عنوان الفتوى : الشعور بالإحباط والانزعاج من كثرة التحفيز!
موجة التحفيز والكلام عن الإنجاز أصبحت تزعجني كثيرًا، وتؤثر في بالسلب وأشعر دائمًا بالإحباط فماذا أفعل؟
الحمد لله.
أولًا:
إن الشعور بنوع من الفتور، أو التراخي: شعور طبيعي في كثير من الأحيان، لا سيما إن كان قد سبقه قدر من الاجتهاد الزائد عن المعتاد، أو بذل جهد مضاعف.
وقد روى أحمد في "مسنده" (6958)، وابن حبان (11)، وغيرهما، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ والحديث: صححه الألباني في "صحيح الجامع" (2152).
قال المباركفوري رحمه الله: " قوله (إن لكل شيء شِرَّةً) أي: حرصا على الشيء، ونشاطا ورغبة في الخير أو الشر.
(ولكل شِرَّةٍ فَتْرَةً) أي: وهْناً وضعفاً وسكوناً.
(فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ) أي : جعل صاحب الشرة عملَه متوسطاً، وتجنب طرفي إفراط الشرَّة، وتفريط الفترة.
(فَارْجُوهُ) أي: ارجو الفلاح منه؛ فإنه يمكنه الدوام على الوسط، وأحب الأعمال إلى الله أدومها" انتهى، من "تحفة الأحوذي" (7/126).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (114489) ورقم (70314)
وفي الحديث الآخر:
عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ !
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا ذَاكَ ؟
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ؛ نَسِينَا كَثِيرًا!!فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ أنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ.
وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ: سَاعَةً، وَسَاعَةً. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
رواه مسلم ( 2750 ) .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "وقوله: ( سَاعَةً وَسَاعَةً ) معناه: ساعة لقوة اليقظة، وساعة للمباح، وإن أوجبت بعض الغفلة.
وهذا لأن الإنسان لو حقق مع نفسه: ما بقي!!
فلا بد للمتيقظ من التعرّض لأسباب الغفلة، ليعدل ما عنده.
ومن أين يقدر على الأكل والشرب والجماع، من يرى الأمر –أي الآخرة- كأنه مُعايِن.
وإن من الغفلة لنعمة عظيمة، إلا أنها إذا زادت أفسدت، إنما ينبغي أن تكون بمقدار ما يعدّل" انتهى، من "كشف المشكل" (4/ 229-230).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "( يَا حَنْظَلَةُ! سَاعَةً وَسَاعَةً)؛ يعني ساعة للرب عز وجل، وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها، ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم.
وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها؛ أن الله عز وجل له حق فيعطى حقه عز وجل، وكذلك للنفس حق، فتعطَى حقها، وللأهل حق فيعطَوْن حقوقهم، وللزوار والضيوف حق، فيعطون حقوقهم، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه، على وجه الراحة، ويتعبد لله عز وجل براحة، لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه، وشدد عليها: مل، وتعب، وأضاع حقوقاً كثيرة" انتهى، من "شرح رياض الصالحين" (2/236).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (98351) ورقم (296830)
كما أن العبد المسلم يحتاج لإجمام نفسه والاستعانة بهذا الإجمام على عبادة ربه، فإنه يحتاج إلى تهدئة إيقاع حياته، وإيقاف البحث المحموم عن الإنجاز، والموازنة بين استغلال أوقات النشاط وبين الاستفادة من أوقات الرهق في إراحة النفس.
ثانيًا:
يمكننا أن نرد أسباب الإحباط، في مثل ما ذُكِر في السؤال، إلى ثلاثة أسباب:
أولها: أن يكون المرء عاملا، مُجِدًّا في واقع الأمر، غير أن موجة التحفيز العالية، أثارت عنده عكس المرجو منها، بسبب كثافتها، وزيادتها عن الحد النافع، الصحي.
ثانيها: أن يكون السامع قد تلقى تحفيزا غير واعٍ، ولا منظم. فمقطع من هنا، على منشور من هناك، والمحفِّز يتكلم بكلام فيه انتقاص أو تحقير لما عند الآخرين، ويطلب من الجميع مستوى معينا، عاليا، من التقدم والتطور والنجاح.
وعلامة هذا النوع من من التحفيز غير الصحي: أن يكون المتكلم غير مؤهل، وكلامه كله في العموميات، واسعا، فضفاضا، وربما بديهيا، أو كانت خططه التحفيزية أقرب إلى الخيال والمثالية، منها إلى الواقع، والمتاح لعامة من يستمعون إليه.
ثالثها: أن يكون التحفيز صحيا، وجيدا، ورغم ذلك لم يأخذه السامع على محمل الجد، ولم ينزله من مكان التنظير، و"القول"؛ إلى معترك التطبيق، والعمل.
فهذا التحفيز يغدو صوتا يلوم سامعه، ويؤنبه، ويؤلم ضميره، حتى ينفر منه.
ذلك بأن التحفيز لا ينفع وحده، ما لم يُتوّج بعمل وسعي من السامع. وليس بمقدور كلمات نسمعها من هنا، أو محاضرة نتلقاها، أو كتاب نقرؤه= ليس بمقدور شيء من ذلك كله أن "يغير" السامع، تلقائيا، وبمجرد "السماع" و"القول"، ما لم يكن هناك انفعال واع، وقدرة، وإرادة على التغيير الفعلي.
ليس ها هنا: عصا سحرية، تقلبك من خامل، إلى همام، أو من ناعس، ضعيف، إلى بطل مقدام.
وينظر لللفائدة: جواب السؤال رقم (175964) ورقم (223789)
ثالثا:
أول الحلول أن تسأل نفسك، هل أنا أحتاج إلى التحفيز لكي أعمل؟ وما هو النوع الذي أحتاج؟
والتحفيز يمكن تعريفه، بأنه عبارة عن مجموعة الدوافع التي تدفعنا لعمل شيء ما.
فإجابتك عن هذه السؤال إذا سألته لنفسك، ينبغي أن تكون هي: أنني أحتاج تحفيز، ولكن أحتاجه بقدر معتدل، كي لا يصبح جرعة يومية، مملولة، أعتاد عليها مع الوقت، وتفقد تأثيرها في نفسي، حتى تغدو كأي شيء أعتاد سماعه، أو رؤيته.
إنها – دفعة التحفيز - : مفيدة، في فترات الفتور، في فترات الكسل، في فترات الإحباط، أحتاجها ريثما تجدد نشاطي، وتحفز همتي، ثم تدعها وقتا ... حتى لتكاد تنساها!!
والنوع الذي يحتاجه شخص ما، مختلف عما يحتاجه غيره.
فقد كان أحد الأساتذة يقول إنه يرفق بأحد تلاميذه، مهما أخطأ، ولا يعاتبه إلا بلين وصبر، وقد يقسو على غيره، أو يلومه على تقصيره، وما ذاك إلا لأنه يعرف طبع طلابه، ويعلم الأنسب لكل واحد منهم.
فحري بك وقد عرف الأستاذ تلميذه، أن تعرف أنت نفسك وما تحتاج.
رابعا:
تنوع المصادر التي تتلقى منها الدعم أو التحفيز، حتى تصل إلى نوع أو اثنين أو أكثر، تظن أنها تلامس قلبك بصدق، قد يكون المصدر صديقًا مخلصا أو معلما أمينا، أو آية قرآنية، أو حديثا نبويا، أو حكمة فلسفية، أو بيتا من الشعر.
وما عدا هذه المصادر التي ذكرت لك ... فأمسك عنها ما استطعت.
ولتعلم أن النجاح هو خليط من أمور عدة، ولا ضير في كون التحفيز هو أحد أدواتك ووسائلك، ولكنه ليس المكون الوحيد، ولا الأداة الأهم، فابحث عما ينقصك أنت، واكتشف ما الذي يعيقك عن إكمال طريقك، حتى إذا ما مررت بأي لافتة تحفيزية أثناء سيرك، لا يزعجك ما فيها، ولا يؤلمك ضميرك، بل يكون سعيك وبحثك مصدر طمأنينة: أنك على الطريق، وأنك تحاول.
فالخلاصة:
لا تقارن نفسك إلا بنفسك، واستعن بخطاب التحفيز كنوع من الاغتسال الصباحي المنشط، وزد من جرعته في أوقات فتورك، لكن في الوقت نفسه لا تتورط في ذم النفس وجلدها؛ فإن ذلك لن يساعدك وسيوهن عزمك ويقعد بهمتك، واستعن بالله ولا تعجز فإنه لا حول ولا قوة إلا به سبحانه.
والله أعلم.