عنوان الفتوى : الكذب من الكبائر والتوبة واجبة منه
ابتلاني الله -عز وجل- بذنب الكذب، ويؤلمني كثيرًا أنني وقعت في ذنب كبير هو من صفات النفاق، وقد ندمت أشد الندم، وأريد التوبة بصدق، وألا أعود لهذا الذنب أبدا، والله إني صادقة النية، ولكن هناك كذبة لا زالت مستمرة، ولا يمكنني التخلص منها.
أنا خريجة من كلية العلوم، ولي العديد من الأبحاث العلمية التي نشرت في مجلات عالمية، ولا أجد أي فرصة في وطني للعمل لصالح أي مؤسسة علمية، فالوضع هنا متدهور للغاية، ولكن والدي يتحمل تكاليف هذه المشاريع البحثية بالكامل.
وكنت أبحث دائما عن فرصة بالخارج في إحدى الدول الأوروبية، فأنا لست متزوجة، ولا أجد عملا لائقا، ووالدي قد كبر سنا ورق عظمه؛ فأريد أن أتحمل المسؤولية.
ولأحمل نفسي على هذا الأمر، وأعمل بجد له، فقد سولت لي نفسي أن أكذب على والدي ووالدتي، وأخبرهما أنني تلقيت فرصة للعمل بأجر عال ومميزات كثيرة، ولكن يشترطون أن أحصل على شهادات تدريب، وشهادة إتقان للغة الإنجليزية. وهكذا ألزم نفسي بأن أجتهد للحصول على هذه الشهادات، وأن أقدم بها على الفرص المختلفة، لعلي ألتحق بواحدة في المستقبل.
علما بأن سجلي العلمي جيد جدًّا، ومن السهل أن أتلقى إحدى هذه الفرص إذا حصلت على شهادات التدريب وشهادة إتقان اللغة. وقد أخبرت أمي وأبي بهذا، وأقسمت عليهما ألا يخبرا أحدا بهذا، وأن ننتظر أن أحصل على هذه الشهادات، ويكون الأمر مؤكدا، ولكن للأسف قد فرحت أمي بهذا الخبر، وأخبرت الجميع القريب والغريب بأنني حصلت على فرصة عمل، وسأسافر بمجرد أن أحصل على الشهادات، فأصبح الأمر لا يطاق، ولم يعد بإمكاني الرجوع عن هذه الكذبة تارة، حتى لا أخيب آمال أهلي الذين فرحوا بهذا الخبر، وبنوا عليه الأماني، وأنهم أخيرا سيذهبون للحج، وأن كل المشاكل المادية ستحل، وسنكون في رغد من العيش، خاصة وقد فقد أبي وظيفته، ويعمل الآن بعمل مرهق جسديا، ويتقاضى أجرا زهيدا. وأيضا لا أستطيع أن أخيب آمالهم بأنني كذابة، فيفقدون ثقتهم بي.
والآن أريد التوبة والرجوع. فماذا أفعل؟
وكلما تبت عن الكذب تظل هذه الكذبة عارا تطاردني، ولا أجد ما أفعله إلا أن أظل أكذب. علما بأن الله قد أكرمني بالحصول على الشهادات المطلوبة، وأنا أقدم بها حاليا، وأخاف أن يعاقبني الله -عز وجل- ويفضح أمري.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا شك في عِظَم جُرْم الكذب، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب، ولا يُطْبَع المؤمن على الكذب.
وقد جاءت النصوص بالتحذير منه، وقد أوردنا بعضها في الفتوى: 429568. وراجعي كذلك الفتوى: 341143.
وقد أحسنت بتوبتك إلى الله -عز وجل- من الكذب، وإن تبت من الكذب توبة عام،ة فإنها تشمل هذه الحالة التي كذبت فيها على والديك.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها وإن لم يستحضر أعيان الذنوب.... انتهى.
وعلى تقدير أنك لم تتوبي من هذه الحالة المتعلقة بالكذب على والديك، فيمكنك التوبة الآن.
والواجب عليك المبادرة إلى التوبة النصوح، وسبق بيان شروطها في الفتوى: 29785.
ولا ينبغي أن تكون الحالة النفسية التي صارا إليها والأماني التي ينتظرانها حائلا دون توبتك، أو أن يؤدي بك ذلك إلى الوقوع في الكذب مرة أخرى، والاستمرار عليه.
وإن قُدِّر أن سألاك عن أمر هذا العمل، فاستعملي التورية، كأن تقولي لهما: نؤمل في ربنا الكريم أن ييسره، ونحو ذلك من العبارات، ففي المعاريض مندوحة عن الوقوع في الكذب.
قال ابن تيمية: فإن المعاريض عند الحاجة والتأويل في الكلام وفي الحلف للمظلوم بأن ينوي بكلامه ما يحتمله اللفظ وهو خلاف الظاهر، كما فعل الخليل صلى الله عليه وسلم، وكما فعل الصحابي الذي حلف أنه أخوه وعنى أخوه في الدين، وكما قال أبو بكر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم: رجل يهديني السبيل. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم للكافر الذي سأله: ممن أنت؟ فقال: نحن من ماء، إلى غير ذلك أمر جائز. انتهى.
والله أعلم.