عنوان الفتوى : ما توجيه اختلاف القراءة في قوله تعالى: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} وقراءة {وكتابه}؟
هناك قراءات مختلفة للقرآن، يقرأ حفص (وصدّقت بكلمات ربها وكتبه) التحريم آية ١٢، بينما يقرأها ورش (وصدَّقت بكلمات ربها وكتابه)، هذان معنيان مختلفان تماما، فأيُّ معنى هو الصحيح؟ وهل هذا يدلُّ على أنَّ القرآن قد تمّ تحريفه، وأنّ الطريقة الأصلية التي نزل بها قد ضاعت؟ وكيف يمكن قبول هذه القراءات المختلفة وهي تغيِّر معناها كُليّا؟
الحمد لله.
أولًا:
فإن مما يلزم بيانه أن القراءات المختلفة للقرآن الكريم لا يقع بينها اختلاف تضاد وتناقض، ولكنها إما أن يتفق معناها، أو يختلف لكن يكون هذا الاختلاف من قبيل التنوع والتغاير، لا اختلاف التضاد والتناقض، وسنبين هذا لاحقًا إن شاء الله على الآية محل السؤال.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها: لا تتضمن تناقض المعنى، وتضاده؛ بل قد يكون معناها متفقا، أو متقاربا.... فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى، بمنزلة الآية مع الآية؛ يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمنته من المعنى، علما وعملا، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى، ظنا أن ذلك تعارض" انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/393).
ثانيًا:
لهذ التنوع في القراءات حِكم وفوائد عديدة ذكرها العلماء، نجملها في ثلاث فوائد:
1- التخفيف والتيسير على هذه الأمة بتعدد وجوه القراءة بما يناسب تعدد لهجاتها.
2- زيادة أجور هذه الأمة بما يبذلونه في تتبع هذه المعاني، واستنباط حكمها، وكذلك زيادة أجورهم بزيادة الحروف التي يقرؤونها.
3- الزيادة في البلاغة والإعجاز والوصول في هذا لنهايته وكماله، يقول الزرقاني رحمه الله في "مناهل العرفان" (1/149): "والخلاصة: أن تنوع القراءات يقوم مقام تعدد الآيات. وذلك ضرب من ضروب البلاغة: يبتدئ من جمال هذا الإيجاز، وينتهي إلى كمال الإعجاز.
أضف إلى ذلك ما في تنوع القراءات من البراهين الساطعة، والأدلة القاطعة، على أن القرآن كلام الله، وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضاد، ولا إلى تهافت وتخاذل؛ بل القرآن كله على تنوع قراءاته يصدق بعضه بعضا، ويبين بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض، على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير، وهدف واحد من سمو الهداية والتعليم.
وذلك من غير شك يفيد تعدد الإعجاز بتعدد القراءات والحروف. ومعنى هذا أن القرآن يُعجِز إذا قرئ بهذه القراءة، ويعجز أيضا إذا قرئ بهذه القراءة الثانية، ويعجز أيضا إذا قرئ بهذه القراءة الثالثة، وهلم جرا. ومن هنا تتعدد المعجزات بتعدد تلك الوجوه والحروف.
ولا ريب أن ذلك أدل على صدق محمد، لأنه أعظم في اشتمال القرآن على مناحٍ جمة في الإعجاز، وفي البيان على كل حرف ووجه، وبكل لهجة ولسان (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) الأنفال/42" انتهى.
ثالثا:
قوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ التحريم/ 12.
وفي قراءة: (وكتابه)، والكتاب هنا يراد به الجنس؛ فيدخل في عموم هذا "الجنس": كل كتاب أنزله الله تعالى؛ فيكون بمعنى القراءة الأخرى (وكتبه).
فقول القائل: لا يستطيع إنسان أن يستغني عن الطعام. هذه عبارة سليمة، وهي لا تتعارض مع قول نفس القائل: لا يستطيع إنسان أن يستغني عن الأطعمة.
فــ"الطعام" الأولى ليست مفرد أطعمة، وإنما هي كلمة تعبر عن "جنس" الأطعمة، فكأنه قال: لا يستطيع إنسان أن يستغني عن أي نوع من الطعام.
وهكذا قوله تعالى عن مريم عليها السلام: إنها صدقت بكتابه؛ مقصوده: أنها صدقت بكل كتاب أنزله، وبالتالي لا يتعارض هذا مع إخباره سبحانه عن مريم أنها صدقت بـ"كتب الله"؛ أي: جميعًا، فالمعنى هنا واحد.
قال القرطبي رحمه الله في "تفسيره" (18/204): "وصدقت بكلمات ربها قراءة العامة وصدَّقت بالتشديد. وقرأ حميد والأموي وصدقت بالتخفيف. بكلمات ربها قول جبريل لها: إنما أنا رسول ربك الآية. مريم/19، وقال مقاتل: يعني بالكلمات عيسى وأنه نبي وعيسى كلمة الله، وقد تقدم. وقرأ الحسن وأبو العالية: (بكلمة ربها وكتابه).
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم وكتبه جمع. وعن أبي رجاء وكتبه مخفف التاء. والباقون بكتابه على التوحيد.
والكتاب: يراد به الجنس، فيكون في معنى كل كتاب أنزل الله تعالى" انتهى.
وقال ابن جزي رحمه الله في "تفسيره" (2/393): "وكتابه ، بالإفراد : يحتمل أن يريد به التوراة أو الإنجيل، أو جنس الكتب، وقرأ أبو عمرو وحفص بالجمع يعني: جميع كتب الله" انتهى.
رابعا:
وقع إشكال لدى بعض الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختلاف بعض الأحرف في الآية الواحدة فبين عليه الصلاة والسلام أنها كلها ألفاظ صحيحة وأن كلها من عند الله، يدل لذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا ، فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْسِلْهُ ، اقْرَأْ، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَكَذَا أُنْزِلَتْ ، ثُمَّ قَالَ لِي : اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ رواه البخاري ( 2287 ) ومسلم ( 818 ) .
وينظر جواب السؤال رقم: (266107)، والسؤال رقم: (395192).
والله أعلم.