عنوان الفتوى : حفظ الدين يقتضي عدم خفاء شيء من أحكامه على الأمة

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

إذا كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد حرم شيئا معينا، أو علمنا إحدى السنن، ولكن لم يحدثنا به أحد من الصحابة، فهل تأثم الأمة بسبب فعلنا لهذا الشيء؟ أم نحن معذورون؟

مدة قراءة الإجابة : 5 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن هذا سؤال افتراضي غير واقعي، فإن الدين محفوظ، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {الحجر: 9}.

وهذه الأمة بمجموعها معصومة أن تجتمع على ضلالة، فلا يمكن أن تتفق الأمة على إباحة شيء حرمه الله ورسوله، ولا يمكن أن يخفى على الأمة كلها شيء من الدين.

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: إلا أن هذا ‌الدين ‌محفوظ، كما قال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون -9- {الحجر: 19} ولا تزال فيه طائفة قائمة ظاهرة على الحق، فلم ينله ما نال غيره من الأديان من تحريف كتبها، وتغيير شرائعها مطلقا؛ لما ينطق الله به القائمين بحجة الله وبيناته، الذين يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى، فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة؛ لكيلا تبطل حجج الله وبيناته.

وقال في كتابه الاستقامة: وَهنا أصل يجب اعْتِمَاده، وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ عصم هَذِه الْأمة أَن تَجْتَمِع على ضَلَالَة، وَلم يعْصم آحادها من الْخَطَأ لَا صديقا وَلَا غير صديق، لَكِن إِذا وَقع بَعْضهَا فِي خطأ فَلَا بُد أَن يُقيم الله فِيهَا من يكون على الصَّوَاب فِي ذَلِك الْخَطَأ، لِأَن هَذِه الْأمة شُهَدَاء على النَّاس، وهم شُهَدَاء الله فِي الأرض، وهم خير أمة أخرجت للنَّاس، يأمرون بِالْمَعْرُوفِ، وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر، فَلَا بُد أَن تَأمر بِكُل مَعْرُوف، وتنهى عَن كل مُنكر، فَإِذا كَانَ فِيهَا من يَأْمر بمنكر متأولا، فَلَا بُد أَن يكون فِيهَا من يَأْمر بذلك الْمَعْرُوف. اهـ.

وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: وفي الجملة فما ترك الله ورسوله حلالا إلا مبينا، ولا حراما إلا مبينا، لكن بعضه كان أظهر بيانا من بعض، فما ظهر بيانه، واشتهر وعلم من الدين بالضرورة من ذلك لم يبق فيه شك، ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام، وما كان بيانه دون ذلك، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة خاصة، فأجمع العلماء على حله أو حرمته، وقد يخفى على بعض من ليس منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضا، فاختلفوا في تحليله وتحريمه، وذلك لأسباب:
منها: أنه قد يكون النص عليه خفيا لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميع حملة العلم.
ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان، أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفة أحد النصين دون الآخرين، فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معا من لم يبلغه التاريخ، فيقف لعدم معرفته بالناسخ.
ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم، أو مفهوم، أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرا.
ومنها: ما يكون فيه أمر، أو نهي، فيختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه، وأسباب الاختلاف أكثر مما ذكرنا.

ومع هذا، فلا بد في الأمة من عالم يوافق قوله الحق، فيكون هو العالم بهذا الحكم، وغيره يكون الأمر مشتبها عليه ولا يكون عالما بهذا، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهر أهل باطلها على أهل حقها، فلا يكون الحق مهجورا غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المشتبهات: لا يعلمهن كثير من الناس ـ فدل على أن من الناس من يعلمها، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها، وليست مشتبهة في نفس الأمر، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء. اهـ.

وإنما تخفى بعض الأحكام على بعض أفراد الأمة، ومن اجتهد من العلماء فأخطأ في اجتهاده بما يخالف الكتاب أو السنة في نفس الأمر فإنه معذور، وخطؤه مغفور، وهو على اجتهاده مأجور، كما في الصحيحين عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ‌حكم ‌الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.

وفي صحيح مسلم عن ‌ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ـ قال: دخل قلوبهم منها شيء، لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا، قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ـ قال: ‌قد ‌فعلت: ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ـ قال: ‌قد ‌فعلت، واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا ـ قال: ‌قد ‌فعلت.

والله أعلم.