عنوان الفتوى : ما معنى قولهم: صحة الإسناد ليست موجبة لصحة المتن؟
إذا كانت صحة الإسناد ليست موجبة لصحة المتن، فيحكم على الحديث بضعفه للمتن رغم صحة الإسناد، أليس هذه أصلا تضعيف للسند بأن فيهم خطأ؟ وتضعيف للرواة الثقات، ويفتح مجالا للتشكيك في الصحيح، بدعوى أنه يمكن أن يوجد به أخطاء من الرواة الثقات؟ وهل توجد أمثلة لأحاديث مرفوعة؛ لأني لم أجد إلا أحاديث موقوفة على الصحابة رضي الله عنهم؟
الحمد لله.
أولا:
الاصل أن صحة السند تقضي بصحة المتن.
قال ابْنِ سِيرِينَ: " لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ " رواه مسلم في "مقدمة صحيحه" (1 / 15).
وروى ابن عبد البر في "التمهيد" (1 / 251) بإسناده عن: أحمدَ بن حنبلٍ يقول: سمِعْتُ يحيى بنَ سعيدٍ يقول: " الإسنادُ من الدِّين. قال يحيى: وسمِعْتُ شعبةَ يقول: إنَّما يُعلَمُ صحَّةُ الحديثِ بصحَّةِ الإسناد " انتهى.
وروى الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2 / 102): عن يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قال: " لَا تَنْظُرُوا إِلَى الْحَدِيثِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى الْإِسْنَادِ، فَإِنْ صَحَّ الْإِسْنَادُ؛ وَإِلَّا فَلَا تَغْتَرَّ بِالْحَدِيثِ إِذَا لَمْ يَصِحَّ الْإِسْنَادُ " انتهى.
ويتأكد ذلك: إذا انضم إلى صحة الإسناد، ونظافته: شهرتُه عند أهل الحديث؛ فهذا لا يكاد يضعفه أحد من الأئمة.
قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى:
" فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح: فليس يقدر أن يرده عليك أحد " انتهى. "رسالة أبي داود إلى أهل مكة" (ص 29).
ثانيا:
هذا الأصل لا يتعارض مع ما اشتُهر في كتب علوم الحديث وغيرها، من قولهم: إنّ صحة الإسناد لا يلزم منها صحة المتن.
فهم يعنون بذلك، أن النظرة الظاهرة الأولى إلى إسناد الحديث قد يظهر منها أنه صحيح؛ لظهور اتصاله، وشهرة رواته بالصدق والضبط، وقد يكون الإسناد كذلك: على شرط الصحيحين.
وهذه النظرة الأولى قد يكتفي بها غيرُ نقاد الحديث، كبعض الفقهاء، فيحكمون على المتن بالصحة.
قال ابنُ دقيقٍ العيد رحمه الله تعالى:
" الصحيح؛ ومداره بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين: على صفة عدالة الراوي، العدالةَ المشترطة في قبول الشهادة على ما قرر من الفقه.
فمن لم يقبل المرسل منهم، زاد في ذلك أن يكون مسندا " انتهى من "الاقتراح" (ص 215 ).
لكن نقاد الحديث يرون أن الحكم بالصحة لا تكفي له هذه النظرة الأولى الظاهرية إلى الإسناد؛ لأنّ الثقة مهما علت مرتبته في الضبط والإتقان، فهو غير معصوم من الوهم والخطأ.
روى ابنُ شاهين في "تاريخ أسماء الثقات" (ص259) عن حنبل بن إسحاق، قال سمعت أَبا عبد الله محمّد [أحمد] بن حنبل قال: " ما رأيت أحدا أقل خطأ من يحيى بن سعيد، ولقَد أَخطأ في أحاديث، ثمّ قَال أَبو عبد الله: ومن يَعْرَى من الخطأ والتصحيف؟! " انتهى.
وقال الترمذي رحمه الله تعالى:
" وإنّما تفاضل أهل العلم بالحفظ، والإتقان، والتّثبّت عند السّماع، مع أنّه لم يَسْلَم من الخطإ والغلط كَبِيرُ أحد من الأئمّة مع حفظهم " انتهى. "سنن الترمذي – كتاب العلل" (6 / 240).
ومن ثَمَّ؛ رأى أئمة النقد أنه لا بد من نظرة أخرى أعمق، وذلك بجمع روايات الخبر، وطرقه وأسانيده كلها، ثم المقارنة بينها، لمعرفة: هل أصاب الراوي الثقة في روايته أم لا.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
" والجهة الأخرى: أن يروي نفر من حُفَّاظ الناس حديثا عن مثل الزهري أو غيره من الائمة، بإسناد واحد، ومتن واحد، مجتمعون [=كذا بالواو] على روايته في الإسناد والمتن، لا يختلفون فيه في معنى، فيرويه آخر سواهم، عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه، فيخالفهم في الإسناد، أو يقلب المتن، فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ= فيُعلمَ حينئذ أن الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعة من الحفاظ، دون الواحد المنفرد، وإن كان حافظا.
على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث، مثل شعبة وسفيان بن عيينه ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أئمة أهل العلم.
وسنذكر من مذاهبهم وأقوالهم في حفظ الحفاظ وخطأ المحدثين في الروايات، ما يُستدل به على تحقيق ما فسرت لك إن شاء الله... " انتهى من "التمييز" (ص172).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
" والسبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط " انتهى من "الجامع" (2/295).
والمعول عليه في هذه العملية البحثية الدقيقة: حصيلة علومهم الدقيقة عن الرواة ومروياتهم.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:
" حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال، وأحاديث كل واحد منهم= لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان؛ فيعللون الأحاديث بذلك.
وهذا مما لا يُعبَّر عنه بعبارة تحصره، وإنما يَرجع فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خُصُّوا بها عن سائر أهل العلم " انتهى من "شرح علل الترمذي" (2/861).
ث يعمل النقاد على عرض ذلك كله، على ما صح عندهم وثبت واشتهر من صحيح السنة والسيرة النبوية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فإنهم – أئمة الحديث - أيضا يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياءَ، تبين لهم أنه غلط فيها، بأمور يستدلون بها، ويسمون هذا "علم علل الحديث"، وهو من أشرف علومهم، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه، وغلطه فيه عُرف: إما بسبب ظاهر، كما عرفوا: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال )، ( وأنه صلى في البيت ركعتين )، وجعلوا رواية ابن عباس لتزوجها حراما؛ ولكونه لم يُصلِّ: مما وقع فيه الغلط، وكذلك: ( أنه اعتمر أربع عمر )، وعلموا أن قول ابن عمر: " إنه اعتمر في رجب " مما وقع فيه الغلط ...
والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام، ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميز بين الصحيح والضعيف؛ فيشك في صحة أحاديث، أو في القطع بها، مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به.
وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به، كلما وجد لفظا في حديث قد رواه ثقة، أو رأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة: يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته. حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة، أو يجعله دليلا له في مسائل العلم؛ مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط " انتهى من "مجموع الفتاوى" (13 / 352).
ولأجل ما قررنا من ذلك؛ لم يَكْتَفِ علماءُ الحديث، للحكم بصحة الحديث بشرط ثقة الرواة، والاتصال الظاهري للإسناد، بل اشترطوا أيضا خُلوه من علة خفية تُوهنه.
قال ابن الملقن رحمه الله تعالى:
" فالصحيح المجمع عليه:
ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين، من غير شذوذ ولا علة " انتهى من "المقنع" (1/42).
قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى:
" فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطُّلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها " انتهى من "مقدمة ابن الصلاح" (ص187).
وهذا الذي يقصدون به أن صحة الإسناد لا تقتضي صحة المتن، ولا يعنون به أن المحدث يصح له أن يضعف متنا رغم صحة سنده، بمجرد الاستحسان العقلي، أو التشهي النفسي.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" والحاكم نفسه يصحح أحاديث جماعة، وقد أخبر في كتاب "المدخل" له: أنه لا يحتج بهم، وأطلق الكذب على بعضهم، هذا مع أن مستند تصحيحه ظاهر سنده، وأن رواته ثقات، ولهذا قال: "صحيح الإسناد".
وقد علم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث، وليست موجِبةً لصحته؛ فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمور؛ منها: صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وأن لا يكون راويه قد خالف الثقات أو شذ عنهم " انتهى.
ثالثا:
ومن أمثلة ذلك ما رواه ابن ماجه (641)، قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا، وَكَانَتْ حَائِضًا: انْقُضِي شَعْرَكِ وَاغْتَسِلِي.
فهذا الخبر إسناده ظاهره الصحة، وهو يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بنقض شعرها عند غسل الطهر من الحيض.
لكن أهل العلم بينوا أن هذا الخبر لا علاقة له بغسل الطهر من الحيض.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وهذا - أيضا - يوهم أنّه قال لها ذلك في غسلها من الحيض، وهذا مختصر مِن حديث عائشة الذي خرّجه البخاري.
وقد ذُكِر هذا الحديث المختصر للإمام أحمد، عن وكيع، فأنكره.
قيل له: كأنه اختصره مِن حديث الحج؟
قال: ويحل له أن يختصر؟!
نقله عنه المروذي.
ونقل عنه إسحاق بن هانئ، أنّه قال: هذا باطل.
قال أبو بكر الخلال: إنما أنكر أحمد مثل هذا الاختصار الذي يخل بالمعنى، لا أصل اختصار الحديث.
قَال: وابن أبي شيبة في مصنفاته يختصر مثل هذا الاختصار المخل بالمعنى -: هذا معنى ما قاله الخلال.
وقد تبين برواية ابن ماجه: أن الطنافسي رواه عن وكيع، كما رواه ابن أبي شيبة عنه، ورواه –أيضا - إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في "كتاب الطهور" له عن وكيع –أيضا -، فلعل وكيعا اختصره.
والله أعلم " انتهى من "فتح الباري" (2 / 104 — 105).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" رواه ابن ماجه (رقم 641) من طريقين عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لها، وكانت حائضا. فذكره.
وكذا رواه أبو بكر بن أبى شيبة فى "المصنف" (1/26/2) وهو أحد طريقى ابن ماجه.
قلت: وهذا إسناد صحيح كما قال المؤلف، تبعا للمجد ابن تيمية في "المنتقى" وهو على شرط الشيخين.
لكنى أشك في صحة هذه اللفظة: " واغتسلي "؛ فإن الحديث في " الصحيحين " وغيرهما من طرق، عن هشام، به؛ أتم منه بدونها، قالت: " خَرَجْنَا مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهْلِلْ، فَإِنِّي لَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ. فَأَهَلَّ بَعْضُهُمْ بِعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ بَعْضُهُمْ بِحَجٍّ، وَكُنْتُ أَنَا مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دَعِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِحَجٍّ.
فَفَعَلْتُ، حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِي أَخِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي ).
وكذلك أخرجاه من طرق أخرى عن عروة به، دون قوله: " واغتسلى " … " انتهى من "إرواء الغليل" (1/167).
ولهذه المسألة أمثلة كثيرة يمكن الاطلاع عليها في كتب العلل، ككتاب "العلل" لابن أبي حاتم رحمه الله تعالى.
وقد صنفت فيها مصنفات في هذا العصر، ككتاب: "أحاديث معلة ظاهرها الصحة" للشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله تعالى.
وككتاب "أحاديث ظاهرها الصحة لكنها معلة" لأحمد شعبان.
الخلاصة:
قولهم: أن صحة الإسناد لا يلزم منها صحة المتن.
قصدهم من ذلك أن مجرد ظهور اتصال السند وشهرة رواته بالصدق والضبط، لا يكفي للجزم بصحة المتن؛ لأن الراوي الثقة ليس بمعصوم، فربما يهم، فإذا انتفى ما يشير إلى وجود وهم في روايته، حكم على الحديث بالصحة، لذا اشترطوا لصحة الحديث شرط خلوه من الشذوذ والعلة.
وعلى ذلك يقال: إن وجود ضعف في المتن، لا بد وأن يقابله خلل في إسناده.
لكن هذا الخلل قد يكون خفيا، لا يعلمه إلا نقاد الحديث، لجمعهم لطرقه وأسانيده، ولخبرتهم برواته ومروياتهم، ولسعة إحاطتهم بالسنة النبوية ودقائقها.
وهذه القضية لا تضعف مكانة "علم الحديث النبوي"، كما قد يتوهم من لا علم له؛ بل تدل على شدة نقد الأئمة للأخبار وتصفيتهم لها، وأنهم لا يكتفون في قبول الحديث بمجرد ثقة الراوي، بل يجتهدون في التأكد من عدم وهمه أو تساهله في الرواية.
فالواجب الرجوع في علم الحديث إلى أئمته، ونقاده العارفين به، وترك كل ناعق وقوله؛ فإنما وبال ذلك على نفسه.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |