عنوان الفتوى : هل تجب الكفارة على من حلف كذباً على أمر مستقبل؟
هل تلزمُ الكفارة على من حلفُ بالله أن يفعلَ شيئا، ويقول بصوت منخفض أنه لن يفعله كي يجعل الناس يعتقدون أنه سيفعله، أم تكفي التوبة؟ ما حُكم من حلفَ على فعل شيء وينوي عدم فعله؟
الحمد لله.
أولاً:
من حلف على فعل شيء وهو يعلم أنه لن يعمله، فهذا من الكذب المحرم، وقد جاء الوعيد الشديد على الكذب، وعدّه العلماء من الكبائر لما ورد فيه من الوعيد الشديد.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) رواه البخاري (33).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا . وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) رواه البخاري (6094).
ويعظم قبح هذه المعصية إذا حلف كاذباً؛ لما فيه من الاستهانة باليمين.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إذا حلف على شيء يعلم أنه كاذب فيه: فقد تحمَّل إثمين؛ الإثم الأول الكذب، والإثم الثاني: الاستهانة باليمين؛ حيث حلف على كذب، فيكون كما قال الله فيهم: ﴿ويحلفون على الكذب وهم يعلمون.
فعليه أن يتوب إلى الله من هذا الذنب الذي فعله والذي تضمن سيئتين" انتهى من "فتاوى نور على الدرب للعثيمين" (21/ 2 بترقيم الشاملة).
ثانياً:
من حلف كاذباً على أمر مستقبل، مثل أن يحلف أن سيفعل، وهو عازم على عدم الفعل، فهذا من الكذب الذي يدخل في الوعيد، وعلى صاحبه الكفارة.
قال ابن رشد رحمه الله: "قال الجمهور: ليس في اليمين الغموس كفارة، وإنما الكفارة في الأيمان التي تكون في المستقبل، إذا خالف اليمين الحالف.
وممن قال بهذا القول مالك، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل" انتهى من "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (2/ 172).
قال ابن قدامة رحمه الله: " قال ابن عبد البر: اليمين التي فيها الكفارة بإجماع المسلمين، هي التي على المستقبل من الأفعال". انتهى، من "المغني" لابن قدامة (13/ 445).
وقال: "ولا يصح القياس -أي الغموس- على المستقبِلة، لأنها يمين منعقدة، يمكن حلها، والبر فيها، وهذه [يعني: الغموس، على أمر ماض] غير منعقدة، فلا حل لها.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فليكفر عن يمينه، وليأت الذى هو خير": يدل على أن الكفارة إنما تجب بالحلف على فعل يفعله، فيما يستقبله. قاله ابن المنذر" انتهى من "المغني" (13/ 449).
وقال الصاوي رحمه الله: " لا كفارة في ماضية: أي في يمين متعلقة بماض، مطلقا؛ غموسا أو لغوا ...
عكس اليمين المستقبلة: أي المتعلقة بمستقبل؛ فإنها تكفر مطلقا، إذا حنث، غموسا أو لغوا" انتهى من "بلغة السالك لأقرب المسالك" (2/ 205)
ثالثاً:
إذا حلف الشخص على شيء، ثم استثنى بقول: إن شاء الله، أو بقول آخر يدل على الاستثناء فهذا جائز، فإن حنث في اليمين فلا كفارة عليه ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن حَلَفَ فاستَثْنَى؛ فإنْ شاء رَجَعَ، وإنْ شاءَ تَرَكَ غَيْرَ حَنِثٍ) رواه أبو دواد (3262)، وصححه الألباني.
قال الخطابي رحمه الله: " معناه: أن يستثني بلسانه نطقا، دون أن يستثني بقلبه...
ولم يختلف الناس في أنه إذا حلف بالله ليفعلن كذا أو لا يفعل كذا، واستثنى: أن الحنث عنه ساقط" انتهى من "معالم السنن" (4/47).
وقال ابن حجر رحمه الله: "فلو قال : إلا إن غير الله نيتي، أو بدل أو إلا أن يبدو لي أو يظهر، أو إلا أن أشاء أو أريد أو أختار؛ فهو استثناء أيضا" انتهى من "فتح الباري لابن حجر" (11/ 602).
أما إذا حلف على شيء، وقال بعده ما يناقضه: فهذا لا يعتبر استثناء لا لغة ولا شرعاً، وإنما هو تلاعب بالأيمان؛ ويمينه قد انعقدت، ومضت؛ فإن بر يمينه، فهو على ما حلف، ولا شيء عليه، وما قاله في نفسه لغو، لا عبرة به. وإن حنث في يمينه، فلم يفعل ما حلف عليه، فعليه كفارة اليمين، ولا ينفعه كلامه الذي ذكره في نفسه.
رابعاً:
من حلف لشخص على فعل شيء أو تركه، فالأصل أن يكون على ما يصدقه به المحلوف له، ولا ينفعه إخفاء الاستثناء في نفسه، أو جعله بصوت لا يسمعه من حلف له.
وهذا عام في مجلس القضاء وفي غيره. لقوله صلى الله عليه وسلم: (يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُك) رواه مسلم (1653)
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: "يعني: أن يمينك التي يجوز لك أن تحلفها؛ هي التي تكون صادقة في نفسها، بحيث لو اطَّلع عليها صاحبك لعلم أنها حقٌّ وصدقٌ، وأن ظاهر الأمر فيها كباطنه، وسرَّه كعَلَنِه، فيصدقك فيما حلفت عليه" انتهى من "المفهم لما أشكل من كتاب مسلم" (4/ 633).
وإنما يجوز الاستثناء سرا في أحوال خاصة، كخوف من ظالم على نفسه.
قال ابن قدامة رحمه الله: "وقد روي عن أحمد: إن كان مظلوما فاستثنى في نفسه: رجوت أن يجوز، إذا خاف على نفسه.
فهذا في حق الخائف على نفسه؛ لأن يمينه غير منعقدة، أو لأنه بمنزلة المتأول" انتهى من "المغني" (13/486).
وخلاصة القول:
أنّ هذه اليمين يمين كاذبة على أمر مستقبل، وعليك كفارة يمين، والتوبة من الأيمان الكاذبة.
وعليك حفظ لسانك عن الأيمان عموما، ولا ينفعك ما تخفيه سرًّا من الاستثناء، إلا في حالات خوف وقوع ظلم ونحوه.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "المشروع للمؤمن أن يقلل من الأيمان ولو كان صادقا ؛ لأن الإكثار منها قد يوقعه في الكذب ، ومعلوم أن الكذب حرام ، وإذا كان مع اليمين صار أشد تحريماً" انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (1/54).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |