه قام بالمعالجة أو الجراحة بغير إذن المريض أو إذن وليه، فهو ضامن لما يحدث لأنه فعل أمراً غير مأذون له فيه، وهذا وإن كان محسناً في فعله لكنه أساء في تعديه على عضو بغير إذن صاحبه مع عدم قطعه بتمام الشفاء، لأن أمور الطب لا يستطيع الطبيب مهما بلغ من إتقان أن يجزم بتمام النجاح فيها، فوجب عليه إذن صاحبه أو وليه إن لم يكن أهلاً للإذن كالصبي أو المجنون. والطبيب الذي يضمن ما يحدث لمريضه مرجع ذلك -غالباً- إلى خروجه عن أصول المهنة نظرياً أو تطبيقياً أو هما معاً.
فالأول: وهو خروجه عن الأصول العلمية من الناحية النظرية مثل: من يقوم بوصف دواء أو بعمل جراحة جرى العمل بها حقبة من الزمن ثم ألغيت بسبب وجود البديل عنها، فهذه الجراحة أو الوصفة إذا قام الطبيب بها مع علمه بإلغائها وإمكان قيامه بفعل البديل عنها فإنه يعتبر خارجاً عن الأصول العلمية من الناحية النظرية إذا طبق معلومات تلك الجراحة على الوجه المطلوب فهو ضامن لمخالفته الأصول العلمية، وإن كان غير مخالف من الناحية العملية.
الثاني: خروجه عن الأصول العلمية من الناحية التطبيقية كقيامه بعملية معتبرة من الناحية النظرية ولكنه خرج عن طريقة تطبيقها الصحيح عند أهل الاختصاص، كشقه في غير موضع الشق المعتبر للعملية، أو شقه قدراً زائداً عن القدر المطلوب، فهو ضامن لمخالفته في الناحية العملية دون الناحية العلمية.
الثالث: خروجه عن الأصول العلمية من ناحية النظرية والتطبيق، وأكثر ما يكون ذلك عند قيام الطبيب بجراحة للمريض مستنداً على اجتهادات شخصية دون مراعاة للضوابط والحدود التي ينبغي مراعاتها في أثناء أداء الجراحة، وهذه أشد حالات المخالفة التي تقع من الأطباء لجرأتهم واستخفافهم بهذه المهنة العظيمة، فهو مخالف من الناحية العلمية والعملية معاً.
والله أعلم.